التجريد الشعري والفن اللاشكلي
ظل التجريد الهندسي حتى مطالع الخمسينات يبدو وكأنه المسيطر المنيع . غير أن الحقيقة أن أبحاثاً كانت جارية أثناء ذلك ، وظهرت أعمال مستوحاة من تفكير مختلف . وأخذ عدد من الرسامين يتمردون منذ بعض الوقت على . صرامة المنحى الهندسي ، منهم : « وولس و هارتونغ Hartung » و « أتلان Atlan » و « ستايل Stael و « لا نسكوي Lanskoy » و ( فوتريه Fautrier ) و ( دوبوفيه Dubuffet ) وسواهم . غير أن تمردهم هذا لم يكن دائماً بأسم التجريد . فقد بقيت عناصر تشبيهية تظهر أحياناً كثيرة في لوحات وولس وكذلك في لوحات فوتريه . كما أن هذه العناصر كانت الغالبة في لوحات دوبوفيه إلى حد يمكن معه اعتباره بطل طريقة تشبيهية جديدة . ومهما يكن من أمر ، فإن أكثر المعارض التي أقامها هؤلاء الفنانون لم تحظ إلا بالقليل من الضجة ، حتى أن المعارض القليلة التي حظيت بإثارة الاهتمام ، اعتبرت أحداثاً منفردة فقط. ثم قيض لهذا التيار الجديد ناقد فني هو « میشیل تابیه M. Tapie ، فأقام في ١٩٥١ - ١٩٥٢ عدداً من التظاهرات الفنية أسماها « مجابهة التعبيرات الصارخة » و « اشكال الفن اللاشكلي و فن آخر». ودافع عن قضية هذا التيار في مقالات و هجومية بآن واحد .. فبدأ بعدها يفرض نفسه . وهو اذ ضم التجريد الشعري إلى ما يسمى مذهب ( البقعية ) أو ( الفن بدون أشكال ) سرعان ما فرض نفسه ، وتوسع حتى أصبح بعد وقت قصير أكثر من تيار ، بل أصبح مداً عاصفاً لم يعد « التجريد الهندسي » قادراً على مقاومته إلا في مواقع متفرقة منعزلة .
ولئن كان بين ممثلي التجريد الهندسي عدد غير قليل من الأجانب فقد فاقهم عدد الأجانب الذين انتصروا للاتجاه الجديد . وقد استقروا في باريز منذ العشرينات أو الثلاثينات ، وبعضهم ولدوا في المانيا وولس وهارتونغ ، وبعضهم في سويسرا شنيدر.وفي هنغاريا « جيزا سوبل Geza Szobel » وفي تشيكوسلوفاكيا سیما وفي هولندا ( برام فان فلد Bram Van Valde ) وفي روسيا « لانسكوى » Lanskoy و ستایل Stael » و « زاك Zack » و « هو سياسون Hosiasson.
ويقف وولس في خط كلي وفي خط كاندنسكي كما كان في ۱۹۱۰ . إلا أن في فنه ناحية من الهوس خلا منها فن سابقيه. وهو ينفذ بصورة خاصة رسوماً وصوراً مائية ذات قياسات صغيرة . ولم يصور لوحات أكبر ، وبالزيت إلا في أواخر حياته . ( وقد مات عام ١٩٥١ ) على أنه يستطيع في اللوحات الصغيرة أن يعبر عن نفسه على أحسن وجه ، ففيها يصبح أسلوبه أكثر حدة لأنه يعبر عن توتر أعصاب رجل محبوس في وحدته كما لو كان محبوساً في مغارة وانه يرتاد أنحاء هذه المغارة ويملؤها برؤاه المرضية . غير أنه يظل حبيساً في داخلها ، هو مع هواجسه ، وهوسه الجنسي وسقمه و اشمئزازه .
وإذا كانت الألوان لدى وولس ذات طابع ذابل ، فإن خطوطه عادة رفيعة متعرجة ( مرتجفة ) : أنها خيوط دقيقة ومتينة ، تشرد تارة ، وتلتف طوراً وتتشابك . وإنها لتذكرنا بشباك عصبية أو بالأوعية الدموية ( إلا أن الدم الذي يملؤها دم أسود ) . كما أنها تذكرنا بشقوق الأحجار ، وبحزم من الجذور الصغيرة ، وبجذور تتلوى كالثعابين وفي بعض اللوحات نلمح تجاويف وندبات تذكر بجذع شجرة عتيق ، وبلحم بشري فاغر ، ممزق ، متورم ، وفجأة نرى في شبكة الخطوط أشكالاً علقية ، وجراثيم شديدة الحيوية . وعيوناً تائهة في وجه يكاد يكون وجهاً ... ثم يصبح التشبيه أكثر وضوحاً ، فإذا بالفنان يرينا شبح مدينة مستحيلة المنال، أو صقالات عمودية تظهر وراءها بشكل غير واضح ، بيوت ضيقة عتيقة . أما أن يكون الباعث على لوحات كهذه وهو اليأس العميق والتصميم على الابتعاد عن الانسانية المخيبة، فهذا أمر يحدثنا عنه وولس نفسه إذ كتب في عام ١٩٤٠ بعد أن أقام مدة في عدة معسكرات للاعتقال ، قائلاً :
في كاسيس جعلتني الحجارة والأسماك والصخور المنظورة بالمكبر ، وملح البحر والسماء كل هذه جعلتني أنسى أهمية الانسان ، ودعتني إلى أن أدير ظهري لفوضى تصرفاتنا » .
أما هارتونغ فأول لوحاته التجريدية تعود إلى عام ١٩٢٢ . وقد رسمها بواسطة الخطوط والبقع. إلا أنه لم يع وعياً واضحاً الدور الذي يمكن أن يسنده للترسيمية إلا خلال الثلاثينات . حتى أنه بشر عام ١٩٣٨ بصورة مباشرة بالأعمال الفنية التي تميز بها واشتهر ، غداة الحرب . وإذا كانت خطوطه قد تتشابك كما يحدث الخطوط وولس فهي أكثر ثباتاً منها ، وأعرض رسماً ، ولا يحدث لها قط أن تشكل خرفشة منمنمة مهووسة . وسواء أكانت هذه الخطوط عجلة أم بطيئة . وسواء أكانت تلتف على بعضها بحماس أم كانت عبارة عن مستقيمات مقواة ، فهي تسيل على اللوحة طاقات متعددة تدور ، أو تتعانق أو تتدافع أو يكبح بعضها جماح بعض . ويوجد وراءها خلفية يضيؤها نور شاحب مخفف تدريجياً ، لا ينفذ إلا من خلال نباتات العليق أو من خلال قضبان في هذا الفن مأساة تمثل ، وثورة تتجلى . إلا أن فيه أيضاً احساساً بأن الثورة عبث ، وأن الظلمة تعترض دوماً بأسلاكها الشائكة المتشابكة أو بمحرماتها الجهورية .. ستعترض السبيل بين الضياء وبين رغبتنا في الوصول إليه ، والألوان قليلة في لوحاته ، وهو يؤثر التلوين البارد، والمادة الرقيقة الرفيعة ، وبالاختصار فإن فنه خال من الشهوة ومن المرح ، بيد أنه يعبر بقوة عن فكر قلق وبطريقة مبتكرة .
وحوالي ١٩٥٤ أخذ هارتونغ يوسع خطوطه ، ويقلل من تمييز بعضها عن بعض ، وصارت البقع الممزقة والأشكال المروسة تحل محل الخطوط ، فتسلب اللوحة مزاياها الأكثر تأثيراً في عام ١٩٦٠ إلى فن ترسيمي حاد ، بيد أنه أقل تعقيداً مما كان في السابق . وبالاضافة إلى ذلك ، أصبحت الألوان أكثر ظهوراً ، وغالباً ما تبدو الخطوط وكأنها خرفشة أو أضواء خافتة ، قد تنجو من الظل ، لكنها تبقى مهددة بأن يبتلعها .
ونعود فنرى التضاد في النور لدى سولاج . ولكننا لا نجد لديه الخط المرن العصبي الذي يعطي القيمة لأفضل لوحات هارتونغ
ويرينا سولاج قضباناً وألواحاً و جسوراً أكثر مما يرينا تبني أحياناً حواجز ضخمة ، أو هياكل ثقيلة وتوحي أحياناً بسقوط الصقالات الصاخبة وهي تهوي . وكل مافي هذا الفن ثقيل ، من الألوان إلى الأشكال . وكأن كل مافيه معرض اللون الأسود القطراني : اللامع ، الكثيف في أكثر الأحيان لأن يسحقه ، والخانق دوماً .
ظل التجريد الهندسي حتى مطالع الخمسينات يبدو وكأنه المسيطر المنيع . غير أن الحقيقة أن أبحاثاً كانت جارية أثناء ذلك ، وظهرت أعمال مستوحاة من تفكير مختلف . وأخذ عدد من الرسامين يتمردون منذ بعض الوقت على . صرامة المنحى الهندسي ، منهم : « وولس و هارتونغ Hartung » و « أتلان Atlan » و « ستايل Stael و « لا نسكوي Lanskoy » و ( فوتريه Fautrier ) و ( دوبوفيه Dubuffet ) وسواهم . غير أن تمردهم هذا لم يكن دائماً بأسم التجريد . فقد بقيت عناصر تشبيهية تظهر أحياناً كثيرة في لوحات وولس وكذلك في لوحات فوتريه . كما أن هذه العناصر كانت الغالبة في لوحات دوبوفيه إلى حد يمكن معه اعتباره بطل طريقة تشبيهية جديدة . ومهما يكن من أمر ، فإن أكثر المعارض التي أقامها هؤلاء الفنانون لم تحظ إلا بالقليل من الضجة ، حتى أن المعارض القليلة التي حظيت بإثارة الاهتمام ، اعتبرت أحداثاً منفردة فقط. ثم قيض لهذا التيار الجديد ناقد فني هو « میشیل تابیه M. Tapie ، فأقام في ١٩٥١ - ١٩٥٢ عدداً من التظاهرات الفنية أسماها « مجابهة التعبيرات الصارخة » و « اشكال الفن اللاشكلي و فن آخر». ودافع عن قضية هذا التيار في مقالات و هجومية بآن واحد .. فبدأ بعدها يفرض نفسه . وهو اذ ضم التجريد الشعري إلى ما يسمى مذهب ( البقعية ) أو ( الفن بدون أشكال ) سرعان ما فرض نفسه ، وتوسع حتى أصبح بعد وقت قصير أكثر من تيار ، بل أصبح مداً عاصفاً لم يعد « التجريد الهندسي » قادراً على مقاومته إلا في مواقع متفرقة منعزلة .
ولئن كان بين ممثلي التجريد الهندسي عدد غير قليل من الأجانب فقد فاقهم عدد الأجانب الذين انتصروا للاتجاه الجديد . وقد استقروا في باريز منذ العشرينات أو الثلاثينات ، وبعضهم ولدوا في المانيا وولس وهارتونغ ، وبعضهم في سويسرا شنيدر.وفي هنغاريا « جيزا سوبل Geza Szobel » وفي تشيكوسلوفاكيا سیما وفي هولندا ( برام فان فلد Bram Van Valde ) وفي روسيا « لانسكوى » Lanskoy و ستایل Stael » و « زاك Zack » و « هو سياسون Hosiasson.
ويقف وولس في خط كلي وفي خط كاندنسكي كما كان في ۱۹۱۰ . إلا أن في فنه ناحية من الهوس خلا منها فن سابقيه. وهو ينفذ بصورة خاصة رسوماً وصوراً مائية ذات قياسات صغيرة . ولم يصور لوحات أكبر ، وبالزيت إلا في أواخر حياته . ( وقد مات عام ١٩٥١ ) على أنه يستطيع في اللوحات الصغيرة أن يعبر عن نفسه على أحسن وجه ، ففيها يصبح أسلوبه أكثر حدة لأنه يعبر عن توتر أعصاب رجل محبوس في وحدته كما لو كان محبوساً في مغارة وانه يرتاد أنحاء هذه المغارة ويملؤها برؤاه المرضية . غير أنه يظل حبيساً في داخلها ، هو مع هواجسه ، وهوسه الجنسي وسقمه و اشمئزازه .
وإذا كانت الألوان لدى وولس ذات طابع ذابل ، فإن خطوطه عادة رفيعة متعرجة ( مرتجفة ) : أنها خيوط دقيقة ومتينة ، تشرد تارة ، وتلتف طوراً وتتشابك . وإنها لتذكرنا بشباك عصبية أو بالأوعية الدموية ( إلا أن الدم الذي يملؤها دم أسود ) . كما أنها تذكرنا بشقوق الأحجار ، وبحزم من الجذور الصغيرة ، وبجذور تتلوى كالثعابين وفي بعض اللوحات نلمح تجاويف وندبات تذكر بجذع شجرة عتيق ، وبلحم بشري فاغر ، ممزق ، متورم ، وفجأة نرى في شبكة الخطوط أشكالاً علقية ، وجراثيم شديدة الحيوية . وعيوناً تائهة في وجه يكاد يكون وجهاً ... ثم يصبح التشبيه أكثر وضوحاً ، فإذا بالفنان يرينا شبح مدينة مستحيلة المنال، أو صقالات عمودية تظهر وراءها بشكل غير واضح ، بيوت ضيقة عتيقة . أما أن يكون الباعث على لوحات كهذه وهو اليأس العميق والتصميم على الابتعاد عن الانسانية المخيبة، فهذا أمر يحدثنا عنه وولس نفسه إذ كتب في عام ١٩٤٠ بعد أن أقام مدة في عدة معسكرات للاعتقال ، قائلاً :
في كاسيس جعلتني الحجارة والأسماك والصخور المنظورة بالمكبر ، وملح البحر والسماء كل هذه جعلتني أنسى أهمية الانسان ، ودعتني إلى أن أدير ظهري لفوضى تصرفاتنا » .
أما هارتونغ فأول لوحاته التجريدية تعود إلى عام ١٩٢٢ . وقد رسمها بواسطة الخطوط والبقع. إلا أنه لم يع وعياً واضحاً الدور الذي يمكن أن يسنده للترسيمية إلا خلال الثلاثينات . حتى أنه بشر عام ١٩٣٨ بصورة مباشرة بالأعمال الفنية التي تميز بها واشتهر ، غداة الحرب . وإذا كانت خطوطه قد تتشابك كما يحدث الخطوط وولس فهي أكثر ثباتاً منها ، وأعرض رسماً ، ولا يحدث لها قط أن تشكل خرفشة منمنمة مهووسة . وسواء أكانت هذه الخطوط عجلة أم بطيئة . وسواء أكانت تلتف على بعضها بحماس أم كانت عبارة عن مستقيمات مقواة ، فهي تسيل على اللوحة طاقات متعددة تدور ، أو تتعانق أو تتدافع أو يكبح بعضها جماح بعض . ويوجد وراءها خلفية يضيؤها نور شاحب مخفف تدريجياً ، لا ينفذ إلا من خلال نباتات العليق أو من خلال قضبان في هذا الفن مأساة تمثل ، وثورة تتجلى . إلا أن فيه أيضاً احساساً بأن الثورة عبث ، وأن الظلمة تعترض دوماً بأسلاكها الشائكة المتشابكة أو بمحرماتها الجهورية .. ستعترض السبيل بين الضياء وبين رغبتنا في الوصول إليه ، والألوان قليلة في لوحاته ، وهو يؤثر التلوين البارد، والمادة الرقيقة الرفيعة ، وبالاختصار فإن فنه خال من الشهوة ومن المرح ، بيد أنه يعبر بقوة عن فكر قلق وبطريقة مبتكرة .
وحوالي ١٩٥٤ أخذ هارتونغ يوسع خطوطه ، ويقلل من تمييز بعضها عن بعض ، وصارت البقع الممزقة والأشكال المروسة تحل محل الخطوط ، فتسلب اللوحة مزاياها الأكثر تأثيراً في عام ١٩٦٠ إلى فن ترسيمي حاد ، بيد أنه أقل تعقيداً مما كان في السابق . وبالاضافة إلى ذلك ، أصبحت الألوان أكثر ظهوراً ، وغالباً ما تبدو الخطوط وكأنها خرفشة أو أضواء خافتة ، قد تنجو من الظل ، لكنها تبقى مهددة بأن يبتلعها .
ونعود فنرى التضاد في النور لدى سولاج . ولكننا لا نجد لديه الخط المرن العصبي الذي يعطي القيمة لأفضل لوحات هارتونغ
ويرينا سولاج قضباناً وألواحاً و جسوراً أكثر مما يرينا تبني أحياناً حواجز ضخمة ، أو هياكل ثقيلة وتوحي أحياناً بسقوط الصقالات الصاخبة وهي تهوي . وكل مافي هذا الفن ثقيل ، من الألوان إلى الأشكال . وكأن كل مافيه معرض اللون الأسود القطراني : اللامع ، الكثيف في أكثر الأحيان لأن يسحقه ، والخانق دوماً .
تعليق