انشقاق كبير
Great Schism - Grand Schisme
الانشقاق الكبير
الانشقاق الكبير le grand schisme هو انقسام الكنيسة المسيحية إلى كنيستين شرقية وغربية، وقد اصطلح الباحثون على تحديد تاريخه عام 1054. وهذا التصدع الذي ظهر في المسيحية بين الشرق والغرب، جاء من تطورات عدة أصابتهما، امتدت قروناً وتقاسما فيها المسؤولية، وتعددت أسبابها:
الأسباب البعيدة
ظهرت المسيحية في فلسطين، في بيئة وثنية ويهودية، خاضعة لسيطرة الامبراطورية الرومانية. ومنها انتقلت إلى سورية، فآسيا الصغرى، فمصر فإلى أرجاء الامبراطورية كلها.
وقد عرفت من هذه الظروف مخاضاً ذاتياً على الصعيدين الديني والفكري. كما عرفت أزمات عقائدية وتنظيمية، في شرقي الامبراطورية وغربيها، تسببت أحيانا ًكثيرة في نشوء انقسامات، بعضها طارىء، وبعضها عميق.
وقد حدث أهم التوترات والانقسامات في القرون الرابع والخامس والسادس الميلادي. فظهرت بِدعٌ جديدة في رومة وشمالي إفريقية وآسيا الصغرى، في حين برزت كيانات كنسية مستقلة في كل من سورية ومصر والحبشة وأرمينية. واتضح للمؤرخين أن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ظهور هذه الكيانات الكنسية المستقلة، أقرب إلى التباين الحضاري والثقافي والعرقي والسياسي، منه إلى الديني.
إلا أن هذه الانقسامات، لم تلغ السمات المشتركة بين معظم هذه الكنائس، من حيث المحافظة على أمور ثلاثة أساسية: الاعتراف بأهم العقائد المسيحية، وقيام اتصالات دائمة فيما بينها، ولاسيما إبان الأزمات الكبرى، والحفاظ على روح تبشيرية، داخل الامبراطورية وخارجها، إلى أقصى العالم المعروف.
إلا أن إجراءً إدارياً مهماً اتخذه الامبراطور ديوقليسيانوس عام 285م على صعيد الامبراطورية الرومانية كلها، بتقسيم الامبراطورية قسمين شرقي وغربي، وما أعقب ذلك من إجراءات إدارية أخرى أدت إلى شطر المسيحية، كما يرى المؤرخون، إلى مسيحية شرقية ومسيحية غربية.
ومنذ ذلك الحين بدأت تبرز في الشرق والغرب، على نحو متزايد، ملامح التباين جلية، على صعيد اللغة والفكر والتقاليد والسلطة.
وفي عام 312م، حاول الامبراطور الروماني قسطنطين (312 - 337م) إعادة الإدارة الامبراطورية إلى وحدتها السابقة. فبدأ بتوحيدها دينياً، مما اضطره إلى محاربة شريكه في الحكم، الامبراطور مكسانس الذي كان يناصب المسيحية العداء وقتله في معركة شهيرة. وأصدر بعدها «إعلان ميلانو» الذي يقر فيه بشرعية المسيحية وحقها في الوجود.
وفي عام 330م، وحد قسطنطين الامبراطورية كلها، وأقام لها عاصمة واحدة هي بيزنطة، التي أطلق عليها اسم «القسطنطينية».
وكان في سعيه السابق لتوحيد البلاد، قد واجه هرطقة آريوس التي قسمت البلاد مدنيا،ً ودينياً، بين مؤيد ومعارض. فأمر بعقد مجمع مسكوني (يضم أساقفة المسكونة المعروفة آنذاك) عام 325، رَأَسه مناصفة مع مبعوثي بابا رومة.
ومنذ ذلك الحين، نشأت لدى الأباطرة البيزنطيين، قناعة بأنهم يقتسمون مع رجال الكنيسة، مسؤولية اقتياد الناس والشعوب إلى الله. وقد أفضت بهم هذه القناعة إلى مداخلات ومبادرات لا حصر لها في شؤون الكنيسة والمسيحية.
إلا أن الامبراطور تيودوسيوس رأى، عام 395، أن يقسم الامبراطورية من جديد، إلى شرقية وغربية، بين ابنيْه هونوريوس وأركاديوس. وفي حين أُعلنت مدينة رافينة بإيطالية، عاصمة للقسم الغربي، ظلت القسطنطينية عاصمة القسم الشرقي.
ولما انهارت الامبراطورية الغربية تحت ضربات البرابرة (الهون)، عام 476، برزت القسطنطينية مجدداً عاصمة قوية استطاعت أن تصمد في وجه هؤلاء البرابرة.
وقد نجم عن هذا الحدث السياسي الكبير، أمران كان لهما تأثير واضح وحاسم في العلاقات بين الشرق والغرب.
كان الأمر الأول نمو الشعور لدى المسؤولين الزمنيين والكنسيين في الشرق، بالقوة والثقة، وبالتعالي على الغرب. والحقيقة أن الغربيين قابلوا ذلك بإعجاب مكرهين عليه، حيال تلك الامبراطورية التي نجحت في تثبيت سلطتها الزمنية والدينية حيث أخفقوا هم.
أما الأمر الثاني فكان بروز دور رومة والكنيسة الغربية، على ما في ذلك من مفارقة، بوصفها السلطة الوحيدة القادرة على أن تحل محل الامبراطورية الغربية المنهارة. وكان ذلك يعود للطريقة التي تعاملت بها الكنيسة الغربية، وعلى رأسها البابا «لاون (ليون) الأول» الملقب بالكبير (440 - 461)، مع جحافل القبائل البربرية، من أجل احتوائها وتحضيرها.
ومما ساعد في إبراز دور رومة هذا، أن بيزنطة أخفقت في تقديم الحماية لشعوب إيطالية في مواجهة البرابرة، مع أنها استطاعت مجدداً، في عهد الامبراطور جوستنيانوس (527 - 565)، أن تبسط نفوذها على شمالي إفريقية.
هذا الواقع السياسي الجديد والخطير، اضطر البابا استفانوس الثاني، إزاء خطر اللومبارديين الغزاة، إلى التحالف مع ملك فرنسة بيبان القصير، عام 745، وكان منه أن قدم إلى فرنسة ليتوجه ملكاً، وكان بيبان القصير هو مؤسس الأسرة الكارولنجية التي قيض لها أن تحكم الغرب ردحاً طويلاً.
وفي العام نفسه، قام الملك بيبان القصير بالزحف على رأس جيشه، لإنقاذ رومة من الغزاة اللومبارديين الذين ضربوا الحصار حولها. وقد طاردهم حتى انتزع منهم منطقة رافينة التي كانت ما تزال تابعة للامبراطورية البيزنطية اسمياً، وألحقها بالممتلكات البابوية.
وقد بلغ هذا التحالف بين البابوية والأسرة الكارولنجية ذروته، حين توج البابا لاون الثالث، عام 800، شارل الكبير في عاصمته آخن، امبراطوراً على الغرب كله، فأغضب بذلك بيزنطة، فازدادت الهوة اتساعاً بين رومة وبيزنطة، أي بين الكنيسة في الغرب والكنيسة في الشرق.
تعليق