الفلسفة في القرن العشرين (ألمانيا)
تميزت الفلسفة الألمانية في القرن العشرين German Philosophy in the 20th century بأنها «فلسفة تحليل». فثارت على «المطلق» وعلى الجدل الروحي، ونبذ مبدأ التوحيد بين الفكر والواقع، فكانت في جوهرها مجرد ثورة على هيغل[ر] G.W.F.Hegel.
وشهدت تلك الفترة، إلى جانب انتشار الكانتية (الكانطية) الجديدة Neo-Kantianism، ميلاد تيارين فلسفيين جديدين: تمثل الأول في الوضعية الجديدة[ر] Neo-Positivism، وتمثل الثاني في الفلسفة الوجودية[ر] existentialism، وإن كان يُعد في الوقت نفسه امتداداً للفلسفة الحياتية life philosophy إلى جانب تضمنه لعناصر فينومينولوجية phenomenological وميتافيزيقية metaphysical. وقامت مدارس فلسفية أخرى كان لها مفكروها الذين دأبوا على تطوير آرائها، ولاسيما في الميتافيزيقا التي رفع لواءها مفكرون كبار من أمثال نيكولاي هارتمَن Nicolai Hartmann، وكذلك التومائية المحدثة Neo-Thomism التي قامت على تعاليم الفلاسفة الكاثوليكيين الخلص أمثال جوزيف كلويتغنJ.Kleutgen ما بين (1811-1893) وجوزيف غيسرJ.Geyser ما بين (1869-1948)، والفينومنولوجية التي أسسها هوسـرل Husserl ما بين (1859-1938)، والفلسفة الحياتية التي تجلّت في ظهور آخر أطوار البرغسونية Bergsonism عند الفيلسوف هرمان كيسرلينغHermann Keyserling ما بين (1880-1946)، ومدرسة علم النفس التجريبي التي أسسها الفليسوف المثالي، وعالم النفس الفسيولوجي الألماني ڤلهلم ماكس ڤونت Wilhelm Max Wundt ما بين (1832-1920)، حينما أنشأ أول معهد لعلم النفس التجريبي عام 1879 في لايبتزيغ، وقدّم مفاهيم فلسفية جمعت بين آراء اسبينوزا[ر] Spinoza وليبنتز[ر] Leibniz وكانت Kant وهيغل وغيرهم، فصاغ نظرية في المعرفة (المعرفة بالعقل) وهو موضوع الميتافيزيقا التي تجاوزت عنده ثنائية العلم الطبيعي وعلم النفس وحققت امتزاج المادية بالمثالية. وكذلك مدرسة فرانكفورت[ر] Frankfurt school التي كان أهم مؤسسيها ماكس هوركهايمر M.Horkheimer وأدورنو T.Adorno وماركوزه H.Marcuse، وفروم E.Fromm وغيرهم، فأنشؤوا معهد الدراسات الاجتماعية التابع لجامعة غوته في مدينة فرانكفورت على الماين.
وقد ذاع صيت هذه التيارات والمدارس الفلسفية الألمانية في القرن العشرين إلى حد كبير.
الكانتية (الكانطية) الجديدة
وهي تيار مثالي، ويدعى أيضاً «النقدية الجديدة» Neo-Criticism، ظهر في ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحت شعار «العودة إلى كَانت»[ر] Kant، وكان يسعى إلى تطوير العناصر المثالية والميتافيزيقية في فلسفة كانت. وقد وجد هذا التيار تعبيره الكامل في مدرستين ألمانيتين: مدرسة ماربورغ Marburg School ومدرسة بادن Baden School، وتضم مدرسة هيدلبرغ Heidelberg ومدرسة فرايبورغ Freiburg، ومدرسة غوتنغن Göttingen. والمدرسة الأولى تولي اهتماماً خاصاً لتفسير مثالي للمفاهيم الموضوعية العلمية وللمقولات الفلسفية، التي تعدّها بمنزلة بناءات منطقية. وكان دعاتها الرئيسيون: نيكولاي هارتمن، وهرمن كوهنHermann Cohen ما بين (1842-1918)، وباول ناتوربP.Natorp ما بين (1854-1924)، وإرنست كاسيرر E.Cassirer يعتقدون أن الفلسفة لا توفّر معرفة بالعالم، ولكنها تكون فقط منهجاً للبحث ومنطقاً مماثلين لمنهج بحث العلوم الخاصة ومنطقها. وقد أنكروا الواقع الموضوعي وحاولوا فصل المعرفة عن المعطيات الحسية. وعدّوا الإدراك عملية منطقية خاصة لتكوين المفاهيم. وأهمها ما يسمى «مبدأ الإلزام» الذي مدّت المدرسة نطاقه إلى علم الاجتماع أيضاً. وكان أتباع مدرسة ماربورغ ينكرون أن قوانين التطور الاجتماعي موضوعية وعدّوا الاشتراكية ظاهرة أخلاقية ليس إلا، وكذلك «مثلاً أعلى أخلاقياً» فوق الطبقات. وكان منظّرو مدرسة ماربورغ يطالبون بدعم الماركسية بالكانتية، وجرّدوا الشيوعية العلمية من مضمونها الاقتصادي والسياسي.
أما المدرسة الثانية: مدرسة بادن، فكان تأثيرها كبيراً في الفكر الألماني في القرن العشرين، بفضل أساتذة جامعتي هيدلبرغ وفرايبرغ (وكلاهما في إقليم بادن) فيلهلم فندلباند[ر] Wilhelm Windelband وهاينرش ريكرت[ر] Heinrich Rickert. وقد ركّزت المدرسة انتباهها على تبرير التناقض بين العلوم الطبيعية والاجتماعية على أساس المذهب الكَانتي (الكانتي) في العقل العملي والعقل النظري، وعلى أساس السعي إلى إظهار استحالة المعرفة العلمية للظواهر الاجتماعية. وقد عارضت المدرسة المنهج التاريخي بالمنهج العلمي الطبيعي، وعدّت التاريخ علم الوقائع الفردية للتطور، والتي لها قيمة حضارية. أما العلم الطبيعي فهو دراسة قوانين الظواهر الطبيعية التي تكوّن نفسها، والتي هي ظواهر عامة. ولا يشكل أي من هذين المفهومين انعكاساً للواقع. فالعلم الطبيعي هو إدراك العام والتاريخ إدراك الفردي. ومدرسة بادن - محتذية حذو كانت - تضع الوجود نقيضاً للضرورة. ويرتبط إنكار قوانين التاريخ - وهو سمة مميزة لهذه المدرسة - بفلسفة القيم[ر]. وقد طوّر هذه النظريات هوغو مونستربرغH.Müensterberg ما بين (1863-1916)، وإميل لاسكE.Lask ما بين (1875-1915). وطبقها على علم الجمال هرمن كوهن Cohen. وعلى علم الاجتماع أيضاً ماكس فيبر[ر] Max Weber. ويجري تطوير أفكار مدرسة بادن في علم الاجتماع الألماني الحديث بروح من الذاتية والإرادية الشاملة التي تتعارض مع الماركسية. ويتزعم هذه المدرسـة في علـم الاجتماع في ألمانية الغـربية يوهان ريترJ.Ritter ما بين (1776-1810).
وتمارس الكانتية الجديدة نفوذها اليوم من خلال مدارس فكرية عديدة أخرى، صنفها المؤرخون وعرفوها بحسب اتجاهاتها، وقد ذاع صيتها في ألمانيا أمثال المدرسة أو الاتجـاه الفيزيـولوجي، الذي تزعـمه «هرمـن هلمهولتس».Helmholtz ما بين (1821-1894)، و«فـريـدريش ألبـرت لانغه»A.F.Lange ما بين (1828-1875)، وهي مدرسة فسرت الصور الكَانتية بحسبانها حالات فسيولوجية. والمدرسة أو الاتجاه الميتافيزيقي، الذي مثله «أوتو ليبمان»O.Liebmann ما بين (1840-1912) و«يوهانس ڤولكلتJ.Volkelt ما بين (1848-1930)، وهي مدرسة اعتقدت بإمكانية قيام ميتافيزيقا نقدية. والمدرسة أو الاتجاه الواقعي، الذي تزعمه «ألويس ريل»A.Riehl ما بين (1844-1924) و«هونيغسڤالد»R.Honigswald ما بين (1875-1947). والمدرسة أو الاتجاه الأخلاقي الذي تزعمه فيلهلم فيندلباند، وهاينرش ريكرت، وهوغو مونستربرغ. والمدرسة أو الاتجاه النسبي الذي تبناه غيورغ زيملG.Simmel ما بين (1858-1918)، والمدرسة أو الاتجاه النفسي الذي مثلّه ليونارد نيلسون L.Nelson وهانس كورنليوس»H.Kornelius ما بين (1863-1947). والمدرسة أو الاتجاه المنطقي وكان أهم ممثليه هرمن كوهن وباول ناتورب وكاسيرر.
الوضعية الجديدة[ر] New Positivism
شهدت ألمانية في القرن العشرين إثر انتشار النزعات التحليلية في مضمار التفكير الرياضي حركة وضعية محدثة، كانت بمنزلة امتداد لتجريبية هيوم D.Hume وجون استيوارت ملّ J.S.Mill، وماخ E.Mach، تزعمها الفيلسوف الألماني رودولف كارناب[ر] R.Carnap ما بين (1891-1970)، ودعا زملاءه إلى فلسفة علمية، تكون مهمتها توحيد العلوم الخاصة، وتخليص الفلسفة نهائياً من كل أسباب اللبس والغموض عن طريق اصطناع منهج «التحليل المنطقي»، والعمل على ربط اللغة بالتجربة ربطاً علمياً، وصياغة الواقع الخارجي صياغة منطقية.
كما يعد هانس رايشنباخH.Reichenbach ما بين (1891-1953) واحداً من منظمي جمعية الفلسفة العلمية في برلين، التي كونت مع جماعة فيينا[ر] الأساس لحركة الوضعية المنطقية.
الفينومينولوجيا[ر] phenomenalism
أو فلسفة الظواهر وهو تيار جديد أسسه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل E.Husserl. وقد أُلقيت على عاتق هذه الفلسفة مهمة إضفاء شيء من الواقعية على المبادئ الأساسية للمثالية الذاتية، لكن دون المساس بجوهرها. وتتلخص أفكار هوسرل بأنه لا علاقة للفلسفة بالعالم المحيط، ولا بالعلوم التي تدرسه، ومهمتها تنحصر في دراسة ظواهر الوعي فقط، وأن ظواهر الوعي ليست نفسية، وإنما هي ماهيات مطلقة، مستقلة عن الوعي الفردي، وموجودة في هذا الوعي، لا وجود لها خارجه. وهذه الماهيات لا تدرك بالذهن والتفكير المجرد، وإنما يتم الوصول إليها بالمعاناة المباشرة، ثم توصف، كما تبدو، حدسياً.
وقد أكد هوسرل ضرورة أن تكون الفلسفة علماً منطقياً، بالمعنى الدقيق للكلمة، وأن تكون مبادئها تعيينية مطلقة، كقوانين المنطق والرياضيات. فوقف ضد النسبية والريبية، مؤكداً وجود حقائق مطلقة، كما ألح على وجوب التفريق بين الفعل المعرفي بوصفه عملية نفسية تجري في وعي الإنسان، وبين محتوى هذا الفعل وقيمته. وحاول البرهنة على أن قوانين المنطق يقينية، وأن يقينها لا يتعلق بتلك العمليات النفسية التي تتم في وعي البشر.
الوجودية[ر] existentialism
ظهرت الفلسفة الوجودية في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وقد تميز الجو السياسي والروحي الذي ترعرعت فيه بالأسى والحقد بعد الهزيمة العسكرية الألمانية.
وكان من أعلام هذه الفلسفة مارتن هايدغرM.Heidegger ما بين (1889-1976)، وكارل يسبرزK.Jaspers ما بين (1883-1965). وتعدّ الفلسفة الوجودية أحد أكثر تيارات الفلسفة الغربية المعاصرة انتشاراً، وقد جاءت بوصفها وريثاً شرعياً لأفكار برغسون Bergson ونيتشه Nietzsche، واستعارت منهجها من فينومينولوجيا هوسرل، وأخذت أفكارها الأساسية من تعاليم المفكر الدنماركي كيركغارد[ر] Kierkegaard. وكان الوجود هو الموضوع الأساسي للفلسفة الوجودية.
الميتافيزيقا[ر] metaphysics
تعد الميتافيزيقا أحد أهم تيارات الفلسفة الألمانية المعاصرة، وهو تيار يدّعي لنفسه أحقية تمثيل فلسفة الكينونة والتعبير عنها أكثر من غيره من التيارات الفكرية المعاصرة الأخرى. وقد اقتصر فلاسفة الكينونة على تحليل الكائن، ومهّدوا السبيل أمام القول بفلسفة في الطبيعة، وبأنثروبولوجيا[ر] anthropologism، إضافة إلى القول بعلوم أخرى. ويكمن الفارق بين هؤلاء الفلاسفة وبين غيرهم في أن الأنطولوجيا العامة والميتافيزيقا تُعدان أساساً لكل النظريات الفلسفية الجزئية.
ويعد نيكولاي هارتمنN.Hartmann ما بين (1882-1950) واحداً من أكبر المفكرين الذين حدّدوا معالم الفلسفة الألمانية المعاصرة، وأحد رواد ميتافيزيقا القرن العشرين. ويتمثل فضله في دقة التحليل وبموهبته التي قلّما توجد عند غيره من الفلاسفة الألمان. وقد مارس مهنة التدريس بجامعتي ماربورغ وبرلين وغيرهما، وظل منتمياً إلى مدرسة ماربورغ الكانتية (الكانطية) الجديدة إلى أن نبذ نزعتها العقلانية الذاتية. وعلى الرغم من تأثره بأرسطو، إلا أنه لم ينج من تأثير الفينومينولوجيا وكانت وهيغل، ومع هذا فقد تحرر من ربقة فلسفات القرن التاسع عشر تماماً. وبنى على أساس الأنطولوجيا فلسفة للطبيعة وفلسفة للروح الموضوعية ومذهباً للأخلاق ونظرية للقيم وعلم الجمال ونظرية للمعرفة. ووضع حولها كتب عدة أهمها: «فلسفة الأخلاق» Ethik عام (1926)، «أساس الأنطولوجيا» Zur Grundlegungder der Ontologie عام (1935)، «فلسفة الطبيعة» Philosophie der Natur عام (1950)، و«علم الجمال» Asthetik عام (1953).
التومائية المحدثة Neo-Thomism
وهي حركة تومائية تقدمية، راجت في منتصف القرن التاسع عشر في جامعتي مونيخ ومونستر Münster، وبرز من أساتذتها مارتن غرابمان M.Grabmann وأوتو غيير O.Geyer وغالوس مانسر G.M.Manser وجوزيف موسباخ J.Mausbach. وقد اتسمت بواقعيتها التعقلية مقابل المثالية أو الظاهراتية الكانتية. فتطورت سريعاً، وانفتحت على العلم، وتهيأت للحوار مع مختلف التيارات الفكرية المعاصرة، فتمسكت بجوهر فكر القديس توما الأكويني[ر] Aquinas، وعملت على تجديده وإعادة كتابته بلغة حية معاصرة تلائم أفكار العصر. فقام روادها بنشاط واسع لنشر فتاوى السلطة البابوية في الفاتيكان، وتمكنوا من تأويل اكتشافات العلم المعاصر تأويلاً مثالياً دينياً.
المذهب التاريخي والفلسفة الألمانية في الحياة
أولى الفلاسفة الألمان العلومَ الإنسانية، علم الاجتماع والتاريخ والحضارة، عنايةً خاصةً فاهتموا بدراسة التاريخ، ودراسة الصيرورة الروحية، فكان من أبرز فلاسفته نيتشه، وغيورغ زيمل، كما اهتم ڤيلهلم دلتاي[ر] Dilthey ما بين (1833-1911) بفلسفة الحياة، والدراسات الروحية والفهم التاريخي وتفسيره، ووضع مبادئ ثلاثة لما أسماه بالتاريخية Historicity، فكان له تأثير كبير في نفس ماكس فيبر Weber وتلميذه كارل مانهايم[ر] Manneheim ما بين (1893-1947) الذي وضع أهم كتبه «الأيديولوجية واليوتوبيا - الطوبى» Ideologie und Utopie عام (1929).
أما الحركة الفلسفية الألمانية الأخرى في الحياة ـ وهي أقل اهتماماً بالتأريخ ـ فهي الفلسفة البيولوجية التي لا تنظر إلى الصيرورة بوصفها صيرورة تاريخية للذات، بل بوصفها تياراً جامعاً لعناصر حيوية بالمعنى الواسع للكلمة. ويُعد لودفيغ كلاغس L.Klages المولود في سنة 1872 من أهم مفكري هذه الحركة، ففي كتابه الرئيسي المسمى «الفكر خصم للروح» الذي صدر في الفترة ما بين 1929-1932 في ثلاثة أجزاء، يسعى إلى بناء نظرية في اللاروحانية المتطرفة.
أما الكونت هرمان كيسرلينغ Hermann Keyserling ما بين (1880-1946)، صاحب الكتاب الشهير «مذكرات رحلة فيلسوف» إضافة إلى عدد من المؤلفات الأخرى، فقد دعا إلى نظرية لا عقلية ذات صبغة برغماتية متطرفة.
ويُعد أوزفالد شبنغلر[ر] O.Spengler ما بين (1880-1936) أحد الممهدين النظريين للفاشية الألمانية، ففي مؤلفه الرئيسي «انهيار الغرب» (1918-1922) سجلّ فلسفته في التاريخ، وقد لقي رواجاً بين المفكرين العقائديين للاستعمار، فقد مجدّ شبنغلر الروح البروسية القديمة. والحرب عنده هي الشكل الأبدي للوجود الإنساني، كما أنكر فكرة التقدم التاريخي وعارض بالقدرية النهج المادي للتاريخ، واعتقد أن الحضارة الغربية التي تبدأ من القرن التاسع عشر قد دخلت مرحلة الانهيار، وكان ازدهارها في عصر الإقطاع.
صالح شقير
تميزت الفلسفة الألمانية في القرن العشرين German Philosophy in the 20th century بأنها «فلسفة تحليل». فثارت على «المطلق» وعلى الجدل الروحي، ونبذ مبدأ التوحيد بين الفكر والواقع، فكانت في جوهرها مجرد ثورة على هيغل[ر] G.W.F.Hegel.
وشهدت تلك الفترة، إلى جانب انتشار الكانتية (الكانطية) الجديدة Neo-Kantianism، ميلاد تيارين فلسفيين جديدين: تمثل الأول في الوضعية الجديدة[ر] Neo-Positivism، وتمثل الثاني في الفلسفة الوجودية[ر] existentialism، وإن كان يُعد في الوقت نفسه امتداداً للفلسفة الحياتية life philosophy إلى جانب تضمنه لعناصر فينومينولوجية phenomenological وميتافيزيقية metaphysical. وقامت مدارس فلسفية أخرى كان لها مفكروها الذين دأبوا على تطوير آرائها، ولاسيما في الميتافيزيقا التي رفع لواءها مفكرون كبار من أمثال نيكولاي هارتمَن Nicolai Hartmann، وكذلك التومائية المحدثة Neo-Thomism التي قامت على تعاليم الفلاسفة الكاثوليكيين الخلص أمثال جوزيف كلويتغنJ.Kleutgen ما بين (1811-1893) وجوزيف غيسرJ.Geyser ما بين (1869-1948)، والفينومنولوجية التي أسسها هوسـرل Husserl ما بين (1859-1938)، والفلسفة الحياتية التي تجلّت في ظهور آخر أطوار البرغسونية Bergsonism عند الفيلسوف هرمان كيسرلينغHermann Keyserling ما بين (1880-1946)، ومدرسة علم النفس التجريبي التي أسسها الفليسوف المثالي، وعالم النفس الفسيولوجي الألماني ڤلهلم ماكس ڤونت Wilhelm Max Wundt ما بين (1832-1920)، حينما أنشأ أول معهد لعلم النفس التجريبي عام 1879 في لايبتزيغ، وقدّم مفاهيم فلسفية جمعت بين آراء اسبينوزا[ر] Spinoza وليبنتز[ر] Leibniz وكانت Kant وهيغل وغيرهم، فصاغ نظرية في المعرفة (المعرفة بالعقل) وهو موضوع الميتافيزيقا التي تجاوزت عنده ثنائية العلم الطبيعي وعلم النفس وحققت امتزاج المادية بالمثالية. وكذلك مدرسة فرانكفورت[ر] Frankfurt school التي كان أهم مؤسسيها ماكس هوركهايمر M.Horkheimer وأدورنو T.Adorno وماركوزه H.Marcuse، وفروم E.Fromm وغيرهم، فأنشؤوا معهد الدراسات الاجتماعية التابع لجامعة غوته في مدينة فرانكفورت على الماين.
وقد ذاع صيت هذه التيارات والمدارس الفلسفية الألمانية في القرن العشرين إلى حد كبير.
الكانتية (الكانطية) الجديدة
وهي تيار مثالي، ويدعى أيضاً «النقدية الجديدة» Neo-Criticism، ظهر في ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحت شعار «العودة إلى كَانت»[ر] Kant، وكان يسعى إلى تطوير العناصر المثالية والميتافيزيقية في فلسفة كانت. وقد وجد هذا التيار تعبيره الكامل في مدرستين ألمانيتين: مدرسة ماربورغ Marburg School ومدرسة بادن Baden School، وتضم مدرسة هيدلبرغ Heidelberg ومدرسة فرايبورغ Freiburg، ومدرسة غوتنغن Göttingen. والمدرسة الأولى تولي اهتماماً خاصاً لتفسير مثالي للمفاهيم الموضوعية العلمية وللمقولات الفلسفية، التي تعدّها بمنزلة بناءات منطقية. وكان دعاتها الرئيسيون: نيكولاي هارتمن، وهرمن كوهنHermann Cohen ما بين (1842-1918)، وباول ناتوربP.Natorp ما بين (1854-1924)، وإرنست كاسيرر E.Cassirer يعتقدون أن الفلسفة لا توفّر معرفة بالعالم، ولكنها تكون فقط منهجاً للبحث ومنطقاً مماثلين لمنهج بحث العلوم الخاصة ومنطقها. وقد أنكروا الواقع الموضوعي وحاولوا فصل المعرفة عن المعطيات الحسية. وعدّوا الإدراك عملية منطقية خاصة لتكوين المفاهيم. وأهمها ما يسمى «مبدأ الإلزام» الذي مدّت المدرسة نطاقه إلى علم الاجتماع أيضاً. وكان أتباع مدرسة ماربورغ ينكرون أن قوانين التطور الاجتماعي موضوعية وعدّوا الاشتراكية ظاهرة أخلاقية ليس إلا، وكذلك «مثلاً أعلى أخلاقياً» فوق الطبقات. وكان منظّرو مدرسة ماربورغ يطالبون بدعم الماركسية بالكانتية، وجرّدوا الشيوعية العلمية من مضمونها الاقتصادي والسياسي.
أما المدرسة الثانية: مدرسة بادن، فكان تأثيرها كبيراً في الفكر الألماني في القرن العشرين، بفضل أساتذة جامعتي هيدلبرغ وفرايبرغ (وكلاهما في إقليم بادن) فيلهلم فندلباند[ر] Wilhelm Windelband وهاينرش ريكرت[ر] Heinrich Rickert. وقد ركّزت المدرسة انتباهها على تبرير التناقض بين العلوم الطبيعية والاجتماعية على أساس المذهب الكَانتي (الكانتي) في العقل العملي والعقل النظري، وعلى أساس السعي إلى إظهار استحالة المعرفة العلمية للظواهر الاجتماعية. وقد عارضت المدرسة المنهج التاريخي بالمنهج العلمي الطبيعي، وعدّت التاريخ علم الوقائع الفردية للتطور، والتي لها قيمة حضارية. أما العلم الطبيعي فهو دراسة قوانين الظواهر الطبيعية التي تكوّن نفسها، والتي هي ظواهر عامة. ولا يشكل أي من هذين المفهومين انعكاساً للواقع. فالعلم الطبيعي هو إدراك العام والتاريخ إدراك الفردي. ومدرسة بادن - محتذية حذو كانت - تضع الوجود نقيضاً للضرورة. ويرتبط إنكار قوانين التاريخ - وهو سمة مميزة لهذه المدرسة - بفلسفة القيم[ر]. وقد طوّر هذه النظريات هوغو مونستربرغH.Müensterberg ما بين (1863-1916)، وإميل لاسكE.Lask ما بين (1875-1915). وطبقها على علم الجمال هرمن كوهن Cohen. وعلى علم الاجتماع أيضاً ماكس فيبر[ر] Max Weber. ويجري تطوير أفكار مدرسة بادن في علم الاجتماع الألماني الحديث بروح من الذاتية والإرادية الشاملة التي تتعارض مع الماركسية. ويتزعم هذه المدرسـة في علـم الاجتماع في ألمانية الغـربية يوهان ريترJ.Ritter ما بين (1776-1810).
وتمارس الكانتية الجديدة نفوذها اليوم من خلال مدارس فكرية عديدة أخرى، صنفها المؤرخون وعرفوها بحسب اتجاهاتها، وقد ذاع صيتها في ألمانيا أمثال المدرسة أو الاتجـاه الفيزيـولوجي، الذي تزعـمه «هرمـن هلمهولتس».Helmholtz ما بين (1821-1894)، و«فـريـدريش ألبـرت لانغه»A.F.Lange ما بين (1828-1875)، وهي مدرسة فسرت الصور الكَانتية بحسبانها حالات فسيولوجية. والمدرسة أو الاتجاه الميتافيزيقي، الذي مثله «أوتو ليبمان»O.Liebmann ما بين (1840-1912) و«يوهانس ڤولكلتJ.Volkelt ما بين (1848-1930)، وهي مدرسة اعتقدت بإمكانية قيام ميتافيزيقا نقدية. والمدرسة أو الاتجاه الواقعي، الذي تزعمه «ألويس ريل»A.Riehl ما بين (1844-1924) و«هونيغسڤالد»R.Honigswald ما بين (1875-1947). والمدرسة أو الاتجاه الأخلاقي الذي تزعمه فيلهلم فيندلباند، وهاينرش ريكرت، وهوغو مونستربرغ. والمدرسة أو الاتجاه النسبي الذي تبناه غيورغ زيملG.Simmel ما بين (1858-1918)، والمدرسة أو الاتجاه النفسي الذي مثلّه ليونارد نيلسون L.Nelson وهانس كورنليوس»H.Kornelius ما بين (1863-1947). والمدرسة أو الاتجاه المنطقي وكان أهم ممثليه هرمن كوهن وباول ناتورب وكاسيرر.
الوضعية الجديدة[ر] New Positivism
شهدت ألمانية في القرن العشرين إثر انتشار النزعات التحليلية في مضمار التفكير الرياضي حركة وضعية محدثة، كانت بمنزلة امتداد لتجريبية هيوم D.Hume وجون استيوارت ملّ J.S.Mill، وماخ E.Mach، تزعمها الفيلسوف الألماني رودولف كارناب[ر] R.Carnap ما بين (1891-1970)، ودعا زملاءه إلى فلسفة علمية، تكون مهمتها توحيد العلوم الخاصة، وتخليص الفلسفة نهائياً من كل أسباب اللبس والغموض عن طريق اصطناع منهج «التحليل المنطقي»، والعمل على ربط اللغة بالتجربة ربطاً علمياً، وصياغة الواقع الخارجي صياغة منطقية.
كما يعد هانس رايشنباخH.Reichenbach ما بين (1891-1953) واحداً من منظمي جمعية الفلسفة العلمية في برلين، التي كونت مع جماعة فيينا[ر] الأساس لحركة الوضعية المنطقية.
الفينومينولوجيا[ر] phenomenalism
أو فلسفة الظواهر وهو تيار جديد أسسه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل E.Husserl. وقد أُلقيت على عاتق هذه الفلسفة مهمة إضفاء شيء من الواقعية على المبادئ الأساسية للمثالية الذاتية، لكن دون المساس بجوهرها. وتتلخص أفكار هوسرل بأنه لا علاقة للفلسفة بالعالم المحيط، ولا بالعلوم التي تدرسه، ومهمتها تنحصر في دراسة ظواهر الوعي فقط، وأن ظواهر الوعي ليست نفسية، وإنما هي ماهيات مطلقة، مستقلة عن الوعي الفردي، وموجودة في هذا الوعي، لا وجود لها خارجه. وهذه الماهيات لا تدرك بالذهن والتفكير المجرد، وإنما يتم الوصول إليها بالمعاناة المباشرة، ثم توصف، كما تبدو، حدسياً.
وقد أكد هوسرل ضرورة أن تكون الفلسفة علماً منطقياً، بالمعنى الدقيق للكلمة، وأن تكون مبادئها تعيينية مطلقة، كقوانين المنطق والرياضيات. فوقف ضد النسبية والريبية، مؤكداً وجود حقائق مطلقة، كما ألح على وجوب التفريق بين الفعل المعرفي بوصفه عملية نفسية تجري في وعي الإنسان، وبين محتوى هذا الفعل وقيمته. وحاول البرهنة على أن قوانين المنطق يقينية، وأن يقينها لا يتعلق بتلك العمليات النفسية التي تتم في وعي البشر.
الوجودية[ر] existentialism
ظهرت الفلسفة الوجودية في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وقد تميز الجو السياسي والروحي الذي ترعرعت فيه بالأسى والحقد بعد الهزيمة العسكرية الألمانية.
وكان من أعلام هذه الفلسفة مارتن هايدغرM.Heidegger ما بين (1889-1976)، وكارل يسبرزK.Jaspers ما بين (1883-1965). وتعدّ الفلسفة الوجودية أحد أكثر تيارات الفلسفة الغربية المعاصرة انتشاراً، وقد جاءت بوصفها وريثاً شرعياً لأفكار برغسون Bergson ونيتشه Nietzsche، واستعارت منهجها من فينومينولوجيا هوسرل، وأخذت أفكارها الأساسية من تعاليم المفكر الدنماركي كيركغارد[ر] Kierkegaard. وكان الوجود هو الموضوع الأساسي للفلسفة الوجودية.
الميتافيزيقا[ر] metaphysics
تعد الميتافيزيقا أحد أهم تيارات الفلسفة الألمانية المعاصرة، وهو تيار يدّعي لنفسه أحقية تمثيل فلسفة الكينونة والتعبير عنها أكثر من غيره من التيارات الفكرية المعاصرة الأخرى. وقد اقتصر فلاسفة الكينونة على تحليل الكائن، ومهّدوا السبيل أمام القول بفلسفة في الطبيعة، وبأنثروبولوجيا[ر] anthropologism، إضافة إلى القول بعلوم أخرى. ويكمن الفارق بين هؤلاء الفلاسفة وبين غيرهم في أن الأنطولوجيا العامة والميتافيزيقا تُعدان أساساً لكل النظريات الفلسفية الجزئية.
ويعد نيكولاي هارتمنN.Hartmann ما بين (1882-1950) واحداً من أكبر المفكرين الذين حدّدوا معالم الفلسفة الألمانية المعاصرة، وأحد رواد ميتافيزيقا القرن العشرين. ويتمثل فضله في دقة التحليل وبموهبته التي قلّما توجد عند غيره من الفلاسفة الألمان. وقد مارس مهنة التدريس بجامعتي ماربورغ وبرلين وغيرهما، وظل منتمياً إلى مدرسة ماربورغ الكانتية (الكانطية) الجديدة إلى أن نبذ نزعتها العقلانية الذاتية. وعلى الرغم من تأثره بأرسطو، إلا أنه لم ينج من تأثير الفينومينولوجيا وكانت وهيغل، ومع هذا فقد تحرر من ربقة فلسفات القرن التاسع عشر تماماً. وبنى على أساس الأنطولوجيا فلسفة للطبيعة وفلسفة للروح الموضوعية ومذهباً للأخلاق ونظرية للقيم وعلم الجمال ونظرية للمعرفة. ووضع حولها كتب عدة أهمها: «فلسفة الأخلاق» Ethik عام (1926)، «أساس الأنطولوجيا» Zur Grundlegungder der Ontologie عام (1935)، «فلسفة الطبيعة» Philosophie der Natur عام (1950)، و«علم الجمال» Asthetik عام (1953).
التومائية المحدثة Neo-Thomism
وهي حركة تومائية تقدمية، راجت في منتصف القرن التاسع عشر في جامعتي مونيخ ومونستر Münster، وبرز من أساتذتها مارتن غرابمان M.Grabmann وأوتو غيير O.Geyer وغالوس مانسر G.M.Manser وجوزيف موسباخ J.Mausbach. وقد اتسمت بواقعيتها التعقلية مقابل المثالية أو الظاهراتية الكانتية. فتطورت سريعاً، وانفتحت على العلم، وتهيأت للحوار مع مختلف التيارات الفكرية المعاصرة، فتمسكت بجوهر فكر القديس توما الأكويني[ر] Aquinas، وعملت على تجديده وإعادة كتابته بلغة حية معاصرة تلائم أفكار العصر. فقام روادها بنشاط واسع لنشر فتاوى السلطة البابوية في الفاتيكان، وتمكنوا من تأويل اكتشافات العلم المعاصر تأويلاً مثالياً دينياً.
المذهب التاريخي والفلسفة الألمانية في الحياة
أولى الفلاسفة الألمان العلومَ الإنسانية، علم الاجتماع والتاريخ والحضارة، عنايةً خاصةً فاهتموا بدراسة التاريخ، ودراسة الصيرورة الروحية، فكان من أبرز فلاسفته نيتشه، وغيورغ زيمل، كما اهتم ڤيلهلم دلتاي[ر] Dilthey ما بين (1833-1911) بفلسفة الحياة، والدراسات الروحية والفهم التاريخي وتفسيره، ووضع مبادئ ثلاثة لما أسماه بالتاريخية Historicity، فكان له تأثير كبير في نفس ماكس فيبر Weber وتلميذه كارل مانهايم[ر] Manneheim ما بين (1893-1947) الذي وضع أهم كتبه «الأيديولوجية واليوتوبيا - الطوبى» Ideologie und Utopie عام (1929).
أما الحركة الفلسفية الألمانية الأخرى في الحياة ـ وهي أقل اهتماماً بالتأريخ ـ فهي الفلسفة البيولوجية التي لا تنظر إلى الصيرورة بوصفها صيرورة تاريخية للذات، بل بوصفها تياراً جامعاً لعناصر حيوية بالمعنى الواسع للكلمة. ويُعد لودفيغ كلاغس L.Klages المولود في سنة 1872 من أهم مفكري هذه الحركة، ففي كتابه الرئيسي المسمى «الفكر خصم للروح» الذي صدر في الفترة ما بين 1929-1932 في ثلاثة أجزاء، يسعى إلى بناء نظرية في اللاروحانية المتطرفة.
أما الكونت هرمان كيسرلينغ Hermann Keyserling ما بين (1880-1946)، صاحب الكتاب الشهير «مذكرات رحلة فيلسوف» إضافة إلى عدد من المؤلفات الأخرى، فقد دعا إلى نظرية لا عقلية ذات صبغة برغماتية متطرفة.
ويُعد أوزفالد شبنغلر[ر] O.Spengler ما بين (1880-1936) أحد الممهدين النظريين للفاشية الألمانية، ففي مؤلفه الرئيسي «انهيار الغرب» (1918-1922) سجلّ فلسفته في التاريخ، وقد لقي رواجاً بين المفكرين العقائديين للاستعمار، فقد مجدّ شبنغلر الروح البروسية القديمة. والحرب عنده هي الشكل الأبدي للوجود الإنساني، كما أنكر فكرة التقدم التاريخي وعارض بالقدرية النهج المادي للتاريخ، واعتقد أن الحضارة الغربية التي تبدأ من القرن التاسع عشر قد دخلت مرحلة الانهيار، وكان ازدهارها في عصر الإقطاع.
صالح شقير