اشعاع التكعيبية
رأينا أن التكعيبية لا تمس فقط الفنانين المتصلين بها مباشرة ، بل تتجاوزهم الى سواهم أيضاً. وهذا ما رأيناه عندما تكلمنا عن الفنانين البنائين والتعبيريين والسيرياليين. بيد أن تأثير هذا المذهب التكعيبي يظهر أيضاً عند غير هم من الفنانين . من بينهم مثلا دوفرين Dufresne وهو من جيل الفنانين و الوحشيين ، ويحب اللون والحركة ، وقد اتخذ من الفن الجمالي التكعيبي درسا في النظام كما في الحرية ، ويظهر ذلك بينا في المشاهد الغريبة التي توحي له بها ذكريات اقامته في شمالي أفريقيا كما يظهر ذلك أيضاً في لوحاته ومنها ( حوريات المارن ) . فان موضوعها عادي مألوف رجل جالس الى مائدة القهوة ومستحمات ذوات أجساد بضة الا أن هذا الموضوع المألوف أنتج لوحة وصفية وذات بنية واضحة بآن واحد.
الا أن الفكر التكعيبي انما يوجه بصورة خاصة أبحاث بعض الفنانين الشبان الذين لم تبدأ حياتهم الفنية الا بعد ۱۹۲۰ . ومنهم «بودان Beaudin .» الذي كان على اتصال بـ خوان غري ولكنه ، رغم هذا الاتصال لا يفكر بتقليده. وهو أكثر منه احتفالا بالضوء الذي يغلف الأشياء أو يستر ملامحها بعض الستر ، أحياناً . وهو لا يهتم بتصوير الأشياء والطبيعة ، الصامتة خط متموج أما أشكال الأشخاص الذين يرسمهم فتمتاز بأنها تجمع بين الاجتزاء والاختصار من جهة والتضخيم والتكبير من جهة ثانية . كما تمتاز بخلوها من القسوة والجفوة ان الخط الذي يرسم. هذه الاشياء ، هو تموجاً واسعاً ، ولكنه يكاد يغرق أحياناً في ضباب طفيف ، واذا كان من المستطاع أن نصف هذا الخط بالمظلم – المنير ، فمن الواجب أن نذكر أيضاً أن الفنان يشدد على لطف الانتقال وعذوبته أكثر مما يشدد على التناقض بين الأضواء والظلال وينتج من كل ذلك جو حالم يتفق مع تعبير الوجوه المتأملة ، ومع تعبير الأيادي التي تتسم بطابع الحنو .
وفي عام ۱۹۲۹ ، راحت الخطوط تتسع ، وأخذ الضوء يشتد ، بينما أصبح الظل أكثر عمقاً . ولم يمض طويل زمن حتى صار بودان يصور في لوحته بحرية كاملة الأيادي والأزاهير ، وينيرها بحيث تبدو وكأنها أشياء تبرز من عالم الغيب .
ومع ذلك ، فليس في فنه شيء من السيريالية . ولم يحدث له قط أن مال الى الاستسلام لقوى الظلام . وفي ١٩٣٣ أخذ يهتم بالرقص فاذا بالأجسام العارية ترسم رقوشها العربية الصفراء أو الوردية فوق لون أخضر أو أزرق ، وكلاهما لا يمثلان أشياء معينة . وانما تذكر الناظر بطراوة الريف في أيام الربيع. وقد يحدث الا يكون للاجساد حدود واضحة ، وقد يحدث أيضاً أن يحل محل الخطوط العادية تظليل بالخطوط رسمت بألوان أرضية اللوحة نفسها ، بحيث ترتبط شخوص اللوحة بأرضيتها ارتباطا أفضل ، وتبدو وكأنها تبرز من الارضية وتستطيع أن تتلاشى فيها .
أترى بودان يخشى أن الأمر بهذه الشخوص الى أن تصبح مائعة ؟ على كل حال ، عندما بدأ بعد سنتين ، يصور أجساماً عارية ، واقفة أو جالسة ، عاد الشكل إلى دقته السابقة ، وربما عمد بعض الأحيان إلى التشديد على هذه الدقة بواسطة ما يشبه الحالة . أما في الأجسام فالتعارض بين الضوء والظل يعبر عنه بواسطة اختلاف الألوان ، بعضها عن بعض . فهنالك ألوان برتقالية ووردية وحمراء وزرقاء وبنفسجية ، كلها مخترعة اختراعا لايقل عن اختراع التأثيرات الضوئية. وبعد هذه الفترة ، ومهما كان موضوع اللوحة ، سواء أكان كائنا بشريا ، أم جوادا أم بقرة ، فالرسم يظل ثابتا قوياً . وتبدو الأشكال وقد فصلت بحزم واعتبارا من عام ۱۹۳۸ صار الخط متصلبا ، .. وراح بودان يظهر أكثر من كل وقت مضى متابع للتكعيبية . ولكنه متابع ، وهو كثير الابتداع والاختراع ، سواء في انتقاء المواضيع أم في طريقة معالجتها .
أما الاسباني بوريس Borés الذي قدم الى باريز في عام ١٩٢٥ ، فهو أقل من بودان قربا الى المفاهيم التكعيبية . بيد أن من يخاله غير مهتم بها يخطىء ظنا وحسبانا. ونجد أن الخطوط المنحنية هي المسيطرة على فنه ، وكذلك الأشكال غير المنتظمة. وهو يحب شيئاً قليلاً من الغموض الذي يفتح الباب للسرية والالتباس أكثر مما يحب الدقة في التحديد فاذا مارسم خطوطا دقيقة ، سره أن يغرقها بعض الشيء في غمار اللون . وهو يحب أن يوجه النور بحيث تلصق بالأشياء بقعا نيرة تنقذها من الابتذال و تخلع عليها مظهرا مستغربا هذا وان سعيه وراء الحصول على تأثيرات غير متوقعة يسوقه الى أن يضع أشخاصه في مواجهة النور أو في التظليل . كما أن هذه الرغبة في الاتيان بالمدهش المفاجيء يقوده الى أن يمنح الألوان نوعا . الاستقلال الذاتي . بحيث لا تقتصر على تجاوز الرسم ، بل أنها لا تحسب أي حساب للاشياء التي يوحي بها هذا الرسم . .
هذا وان انتاج بوريس متنوع تنوعا لا بأس به . وتتراوح لوحاته بين هذه المواضيع : عشاء الجنود » ، « السيدة ذات المشد » ، « لاعبو الورق » ، « من سباق الثيران » ، « الكلاب في القنص » ، « قاطفات البنفسج الصبي الذي يرسم . عصفورا ، واذا كان الخط السريع سريعا لينا رشيقا في الفترة بين ۱۹۲۷ و ۱۹۲۸ ، فقد أصبح حوالي ۱۹۳۳ أبطأ وأثقل . ثم عاد ينساب بسهولة . ثم يتصلب مرة ثانية ، ان لم يكن في كل لوحاته ، ففي بعضها . وربما كان اللون لديه متماسكا. لكن الألوان قلما تعرض متناقضات عنيفة ، وبصورة عامة ، فان عدد الألوان التي يستعملها قليل . وقد نراه يلون بنفس اللون مناطق كبيرة من اللوحة ، لكنه يخلع عليها بعض الاختلاف بواسطة استعمال تدرجات نادرة .
واذا كان للتكعيبية دخل ما في اعداد و دينوايه Desnoyer ، فهي لم تلق لديه فكراً بحاثا ، يميل الى الابحاث الثورية في مجال النظر والرؤية . انما دينوايه هو رجل حواس . فاذا امرأة أو مدينة فهو يقول لنا بصورة خاصة ماهي النواحي التي تمس بها المرأة أو المدينة ومع أنه لا يجهل قيمة الشكل ، ومع يهتم بالغ الاهتمام بأن يعطي لوحته بنيانا متينا، فمن الطبيعي أن يولي أكبر الأهمية والاهتمام الى اللون ، فألوانه حادة ، حية . أما بنيانه للصورة فواسع ، وعجينة التصوير سخية . . . . وبعبارة موجزة ، نقول إنه ينتمي الى جماعة الوحشيين بقدر انتمائه الى التكعيبيين .
وفي انكلترا مصور من هذا الجيل نفسه ، اسمه « نيكولسون Nicholson وهو يبدو في صوره للطبيعة الصامتة وكأنه الوارث المباشر للتكعيبية والصفائية . ومن جهة ثانية ، فان ثمة عددا من اللوحات والرسوم النافرة التي بدأ صنعها عام ۱۹۳۳ تجعله قريبا جدا من مندريان لا تمثل الا توازن عدد صغير من الدوائر والمربعات والمستطيلات .
هذا. ولما كان نيكولسون يصور أيضاً مناظر طبيعية فيها القدر الوافي من الواقعية ، وكانت كل الأساليب المتباينة تتعايش في نفس الفترة من الزمن ، فان ذلك قد يحمل على التساؤل عما اذا كنا نجد نفس الشخصية في كل منها . . . . والواقع أنه ليس من العسير أن نلاحظ الثبات الكامن في تعبيراته المتنوعة . فسواء أكان الخط عريضاً أم رفيعا ، وصفيا وحرا أم مستقلا ومنتظماً ، وسواء أكان الشيء المرسوم شجرة أم زجاجة ماء أم دائرة بحتة ، ففيه نفس الحساسية الناعمة اللطيفة . وهذه الحساسية نفسها تشاهد أيضا في الألوان ، بما فيها من ضروب الرمادي والكحلي
رأينا أن التكعيبية لا تمس فقط الفنانين المتصلين بها مباشرة ، بل تتجاوزهم الى سواهم أيضاً. وهذا ما رأيناه عندما تكلمنا عن الفنانين البنائين والتعبيريين والسيرياليين. بيد أن تأثير هذا المذهب التكعيبي يظهر أيضاً عند غير هم من الفنانين . من بينهم مثلا دوفرين Dufresne وهو من جيل الفنانين و الوحشيين ، ويحب اللون والحركة ، وقد اتخذ من الفن الجمالي التكعيبي درسا في النظام كما في الحرية ، ويظهر ذلك بينا في المشاهد الغريبة التي توحي له بها ذكريات اقامته في شمالي أفريقيا كما يظهر ذلك أيضاً في لوحاته ومنها ( حوريات المارن ) . فان موضوعها عادي مألوف رجل جالس الى مائدة القهوة ومستحمات ذوات أجساد بضة الا أن هذا الموضوع المألوف أنتج لوحة وصفية وذات بنية واضحة بآن واحد.
الا أن الفكر التكعيبي انما يوجه بصورة خاصة أبحاث بعض الفنانين الشبان الذين لم تبدأ حياتهم الفنية الا بعد ۱۹۲۰ . ومنهم «بودان Beaudin .» الذي كان على اتصال بـ خوان غري ولكنه ، رغم هذا الاتصال لا يفكر بتقليده. وهو أكثر منه احتفالا بالضوء الذي يغلف الأشياء أو يستر ملامحها بعض الستر ، أحياناً . وهو لا يهتم بتصوير الأشياء والطبيعة ، الصامتة خط متموج أما أشكال الأشخاص الذين يرسمهم فتمتاز بأنها تجمع بين الاجتزاء والاختصار من جهة والتضخيم والتكبير من جهة ثانية . كما تمتاز بخلوها من القسوة والجفوة ان الخط الذي يرسم. هذه الاشياء ، هو تموجاً واسعاً ، ولكنه يكاد يغرق أحياناً في ضباب طفيف ، واذا كان من المستطاع أن نصف هذا الخط بالمظلم – المنير ، فمن الواجب أن نذكر أيضاً أن الفنان يشدد على لطف الانتقال وعذوبته أكثر مما يشدد على التناقض بين الأضواء والظلال وينتج من كل ذلك جو حالم يتفق مع تعبير الوجوه المتأملة ، ومع تعبير الأيادي التي تتسم بطابع الحنو .
وفي عام ۱۹۲۹ ، راحت الخطوط تتسع ، وأخذ الضوء يشتد ، بينما أصبح الظل أكثر عمقاً . ولم يمض طويل زمن حتى صار بودان يصور في لوحته بحرية كاملة الأيادي والأزاهير ، وينيرها بحيث تبدو وكأنها أشياء تبرز من عالم الغيب .
ومع ذلك ، فليس في فنه شيء من السيريالية . ولم يحدث له قط أن مال الى الاستسلام لقوى الظلام . وفي ١٩٣٣ أخذ يهتم بالرقص فاذا بالأجسام العارية ترسم رقوشها العربية الصفراء أو الوردية فوق لون أخضر أو أزرق ، وكلاهما لا يمثلان أشياء معينة . وانما تذكر الناظر بطراوة الريف في أيام الربيع. وقد يحدث الا يكون للاجساد حدود واضحة ، وقد يحدث أيضاً أن يحل محل الخطوط العادية تظليل بالخطوط رسمت بألوان أرضية اللوحة نفسها ، بحيث ترتبط شخوص اللوحة بأرضيتها ارتباطا أفضل ، وتبدو وكأنها تبرز من الارضية وتستطيع أن تتلاشى فيها .
أترى بودان يخشى أن الأمر بهذه الشخوص الى أن تصبح مائعة ؟ على كل حال ، عندما بدأ بعد سنتين ، يصور أجساماً عارية ، واقفة أو جالسة ، عاد الشكل إلى دقته السابقة ، وربما عمد بعض الأحيان إلى التشديد على هذه الدقة بواسطة ما يشبه الحالة . أما في الأجسام فالتعارض بين الضوء والظل يعبر عنه بواسطة اختلاف الألوان ، بعضها عن بعض . فهنالك ألوان برتقالية ووردية وحمراء وزرقاء وبنفسجية ، كلها مخترعة اختراعا لايقل عن اختراع التأثيرات الضوئية. وبعد هذه الفترة ، ومهما كان موضوع اللوحة ، سواء أكان كائنا بشريا ، أم جوادا أم بقرة ، فالرسم يظل ثابتا قوياً . وتبدو الأشكال وقد فصلت بحزم واعتبارا من عام ۱۹۳۸ صار الخط متصلبا ، .. وراح بودان يظهر أكثر من كل وقت مضى متابع للتكعيبية . ولكنه متابع ، وهو كثير الابتداع والاختراع ، سواء في انتقاء المواضيع أم في طريقة معالجتها .
أما الاسباني بوريس Borés الذي قدم الى باريز في عام ١٩٢٥ ، فهو أقل من بودان قربا الى المفاهيم التكعيبية . بيد أن من يخاله غير مهتم بها يخطىء ظنا وحسبانا. ونجد أن الخطوط المنحنية هي المسيطرة على فنه ، وكذلك الأشكال غير المنتظمة. وهو يحب شيئاً قليلاً من الغموض الذي يفتح الباب للسرية والالتباس أكثر مما يحب الدقة في التحديد فاذا مارسم خطوطا دقيقة ، سره أن يغرقها بعض الشيء في غمار اللون . وهو يحب أن يوجه النور بحيث تلصق بالأشياء بقعا نيرة تنقذها من الابتذال و تخلع عليها مظهرا مستغربا هذا وان سعيه وراء الحصول على تأثيرات غير متوقعة يسوقه الى أن يضع أشخاصه في مواجهة النور أو في التظليل . كما أن هذه الرغبة في الاتيان بالمدهش المفاجيء يقوده الى أن يمنح الألوان نوعا . الاستقلال الذاتي . بحيث لا تقتصر على تجاوز الرسم ، بل أنها لا تحسب أي حساب للاشياء التي يوحي بها هذا الرسم . .
هذا وان انتاج بوريس متنوع تنوعا لا بأس به . وتتراوح لوحاته بين هذه المواضيع : عشاء الجنود » ، « السيدة ذات المشد » ، « لاعبو الورق » ، « من سباق الثيران » ، « الكلاب في القنص » ، « قاطفات البنفسج الصبي الذي يرسم . عصفورا ، واذا كان الخط السريع سريعا لينا رشيقا في الفترة بين ۱۹۲۷ و ۱۹۲۸ ، فقد أصبح حوالي ۱۹۳۳ أبطأ وأثقل . ثم عاد ينساب بسهولة . ثم يتصلب مرة ثانية ، ان لم يكن في كل لوحاته ، ففي بعضها . وربما كان اللون لديه متماسكا. لكن الألوان قلما تعرض متناقضات عنيفة ، وبصورة عامة ، فان عدد الألوان التي يستعملها قليل . وقد نراه يلون بنفس اللون مناطق كبيرة من اللوحة ، لكنه يخلع عليها بعض الاختلاف بواسطة استعمال تدرجات نادرة .
واذا كان للتكعيبية دخل ما في اعداد و دينوايه Desnoyer ، فهي لم تلق لديه فكراً بحاثا ، يميل الى الابحاث الثورية في مجال النظر والرؤية . انما دينوايه هو رجل حواس . فاذا امرأة أو مدينة فهو يقول لنا بصورة خاصة ماهي النواحي التي تمس بها المرأة أو المدينة ومع أنه لا يجهل قيمة الشكل ، ومع يهتم بالغ الاهتمام بأن يعطي لوحته بنيانا متينا، فمن الطبيعي أن يولي أكبر الأهمية والاهتمام الى اللون ، فألوانه حادة ، حية . أما بنيانه للصورة فواسع ، وعجينة التصوير سخية . . . . وبعبارة موجزة ، نقول إنه ينتمي الى جماعة الوحشيين بقدر انتمائه الى التكعيبيين .
وفي انكلترا مصور من هذا الجيل نفسه ، اسمه « نيكولسون Nicholson وهو يبدو في صوره للطبيعة الصامتة وكأنه الوارث المباشر للتكعيبية والصفائية . ومن جهة ثانية ، فان ثمة عددا من اللوحات والرسوم النافرة التي بدأ صنعها عام ۱۹۳۳ تجعله قريبا جدا من مندريان لا تمثل الا توازن عدد صغير من الدوائر والمربعات والمستطيلات .
هذا. ولما كان نيكولسون يصور أيضاً مناظر طبيعية فيها القدر الوافي من الواقعية ، وكانت كل الأساليب المتباينة تتعايش في نفس الفترة من الزمن ، فان ذلك قد يحمل على التساؤل عما اذا كنا نجد نفس الشخصية في كل منها . . . . والواقع أنه ليس من العسير أن نلاحظ الثبات الكامن في تعبيراته المتنوعة . فسواء أكان الخط عريضاً أم رفيعا ، وصفيا وحرا أم مستقلا ومنتظماً ، وسواء أكان الشيء المرسوم شجرة أم زجاجة ماء أم دائرة بحتة ، ففيه نفس الحساسية الناعمة اللطيفة . وهذه الحساسية نفسها تشاهد أيضا في الألوان ، بما فيها من ضروب الرمادي والكحلي
تعليق