البانيون
Albanians - Albanais
الألبانيون
شغل أصل الألبانيين Albanions العلماء والباحثين لأن اللغة الألبانية، تعدّ مفتاحاً يستعان به لفهم لغات جنوبي أوربة القديمة. فمنذ القرن الثامن عشر برز رأي يقول بانحدار الألبانيين من الإلّيريين أي من أقدم الشعوب التي سكنت البلقان. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهر رأي آخر يحدد المنطقة التي كان يعيش فيها أجداد الألبانيين بأنها كانت في الوسط من البلقان وبجوار سكان ما يعرف برومانية اليوم ويعتمد هذا الرأي على ما يوجد من تشابه بين اللغة الألبانية وبقايا اللغة التراقية القديمة وبين الألبانية والرومانية أيضاً. ولكن هذا الرأي يفتقر إلى أساس تاريخي.
وعلى كل فإن الكشوف الأثرية في النصف الثاني من القرن العشرين وتطور الدراسة اللغوية المقارنة بين الألبانية والإلّيرية دفعا غالبية العلماء إلى تبني الأصل الإلّيري للألبانيين. ويرى بعض الباحثين أن الإليريين يُعدّون صلة الوصل بين السكان القدماء في حوض المتوسط. وتجدر الإشارة إلى أن هناك عدة روايات في الموروث الشعبي الألباني تتحدث عن الأصل العربي للألبانيين بالاستناد إلى الأسطورة القديمة التي تعزو أصل الإلّيريين إلى الفينيقيين الكنعانيين.
أما من حيث التسمية فتطلق على الألبانيين عدة تسميات. وكان بطلميوس [ر] في القرن الثاني الميلادي أول من أشار إلى وجود الألبان Albanoi وعاصمتهم ألبانوبوليس Albanopolis، وفي المنطقة التي تنحصر اليوم في ألبانية الوسطى. ومن ثم يتردد ذكر هذا الشعب لدى الكتّاب البيزنطيين ابتداء من القرن الحادي عشر باسم «ألبان» وباسم «أربانيتاي» Arbanitai، ومن هذا الجذر المشترك arb أو alb تكونت التسميات اللاحقة التي أطلقت على الألبانيين.
على أن العثمانيين مالوا إلى الصيغة اليونانية آرفانيد Arfaneed التي تحولت لديهم إلى آرفانيد Arvaneed وآرنافود أو بحسب الكتابة القديمة لها أرنود. وقد انتقلت هذه التسمية إلى العربية أيضاً وأخذ العرب يطلقون على الألبانيين اسم أرنؤود وأرناؤود وأخيراً أرناؤوط، وعلى موطنهم «بلاد الأرناؤوط» في حين غلبت في القرن العشرين الصيغة الحديثة: ألبانية والألبانيون. أما الألبانيون أنفسهم فقد أخذوا يطلقون على أنفسهم منذ عصر النهضة القومية في القرن التاسع عشر اسم شقيبتار Shqiptare وعلى وطنهم شقيبريا Shqipëria. وفي الواقع أن تسمية شقيب Shqip التي استعملت أول مرة في القرن السادس عشر للدلالة على اللغة المفهومة، غدت تستعمل للدلالة على الألبانيين منذ القرن الثامن عشر، ثم استقرت تسمية شائعة في القرن التاسع عشر.
نشأة الألبانيين وتطورهم
كان اسم الإليريين حتى القرن الخامس عشر ق.م يطلق على أفراد واحدة من القبائل الكثيرة التي كانت تنتشر على طول الساحل الشرقي للبحر الأدرياتي وعلى قسم من جنوب الساحل الغربي، ثم أصبح منذ ذلك الحين يشمل كل هذه القبائل تعبيراً عن هذا التكون الإثني الجديد. وكان ذلك نتيجة تكون بطيء منذ نهاية الألف الثالثة ق.م حين جاءت القبائل الهندية ـ الأوربية إلى هذه المناطق واختلطت ببقايا السكان الأصليين. وفي الحقبة الوسطية لعصر البرونز برزت من هذا الاختلاط القبائل التي اصطلح على تسميتها بالقبائل الإلّيرية من باب تغليب الجزء على الكل، وذكر من هذه القبائل في «الإلياذة» و«الأوديسة»، البايونيون والتسبروتيون بوجه مستقل.
كان ظهور الإلّيريين في القرن الخامس عشر ق.م يرتبط بعامل مهم هو نشوء الدولة الإلّيرية، التي تحولت بسرعة إلى عنصر فعّال في البلقان.
ومع أن الإلّيريين فقدوا دولتهم فإنهم بقوا حتى القرن السادس الميلادي يُذكرون بوصفهم شعباً له ملامح إثنية خاصة.
تمتع الإلّيريون بشهرة واسعة في مجال الحروب مما دفع رومة إلى تجنيد أعداد كبيرة منهم، وأصبحت «الكتائب الإلّيرية» تتمتع بسمعة خاصة في إطار الجيش الروماني. وبهذا الدور العسكري تمكن بعض الإلّيريين من الوصول إلى عرش رومة في القرنين الثالث والرابع للميلاد مثل كلود الثاني وأورليان وديوقلسيان وماكسيمين دازا وقسنطين الأول ويوليان وبوستان ويوستينيان وغيرهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن اليونانية كانت لغة الثقافة في هذه المناطق، وهذا ما أدى إلى عدم العثور على أي نص إلّيري أو حتى جملة واحدة من اللغة الإلّيرية.
وبعد سقوط الدولة تعرضت المناطق الإلّيرية إلى مخاطر «الرَّوْمَنة» إذ تحولت المدن الإلّيرية إلى مستوطنات رومانية، و أصبحت اللاتينية اللغة الرسمية. كما انتشرت المسيحية بين الإلّيريين ولاسيما بعد أن أصبحت معظم المناطق الإلّيرية سنة 395م في إطار الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية). إلا أن الامبراطورية البيزنطية، والمناطق الإلّيرية في إطارها، تعرضت منذ ذلك الحين إلى هزّات وضربات متواصلة من العناصر الجديدة التي ظهرت في البلقان. ففي نهاية القرن الرابع اندفع القوط من شمال الامبراطورية ليغزوا إليرية ومقدونية واليونان وينهبوها. وبعد أقل من نصف قرن جاء الهون (441م) بقيادة أتّيلا [ر] لينهبوا هم أيضاً هذه المناطق. وفي نهاية القرن الخامس برز تهديد القبائل الطورانية والبلغارية والسلافية. إذ حطمت هذه القبائل جيشاً بيزنطياً يتألف معظمه من الجنود الإلّيريين في تراقية سنة 499م.
وأخيراً ومنذ منتصف القرن السادس ظهرت القبائل السلافية الجنوبية القوية التي تمكنت من تغيير الوضع برمته بعد أن استقرت في مناطق واسعة من البلقان. ظهرت في البداية الدولة البلغارية التي توسعت غرباً على حساب الامبراطورية البيزنطية حتى وصلت إلى الساحل الأدرياتي وضمّت إليها معظم المناطق الإلّيرية ـ الألبانية في القرن التاسع ثم بقية هذه المناطق في القرن العاشر. وفي عهد الامبراطورية البلغارية الثانية (القرنين العاشر والحادي عشر) أصبحت عاصمة الامبراطورية بريسبا Prespa، ثم أوهريد Ohrid لاحقاً، تشرف على المناطق الإليرية ـ الألبانية.
وبعد أن قضى الامبراطور البيزنطي باسيل الثاني على الامبراطورية البلغارية الثانية في بداية القرن الحادي عشر توقف صهر الألبانيين في البوتقة السلافية ـ البلغارية عن طريق الدين ولم يبق من التأثير الثقافي البلغاري إلا بعض الأسماء.
شهدت المرحلة التي تلت سقوط الامبراطورية البلغارية بروز الألبانيين إلى ساحة الأحداث بعد غياب استمرّ عدة قرون، فقد ذكر الكتّاب البيزنطيون الألبانيين لأول مرة باسمهم في القرن الحادي عشر في روايتهم بعض الأحداث التي جرت في مناطقهم.
ومنذ القرن الثاني عشر أخذت حدود آربرية أو بلاد الآربريين تزداد وضوحاً في المصادر التاريخية نتيجة للأحداث الحاسمة التي جرت في المناطق الألبانية أو التي شارك بها الألبانيون. وقد شملت هذه المناطق المرتفعات في شمال ألبانية الحالية، ومدّت مصادر القرن الثالث عشر حدود آربرية جنوباً إلى نهر فويسا Vojsa حتى مدينة فلورة Vlora. وفي القرن الرابع عشر وصلت حدودها شمالاً إلى أولتسين، في حين تمدّ مصادر القرن الخامس عشر حدود آربريا من تيفار Tivar (بار) في الشمال إلى جيروكاسترا Gjirokastra وتشامريا Cameria في الجنوب.
ومن جهة أخرى فقد أثّر الانشقاق الكبير في الكنيسة المسيحية (1054م) في السياسة الدينية في ألبانية، إذ ارتبطت الكنائس الألبانية ببطريرك القسطنطينية، إلا أن الصراع اللاحق على النفوذ بين الكنيستين الشرقية والغربية شمل المناطق الألبانية التي كان كل طرف يعدها رأس جسر له. وكان ممن استفادوا من هذا الصراع الأمير الصربي فويسلاف Vojslav، الذي كان يحكم منطقة الجبل الأسود، فقد راح هذا الأمير يتوسع جنوباً ليسيطر على شكودرة Shkodra التي جعلها عاصمة له، في حين طلب ابنه ميخائيل من البابا غريغوريوس السابع سنة 1077م تتويجه ملكاً والاعتراف باستقلال الكنيسة في مملكته. وهكذا تمّ في تلك السنة تدشين أسقفية تيفار التي ارتبطت برومة عبر راغوصة، ودخل في إطارها الأسقفيات الألبانية في شكودرة وأولستين وديش وغيرها. وتحولت أسقفية تيفار منذ ذلك الحين إلى مركز لنشر الكاثوليكية في المناطق الألبانية الشمالية في حين بقيت المناطق الجنوبية على صلتها بالكنيسة الشرقية. وفي خضم هذا الصراع بين الكنيستين شجع البابا غريغوريوس السابع النورمان على غزو المناطق الألبانية للانطلاق منها نحو القسطنطينية. وهكذا بدأ في أيار 1081م الإنزال النورماني عند فلورة، ثم توجهت القوات النورمانية لحصار دورس Durres من البر والبحر. ومع أن دورس سقطت أخيراً بعد حصار طويل في حزيران 1082م إلاّ أن القوات النورمانية اضطرت أخيراً إلى الانسحاب عام 1083م. وبعد عدة سنوات شُغلت الأراضي الألبانية بالجيوش الصليبية المتوجهة إلى الشرق. وعاود النورمان غزو الأراضي الألبانية ثانية في عام 1107م، إلا أن الامبراطور ألكسس كومنين تمكن من إبعادهم من جديد.
كان الامبراطور ألكسس أول من حكم أسرة كومنين[ر] (1081- 1181) التي مدّت قليلاً في عمر الامبراطورية، وساعدها على ذلك بعض الإجراءات ولاسيما تطبيق نظام التمليك. ونتيجة لهذا النظام تكونت في الأراضي الألبانية في القرن الثالث عشر مجموعة من الإقطاعيين المحليين الذين أصبحوا يستخفون كغيرهم بسلطة العاصمة.
كان لظهور الدولة الصربية في الشمال والدولة البلغارية في الشرق أثر في تخفيف ضغط العاصمة على الزعماء المحليين الألبانيين مما وفر لهم فرصة ذهبية لتوطيد نفوذهم، وما لبثت الدولة الصربية أن توسعت في عصر ستيفان دوشان S.Dushan وضمت إليها قلب آربرية وكروية Kruja ثم بقية المدن الألبانية. وسمى ستيفان نفسه سنة 1348 امبراطور الصربيين واليونانيين والبلغاريين والأربانيين.
إلا أن تفكك هذه الامبراطورية الواسعة التي شملت معظم البلقان بعد موت دوشان (1355م) أدّى إلى تمركز السلطة المحلية في يد بعض الأسر الإقطاعية الألبانية كأسرة توبيا Topia في ألمانية الوسطى وأسرة بالش Balsh في الشمال أي حول شكودرة. وفي الوقت الذي كان يتميز بتناقص الأسر الإقطاعية، ظهر العثمانيون في البلقان مستفيدين من هذا الواقع لمصلحتهم، فتغلغلوا في الأراضي الألبانية أول مرة سنة 1385م بناء على دعوة من الأمير الألباني كارل توبيا نفسه، في حين سارع أمراء أسرتي بالش ودوكاجين Dukagjin إلى عقد صلح خاص مع العثمانيين بعد اعترافهم بسيادة السلطان. وحين حلّ موعد معركة كوسوفة التي حسمت مصير البلقان (1389م) كان قسم من الألبانيين يقف في صف العثمانيين، وكان القسم الآخر قد التحق بالتحالف المسيحي على العثمانيين.
بعد معركة كوسوفة اكتفى العثمانيون باعتراف الأمراء الإقطاعيين الألبانيين بسيادة السلطان وبمشاركتهم في العمليات العسكرية حين تدعو الحاجة إلى ذلك إضافة إلى خراج سنوي معين. وكانت السلطة العثمانية في البداية تعمد لضمان ولاء هؤلاء الأمراء، إلى الاحتفاظ بأحد أولادهم رهينة في العاصمة، وكان هؤلاء الأولاد يعتنقون الإسلام ويربون تربية عسكرية ثم يرسلون لتولي المراكز المختلفة. ومن هؤلاء جيرج كاستريوتي Gj.Kastrioti ابن الأمير جون كاستريوتي الذي كان يسيطر على ألبانية الوسطى في الربع الأول من القرن الخامس عشر. وكان العثمانيون قد تركوا لهذا الأمير منطقة صغيرة فقط خارج «سنجق الأرنافود» الذي كونوه سنة 1431م، وضمّ معظم ألبانية الحالية.
تسمى جيرج كاستريوتي باسم اسكندر ونشأ في بلاط السلطان العثماني مراد الثاني، واعتنق الإسلام، ومنح لقب بك بعد أن أظهر شجاعة كبيرة في المعارك التي خاضها مع الجيش العثماني في أوربة وآسيا الصغرى، وقد وُلي اسكندر بك سنة 1438، ولمدة قصيرة قضاء كروية، قلب ألبانية، الذي يتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة. ويبدو أن وعي اسكندر بك أهمية هذا الموقع، الذي كان سابقاً ضمن أملاك أبيه، قد حرّضه على التفكير في العودة إليه والاستقلال ببلاده عن العثمانيين. وكان الهجوم المضاد الذي قاده القائد المجري هونيادي Hunyadi على العثمانيين في البلقان بين عامي 1442 - 1443 قد أنعش بعض الآمال في أوربة بوقف التقدم العثماني، ونشط البابا أوجين الرابع لتحريض الزعماء المحليين الألبانيين، بمن فيهم اسكندر بك، على التمرد على العثمانيين.
وهكذا، وفي هذه الأوضاع الإقليمية والدولية انسحب اسكندر بك مع 300 من فرسانه من الجيش العثماني الذي انهزم أمام المجريين في نيش Nish، وتمكن اسكندر بك في مدة قصيرة من توسيع سلطته على المناطق المحيطة، وأصبح زعيماً للإمارة الألبانية الجديدة. وقد لفت اسكندر بك الأنظار إليه بما فعله لأن هذا الإنجاز ترافق مع الإعلان عن حملة مجرية بولندية جديدة على العثمانيين في أوربة، إذ إن ألبانية تؤلف جسراً استراتيجياً في حال كهذه. وفي خريف 1444م توجهت قوات مجرية بولندية نحو الجنوب في حين توجهت قوات ألبانية نحو الغرب. إلا أن السلطان مراد عمل على تشتيت القوات المجرية ـ البولندية أولاً ثم التفت إلى ألبانية، حيث انشغلت هناك القوات العثمانية الضخمة نحو ربع قرن من الزمن.
وبعد عدة حملات توجه السلطان مراد بنفسه على رأس جيش كبير في سنة 1450م، نحو كروية عاصمة اسكندر بك، وبقيت قلعة كروية محاصرة طوال الصيف والخريف حتى اضطر السلطان إلى الانسحاب أخيراً.
وبعد تسلم محمد الفاتح للحكم (1451- 1481) أرسل عدة جيوش عثمانية أخرى إلى كروية إلا أنها كانت تخفق في كل مرة. ولكنه بعد أن تمكن من فتح القسطنطينية (1453) أرسل جيشاً ضخماً من 80 ألف جندي بقيادة بالبان باشا الألباني، أحد أشهر العسكريين في الامبراطورية. إلاّ أن هذا الجيش تعرض لهزيمة حاسمة دفعت السلطان الفاتح إلى التوجه بنفسه على رأس أكبر جيش في الامبراطورية (150 ألفاً) في حزيران 1446م. ولم يحقق هذا الجيش الغاية التي ذهب من أجلها حتى كان موت اسكندر بك سنة 1467 وسقوط عاصمته بيد العثمانيين.
بدأ الازدهار يعود ثانية إلى هذه المناطق بعد استقرار الحكم العثماني منذ بداية القرن السادس عشر، وقد أسهم في هذا الاستقرار والازدهار تحول الألبانيين التدريجي نحو الإسلام الذي وصل إلى ذروة انتشاره هناك في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وغدا معظم الألبانيين من المسلمين. وقد صاحب انتشار الإسلام في المناطق الألبانية ازدهار اقتصادي وثقافي وقومي على قدر كبير من الأهمية. فقد تطورت المدن كثيراً (شكودرة ـ بيرات Berat ـ ألباسان Elbasan وغيرها) بازدهار الحرف والتجارة مع المناطق القريبة والبعيدة، مما فتح الطرق وعزز الاتصال على التراب الألباني. وفي هذه المدن برزت المنشآت الدينية ـ الثقافية الجديدة وحدث انفتاح كبير على اللغات والآداب الجديدة (العربية والتركية والفارسية) مما مهد لظهور أدب ألباني جديد على المستوى القومي. ومن ناحية أخرى فقد كانت المسيحية للألبانيين في عشرة قرون وأكثر بوتقة للذوبان القومي في إطار الآخرين (الإطار اللاتيني «الروماني» اليوناني البلغاري، الصربي) في حين جاء الإسلام في اللحظة المناسبة ليحمي الألبانيين من هذا الذوبان الثقافي ـ القومي، وبقيت الشعوب المجاورة لهم على المسيحية (الصربيون في الشمال والبلغاريون في الشرق، واليونانيون في الجنوب).
وكما في العهد الروماني والبيزنطي فقد شاعت شهرة الجنود الألبانيين في العصر العثماني أيضاً، وأصبح وجودهم يغطي كل الولايات العثمانية في أوربة وآسيا وإفريقية في البر والبحر.
أصبح الألبانيون يعدون الدولة العثمانية دولتهم، فكانوا يشاركون في الدفاع عنها، ولكن هذه العلاقة العثمانية ـ الألبانية تعرضت للتصدع مع انحطاط الامبراطورية العثمانية، وبالتحديد مع عجز الدولة عن الدفاع عن الأراضي الألبانية أمام أطماع القوى الأوربية. وكان بعض الولاة الألبانيين قد حاولوا الاستفادة من ضعف الامبراطورية للاستقلال بمناطقهم الألبانية، كأفراد أسرة بوشاتلي Bushatli في شمالي ألبانية وعلي باشا يانينا A.Janina في جنوبي ألبانية، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ومع أن اصطنبول نجحت في إبراز قوتها والقضاء على هذه المحاولات، فإنها عجزت عن الدفاع عن هذه المناطق أمام الأطماع السلافية التوسعية التي كانت تهدف إلى إنهاء الوجود العثماني في البلقان.
وقد تبدى هذا العجز بوجه خاص بعد الحرب العثمانية ـ الروسية (1877)، التي انتهت إلى توسع الدويلات السلافية (الجبل الأسود، صربية وبلغارية) على حساب العثمانيين والألبانيين. ومع أن مؤتمر برلين (1878) قد خفف قليلاً من حدة هذا التوسع السلافي، إلاّ أن قرارات برلين أثارت استنكاراً واسعاً في المناطق الألبانية، وتحول الاستنكار في صيف 1878 إلى حركة قومية ألبانية شملت المسلمين والمسيحيين تطالب بالحكم الذاتي والدفاع عن الأراضي الألبانية. وقد تطور الوضع إلى مجابهة عنيفة بين القوات العثمانية والألبانية في ما بين عامي 1879 و1881 لأن اصطنبول تعهدت بتسليم المناطق التي كان يدافع عنها الألبانيون إلى الدويلات المجاورة تنفيذاً لقرارات مؤتمر برلين.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر تعمقت المشاعر القومية الألبانية بتأثير الصحف والمجلات والأدب القومي الجديد، وأصبحت تركز على المطالبة بنوع من الحكم الذاتي من دون التخلي عن الدولة العثمانية. وفي بداية القرن العشرين شارك الألبانيون مشاركة فعّالة في تأسيس جمعية «الاتحاد والترقي» [ر] وفي الانقلاب على السلطان عبد الحميد في عام 1908م وفي إسقاط الانقلاب المضاد سنة 1909م. ولكن السلطة الجديدة خيبت آمالهم تماماً مما دفعهم إلى الانتفاضة المسلحة ما بين عامي 1910- 1912، وقد توجت هذه الانتفاضة نجاحها بالسيطرة على أسكوب عاصمة كوسوفة في منتصف آب 1912. وفي هذا الوضع الجديد الذي أصبحت فيه قوات الانتفاضة تسيطر على مناطق واسعة، أذعنت اصطنبول (في 18 آب 1912) لمطالب الزعماء الألبانيين (برنامج الـ 14 نقطة) التي كانت تقتصر على نوع من الحكم الذاتي. إلا أن الدويلات المجاورة (الجبل الأسود، صربية، بلغارية واليونان) تحركت بسرعة بتشجيع من روسية القيصرية خشية أن يؤدي هذا الاتفاق العثماني ـ الألباني إلى استقرار الوجود العثماني في البلقان، الشيء الذي يحدّ من تحقيق مطامع روسية التوسعية. وهكذا تسارعت هذه الدويلات إلى عقد تحالف بلقاني، بتأييد من روسية القيصرية، وأعلنت الحرب على الامبراطورية العثمانية لكي تتقاسم تلك المناطق الواسعة في البلقان.
وفي التاسع من تشرين الأول سنة 1912 اندلعت الحرب البلقانية الأولى التي جمعت بين الطموحات القومية والأهداف التوسعية والتعصب الديني. وانتهت الحرب إلى زوال الحكم العثماني في معظم البلقان، ولم تسمح إلاّ بتكوين دولة صغيرة للألبانيين (ألبانية)، في حين وجد معظم الألبانيين أنفسهم في الدول البلقانية المجاورة التي توسعت كثيراً بفضل الحرب.
Albanians - Albanais
الألبانيون
شغل أصل الألبانيين Albanions العلماء والباحثين لأن اللغة الألبانية، تعدّ مفتاحاً يستعان به لفهم لغات جنوبي أوربة القديمة. فمنذ القرن الثامن عشر برز رأي يقول بانحدار الألبانيين من الإلّيريين أي من أقدم الشعوب التي سكنت البلقان. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهر رأي آخر يحدد المنطقة التي كان يعيش فيها أجداد الألبانيين بأنها كانت في الوسط من البلقان وبجوار سكان ما يعرف برومانية اليوم ويعتمد هذا الرأي على ما يوجد من تشابه بين اللغة الألبانية وبقايا اللغة التراقية القديمة وبين الألبانية والرومانية أيضاً. ولكن هذا الرأي يفتقر إلى أساس تاريخي.
وعلى كل فإن الكشوف الأثرية في النصف الثاني من القرن العشرين وتطور الدراسة اللغوية المقارنة بين الألبانية والإلّيرية دفعا غالبية العلماء إلى تبني الأصل الإلّيري للألبانيين. ويرى بعض الباحثين أن الإليريين يُعدّون صلة الوصل بين السكان القدماء في حوض المتوسط. وتجدر الإشارة إلى أن هناك عدة روايات في الموروث الشعبي الألباني تتحدث عن الأصل العربي للألبانيين بالاستناد إلى الأسطورة القديمة التي تعزو أصل الإلّيريين إلى الفينيقيين الكنعانيين.
أما من حيث التسمية فتطلق على الألبانيين عدة تسميات. وكان بطلميوس [ر] في القرن الثاني الميلادي أول من أشار إلى وجود الألبان Albanoi وعاصمتهم ألبانوبوليس Albanopolis، وفي المنطقة التي تنحصر اليوم في ألبانية الوسطى. ومن ثم يتردد ذكر هذا الشعب لدى الكتّاب البيزنطيين ابتداء من القرن الحادي عشر باسم «ألبان» وباسم «أربانيتاي» Arbanitai، ومن هذا الجذر المشترك arb أو alb تكونت التسميات اللاحقة التي أطلقت على الألبانيين.
على أن العثمانيين مالوا إلى الصيغة اليونانية آرفانيد Arfaneed التي تحولت لديهم إلى آرفانيد Arvaneed وآرنافود أو بحسب الكتابة القديمة لها أرنود. وقد انتقلت هذه التسمية إلى العربية أيضاً وأخذ العرب يطلقون على الألبانيين اسم أرنؤود وأرناؤود وأخيراً أرناؤوط، وعلى موطنهم «بلاد الأرناؤوط» في حين غلبت في القرن العشرين الصيغة الحديثة: ألبانية والألبانيون. أما الألبانيون أنفسهم فقد أخذوا يطلقون على أنفسهم منذ عصر النهضة القومية في القرن التاسع عشر اسم شقيبتار Shqiptare وعلى وطنهم شقيبريا Shqipëria. وفي الواقع أن تسمية شقيب Shqip التي استعملت أول مرة في القرن السادس عشر للدلالة على اللغة المفهومة، غدت تستعمل للدلالة على الألبانيين منذ القرن الثامن عشر، ثم استقرت تسمية شائعة في القرن التاسع عشر.
نشأة الألبانيين وتطورهم
كان اسم الإليريين حتى القرن الخامس عشر ق.م يطلق على أفراد واحدة من القبائل الكثيرة التي كانت تنتشر على طول الساحل الشرقي للبحر الأدرياتي وعلى قسم من جنوب الساحل الغربي، ثم أصبح منذ ذلك الحين يشمل كل هذه القبائل تعبيراً عن هذا التكون الإثني الجديد. وكان ذلك نتيجة تكون بطيء منذ نهاية الألف الثالثة ق.م حين جاءت القبائل الهندية ـ الأوربية إلى هذه المناطق واختلطت ببقايا السكان الأصليين. وفي الحقبة الوسطية لعصر البرونز برزت من هذا الاختلاط القبائل التي اصطلح على تسميتها بالقبائل الإلّيرية من باب تغليب الجزء على الكل، وذكر من هذه القبائل في «الإلياذة» و«الأوديسة»، البايونيون والتسبروتيون بوجه مستقل.
كان ظهور الإلّيريين في القرن الخامس عشر ق.م يرتبط بعامل مهم هو نشوء الدولة الإلّيرية، التي تحولت بسرعة إلى عنصر فعّال في البلقان.
ومع أن الإلّيريين فقدوا دولتهم فإنهم بقوا حتى القرن السادس الميلادي يُذكرون بوصفهم شعباً له ملامح إثنية خاصة.
تمتع الإلّيريون بشهرة واسعة في مجال الحروب مما دفع رومة إلى تجنيد أعداد كبيرة منهم، وأصبحت «الكتائب الإلّيرية» تتمتع بسمعة خاصة في إطار الجيش الروماني. وبهذا الدور العسكري تمكن بعض الإلّيريين من الوصول إلى عرش رومة في القرنين الثالث والرابع للميلاد مثل كلود الثاني وأورليان وديوقلسيان وماكسيمين دازا وقسنطين الأول ويوليان وبوستان ويوستينيان وغيرهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن اليونانية كانت لغة الثقافة في هذه المناطق، وهذا ما أدى إلى عدم العثور على أي نص إلّيري أو حتى جملة واحدة من اللغة الإلّيرية.
وبعد سقوط الدولة تعرضت المناطق الإلّيرية إلى مخاطر «الرَّوْمَنة» إذ تحولت المدن الإلّيرية إلى مستوطنات رومانية، و أصبحت اللاتينية اللغة الرسمية. كما انتشرت المسيحية بين الإلّيريين ولاسيما بعد أن أصبحت معظم المناطق الإلّيرية سنة 395م في إطار الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية). إلا أن الامبراطورية البيزنطية، والمناطق الإلّيرية في إطارها، تعرضت منذ ذلك الحين إلى هزّات وضربات متواصلة من العناصر الجديدة التي ظهرت في البلقان. ففي نهاية القرن الرابع اندفع القوط من شمال الامبراطورية ليغزوا إليرية ومقدونية واليونان وينهبوها. وبعد أقل من نصف قرن جاء الهون (441م) بقيادة أتّيلا [ر] لينهبوا هم أيضاً هذه المناطق. وفي نهاية القرن الخامس برز تهديد القبائل الطورانية والبلغارية والسلافية. إذ حطمت هذه القبائل جيشاً بيزنطياً يتألف معظمه من الجنود الإلّيريين في تراقية سنة 499م.
وأخيراً ومنذ منتصف القرن السادس ظهرت القبائل السلافية الجنوبية القوية التي تمكنت من تغيير الوضع برمته بعد أن استقرت في مناطق واسعة من البلقان. ظهرت في البداية الدولة البلغارية التي توسعت غرباً على حساب الامبراطورية البيزنطية حتى وصلت إلى الساحل الأدرياتي وضمّت إليها معظم المناطق الإلّيرية ـ الألبانية في القرن التاسع ثم بقية هذه المناطق في القرن العاشر. وفي عهد الامبراطورية البلغارية الثانية (القرنين العاشر والحادي عشر) أصبحت عاصمة الامبراطورية بريسبا Prespa، ثم أوهريد Ohrid لاحقاً، تشرف على المناطق الإليرية ـ الألبانية.
وبعد أن قضى الامبراطور البيزنطي باسيل الثاني على الامبراطورية البلغارية الثانية في بداية القرن الحادي عشر توقف صهر الألبانيين في البوتقة السلافية ـ البلغارية عن طريق الدين ولم يبق من التأثير الثقافي البلغاري إلا بعض الأسماء.
شهدت المرحلة التي تلت سقوط الامبراطورية البلغارية بروز الألبانيين إلى ساحة الأحداث بعد غياب استمرّ عدة قرون، فقد ذكر الكتّاب البيزنطيون الألبانيين لأول مرة باسمهم في القرن الحادي عشر في روايتهم بعض الأحداث التي جرت في مناطقهم.
ومنذ القرن الثاني عشر أخذت حدود آربرية أو بلاد الآربريين تزداد وضوحاً في المصادر التاريخية نتيجة للأحداث الحاسمة التي جرت في المناطق الألبانية أو التي شارك بها الألبانيون. وقد شملت هذه المناطق المرتفعات في شمال ألبانية الحالية، ومدّت مصادر القرن الثالث عشر حدود آربرية جنوباً إلى نهر فويسا Vojsa حتى مدينة فلورة Vlora. وفي القرن الرابع عشر وصلت حدودها شمالاً إلى أولتسين، في حين تمدّ مصادر القرن الخامس عشر حدود آربريا من تيفار Tivar (بار) في الشمال إلى جيروكاسترا Gjirokastra وتشامريا Cameria في الجنوب.
ومن جهة أخرى فقد أثّر الانشقاق الكبير في الكنيسة المسيحية (1054م) في السياسة الدينية في ألبانية، إذ ارتبطت الكنائس الألبانية ببطريرك القسطنطينية، إلا أن الصراع اللاحق على النفوذ بين الكنيستين الشرقية والغربية شمل المناطق الألبانية التي كان كل طرف يعدها رأس جسر له. وكان ممن استفادوا من هذا الصراع الأمير الصربي فويسلاف Vojslav، الذي كان يحكم منطقة الجبل الأسود، فقد راح هذا الأمير يتوسع جنوباً ليسيطر على شكودرة Shkodra التي جعلها عاصمة له، في حين طلب ابنه ميخائيل من البابا غريغوريوس السابع سنة 1077م تتويجه ملكاً والاعتراف باستقلال الكنيسة في مملكته. وهكذا تمّ في تلك السنة تدشين أسقفية تيفار التي ارتبطت برومة عبر راغوصة، ودخل في إطارها الأسقفيات الألبانية في شكودرة وأولستين وديش وغيرها. وتحولت أسقفية تيفار منذ ذلك الحين إلى مركز لنشر الكاثوليكية في المناطق الألبانية الشمالية في حين بقيت المناطق الجنوبية على صلتها بالكنيسة الشرقية. وفي خضم هذا الصراع بين الكنيستين شجع البابا غريغوريوس السابع النورمان على غزو المناطق الألبانية للانطلاق منها نحو القسطنطينية. وهكذا بدأ في أيار 1081م الإنزال النورماني عند فلورة، ثم توجهت القوات النورمانية لحصار دورس Durres من البر والبحر. ومع أن دورس سقطت أخيراً بعد حصار طويل في حزيران 1082م إلاّ أن القوات النورمانية اضطرت أخيراً إلى الانسحاب عام 1083م. وبعد عدة سنوات شُغلت الأراضي الألبانية بالجيوش الصليبية المتوجهة إلى الشرق. وعاود النورمان غزو الأراضي الألبانية ثانية في عام 1107م، إلا أن الامبراطور ألكسس كومنين تمكن من إبعادهم من جديد.
كان الامبراطور ألكسس أول من حكم أسرة كومنين[ر] (1081- 1181) التي مدّت قليلاً في عمر الامبراطورية، وساعدها على ذلك بعض الإجراءات ولاسيما تطبيق نظام التمليك. ونتيجة لهذا النظام تكونت في الأراضي الألبانية في القرن الثالث عشر مجموعة من الإقطاعيين المحليين الذين أصبحوا يستخفون كغيرهم بسلطة العاصمة.
كان لظهور الدولة الصربية في الشمال والدولة البلغارية في الشرق أثر في تخفيف ضغط العاصمة على الزعماء المحليين الألبانيين مما وفر لهم فرصة ذهبية لتوطيد نفوذهم، وما لبثت الدولة الصربية أن توسعت في عصر ستيفان دوشان S.Dushan وضمت إليها قلب آربرية وكروية Kruja ثم بقية المدن الألبانية. وسمى ستيفان نفسه سنة 1348 امبراطور الصربيين واليونانيين والبلغاريين والأربانيين.
إلا أن تفكك هذه الامبراطورية الواسعة التي شملت معظم البلقان بعد موت دوشان (1355م) أدّى إلى تمركز السلطة المحلية في يد بعض الأسر الإقطاعية الألبانية كأسرة توبيا Topia في ألمانية الوسطى وأسرة بالش Balsh في الشمال أي حول شكودرة. وفي الوقت الذي كان يتميز بتناقص الأسر الإقطاعية، ظهر العثمانيون في البلقان مستفيدين من هذا الواقع لمصلحتهم، فتغلغلوا في الأراضي الألبانية أول مرة سنة 1385م بناء على دعوة من الأمير الألباني كارل توبيا نفسه، في حين سارع أمراء أسرتي بالش ودوكاجين Dukagjin إلى عقد صلح خاص مع العثمانيين بعد اعترافهم بسيادة السلطان. وحين حلّ موعد معركة كوسوفة التي حسمت مصير البلقان (1389م) كان قسم من الألبانيين يقف في صف العثمانيين، وكان القسم الآخر قد التحق بالتحالف المسيحي على العثمانيين.
بعد معركة كوسوفة اكتفى العثمانيون باعتراف الأمراء الإقطاعيين الألبانيين بسيادة السلطان وبمشاركتهم في العمليات العسكرية حين تدعو الحاجة إلى ذلك إضافة إلى خراج سنوي معين. وكانت السلطة العثمانية في البداية تعمد لضمان ولاء هؤلاء الأمراء، إلى الاحتفاظ بأحد أولادهم رهينة في العاصمة، وكان هؤلاء الأولاد يعتنقون الإسلام ويربون تربية عسكرية ثم يرسلون لتولي المراكز المختلفة. ومن هؤلاء جيرج كاستريوتي Gj.Kastrioti ابن الأمير جون كاستريوتي الذي كان يسيطر على ألبانية الوسطى في الربع الأول من القرن الخامس عشر. وكان العثمانيون قد تركوا لهذا الأمير منطقة صغيرة فقط خارج «سنجق الأرنافود» الذي كونوه سنة 1431م، وضمّ معظم ألبانية الحالية.
تسمى جيرج كاستريوتي باسم اسكندر ونشأ في بلاط السلطان العثماني مراد الثاني، واعتنق الإسلام، ومنح لقب بك بعد أن أظهر شجاعة كبيرة في المعارك التي خاضها مع الجيش العثماني في أوربة وآسيا الصغرى، وقد وُلي اسكندر بك سنة 1438، ولمدة قصيرة قضاء كروية، قلب ألبانية، الذي يتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة. ويبدو أن وعي اسكندر بك أهمية هذا الموقع، الذي كان سابقاً ضمن أملاك أبيه، قد حرّضه على التفكير في العودة إليه والاستقلال ببلاده عن العثمانيين. وكان الهجوم المضاد الذي قاده القائد المجري هونيادي Hunyadi على العثمانيين في البلقان بين عامي 1442 - 1443 قد أنعش بعض الآمال في أوربة بوقف التقدم العثماني، ونشط البابا أوجين الرابع لتحريض الزعماء المحليين الألبانيين، بمن فيهم اسكندر بك، على التمرد على العثمانيين.
وهكذا، وفي هذه الأوضاع الإقليمية والدولية انسحب اسكندر بك مع 300 من فرسانه من الجيش العثماني الذي انهزم أمام المجريين في نيش Nish، وتمكن اسكندر بك في مدة قصيرة من توسيع سلطته على المناطق المحيطة، وأصبح زعيماً للإمارة الألبانية الجديدة. وقد لفت اسكندر بك الأنظار إليه بما فعله لأن هذا الإنجاز ترافق مع الإعلان عن حملة مجرية بولندية جديدة على العثمانيين في أوربة، إذ إن ألبانية تؤلف جسراً استراتيجياً في حال كهذه. وفي خريف 1444م توجهت قوات مجرية بولندية نحو الجنوب في حين توجهت قوات ألبانية نحو الغرب. إلا أن السلطان مراد عمل على تشتيت القوات المجرية ـ البولندية أولاً ثم التفت إلى ألبانية، حيث انشغلت هناك القوات العثمانية الضخمة نحو ربع قرن من الزمن.
وبعد عدة حملات توجه السلطان مراد بنفسه على رأس جيش كبير في سنة 1450م، نحو كروية عاصمة اسكندر بك، وبقيت قلعة كروية محاصرة طوال الصيف والخريف حتى اضطر السلطان إلى الانسحاب أخيراً.
وبعد تسلم محمد الفاتح للحكم (1451- 1481) أرسل عدة جيوش عثمانية أخرى إلى كروية إلا أنها كانت تخفق في كل مرة. ولكنه بعد أن تمكن من فتح القسطنطينية (1453) أرسل جيشاً ضخماً من 80 ألف جندي بقيادة بالبان باشا الألباني، أحد أشهر العسكريين في الامبراطورية. إلاّ أن هذا الجيش تعرض لهزيمة حاسمة دفعت السلطان الفاتح إلى التوجه بنفسه على رأس أكبر جيش في الامبراطورية (150 ألفاً) في حزيران 1446م. ولم يحقق هذا الجيش الغاية التي ذهب من أجلها حتى كان موت اسكندر بك سنة 1467 وسقوط عاصمته بيد العثمانيين.
بدأ الازدهار يعود ثانية إلى هذه المناطق بعد استقرار الحكم العثماني منذ بداية القرن السادس عشر، وقد أسهم في هذا الاستقرار والازدهار تحول الألبانيين التدريجي نحو الإسلام الذي وصل إلى ذروة انتشاره هناك في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وغدا معظم الألبانيين من المسلمين. وقد صاحب انتشار الإسلام في المناطق الألبانية ازدهار اقتصادي وثقافي وقومي على قدر كبير من الأهمية. فقد تطورت المدن كثيراً (شكودرة ـ بيرات Berat ـ ألباسان Elbasan وغيرها) بازدهار الحرف والتجارة مع المناطق القريبة والبعيدة، مما فتح الطرق وعزز الاتصال على التراب الألباني. وفي هذه المدن برزت المنشآت الدينية ـ الثقافية الجديدة وحدث انفتاح كبير على اللغات والآداب الجديدة (العربية والتركية والفارسية) مما مهد لظهور أدب ألباني جديد على المستوى القومي. ومن ناحية أخرى فقد كانت المسيحية للألبانيين في عشرة قرون وأكثر بوتقة للذوبان القومي في إطار الآخرين (الإطار اللاتيني «الروماني» اليوناني البلغاري، الصربي) في حين جاء الإسلام في اللحظة المناسبة ليحمي الألبانيين من هذا الذوبان الثقافي ـ القومي، وبقيت الشعوب المجاورة لهم على المسيحية (الصربيون في الشمال والبلغاريون في الشرق، واليونانيون في الجنوب).
وكما في العهد الروماني والبيزنطي فقد شاعت شهرة الجنود الألبانيين في العصر العثماني أيضاً، وأصبح وجودهم يغطي كل الولايات العثمانية في أوربة وآسيا وإفريقية في البر والبحر.
أصبح الألبانيون يعدون الدولة العثمانية دولتهم، فكانوا يشاركون في الدفاع عنها، ولكن هذه العلاقة العثمانية ـ الألبانية تعرضت للتصدع مع انحطاط الامبراطورية العثمانية، وبالتحديد مع عجز الدولة عن الدفاع عن الأراضي الألبانية أمام أطماع القوى الأوربية. وكان بعض الولاة الألبانيين قد حاولوا الاستفادة من ضعف الامبراطورية للاستقلال بمناطقهم الألبانية، كأفراد أسرة بوشاتلي Bushatli في شمالي ألبانية وعلي باشا يانينا A.Janina في جنوبي ألبانية، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ومع أن اصطنبول نجحت في إبراز قوتها والقضاء على هذه المحاولات، فإنها عجزت عن الدفاع عن هذه المناطق أمام الأطماع السلافية التوسعية التي كانت تهدف إلى إنهاء الوجود العثماني في البلقان.
وقد تبدى هذا العجز بوجه خاص بعد الحرب العثمانية ـ الروسية (1877)، التي انتهت إلى توسع الدويلات السلافية (الجبل الأسود، صربية وبلغارية) على حساب العثمانيين والألبانيين. ومع أن مؤتمر برلين (1878) قد خفف قليلاً من حدة هذا التوسع السلافي، إلاّ أن قرارات برلين أثارت استنكاراً واسعاً في المناطق الألبانية، وتحول الاستنكار في صيف 1878 إلى حركة قومية ألبانية شملت المسلمين والمسيحيين تطالب بالحكم الذاتي والدفاع عن الأراضي الألبانية. وقد تطور الوضع إلى مجابهة عنيفة بين القوات العثمانية والألبانية في ما بين عامي 1879 و1881 لأن اصطنبول تعهدت بتسليم المناطق التي كان يدافع عنها الألبانيون إلى الدويلات المجاورة تنفيذاً لقرارات مؤتمر برلين.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر تعمقت المشاعر القومية الألبانية بتأثير الصحف والمجلات والأدب القومي الجديد، وأصبحت تركز على المطالبة بنوع من الحكم الذاتي من دون التخلي عن الدولة العثمانية. وفي بداية القرن العشرين شارك الألبانيون مشاركة فعّالة في تأسيس جمعية «الاتحاد والترقي» [ر] وفي الانقلاب على السلطان عبد الحميد في عام 1908م وفي إسقاط الانقلاب المضاد سنة 1909م. ولكن السلطة الجديدة خيبت آمالهم تماماً مما دفعهم إلى الانتفاضة المسلحة ما بين عامي 1910- 1912، وقد توجت هذه الانتفاضة نجاحها بالسيطرة على أسكوب عاصمة كوسوفة في منتصف آب 1912. وفي هذا الوضع الجديد الذي أصبحت فيه قوات الانتفاضة تسيطر على مناطق واسعة، أذعنت اصطنبول (في 18 آب 1912) لمطالب الزعماء الألبانيين (برنامج الـ 14 نقطة) التي كانت تقتصر على نوع من الحكم الذاتي. إلا أن الدويلات المجاورة (الجبل الأسود، صربية، بلغارية واليونان) تحركت بسرعة بتشجيع من روسية القيصرية خشية أن يؤدي هذا الاتفاق العثماني ـ الألباني إلى استقرار الوجود العثماني في البلقان، الشيء الذي يحدّ من تحقيق مطامع روسية التوسعية. وهكذا تسارعت هذه الدويلات إلى عقد تحالف بلقاني، بتأييد من روسية القيصرية، وأعلنت الحرب على الامبراطورية العثمانية لكي تتقاسم تلك المناطق الواسعة في البلقان.
وفي التاسع من تشرين الأول سنة 1912 اندلعت الحرب البلقانية الأولى التي جمعت بين الطموحات القومية والأهداف التوسعية والتعصب الديني. وانتهت الحرب إلى زوال الحكم العثماني في معظم البلقان، ولم تسمح إلاّ بتكوين دولة صغيرة للألبانيين (ألبانية)، في حين وجد معظم الألبانيين أنفسهم في الدول البلقانية المجاورة التي توسعت كثيراً بفضل الحرب.
تعليق