ابن الفارض Ibn al-Farid شاعر صوفي درس علوم الدين واللغة، وعرف عقائد التصوف وطرقه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ابن الفارض Ibn al-Farid شاعر صوفي درس علوم الدين واللغة، وعرف عقائد التصوف وطرقه

    ابن الفارض
    (577-632هـ/1181-1235م)

    سلطان العاشقين شرف الدين أبو القاسم عمر بن علي بن مرشد السعدي الحموي، الشاعر الصوفي الكبير. ولد في القاهرة ونشأ في كنف أبيه عالم الفرائض ونائب الحكم في القاهرة في عفاف وصيانة وعبادة وديانة وزهد وورع. ولما شب دفعه أبوه إلى مجالس العلم والتصوف، فدرس علوم الدين واللغة، وعرف عقائد التصوف وطرقه، واشتغل بالفقه ورواية الحديث الشريف، ثم حُبِّبت إليه الخلوة والسياحة في جبل المقطم وأوديته شرقي القاهرة، وفي المساجد المهجورة والمقابر الخربة، ولكنه لم يصل إلى مراده من رياضته الروحية وكثرة العبادة والصوم والذكر والتسبيح، فسافر إلى الحجاز، وانقطع في وادٍ قريب من مكة المكرمة خمس عشرة سنة، يتعبد ويجاهد نفسه، ويتردد إلى المسجد الحرام إلى أن حصل له ما جاء من أجله، وأشرق نور الله ـ تعالى ـ في نفسه، وانكشف له جماله، ووصل إلى مقام الشهود للذات الإلهية، وهو أعلى مقام عند الصوفية، وهو غايتهم من طريقتهم وعبادتهم ومجاهدتهم نفوسهم. فعاد إلى القاهرة وأقام بقاعة الخطابة في الجامع الأزهر يتنسك ويتعبد حتى توفي.
    بلغ ابن الفارض مرتبة عالية في التصوف، فكان يمضي معظم أوقاته دهشاً مأخوذاً منقطع الحواس، لا يتحرك ولا يتكلم، وقد يبقى على هذه الحال أياماً، فإذا أفاق أملى شعره، كأنه ينظمه في غياب الوعي وفي شهود الحضرة الإلهية. ونقلت عنه كرامات عجيبة، واعتقد الناس ولايته؛ فكان مقصد زيارة العام والخاص. ومنهم الملك الكامل صاحب مصر (ت 635هـ)، فإذا خرج ازدحم الناس حوله طلباً لبركته ودعائه. وكان يحضر في مجالس الذكر، وينفعل انفعالاً شديداً حتى يتحدر العرق من جسده، فيزداد جمالاً على جمال، فقد كان حسن الوجه وضاء، جميل الهيئة والملبس، رقيق الطبع، جواداً فصيحاً، يحمد الناس صحبته والتعامل معه.
    ويذهب في تصوفه إلى مقولة الاتحاد، والاعتقاد أن جميع مظاهر الوجود متساوية في الشرف والقيمة؛ لأنها في الحقيقة تمثل جوانب من الألوهية التي تنبث في الكون كله، وتنبثق منها الأشياء كلها، وتتحد فيها المخلوقات كلها ويتجلى النور الإلهي في المشاهد كلها. لذلك اختلف أهل العقائد في أمره، فرفعه بعضهم إلى مرحلة القطبية العالية، ونزل فيه بعضهم إلى الكفر والإلحاد والزندقة.
    وضع ابن الفارض عقائده ومواجده وكشوفاته في شعره الذي قصره على التصوف مستخدماً الرموز للتعبير عن أفكاره ومشاعره. وخاصة الرمز بالغزل والخمر، واتبع فيهما نهج معاصريه وسابقيه من شعراء التصوف الذين استعاروا من شعر الغزل العذري ما يعبر عن حبهم الذات الإلهية وعن مواجدهم وتوقهم إلى لقائها، واستعاروا من شعر الخمر ما يصور أحوالهم في النشوة وغياب الوعي عند الوصول إلى الحضرة الإلهية. وقد أسرف ابن الفارض في طريقة التعبير هذه حتى أشكلت بعض قصائده أفي التصوف هي أم في الغزل والخمر المعروفين عند عامة الشعراء. ومع ذلك لم يطق الصبر على الرمز في بعض قصائده، فصرح بمراده، وأوضح معتقده، وخاصة حين يخشى سوء التأويل لعباراته.
    وغلبت على شعره حرارة الانفعال وصدق التوجه والإخلاص في شوقه المتقد إلى الذات الإلهية، وولهه ووجده والتياعه للوصول إلى حضرتها، ومعاناته لصعوبة تحقيق ذلك، ثم الفرح والغبطة والنشوة في حبها ورؤية جمالها وجلالها؛ لذلك عُدَّ شعره من أفضل ما نظمه المتصوفة في الحب الإلهي.
    وقد لاقى شعره قبولاً واهتماماً كبيرين في عصره والعصور اللاحقة، وتأثر به شعراء كثر، فعارضوا قصائده وشطروها وخمسوها، وضمنوا شعرهم كثيراً من أبياته، وتناوله العلماء والأدباء بالشرح والتحليل، وفي مقدمتهم معاصره وقرينه في التصوف محيي الدين بن عربي (ت 638هـ)، وكانت بينهما مراسلات ومحاورات. فكثرت شروح ديوانه الذي رتبه حفيده علي، وبعض هذه الشروح تناولت الديوان كاملاً، وبعضها اقتصر على قصائد بعينها منه، وهي باللغات العربية والفارسية والتركية والهندية. وزاد الاهتمام بالديوان في العصر الحديث، فدرس غير مرة، وترجم إلى اللغات الأجنبية المعاصرة، وطبع طبعات كثيرة، مفردا أو مع بعض شروحه.
    ومن شعره قوله في تائيته الكبرى التي عرض فيها عقيدته وطريقته في التصوف:
    لها صلواتي في المقام أقيمهـا
    وأشهد فيها أنـها لِـيَ صَلَّــت
    كلانا مُصَلِّ واحدٌ ساجدٌ إلــى
    حقيقتِهِ بالجمع في كل سـَــجْدة
    وشاهدت نفسي بالصفات التي بها
    تَحَجَّبْتِ عني في شُهودي وحِجَّتي
    فكلّ مليح حُسْنُهُ من جمالـهـا
    مُعَارٌ له بل حُسْنُ كلِّ مليــحةِ
    وما ذاك إلاّ أن بَدَتْ بمظاهــر
    فَظَنّوا سواها وهي فيها تَجلَّــتِ
    كذاك بحكم الاتحاد بحُسْنهــا
    كماليْ بَدَتْ في غيرها وتَزَيَّــتِ
    ومازلتُ إياها وإيّاي لم تَـزَلْ
    ولا فَرْقَ بَلْ ذاتي لذاتي أحبـّــت
    و قوله في الغزل الصوفي الرقيق:
    قلبي يحدثني بأنكِ متلفــــي
    روحي فداك عرفتِ أم لم تعرف
    ما لي سوى روحي وباذل نفسه
    في حب من يهواه ليس بمسرف
    يا أهل ودي أنتم أملي ومـن
    ناداكم يا أهل ودي قد كُفـــي
    لو أن روحي في يدي ووهبتها
    لمبشري بقدومكم لم أُنــصِفِ
    لا تحسبوني في الهوى متصنعا
    كَلَفي بكم ُخلُق بغيرِ تكلُّـــفِ
    وقوله في الخمر الصوفية:
    شربنا على ذِكْرِ الحبيب مُدَامـــةً
    سكرنا بها مِنْ قَبْلِ أن يُخلق الكَـْرمُ
    لها البدر كأس وهي شمسٌ يديرهـا
    هلال وكم يبدو - إذا مزجت - نجم
    وإن خطرت يوماً على خاطر امرئ
    أقامت به الأفراحُ وارتحلَ الهــمّ
    ولو نضحوا منها ثرى قبر ميــت
    لعادت إليه الروح وانتعش الجسـم
    محمود سالم محمد
يعمل...
X