الاقليمية ظاهرةRégionalismeوسيلة تعاون دولي منظم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الاقليمية ظاهرةRégionalismeوسيلة تعاون دولي منظم

    اقليميه (ظاهره)

    Regionalism - Régionalisme

    الإقليمية (ظاهرة ـ)

    تعرف الإقليمية regionalism بأنها «وسيلة من وسائل التعاون الدولي المنظم قوامه الوحدة الإقليمية لجماعة الدول الداخلة فيه»، وهي غالباً ما تعرض بديلاً من العالمية الشاملة التي هي بالتعريف «وسيلة من وسائل التعاون الدولي المنظم قوامه وحدة المشكلة الإنسانية لجماعة الدول الداخلة فيه». والإقليمية والعالمية معاً غير الوظيفية التي هي «وسيلة من وسائل التعاون الدولي المنظم قوامه طبيعة المشكلة الإنسانية لجماعة الدول الداخلة فيه».
    الإقليمية كفكرة مجردة قديمة، طرحت في كتابات المتقدمين من مفكري القرنين الرابع عشر، والخامس عشر وخاصة في كتابات القديس توما الإكويني ودانتي وغيرهما.
    أمّا الإقليمية في الواقع العملي فإنها لم تشهد النور إلا في القرن التاسع عشر إذ افترض الوفاق الأوربي The Concert of Europe نواتها الأولى، وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين وضع اتحاد الدول الأمريكية Pan American Union أكثر الصيغ تعبيراً عنها. وإذا كان هنالك جدل حول جدارة الإقليمية بوصفها مرحلة نحو العالمية في الغد البعيد فإن من الممكن القول: إن التنظيم الدولي العالمي الذي شهده العالم في عصبة الأمم [ر] انطلق في الأصل من تجمع إقليمي أوربي بدأ بالوفاق الأوربي واستمر في نظام لاهاي السياسي واللجان الدولية التي أشرفت على إدارة الأنهار الدولية كالراين والدانوب يوم كان العالم المتمدن مقصوراً على القارة الأوربية، ثم عليها وعلى أمريكة من دون غيرهما من الأقاليم التي كانت مجرد مناطق نفوذ ومستعمرات للدول التي أسمت نفسها دولاً متمدنة civilized nations.
    قيل الكثير في مبدأ الإقليمية، فقد وصفت بأنها منزلة وسطى بين مرحلة الدولة الأمة ومرحلة العالم الواحد غير المستعد لأن يكون كذلك، وبأنها الخطوة الكبرى قدماً نحو التعامل الدولي وبأنها أهم حدث يدعو إلى التفاؤل في أوربة اليوم وبأنها الأمل الوحيد لتحقيق النمو والتقدم في إفريقية. بل إن مبدأ الإقليمية هو حجر الزاوية للسياسة الخارجية لدول متزايدة العدد من بينها دول عظمى.
    حجج أنصار الإقليمية وخصومها
    يبني أنصار الإقليمية نظريتهم على اتساع العالم وعدم تجانسه. ومن هذه الحقيقة تنبثق لديهم نتيجة مفادها أنه في نطاق أجزاء محددة من الكرة الأرضية يمكن أن توجد الدعائم الفكرية للمشكلات القومية وللوعي بالمصالح المشتركة اللازمة للأداء الفعال للمؤسسات الجماعية. فالعالم كما يقول إنيس كلود Inis Claude في كتابه «من السيف إلى المحراث» بلغ درجة من الاختلاف والتعقيد الشديد، كما أن العقبات الطبيعية والاقتصادية والثقافية والإدارية والنفسية بين شعوب الأرض، كلها لا تسمح بالاهتمام المشترك بالعمل الذي يوجه نحو معالجة مسؤولية مشتركة عالمية. أما في حدود منطقة جغرافية معينة فالأمر على النقيض، إذ إن ملاءمة الحلول الدولية للمشكلات الحقيقية يمكن تنفيذها بذكاء، وارتباطات الدول بعضها ببعض يمكن تحديدها على نطاق معقول وميسور الإدارة، في ظل المواثيق والروابط الواضحة القائمة على عنصر التبادل. يقول عالم السياسة إدوارد هـ. كارّ E.H.Carr في هذا: «إن إغواء العالمية كان له سحر خطير عام 1919 جذب إليه طائفة من مؤيدي النظام الدولي». فعالمية أي منظمة دولية تجنح على الغالب إلى إضعاف التجائها إلى الولاءات والمصالح القطرية. ولعله كان من مظاهر ضعف عصبة الأمم أن تعهداتها كانت عامة وغير واضحة، فقد فرضت التزامات بريطانية نفسها على ألبانية والالتزامات نفسها على الاثنتين للدفاع عن استقلال بلجيكة إزاء ألمانية وهذا مفهوم. لكن من غير المفهوم أو المقبول أن تنصب التزامات بريطانية أو ألبانية أو ألمانية لحماية استقلال بنمة من مطامح الولايات المتحدة الأمريكية وكلها بعيد عن أي من الدولتين الأخيرتين.
    ويمكن تسويغ هذه التعميمات إذا نظر إليها من زاوية المنطق الصرف، ولكن لا يمكن تسويغها إذا ترجمت إلى شروط سياسية ملموسة. ولهذا ظل النظام برمته مجرداً وغير واقعي. إن التنظيم الدولي أسلوب مطلوب من أساليب التعاون لكن الوحدة المتخلخلة بين عناصره تجعل أطرافه يجنحون إلى المصالح القومية بدل المصلحة العالمية وهذه من علل الإقليمية.
    إن قوام الاتجاه الإقليمي هو أن الوحدة الإقليمية أقدر على العمل التنظيمي الفعال من الوحدة العالمية. فمركز الثقل هنا هو طبيعة الوحدة بدلاً من طبيعة المشكلة أو وحدتها وهذا ما يشير إلى إحدى المعضلات الأساسية في التنظيم الدولي، وهي عدم التناسب بين حاجات المنظمة وقدراتها. فالسؤال الذي لا جواب له هو: هل توجه المحاولات التنظيمية لسد الاحتياجات التي يفرضها الموقف الموضوعي أم للإمكانات التي يوفرها أو يحددها الموقف السياسي؟ وبالقياس إلى المشكلة المدروسة هنا، فإن هذا السؤال يعني معالجة المسائل العالمية على المستوى العالمي وفقاً لطبيعة المسائل ومضامينها، أو معالجتها على المستوى الإقليمي وفقاً للفرض القائل بضمان مزيد من التعاون الفعال على ذلك المستوى.
    بعبارة أخرى، تنطلق فكرة الإقليمية من المثل المعروف القائل «أهل البيت أدرى بالذي فيه» فهم أقدر على معالجة هذا الذي فيه. أي إن الإقليمية تذهب إلى ضرورة عزل المشكلات المحلية أو ذات الطابع الإقليمي عن التيارات الخارجية التي تعتريها وتعيق حلها، لمعالجتها ضمن إطار الإقليم المعين على افتراض إدراك أصحابه لأبعاد هذه المشكلات وقدرتهم الفعالة على حلها بعيداً عن تدخل الغير الذي قد لا يتحسس بها أو قد لا يكون مهتماً بحلها، أو هو غير قادر على الإسهام في الحل لسبب أو لآخر. وتمثيلاً لهذا المنطق يمكن التساؤل عن أهمية نزاع قد ينشأ مثلاً بين هاييتي والدومينيكان لدول أمريكة اللاتينية من جهة والدول العربية من جهة أخرى. فلا يعقل أن يكون تحسس جيران الدولتين المتنازعتين لمشكلتهما كتحسس الدول العربية بها وهي تبعد آلاف الأميال عنهما، ومن ثم لا يعقل أن يكون إسهام هذه الدول في الحل كإسهام جيران الدولتين المتنازعتين. والفرضية ذاتها يمكن أن تطرح في صراع يقوم بين إسرائيل وإحدى الدول العربية أو كلها ولموقف الدول المجاورة من جهة ودول أمريكة اللاتينية من هذا الصراع من جهة أخرى.
    غير أن النظرة الإقليمية قد تكون، وغالباً ما تكون، غيرعملية، تماماً وغافلة عن الحقائق الملموسة. فعلاج الإقليمية يتوقف أولاً على طبيعة المشكلة المزمع معالجتها. صحيح أن بعض مشكلات العالم الحديث ذات خصائص إقليمية وأولى بها أن تعالج على يد هيئات داخل حدود معينة. لكن هنالك بعض المشكلات التي تكون إقليمية في طبيعتها يتطلب حلها تعبئة موارد إضافية غير إقليمية. كما أن هناك بعض المشكلات التي لا يمكن وصفها بالإقليمية المجردة لأنها عالمية سواء من حيث طبيعتها أو من حيث الحل اللازم لها. ومن الأمثلة على ذلك مشكلة تشابك نظم السكك الحديدية أو الملاحة في نهر يمر في أراضي مجموعة جغرافية من الدول، أو التعاون الاقتصادي توخياً للتكامل بين تلك المجموعة، فهذه موضوعات ملائمة للتنظيم الإقليمي. أما التطور الاقتصادي لبلاد متخلفة في آسيا أو إفريقية فهو موضوع إقليمي في طبيعته، لكن حله يتطلب أكثر من مجرد تجميع الفقر الآسيوي أو الإفريقي، إنه يتطلب دعماً من الدول المتقدمة ومن ثم فهو موضوع إقليمي في طبيعته عالمي في حلوله. و الشيء ذاته يقال في أهم المعضلات السياسية التي تهدد مجتمعات إقليمية ما كالنزاع العربي الإسرائيلي والنزاع الهندي الباكستاني والنزاع الأمريكي الكوبي. وأما مشكلة نزع السلاح والسلام العالمي وخاصة في عصر يتحكم فيه الكبار بمصير العالم كله بأدوات تدميرية يمكن أن تزيل الحياة من الأرض كلها فهي مشكلات عالمية بطبيعتها، وطريقة حلها أي إنها عصيّة على الإقليمية.
    وإذن فالسؤال الذي يطرح نفسه فوراً في هذا السياق هو: أين تقف حدود العالمية وتبدأ حدود الإقليمية في مجال معالجة المشكلات الدولية؟ ثم إن القول بالتكتلات الإقليمية يحمل على التساؤل: ماهو المقصود بالإقليم الذي يفترض أنه أساس تكتل ما؟ لقد صرف المؤتمرون في سان فرنسيسكو [ر. الأمم المتحدة (منظمة ـ)] ساعات طويلة ومضنية يحاولون إبانها تعريف المقصود بالإقليم في مفهوم التكتلات الدولية ولكن من دون جدوى، وسقطت كل المحاولات الرامية إلى إيجاد مثل هذا التعريف على صخرة صعوبة التعميم. وكذلك لم تحاول الجمعية العامة ولا مجلس الأمن طوال نصف قرن من العمل تعريف المقصود بالمنظمة الإقليمية أو الترتيبات الإقليمية. بل لقد ضاع الكتّاب المهتمون بهذا الجانب من العلاقات الدولية في متاهات التحديد والتعريف، فبعضهم يستعمل عبارة التنظيم الإقليمي نقيضاً للتنظيم العالمي. وهكذا فكل تكتل عندهم، تكون عضويته مفتوحة لكل الدول ولو بشروط يحددها ميثاقه المنشئ، هو منظمة عالمية، وبالعكس فكل تكتل تكون عضويته مفتوحة لبعض الدول على أساس الجغرافية أو التاريخ أو اللغة أو الحضارة أو الدين أو حتى الخضوع الاستعماري سابقاً هو منظمة إقليمية. وعلى هذا فمن الجائز في منطق هؤلاء القول إن الكومنولث البريطاني أو منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)[ر] NATO أو منظمة حلف المعاهدة المركزية (السنتو)[ر] CENTO أو حلف جنوب شرق آسيا (سيتو)[ر] SEATO هي كلها إقليمية، فالكومنولث يضم كيانات متباينة تترامى في كل مكان تشرق عليه الشمس، ولايمكن بحال من الأحوال ردها إلى إقليم معين إلا إذا عدّت الأرض كلها إقليماً واحداً وعندها لا يبقى معنى لنظرية الإقليمية إزاء العالمية أو بديلاً منها. ومنظمة حلف شمال الأطلسي تضم دولاً تترامى في قارتين من تركية في الشرق (وهي دولة غير أطلسية) إلى أمريكة وكندا في الغرب مروراً بمعظم دول أوربة الغربية سواء أطلت على الأطلسي أم لا. لكن هذا الحلف لا يضم دول أمريكة اللاتينية وإفريقية الأطلسية! وهذا كله طبعاً قبل التطور الذي أصاب الحلف بعد تحلل حلف وارسو. والشيء ذاته يمكن أن يقال في الحلفين الآخرين (السنتو والسيتو) قبل انفراط عقدهما [ر. الأحلاف الدولية].
    والواقع أن العالم ليس مقسماً إلى خطوط لا عوج فيها، ولايمكن تقسيمه بسهولة على هذا النحو. ومن الصعب إقامة أقسام إقليمية منطقية، فالتخوم التي تحدد لغرض ما ليست بالضرورة ملائمة لأغراض أخرى، وخطوط التقسيم التي اختيرت أو قسمت بعناية فائقة لا تستمر على هذا النحو، وإنما تخضع لدواعي التغيير ومقتضيات التداخل فيما بينها. إن مقتضيات الدفاع عما يسمى العالم الحر إزاء خطر ما عرف بالاتحاد السوفييتي (سابقاً) هي التي جمعت مثلاً تركية والولايات المتحدة واليونان وكندا في حلف الأطلسي الذي يصر الكتاب الغربيون على عدّه تكتلاً إقليمياً، وكأن الإقليم هنا أخذ معنى استراتيجياً أكثر من أن يكون جغرافياً. كذلك منظمة إقليمية كمنظمة الوحدة الإفريقية لم تكن لتضم دولة كبيرة وقديمة كجنوب إفريقية بسبب سياستها العنصرية فلما تخلت جنوب إفريقية عن تلك السياسة دخلت المنظمة. فالتكتل الإقليمي الذي تمثله منظمة الوحدة الإفريقية إذن تكتل حددته لمدة طويلة دوافع إنسانية أكثر منها جغرافية. كذلك طردت كوبة من منظمة الدول الأمريكية في عام 1962 بحجة انحياز الحكم فيها للمبادئ الماركسية اللينينية، مما يجعل التكتل الإقليمي الأمريكي ذا نزعة أيديولوجية تقيد العوامل الجغرافية. كذلك حيل بين بريطانية ودخول السوق الأوربية المشتركة مدة من الزمن لأسباب اقتصادية وسياسية. وقبلت عضوية جزر القمر في جامعة الدول العربية رغم بعدها الجغرافي وعدم الاتفاق على عروبتها إلا إذا استعملت العربية لغة رسمية لها وهو ما لم يحصل.
    من هذا كله يتضح أن عبارة تكتل إقليمي قد تكون مضللة وهي غير دقيقة على وجه التأكيد، فالتكتلات الموجودة في العالم اليوم تنطلق من أسس متباينة يمثل التقارب الجغرافي أحدها فحسب. وثمة حقيقة أخرى لا بد من إثارتها في مجال عرض نظرية الإقليمية وهي أن وضع الدول الكبرى يهيء صعوبات خاصة لهذه النظرية، فهذه الدول بحكم تمددها في العالم تحاول التدخل في نشاطات التكتلات الإقليمية وسيلة من الوسائل الكثيرة التي تستعملها لبسط نفوذها وتركيز سيطرتها. وهكذا فإن المنظمات المسماة إقليمية هي في واقعها مجرد كيانات أنشأتها أو دخلت فيها الدول الكبرى لتتلاعب بمصيرها.
    فالولايات المتحدة الأمريكية كانت وراء منظمة الدول الأمريكية التي وجدت فيها ترجمة عملية لنظرية مونرو: «أمريكة للأمريكيين» ولكن بوجهها الصحيح: «أمريكة للولايات المتحدة الأمريكية فقط»، وهي حتى اليوم تقوّم هذه المنظمة وتلجأ إليها وفق معيار خدمتها لمطامعها ومصالحها في القارة الأمريكية.
    والولايات المتحدة الأمريكية استغلت معاهدة بروكسل لعام 1948 للأمن المتبادل بين بلجيكة وفرنسة واللكسمبورغ وهولندة وبريطانية لتوسعها فيما يعرف اليوم بحلف شمال الأطلسي الذي أصبحت زعيمته بلا منازع، واستغلته في حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي وتستغله اليوم في بسط نفوذها على شرقي أوربة.
    والاتحاد السوفييتي كان وراء إنشاء حلف وارسو الذي أقيم في عام 1955 لمواجهة حلف الأطلسي الغربي خاصة بعد انضمام العدو السابق للحلفاء، ألمانية، إليه وقد ظل حلف وارسو في حقيقته أداة من أدوات السياسة الخارجية السوفييتية في صراعها مع الغرب ليس إلا. فلما انهار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات سقط حلف وارسو وسارع بعض أعضائه للسعي إلى حلف شمال الأطلسي بطريقة أو بأخرى. بل يمكن أحياناً أن يكون للدول الكبرى أثر واضح حتى في التكتلات الإقليمية التي لا تشترك فيها من قريب أو بعيد، مثال ذلك الدور الذي لعبته بريطانية في إنشاء جامعة الدول العربية في الأربعينات. وليس مبالغة القول إنه، على الأقل في المسائل السياسية، يصعب عزل مشكلة من المشكلات الإقليمية عن التيارات الدولية التي تتجاذبها، ومن ثم فإن دور التكتل الإقليمي في هذا المجال هو موضع تحد حقيقي. حتى الدول الأقل أهمية بمعيار العظمة قد تستخدم التكتلات الإقليمية التي هي عضو فيها لتحقيق أهدافها الوطنية. لا ينكر مثلاً دور فرنسة وألمانية في الاتحاد الأوربي ودور مصر في جامعة الدول العربية. ثم إن الفرض القائل بأن العمل المنظم يتم إنجازه على أحسن وجه في نطاق المجموعات الإقليمية لا يخلو من مبالغة. فالصلات الإقليمية وما يصاحبها من وشائج التقارب قد يقابلها عداوات إقليمية راسخة الجذور، وعامل القرب الجغرافي قد يولد أخطاراً ترغب الدول في تلافيها بالهروب إلى العالمية بدلاً من اصطناع الجهود التعاونية التي تؤثر الدول استغلالها لنفسها في داخل حدودها ووراء أستارها، ففي حين ترهق العالمية فرنسة في تكليفها أن تكون الحارس الأخوي للحبشة مثلاً، يتعذر على الإقليمية أن تقنع اليونان بأن تهدئ خاطر تركية!.
    إن الاختيار بين الإقليمية والعالمية يتضمن كما يقول كلود الأخذ الجدي بحكمتين في آن واحد: «البعيد عن العين بعيد عن القلب و«زر غِبّاً تزدد حباً» وهذه بعض الأمثلة:
    إن مشكلة قبرص مثلاً، وهي مشكلة بين دولتين عضوين في حلف الأطلسي، وجدت كابحاً، لا حلاً، لها في الأمم المتحدة لا في هيئات الحلف. وفي أزمة الخليج عجزت الجامعة العربية عن حل المشكلة بين العراق والكويت فتدخلت القوات المتحالفة تحت شعار الدفاع الشرعي الجماعي. وعلى العكس فإن إصرار منظمة الدول الأمريكية على التصدي للنزاع الأمريكي الكوبي من دون الأمم المتحدة آل إلى تصعيد النزاع أو على الأقل إبقائه حياً إلى اليوم بدل حله. في حين حلّت الولايات المتحدة مشكلتها في بنمة عام 1989 وفي غرنادة قبلها من دون اللجوء لأي من أساليب التنظيم الدولي العالمي أو الإقليمي.
    وثمة دفاع آخر عن الإقليمية يقوم على توكيد نفعها بصفتها خطوة تمهيدية نحو العالمية. فالمنظمات الإقليمية ليست بديلاً من منظمة عالمية في نظر أصحاب هذا الرأي وإنما هي بادرات لها. ويمكن التعبير عن هذا الرأي على أساس شبيه بالتطور العضوي، إذ يكون التركيز على فكرة التتابع الطبيعي لمراحل النمو. فكما أن الدولة الوطنية تمثل دعم وحدات إقليمية أكبر وهذه ستندمج في نظام عالمي واحد، كذلك فالإقليمية مرحلة وسطى ضرورية ومرغوب فيها لأنها جزء طبيعي من عملية التطور البطيئة لتكامل العالم ولقد عبر عن ذلك روبرت بوثبي بقوله: «على الصعيد العملي البحت فإن التنظيم الإقليمي مقدمة ضرورية لأي نوع من التنظيم العالمي إذ يتعين أن يبنى على دعائم راسخة من القاع إلى أعلى». والحقيقة أن هذا الرأي يجد مسوغاً له في تطور التنظيم الدولي في الماضي من تنظيم إقليمي أوربي إلى تنظيم دولي عالمي تمثله الأمم المتحدة. لكن الموضوع اليوم مختلف، ففي العالم منظمة عالمية وإلى جانبها منظمات أو تكتلات إقليمية والسؤال المطروح هنا هو: ما أثر هذه التكتلات في المنظمة العالمية؟ لأن الإقليمية قد لا تفضي آلياً وبسهولة إلى العالمية، إذ قد تتجه اتجاهاً يفضي إلى خلق أكثر من تنظيم نصف عالمي. وهكذا فليس العالم أمام تنظيم عالمي مؤقلم بل أمام تكتلات إقليمية متزايدة، واصطراع مثل هذه التكتلات أمر محتوم، على حساب الهدف الأساسي وهو السلام العالمي.
    بقي لأنصار الإقليمية حجة أخيرة في الدفاع عن مذهبهم مفادها أن الإقليمية سابقة ضرورية للتأهيل للعالمية السليمة، وهو رأي قوامه مفهوم الطليعة الكاشفة pilot poject كما يسميه إنيس كلود. وطبقاً لهذا المفهوم فإن المنظمات الإقليمية لا تتمدد أو تمتزج كما تمتزج الروافد في مجرى نظام عالمي، بل تقدم نماذج للعمل والأداء وتؤدي خدمة جليلة إذا نُظر إليها على أنها مراكز التدريب للتنظيم على نطاق عالمي. فهي تخترع الوسائل وتجري التجارب في القوالب المتقدمة للتعاون الدولي وتنمي في العاملين عليها العادات والاتجاهات التي تمهد الطريق للتنظيم الناجع الذي يشمل العالم برمته. ويتمثل ذلك بتجربة الاتحاد الأمريكي الذي سبق ولادة الأمم المتحدة وأعطاها نتيجة تجاربه.
    يرفض بعض المهتمين بالإقليمية مفهوم الطليعة الكاشفة بحجة أن سجل المنظمات الإقليمية فقير في أي إسهام أصيل مما قد يفيد التنظيم العالمي. غير أن هذا النقد يحتاج إلى المراجعة في ضوء ما حققه التكتل الاقتصادي الأوربي المعروف بالجماعات الاقتصادية الأوربية الثلاث ـ قبل تحولها إلى الاتحاد الأوربي [ر]، فسجلها كمنظمات ذات نزعة فدرالية كما يسميها بعضهم جدير بالدراسة والاهتمام لأنها فوق إنجازاتها الموضوعية في رفاه الفرد، والدولة تقدم للتنظيم العالمي نماذج يمكن أن يحتذى بها في بنيان التنظيم وإجراءاته وفعالية قراراته وتمويله خاصة بعدما تحولت إلى جماعة اقتصادية واحدة ثم إلى اتحاد أوربي متزايد العضوية.
    مما تقدم كله يظهر خطأ الرأي المؤيد للإقليمية على حساب العالمية، لكن لا يعقل أن تغمط الإقليمية حقها في أداء دور بناء لخير الإنسان، وهو في التحليل النهائي نواة كل تنظيم سياسي، وطنياً كان أم دولياً. وهذا الدور ينطلق من التوازن بين العالمية والإقليمية. فهو يرتكز على مفهوم للتنظيمات الإقليمية بصفتها مكملات مصاحبة للمنظمات ذات المجال الجغرافي غير المحدود. ووفقاً لهذا المفهوم فإنها تستطيع أن تؤدي وظائفها بمشاركة المنظمة العالمية في تحمل العبء، وبتخفيف بعض التوترات الدولية حتى لا تبهظ كاهل المنظمة العالمية.
    وهكذا تصبح المنظمة الإقليمية ظهيرة للمنظمة الدولية العالمية تزودها، كما يقول كلود، بخط دفاع ثان يمكن الاعتماد عليه في حال إخفاق المؤسسات العالمية في معالجة المشكلات الرئيسية للسلام والأمن على أنه يمكن تصورها دعامات مؤقتة ترتكز عليها المنظمات العامة المدعومة السند. فتبقيها للمستقبل وتحمي وجودها بأن تعالج المسائل الخطيرة الشائكة التي تهددها بالفناء.
    وهذا المفهوم لا يعطي أولوية نظرية لمبدأ الإقليمية ولا يمنح أي تقدم أو مرتبة عليا للتكتلات القائمة على أساسها، وإنما يفترض توافق الاتجاهين الإقليمي والعالمي بالتقليل من نواحيهما التنافسية إلى الحد الأدنى، ثم إنه يتطلع إلى تنمية المشاركة العملية في أعمال التنظيم الدولي. تلك هي الفرضية التي أقرها ميثاق الأمم المتحدة في تحديد علاقة المنظمة العالمية التي أنشأها بالمنظمات والترتيبات الإقليمية.
    الإقليمية في ميثاق الأمم المتحدة
    انطلق ميثاق الأمم المتحدة من الإقرار بظاهرة الإقليمية ومباركتها، ذلك أن بعض الكتل الإقليمية كان أسبق في الوجود من الأمم المتحدة ذاتها، كالاتحاد الأمريكي وجامعة الدول العربية التي أبرم ميثاقها في 22/3/1945. لذلك جاء الفصل الثامن من ميثاق المنظمة العتيدة يؤكد أن لا مانع من قيام تنظيمات أو وكالات إقليمية تعالج من الأمور المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين ما يكون العمل الإقليمي صالحاً فيها ومناسباً، وما دامت هذه التنظيمات أو الوكالات الإقليمية ونشاطها متلائمة مع مقاصد الأمم المتحدة (م52ف1). أكثر من هذا أعطى ميثاق الأمم المتحدة، وهو دستور العلاقات الدولية، أولوية للمنظمات الإقليمية في إيجاد حلول ودية للنزاعات المحلية قبل عرضها على مجلس الأمن (م52 ف2)، وأوجب على مجلس الأمن «أن يشجع على الاستكثار من الحلول السلمية لهذه المنازعات المحلية بطريق هذه التنظيمات الإقليمية أو بوساطة تلك الوكالات الإقليمية، بطلب من الدول التي يعنيها الأمر أو بالإحالة عليها من جانب مجلس الأمن». ولا يؤثر نشاط المنظمات الإقليمية في تسوية النزاعات الدولية على ما أعطاه الميثاق للجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها من مهام (م52 ف3)، إذ الأصل كما هو بيّن أن المنظمات الإقليمية هي في نظر أرباب الميثاق ظهير للمنظمة العالمية وليست بديلاً منها.
    أما فيما يتعلق بحالات العدوان واستخدام القوة أو التهديد بها فالأصل أن تتولى علاجها المنظمة الدولية ممثلة بمجلس الأمن. لكن يجوز لمجلس الأمن هذا أن يسخّر المنظمات الإقليمية لردع العدوان أو استخدام القوة أو التهديد بها في النطاق الجغرافي للمنظمة الإقليمية. ويكون عملها حينئذٍ تحت مراقبته وإشرافه، بل حظّر الميثاق على هذه المنظمات أن تبادر هي لقمع العدوان بغير إذن المجلس، وإذا تصادف وأذن المجلس لمنظمة إقليمية بإعمال الفصل السابع من الميثاق الخاص بقمع العدوان فإن عليها أن تبقيه على علم تام بما يجري من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدوليين.
    غير أن تجارب الأمم المتحدة أثبتت طيلة نصف قرن أن عبارة تدابير القمع أو الزجر الواردة في مجال نشاطات التكتلات الإقليمية أعطيت معنى أكثر تحديداً بقصر أبعادها على تفويض مجلس الأمن الذي جعلته المادة 53 حكماً في مشروعيتها المسبقة. من ذلك أزمة الدومينيكان لعام 1960 التي فرضت فيها منظمة الدول الأمريكية تدابير زجرية اقتصادية بحق جمهورية الدومينيكان بلا تفويض من مجلس الأمن، فجاء التفويض إجازة لاحقة من دون إذن سابق. وتكررت الحال في الدومينيكان عام 1965حين أنشئت قوات الطوارئ الأمريكية من منظمة الدول الأمريكية بلا إذن من مجلس الأمن مما حمل الأخير على التدخل من دون فائدة إذ جاء التدخل مباشرة ونجحت الولايات المتحدة، الدولة الأقوى في منظمة الدول الأمريكية في إقناع الأعضاء الآخرين بإبلاغهم notification أن القوة المرسلة كانت ذات مهمة توفيقية وليست مهمة ردع وزجر. وفي الحرب الأهلية في البوسنة في مطلع التسعينات تضاربت مهمة المنظمة الإقليمية (حلف شمال الأطلسي) والمنظمة الدولية بين العمل الإنساني والدفاع عن النفس وبين ردع العدوان المتأتي من المتمردين الصرب بدعم من صربية، وضاع جراء ذلك مئات الألوف من الضحايا بين قتيل وجريح ونساء مغتصبات وما يعدل آلاف الملايين من الأملاك والأموال قبل أن تتمكن الولايات المتحدة زعيمة المنظمة من فرض حلها الذي ينقذ ما تبقى ولكن ليس وفق رغبة البوسنيين الحقيقية.
    خلاصة القول: إن الإقليمية لم تكن ناجحة تماماً حتى في أن تكون سنداً للعالمية، وهي أضعف من أن تكون بديلاً منها لذا فالرأي ليس كما انتهى إليه المفكر المعروف ستانلي هوفمان Haufman في نظريته التي يطرحها باستمرار من أن الاهتمام في أوساط دارسي التنظيم الدولي ينصرف عن الأمم المتحدة ليركز على المنظمات الإقليمية أو التكتلات التوحيدية intigrationist groupings. واقع الحال أن كلا النظريتين العالمية والإقليمية والمنظمات المنبثقة على أساسهما مجرد صيغ abstract formulas تمارس من خلالها لعبة الصراع من أجل القوة struggle for power بين القادرين عليها. ولذا فإن الصيغ تتعدل لمصلحة إحدى النظريتين أو كلتيهما بحسب تحكم موازين القوة في العالم، وهذه في اختلاف مستمر منذ بداية التسعينات وانتهاء توازن العملاقين الكبيرين أمريكة والاتحاد السوفييتي (سابقاً) ليحل محله عهد القطبية الأحادية الأمريكية.
    محمد عزيز شكري

يعمل...
X