اكتياب
Depression - Dépression
الاكتئاب
الاكتئاب depression هو اضطراب عاطفي له أعراض نفسية وأخرى بدنية سريرية تعكس كلها مزاج الشخص ومعاناته. وتتداخل في حدوث هذا الاضطراب عوامل بيئية وثقافية وكيمياوية حيوية (بيوكيمياوية) ووراثية وتكوينية.
ويستخدم تعبير «الاكتئاب» في ثلاثة معانٍ على أقل تقدير. يرتبط الأول بالمزاج الذي يختل نتيجةً لتعرض الشخص لسلسلة متلاحقة من الإحباطات والإخفاقات. ويعبر الثاني عن متلازمة syndrome تحوي اضطراب المزاج إضافة إلى جميع أعراض الاكتئاب البدنية الوظيفية المصاحبة له. أما المعنى الثالث فهو الاكتئاب مرضاً وفيه المتلازمة التي ذكرت، إضافة إلى عجز يصيب المريض فيمنعه من أداء واجباته وأعماله اليومية كلياً أو جزئياً.
عرف مرض الاكتئاب قديماً، وذكرت أعراضه في كتابات المصريين القدماء والإغريق والبابليين والعرب (ابن سينا)، وفي ألوان الشخصيات المكتئبة التي وردت في مسرحيات شكسبير، وأخيراً في القصص الإبداعية (الرومانسية) للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر. أما الأبحاث العلمية التي تناولت هذا الاضطراب النفسي فتعود إلى القرنين المذكورين.
ويعد مرض الاكتئاب أكثر الأمراض النفسية في نسبة الوفيات انتحاراً. وفي إحصائيات الغرب يموت مريض واحد منتحراً من كل 200 مريض بالاكتئاب. وتأتي البلدان الصناعية في طليعة الأمم التي تتزايد فيها نسبة حالات الاكتئاب ولاسيما في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، وتذكر الإحصائيات السنوية للمؤسسة الوطنية الأمريكية للصحة النفسية أن 15% من الأفراد البالغين (من عمر 18 إلى 74 سنة) يعانون أعراضاً اكتئابية مهمة تستوجب العلاج.
أسباب الاكتئاب
مازالت أسباب الاكتئاب غامضة. ولم تكشف الأبحاث الكثيرة إلا عن بعض جوانبها، على الرغم من تطور أساليب العلاج وتقاناته وظهور الأدوية المضادة للاكتئاب. بيد أن ما عرف من أسباب الاضطراب وعوامله الكثيرة يلاقي قبولاً حسناً في الوسط الطبي والنفسي اليوم.
ويفترض البحث النظري في أسباب الاكتئاب أن عوامل عدة، ثقافية واجتماعية ووراثية وشخصية تتداخل بدرجات متفاوتة، ولكنها تتكامل ويؤثر بعضها في بعض. وتبعاً لهذه العوامل المتداخلة والمتكاملة يمكن تمييز نوعين من الاكتئاب: الاكتئاب الارتكاسي reactive depression الذي يكون فيه للعوامل الخارجية، أي الشِّدات البيئية، الدور الأساسي وللعوامل الداخلية الدور الثانوي، والاكتئاب الداخلي المنشأ endogenous depression الذي يكون فيه للعوامل الشخصية الداخلية الدور الأساسي وللعوامل البيئية الدور الثانوي. وتؤثر في حدوث الاكتئاب عوامل عضوية وعوامل نفسية.
1ـ العوامل العضوية: وتقع في فئتين، عامل الوراثة والعوامل الكيمياوية الحيوية.
أما الوراثة فلها دور مهم في حدوث مرض الاكتئاب، فكلما كانت الإصابة في الأسرة محصورة في الأصول تزايد احتمال حدوث مرض الاكتئاب في أحد أعضاء الأسرة ذاتها وفي نسله. وهناك من يرى أن مورثة (جيناً) مسيطرةً واحدةً موجودةً على صبغي ذاتي (غير جنسي) وذات انتفاذ ناقص incomplete penetrance لها علاقة بالذهان الاكتئابي ـ الهوسي manic depressive psychosis.
وهناك من يرى أن الاكتئاب وراثي تنقله جينات عدة. وأن ظهوره الباكر يرجح أن نوعه مشبع بالعامل الوراثي، في حين يكون مثل هذا التشبع الوراثي ضعيفاً إذا ظهر الاكتئاب بعد سن الخمسين. ويرى بعض العلماء، من ناحية أخرى، أنَّ لبنية الشخصية شأناً كبيراً في الإصابة بالاكتئاب وأن الشخصية دورية المزاج cyclothymic تتصف بتربة نفسية مهيأة للإصابة بالذهان الاكتئابي ـ الهوسي.
وأما العوامل الكيمياوية ـ الحيوية فيذكر منها ما يأتي:
ـ الأمينات الدماغية cerebral amines: تدل بعض الدراسات على أن النتائج العلاجية المثمرة بالأدوية المضادة للاكتئاب، وبالصدمة الكهربائية، وتأثير بعض الأدوية المبددة للأمينات الدماغية، تؤكد دور العوامل الكيمياوية ـ الحيوية في حدوث الاكتئاب. ويفترض أن يكون للتغيرات التي تطرأ على صنع الأمينات الدماغية، ومستوياتها واستقلاباتها، في مناطق اشتباك الخلايا العصبية شأن كبير في حدوث الاكتئاب.
ـ الهرمونات: تلاحظ اضطرابات المزاج في خلل وظيفة الغدد الصم، كما في مرض أديسون ومتلازمة كوشنغ Cushing والوذمة المخاطية myxedema، وكذلك الاضطراب الاكتئابي عقب الولادة نتيجة الهبوط الشديد في مستوى «البروجسترون» المصنوع في المشيمة، كما يلاحظ في الإياس ارتفاع مستوى «الكورتيزول» (الذي يفرز من قشر الكُظْر) ارتفاعاً ملحوظاً في حال الاكتئاب (20.8ميكروغرام في100مم) ويلاحظ انخفاض هذه النسبة بعد الشفاء. ولكن دراسات جرت في السبعينات من القرن العشرين بينت ما يناقض ذلك: فالمستويات الستيروئيدية القشرية corticosteroid كانت سوية أو منخفضة في الاضطراب الاكتئابي. وقد اختلف الباحثون في هذه النتائج، ومع ذلك، فإن معظمهم يقبلون بوجود فرط نشاط قشري ـ كُظْري ـ ستيروئيدي عند مجموعة من مرضى الاكتئاب وارتفاع مستويات الكورتيزول في المصوّرة plasma، واضطراب هرمون الدوبامين بالدماغ.
ـ الشوارد electrolytes: من المعروف أن كمون العمل والراحة للخلايا العصبية والعضلية يقع تحت سيطرة مستويات تركيز الصوديوم والبوتاسيوم وغيرهما من الشوارد. ولهذه الشوارد أيضاً تأثير في استقلاب مواد النقل العصبية neurotransmitters. وقد أثبت كوبن Coppen وجماعته (1966) وجود اضطراب في نسبة الصوديوم والبوتاسيوم لدى مرضى الاكتئاب الذهاني، إذ لوحظت زيادة نسبة الصوديوم في خلايا المريض وعودتها إلى الحد الطبيعي بعد شفائه. أما البوتاسيوم فتنخفض نسبته داخل الخلايا إلى ما دون المستوى السوي.
وأما الكلسيوم فقد لوحظ تناقصه في إفرازات البول عند مرضى الاكتئاب الذين يتماثلون إلى الشفاء.
2ـ العوامل النفسية: يذهب العاملون في الطب النفسي والعلاج النفسي، والباحثون في الشذوذ النفسي، إلى أن ثمة عوامل نفسية كثيرة ومتنوعة تسبب الاكتئاب وتكون بعضها عوامل رئيسة في نشوئه وتطوره لدى الشخص. ولهؤلاء نظريات كثيرة في شرح هذه العوامل وتفسيرها، وهذه النظريات هي الأساس المرجعي لتحديد اتجاهات المعالجة وأساليبها وتقاناتها. ومن أهم هذه النظريات نظريات التحليل النفسي التي بدأت مع فرويد Freud وأخذت عدة مناحٍ بعده، والنظريات السلوكية، والنظريات الطبية النفسية.
يرى فرويد أن الاكتئاب يحدث بتأثير تفاعل بين الدوافع والعواطف، وقد وازن بين الحزن والاكتئاب ورأى أن ضعف الأنا واضح في الاكتئاب، أما في الحزن فتكون «الأنا» سليمة. ويرى كارل أبراهام Karl Abraham، وهو من كبار العاملين في التحليل النفسي في الولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، أن مشاعر العدوان والكراهية المدمرة للقوى العاطفية تنجم عن رغبات جنسية غير مروية ومكبوتة، وأنها هي التي تسبب الاكتئاب. وقد وسع أبراهام نظرية فرويد الجنسية قبل المرحلة التناسلية، وطرح مفهوم المرحلة الجنسية ـ النفسية للنمو، وذكر أن الاكتئاب تثبيت للمرحلة الفموية oral stage (وهي المرحلة التي يرى فرويد أنها تقع في السنتين الأوليين من حياة الطفل) بفعل الاستعداد الوراثي المسبق للشبق الفموي oral erotism وخيبة أمل الطفل في الحب. أما ميلاني كلاين Melanie Klein، وهي من جماعة الفرويدية الجديدة Neo-Freudianism فتعزو الاكتئاب إلى طبيعة العلاقة القائمة بين الأم والولد.
أما النظريات السلوكية، التي تنطلق من عملية التعلم، والتي غدت واسعة الانتشار في النصف الثاني من القرن العشرين فتنظر إلى الاكتئاب، في مستوياته المتعددة على أنه تعلّم منحرف يفسره الإشراط السلوكي [ر] behavioral conditioning وعملية التعزيز [ر] reinforcement. وهذه النظريات، المنطلقة من القول إن كل سلوك لدى الإنسان هو سلوك متعلّم، لا تقف عند شرح حدوث الاكتئاب نتيجة عملية تعلّم، بل تذهب إلى القول: إن معالجة الاكتئاب تأخذ هي عينها طريق عملية تعلّم تضعف الاكتئاب أو تزيله وتُحل محله سلوكاً جديداً سليماً. أما النظريات الطبية النفسية فتعزوها إلى اضطراب إفراز هرمون الدوبامين بالدماغ وما زالت الأبحاث فيها مستمرة.
الاكتئاب
يقصد بها مجموعة الأعراض أو العلامات التي تؤلف معاً صورة سريرية معينة أو كياناً سريرياً لاضطراب معين. يبدي مرضى الاكتئاب تنوعاً كبيراً في الأعراض والعلامات، منها أعراض نفسية رئيسة وأخرى بدنية ثانوية.
أما الأعراض الرئيسة ففيها ما يلي:
ـ المزاج السوداوي: وهو عرض مهم يميز الاكتئاب من غيره من الاضطرابات النفسية ويتصف بالشعور بالغم والكدر. ويتبدى المزاج المكتئب أحياناً بالقلق أو الهياج والعجز عن الاستمتاع بمباهج الحياة ومسراتها.
ـ التثبيط في القدرات العقلية: يشكو المكتئب من بطء التفكير، وصعوبته، وضحالة التخيل، ونضوب الأفكار، وصعوبة تركيز الانتباه، وضعف الذاكرة، وتدني القدرة على اتخاذ القرارات وتتسلط الوساوس على تفكيره وعواطفه، وتسيطر عليه مشاعر العدمية وتبدّد الشخصية depersonalization، وتراود ذهنه فكرة الانتحار نتيجة الشعور بالإثم الضاغط، والضيق الشديد القاتل، والهواجس والمخاوف المرضية بشتى ألوانها.
ـ التثبيط أو الهياج في النشاط النفسي ـ الحركي: فمن الناحية السريرية، إما أن يكون الاكتئاب «تأخرياً» retarded، يهيمن التثبيط النفسي الحركي على المريض هيمنة شديدة، كما هي الحال في الطور الاكتئابي للذهان (الاكتئابي الهوسي)، فلا يقوى على القيام بأي حركة أو نشاط، ويكون خامداً فكرياً أو سلوكياً، أو يكون بخلاف ذلك متهيجاً غير مستقر (الاكتئاب الهياجي)، وغير مطمئن، فهو يتكلم بصوت متخوف قلق، ويشكو من اضطرابات بدنية غير نموذجية تدل على وسواس مرضي hypochondrial ويكون مثبَّط الدوافع والاهتمامات ولا يقوى على إنجاز شيء مع هياجه وفرط نشاطه.
ـ اضطرابات النوم: وهي ثلاثة أنواع، أرق أول الليل، وأرق منتصف الليل، وأرق أواخر الليل. ففي الاكتئاب النفسي المنشأ psychogenic لا يكاد المريض يغلبه النوم حتى يستفيق فجأة إثر كوابيس وأحلام مزعجة، خائفاً مذعوراً، ويخاف النوم تحسباً من عودة هذه الكوابيس فيدخل في حلقة الأرق المعيبة أي في أرق منتصف الليل الذي لا يجد المريض فيه صعوبة في الولوج في النوم إلا أن مدته تكون قليلة يستفيق فيها عدة مرات فيشعر كأنه لم ينم. أما أرق آخر الليل، فيستيقظ المريض فيه باكراً جداً (الساعة الثالثة صباحاً) ويصعب عليه النوم ثانية، ويقضي ما تبقى من الليل صاحياً يفكر بما سيجلب له النهار المقبل من معاناة ومتاعب نفسية.
أما الأعراض البدنية الثانوية المصاحبة فمنها: فقدان الشهية إلى الطعام أو بالعكس الشراهة وزيادة الوزن أو نقصانه (الأخير غالباً)، والألم بأنواعه (الصداع، والألم القطني والآلام العصبية المتعددة الأشكال، والشكاوى المفصلية وغيرها)، والاضطرابات القلبية الدورانية، والاضطرابات التنفسية (عسر التنفس، والشعور بثقل على الصدر)، والاضطرابات الهضمية (سوء الهضم، والألم الشُّرْسُوفي «فوق المعدة»، والإمساك)، واضطرابات الطمث عند النسوة، والاضطرابات الجنسية عند الجنسين. إن الطابع المُراقي الوسواسي هو الذي يغلب على هذه الشكاوى البدنية المذكورة.
تعليق