الأنبياء
ان هؤلاء الذين ندعوهم برواد الفن الحديث كانوا مايزالون كلهم على قيد الحياة ، حتى أن بعضاً منهم ما كاد يجد أسلوبه حتى ظهرت أول حركة من الفتيان يهدفون إلى الاستفادة من مكتسباتهم . . لقد جرى ذلك في أواخر عام ۱۸۸۸ وهؤلاء الفتية هم : « بونار Bonnard » « دوني Denis » « ایبلز bels رانسون Ranson روسیل » Roussel Serusier و ( فويلار Vuillard . وتوسعت هذه المجموعة قليلا في السنوات اللاحقة اذ تقرب منها ( مايول ) Maillol ، الذي اصبح نحاتاً فيما بعد ، والسويسري « فاللوتون » . بيد أن المجموعة احتفظت بتلاحمها مدة تزيد على عشر سنوات يجتمع معظم أعضاؤها خلالها بشكل دوري ، وقد قبلوا أن يسموا ب ( الأنبياء ) ، ومع أنهم لا يتمتعون جميعاً بالمزاج نفسه ، ولا المواهب نفسها ، ولا الأسلوب ذاته ، الا أن كان واحداً وهو معارضة التصوير الأكاديمي والواقعي الانطباعي . وهم يجلون ويقدسون نفس المعلمين وبصورة خاصة سيزان » و « ديغا » و « رودون » و « غوغان واذ عمل سيروزييه في مقاطعة البروتاني في خريف عام ١٨٨٨ إلى جانب غوغان فقد كان له عليهم التأثير المباشر . ومواضيع سيروزييه تذکر : « غوغان ، هناك نساء من مقاطعة بروتاني جالسات في مدخل غابة ، وغسالات يلبسن القباقيب عائدات إلى منازلهن حاملات الغسيل على أكتافهن . على أنه اذا ما اشترك مع ( غوغان ) في حب اللون والترتيب التزيبني ، فان ريشته التي تتوخى التركيز ، لا تتمتع بقدرة ذلك الذي اتخذه مثالا ، فجوه أقل عنفاً واخراجه أقل ابداعاً .
والخشونة هي ، أبعد أيضاً لدى ( موريس دوني ) Maurice Fra Angelico R Denis الذي وضع نصب عينيه أن يعيد إلى التصوير الديني نضارة الروح الظاهرة عند . فرا أنجيليكو فيسبغ على أعماله قدراً من العذوبة لا تنجو من التكلف . نعومة مبالغ فيها في وجوه نسائه واطفاله وأوضاع حالمة وعاطفية للغاية وخطوط كثيرة الانسياب ، وألوان برغبتها في التحرر من الواقعية لتأخذ طابع الأسطورة ، تعتمد كثيراً على الزهر والأزرق الفاتحين والبنفسجي الضعيف : كل ذلك يجر فنه نحو التكلف ويمنعه من أن يكون من مستوى نواياه . ومما لاشك فيه أنه يترك بعض اللوحات التي لا تنقصها البهجة ولا القوة مثل ذلك انتاجه العظيم ( تكريم سيزان ) في عام ١٩٠٠ ، الذي جمع منها حول طبيعة صامتة من صنع سيزان الفنانين : « رودون » و « فويلار» و «ميليريو » و « فولار » و « دوني نفسه ، ، و «سیروزییه » « وروسیل» و « بونار » و « مدام دوني » . ومع ذلك فان « موريس دوني بالنهاية يلفت النظر في الآونة الحاضرة ببعض مقاطع من كتابه أكثر مما . بالنسبة للوحاته. عرف بالفعل وريشته بيده كيف يعبر بوضوح وبشكل مؤثر، على أن هذه أو تلك من صيغه لاتوجز آمال « الأنبياء . وهو يقول كل عمل فني هو نقل ، هو مثيل شغوف ، هو رسم هزلي لمشاعر واردة أو بشكل عام هو واقع نفسي . ان هذه الجملة تترجم قناعات عدد غير قليل من الفنانين المعاصرين ، وأننا مدينون أيضاً إلى دوني بتعريف غالباً ما يذكر ، ومن الطبيعي أن ينقل في كل مؤلف عن الفن الحديث والتعريف هو : يجب التذكر ان لوحة ما، قبل أن تكون (۱) عادية ، هي بصورة أساسية مساحة مستوية مغطاة بألوان مجموعة بترتيب معين . وفي العهد الذي كتبت فيه عام ١٨٩٠ ، كانت هذه الجملة بعيدة عن أن تفصح عن حقيقة يقبلها الجميع واليوم أيضاً ينقصها أن تصبح الجملة المترددة على الأفواه التي كان عليها أن تكون ، لأنها تساعد كثيراً على أن لا يخطى المرء في تقدير مجموعة كبيرة من لوحات القرن العشرين .
والأنبياء ، كأسلافهم من الفنانين معجبون بفنون الرقش الياباني و « رانسون » و « بونار » و « فويلار ( يظهرون ذلك أكثر من سيروزييه». فه رانسون ) ينفذ رسمات من السجاد اليدوي حيث يحول المخلوق البشري والحيوان والشجرة والنبتة إلى سطوح محاطة برقوش عربية واضحة فتارة تتخذ هذه الرقوش حركة ناعمة لعريشة أو لعنق بجعة وتارة لها صلابة خيط من الحديد وطوراً تكشف عن نشاط هر وعن ليونته ومحبة الخط الذي يمتد ، وينحني ، وينعطف ، نراه يظهر بدرجات متفاوتة عند كافة هؤلاء ( الأنبياء ) . كما نراه أيضاً في الفن التزييني في العصر الذي تكثر فيه الملامح التي تلتوي بارتخاء وذبول . وهو احدى المميزات الأساسية لهذا الأسلوب المختص بالزهور المنتشر في أوربا حوالي عام ۱۹۰۰ والذي يطلق عليه أسم ( الفن الجديد » في فرنسا ، و « الأسلوب الجديد ) في المانيا و الاسلوب الحديث » في انكلترا .
واذا رغب ( بونار ) في مطلع السنوات ۱۸۹۰ أن يحيل الأجسام إلى ظلال فانه يتحاشى من حبسها ضمن حاجز متواصل ، فلا وجود للخط عنده . وغالباً ما يظهر الخط في حدود الألوان . وحين يكون الخط فانه لا يتحول أبداً بهذه الثقة الأنيقة التي يعطيها له اليابانيون ولا بهذه الثورة القاطعة التي يعطيها له » لوتريك وهذا الخط الذي لا يرغب في أن يكون متسلطاً يتخذ مشية متصنعة مترددة . وهو بتعبيره عما في روح الفنان من ( شيطنة ) يتخذ الخط سيراً حذراً كمن يرغب في مفاجأتنا بمزحة ، فيتقدم نحونا على رأس أصابعه .
وبالفعل يهيء لنا ( بونار ) دائماً مفاجآت ، وينتقي أكثر المواضيع بساطة : غذاء يجمع الجدة والأم والحفيدين، لعبة ورق في البيت ، شارع في باريس تسير فيه عربات خيل ، ورجال يمرون ونساء تستوقفهن معروضات في الدكاكين . ولكن أي طابع مدهش تتسم به هذه المواضيع العادية جداً في لوحات ( بونار ) ! انها لا تصبح غريبة ولا تفقد طابعها المألوف ، بيد أن هذا الفنان راح بكل بساطة يتطرق إلى المواضيع المذكورة بكل صفاء سريرة لاتبعد الفكاهة ولا اللهو الرصين معبراً عنهما باسلوب يدعونا إلى الدهشة دون أن يحيرنا . واذا وجدنا نزوة ما في أعماله ، فاننا نلمس في الوقت نفسه أن ليس فيها شيء من التحكم فهي لاتعارض الحقيقة ولا تقسو عليها ، انما تنبع من واقع أن الحقيقي قد تمت ملاحظته بفضول وبعينين ساذجتين. كما أن الترتيب والتقطيعات لدى بونار ، توحي لنا بالمفاجأة أكثر منها لدى « ديغـــا » ، على كونها أقل تصنعاً أو تكلفاً . وأحيانا تبدو طليقة إلى درجة أنه يمكن القول أنها من عمل الصدفة . علينا ألا نخطىء : ان هذا الرسام يخفي جرأته ويخبئ هيكل تأليفه الذي ينتج توازنه قبل كل شي عن توزيع الألوان . وفي عام ١٨٩٠ وبعده بقليل ، نجد في هذه الألوان ، درجات مشرقة ، ثم تهدأ الألوان وتكمد. بيد أنها تصفو نهائياً في أوائل هذا القرن ، ويصبح بونار أحد أكثر الملونين حرارة ، وأكثرهم اصالة الفن المعاصر . اللطف والدعابة التي تتمشى عند « بونار » مع بساطة القلب ومع تكون لاذعة عند « فاللوتون » . فمثلاً أمام المستحمين ، يلاحظ هذا الأخير بصورة خاصة كل ما يمكن أن يضحك في أجسامهم وفي أوضاعهم، والعناية الفائقة بالشكل تتجاوب مع الحدة اللاذعة للرؤية . وتلوين لاسع يقوي الناحية اللاذعة في الأعمال ويطبعها بشيء من القسوة .
أما أعمال ( فويلار ) فتختلف تماماً عن أعمال « فاللوتون » و ( بونار ) اذ أن في نظرته حناناً وحرمة . فلا يكشف عن خبث ما ولا عن أي شبهة من السخرية ولا أي أثر من الشيطانية الجذابة التي تميز « بونار» . وعلاوة على هذه الناحية ، ثمة نقاط مشتركة عديدة فيما بين هذين الفنانين ، ويتعذر القول من منهما أعطانا أعمالا أكمل قبل عام ١٩٠٠ . بيد أنه يمكننا الجزم بأن ( فويلار ) في بدايته قد بحث عن اتجاهه بطرق مختلفة هنا يرسم بالتنقيط ، وهناك يمد الألوان بشكل مسطح ، ويبدو بألوانه المشرقة وكأنه يبشر بالوحشيين . انما مثله مثل « بونار » لم يلبث أن أعطى الأولوية إلى الألوان الصماء وإلى التآلفات الرصينة .
لم يتمكن أحد مثله من إعطاء شاعرية أكثر اثارة إلى منزل بورجوازي صغير . وماهو متوقع أن نلاقيه في هذه الغرف من كامد ومن ضيق ، يحملنا ( فويلار ) إلى نسيانه تماماً ليدخلنا في وسط فاتن حيث كل مافيه ينبض بحرارة خفية . وعلينا أن نعود إلى ( شاردان ) Chardin ، وإلى هولانديي القرن السابع عشر لنجد فناناً يستطيع ان ينظر بهذا التأمل إلى أمرأة تخيط أو تتناول طعام الافطار . ولا نعرف الا القليل من البيوت المملوءة بهذا القدر من الدفء المهيمن داخل البيوت التي صورها فويلار » فكل مافيها هادئ وصامت ورقيق ، اذ أن الوان البيج والبني والأبيض المزهر ، والأخضر والأزرق الخفيف تبدو وكأنها تهمس فقط على الرغم من أن كل لون له نغمته، وله نبرته و له دقته البالغة. وعلاوة على ذلك ، فكل لون وضع بيد خفيفة تتحاشى الدقة خوفاً من أن تظهر متحذلقة . وقلة الدقة هذه التي كنا رأيناها لدى « بونار » والتي نجدها أيضاً عند « روسيل » تعطي للاعمال بعض سحرها وشيئاً من نكهتها اللذيذة .
ويحتفظ ( فويلار ) برزانة لونه حتى حين يصور مشاهد ساحات باريز أو حدائقها ويأخذ بعين الاعتبار الأثر الذي يريد أن يحدثه في الغرفة حيث ستوضع اللوحة في جو من الهدوء أكثر مما يهتم بالعالم الخارجي. وهكذا يحقق لوحات تزيينية كبيرة حيث تظهر نساء العصر بأزيائهن المخططة المقلمة أو ذات الترابيع أمام المفروشات الخشبية وجدران غرفهن المزدانة بالورق الملون ، أو بين أشجار الحديقة حيث يريضن أولادهن فاكتسبن بتأثير ريشة الفنان وجوداً أقل ظهوراً واكثر غموضاً وأكثر فتنة. وما يزيد من طابع فن ( فويلار ) الدافئ هو حبه للتصوير بالالوان الممزوجة ، فيضيف صمم العجينة إلى التقشف في التلوين .
وعلى كل حال ، لايظهر الفنان حرية في أعماله أكبر من تلك التي يظهرها في طباعاته الحجرية. ويصادف أن يعاني المرء بعض الشيء في قراءتها ، اذ تكتفي الألوان والأشكال في أن تكون تلميحية.وبكل الأحوال اذا كان الموضوع عبارة عن بيت مفروش بطنافس زهرية اللون أو عبارة عن محل لبيع الحلوى ليلاً ، فان الحقيقة تتحول إلى شي خيالي ولا يبقى للأشياء الا مظاهر طيف . ومن هذه الجهة يبتعد ( فويلار » كثيراً عن ديغا ) بينما يقترب منه ببعض مواضيعه وأيضاً بتبويباته . تحتفظ الأشياء بحجومها وبأوزانها عند ( ديغا ) بينما تخف وتصبح مجرد بقع عند « فويلار » وتميل هذه البقع إلى ان تصبح مستقلة عن بعضها ، وفي الالتباس الكامن فيها بالذات تكمن قوتها الشعرية .
و بونار هو نفسه أيضاً ، قد نفذ طباعات على الحجر فاغنت انتاجه وهي تحيرنا أكثر من لوحاته بوضعها ايانا أمام حقائق أليفة . وبالاختصار أعطى هذان الفنانان منذ عام ۱۸۹۰ مكاناً واسعاً لهذه ( اللاواقعية ) التي انتصرت في القرن العشرين. واذا مع ذلك ، نادراً ما اعتبر الأنبياء كثوريين ، هذا يعود أولاً إلى أنهم أحدثوا ولا شك قليلاً من الضجة ، و إلى أنه بالنسبة للأغلبية بينهم فان فترة البحوث المجددة تنتهي . حوالي عام ١٩٠٠ . وهذا لا يمنع من أن يكون الفكر الحديث مديناً اليهم وأن أخصب فناني هذه الفئة ، « بونار » و « فويلار » قد اعطيانا عدداً من الأعمال التي تتصف بنكهتها الجديدة النادرة .
ان هؤلاء الذين ندعوهم برواد الفن الحديث كانوا مايزالون كلهم على قيد الحياة ، حتى أن بعضاً منهم ما كاد يجد أسلوبه حتى ظهرت أول حركة من الفتيان يهدفون إلى الاستفادة من مكتسباتهم . . لقد جرى ذلك في أواخر عام ۱۸۸۸ وهؤلاء الفتية هم : « بونار Bonnard » « دوني Denis » « ایبلز bels رانسون Ranson روسیل » Roussel Serusier و ( فويلار Vuillard . وتوسعت هذه المجموعة قليلا في السنوات اللاحقة اذ تقرب منها ( مايول ) Maillol ، الذي اصبح نحاتاً فيما بعد ، والسويسري « فاللوتون » . بيد أن المجموعة احتفظت بتلاحمها مدة تزيد على عشر سنوات يجتمع معظم أعضاؤها خلالها بشكل دوري ، وقد قبلوا أن يسموا ب ( الأنبياء ) ، ومع أنهم لا يتمتعون جميعاً بالمزاج نفسه ، ولا المواهب نفسها ، ولا الأسلوب ذاته ، الا أن كان واحداً وهو معارضة التصوير الأكاديمي والواقعي الانطباعي . وهم يجلون ويقدسون نفس المعلمين وبصورة خاصة سيزان » و « ديغا » و « رودون » و « غوغان واذ عمل سيروزييه في مقاطعة البروتاني في خريف عام ١٨٨٨ إلى جانب غوغان فقد كان له عليهم التأثير المباشر . ومواضيع سيروزييه تذکر : « غوغان ، هناك نساء من مقاطعة بروتاني جالسات في مدخل غابة ، وغسالات يلبسن القباقيب عائدات إلى منازلهن حاملات الغسيل على أكتافهن . على أنه اذا ما اشترك مع ( غوغان ) في حب اللون والترتيب التزيبني ، فان ريشته التي تتوخى التركيز ، لا تتمتع بقدرة ذلك الذي اتخذه مثالا ، فجوه أقل عنفاً واخراجه أقل ابداعاً .
والخشونة هي ، أبعد أيضاً لدى ( موريس دوني ) Maurice Fra Angelico R Denis الذي وضع نصب عينيه أن يعيد إلى التصوير الديني نضارة الروح الظاهرة عند . فرا أنجيليكو فيسبغ على أعماله قدراً من العذوبة لا تنجو من التكلف . نعومة مبالغ فيها في وجوه نسائه واطفاله وأوضاع حالمة وعاطفية للغاية وخطوط كثيرة الانسياب ، وألوان برغبتها في التحرر من الواقعية لتأخذ طابع الأسطورة ، تعتمد كثيراً على الزهر والأزرق الفاتحين والبنفسجي الضعيف : كل ذلك يجر فنه نحو التكلف ويمنعه من أن يكون من مستوى نواياه . ومما لاشك فيه أنه يترك بعض اللوحات التي لا تنقصها البهجة ولا القوة مثل ذلك انتاجه العظيم ( تكريم سيزان ) في عام ١٩٠٠ ، الذي جمع منها حول طبيعة صامتة من صنع سيزان الفنانين : « رودون » و « فويلار» و «ميليريو » و « فولار » و « دوني نفسه ، ، و «سیروزییه » « وروسیل» و « بونار » و « مدام دوني » . ومع ذلك فان « موريس دوني بالنهاية يلفت النظر في الآونة الحاضرة ببعض مقاطع من كتابه أكثر مما . بالنسبة للوحاته. عرف بالفعل وريشته بيده كيف يعبر بوضوح وبشكل مؤثر، على أن هذه أو تلك من صيغه لاتوجز آمال « الأنبياء . وهو يقول كل عمل فني هو نقل ، هو مثيل شغوف ، هو رسم هزلي لمشاعر واردة أو بشكل عام هو واقع نفسي . ان هذه الجملة تترجم قناعات عدد غير قليل من الفنانين المعاصرين ، وأننا مدينون أيضاً إلى دوني بتعريف غالباً ما يذكر ، ومن الطبيعي أن ينقل في كل مؤلف عن الفن الحديث والتعريف هو : يجب التذكر ان لوحة ما، قبل أن تكون (۱) عادية ، هي بصورة أساسية مساحة مستوية مغطاة بألوان مجموعة بترتيب معين . وفي العهد الذي كتبت فيه عام ١٨٩٠ ، كانت هذه الجملة بعيدة عن أن تفصح عن حقيقة يقبلها الجميع واليوم أيضاً ينقصها أن تصبح الجملة المترددة على الأفواه التي كان عليها أن تكون ، لأنها تساعد كثيراً على أن لا يخطى المرء في تقدير مجموعة كبيرة من لوحات القرن العشرين .
والأنبياء ، كأسلافهم من الفنانين معجبون بفنون الرقش الياباني و « رانسون » و « بونار » و « فويلار ( يظهرون ذلك أكثر من سيروزييه». فه رانسون ) ينفذ رسمات من السجاد اليدوي حيث يحول المخلوق البشري والحيوان والشجرة والنبتة إلى سطوح محاطة برقوش عربية واضحة فتارة تتخذ هذه الرقوش حركة ناعمة لعريشة أو لعنق بجعة وتارة لها صلابة خيط من الحديد وطوراً تكشف عن نشاط هر وعن ليونته ومحبة الخط الذي يمتد ، وينحني ، وينعطف ، نراه يظهر بدرجات متفاوتة عند كافة هؤلاء ( الأنبياء ) . كما نراه أيضاً في الفن التزييني في العصر الذي تكثر فيه الملامح التي تلتوي بارتخاء وذبول . وهو احدى المميزات الأساسية لهذا الأسلوب المختص بالزهور المنتشر في أوربا حوالي عام ۱۹۰۰ والذي يطلق عليه أسم ( الفن الجديد » في فرنسا ، و « الأسلوب الجديد ) في المانيا و الاسلوب الحديث » في انكلترا .
واذا رغب ( بونار ) في مطلع السنوات ۱۸۹۰ أن يحيل الأجسام إلى ظلال فانه يتحاشى من حبسها ضمن حاجز متواصل ، فلا وجود للخط عنده . وغالباً ما يظهر الخط في حدود الألوان . وحين يكون الخط فانه لا يتحول أبداً بهذه الثقة الأنيقة التي يعطيها له اليابانيون ولا بهذه الثورة القاطعة التي يعطيها له » لوتريك وهذا الخط الذي لا يرغب في أن يكون متسلطاً يتخذ مشية متصنعة مترددة . وهو بتعبيره عما في روح الفنان من ( شيطنة ) يتخذ الخط سيراً حذراً كمن يرغب في مفاجأتنا بمزحة ، فيتقدم نحونا على رأس أصابعه .
وبالفعل يهيء لنا ( بونار ) دائماً مفاجآت ، وينتقي أكثر المواضيع بساطة : غذاء يجمع الجدة والأم والحفيدين، لعبة ورق في البيت ، شارع في باريس تسير فيه عربات خيل ، ورجال يمرون ونساء تستوقفهن معروضات في الدكاكين . ولكن أي طابع مدهش تتسم به هذه المواضيع العادية جداً في لوحات ( بونار ) ! انها لا تصبح غريبة ولا تفقد طابعها المألوف ، بيد أن هذا الفنان راح بكل بساطة يتطرق إلى المواضيع المذكورة بكل صفاء سريرة لاتبعد الفكاهة ولا اللهو الرصين معبراً عنهما باسلوب يدعونا إلى الدهشة دون أن يحيرنا . واذا وجدنا نزوة ما في أعماله ، فاننا نلمس في الوقت نفسه أن ليس فيها شيء من التحكم فهي لاتعارض الحقيقة ولا تقسو عليها ، انما تنبع من واقع أن الحقيقي قد تمت ملاحظته بفضول وبعينين ساذجتين. كما أن الترتيب والتقطيعات لدى بونار ، توحي لنا بالمفاجأة أكثر منها لدى « ديغـــا » ، على كونها أقل تصنعاً أو تكلفاً . وأحيانا تبدو طليقة إلى درجة أنه يمكن القول أنها من عمل الصدفة . علينا ألا نخطىء : ان هذا الرسام يخفي جرأته ويخبئ هيكل تأليفه الذي ينتج توازنه قبل كل شي عن توزيع الألوان . وفي عام ١٨٩٠ وبعده بقليل ، نجد في هذه الألوان ، درجات مشرقة ، ثم تهدأ الألوان وتكمد. بيد أنها تصفو نهائياً في أوائل هذا القرن ، ويصبح بونار أحد أكثر الملونين حرارة ، وأكثرهم اصالة الفن المعاصر . اللطف والدعابة التي تتمشى عند « بونار » مع بساطة القلب ومع تكون لاذعة عند « فاللوتون » . فمثلاً أمام المستحمين ، يلاحظ هذا الأخير بصورة خاصة كل ما يمكن أن يضحك في أجسامهم وفي أوضاعهم، والعناية الفائقة بالشكل تتجاوب مع الحدة اللاذعة للرؤية . وتلوين لاسع يقوي الناحية اللاذعة في الأعمال ويطبعها بشيء من القسوة .
أما أعمال ( فويلار ) فتختلف تماماً عن أعمال « فاللوتون » و ( بونار ) اذ أن في نظرته حناناً وحرمة . فلا يكشف عن خبث ما ولا عن أي شبهة من السخرية ولا أي أثر من الشيطانية الجذابة التي تميز « بونار» . وعلاوة على هذه الناحية ، ثمة نقاط مشتركة عديدة فيما بين هذين الفنانين ، ويتعذر القول من منهما أعطانا أعمالا أكمل قبل عام ١٩٠٠ . بيد أنه يمكننا الجزم بأن ( فويلار ) في بدايته قد بحث عن اتجاهه بطرق مختلفة هنا يرسم بالتنقيط ، وهناك يمد الألوان بشكل مسطح ، ويبدو بألوانه المشرقة وكأنه يبشر بالوحشيين . انما مثله مثل « بونار » لم يلبث أن أعطى الأولوية إلى الألوان الصماء وإلى التآلفات الرصينة .
لم يتمكن أحد مثله من إعطاء شاعرية أكثر اثارة إلى منزل بورجوازي صغير . وماهو متوقع أن نلاقيه في هذه الغرف من كامد ومن ضيق ، يحملنا ( فويلار ) إلى نسيانه تماماً ليدخلنا في وسط فاتن حيث كل مافيه ينبض بحرارة خفية . وعلينا أن نعود إلى ( شاردان ) Chardin ، وإلى هولانديي القرن السابع عشر لنجد فناناً يستطيع ان ينظر بهذا التأمل إلى أمرأة تخيط أو تتناول طعام الافطار . ولا نعرف الا القليل من البيوت المملوءة بهذا القدر من الدفء المهيمن داخل البيوت التي صورها فويلار » فكل مافيها هادئ وصامت ورقيق ، اذ أن الوان البيج والبني والأبيض المزهر ، والأخضر والأزرق الخفيف تبدو وكأنها تهمس فقط على الرغم من أن كل لون له نغمته، وله نبرته و له دقته البالغة. وعلاوة على ذلك ، فكل لون وضع بيد خفيفة تتحاشى الدقة خوفاً من أن تظهر متحذلقة . وقلة الدقة هذه التي كنا رأيناها لدى « بونار » والتي نجدها أيضاً عند « روسيل » تعطي للاعمال بعض سحرها وشيئاً من نكهتها اللذيذة .
ويحتفظ ( فويلار ) برزانة لونه حتى حين يصور مشاهد ساحات باريز أو حدائقها ويأخذ بعين الاعتبار الأثر الذي يريد أن يحدثه في الغرفة حيث ستوضع اللوحة في جو من الهدوء أكثر مما يهتم بالعالم الخارجي. وهكذا يحقق لوحات تزيينية كبيرة حيث تظهر نساء العصر بأزيائهن المخططة المقلمة أو ذات الترابيع أمام المفروشات الخشبية وجدران غرفهن المزدانة بالورق الملون ، أو بين أشجار الحديقة حيث يريضن أولادهن فاكتسبن بتأثير ريشة الفنان وجوداً أقل ظهوراً واكثر غموضاً وأكثر فتنة. وما يزيد من طابع فن ( فويلار ) الدافئ هو حبه للتصوير بالالوان الممزوجة ، فيضيف صمم العجينة إلى التقشف في التلوين .
وعلى كل حال ، لايظهر الفنان حرية في أعماله أكبر من تلك التي يظهرها في طباعاته الحجرية. ويصادف أن يعاني المرء بعض الشيء في قراءتها ، اذ تكتفي الألوان والأشكال في أن تكون تلميحية.وبكل الأحوال اذا كان الموضوع عبارة عن بيت مفروش بطنافس زهرية اللون أو عبارة عن محل لبيع الحلوى ليلاً ، فان الحقيقة تتحول إلى شي خيالي ولا يبقى للأشياء الا مظاهر طيف . ومن هذه الجهة يبتعد ( فويلار » كثيراً عن ديغا ) بينما يقترب منه ببعض مواضيعه وأيضاً بتبويباته . تحتفظ الأشياء بحجومها وبأوزانها عند ( ديغا ) بينما تخف وتصبح مجرد بقع عند « فويلار » وتميل هذه البقع إلى ان تصبح مستقلة عن بعضها ، وفي الالتباس الكامن فيها بالذات تكمن قوتها الشعرية .
و بونار هو نفسه أيضاً ، قد نفذ طباعات على الحجر فاغنت انتاجه وهي تحيرنا أكثر من لوحاته بوضعها ايانا أمام حقائق أليفة . وبالاختصار أعطى هذان الفنانان منذ عام ۱۸۹۰ مكاناً واسعاً لهذه ( اللاواقعية ) التي انتصرت في القرن العشرين. واذا مع ذلك ، نادراً ما اعتبر الأنبياء كثوريين ، هذا يعود أولاً إلى أنهم أحدثوا ولا شك قليلاً من الضجة ، و إلى أنه بالنسبة للأغلبية بينهم فان فترة البحوث المجددة تنتهي . حوالي عام ١٩٠٠ . وهذا لا يمنع من أن يكون الفكر الحديث مديناً اليهم وأن أخصب فناني هذه الفئة ، « بونار » و « فويلار » قد اعطيانا عدداً من الأعمال التي تتصف بنكهتها الجديدة النادرة .
تعليق