الفن التجريدي
الفن التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non figuratifs التي تعتمد القيم التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصة non représentatif.
استمرَّ الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة، مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
كان التغيير الجمالي والفلسفي بين الاتجاهين مختلفاً جداً، حتى إن مبادئ علم الجمال التقليدي، لم تعد قادرة على صوغ قواعد جمالية لهذا الفن، الذي لم يعد مجرد اتجاه أو أسلوب من أساليب الفن المعاصر، مثل الانطباعية[ر] أو التعبيرية[ر] أو الوحشية[ر]، بل أصبح تياراً فنياً، موازياً ضمن مدارس متنوعة ومفاهيم مختلفة.
ومن الممكن الاعتقاد أن النزعة التجريدية في الفن كانت تعبيراً عن نزوع روحاني تصاعدي، كما هو التجريد في الفن الإسلامي، ومما يُرى في الرقش العربي arabesque، أو هي تعبير عما في الألوان والخطوط والأشكال الخالصة من موسيقى وعمارة وحركة كما هو الحال في الفن الحديث.
ولعل أول من تحدث في ماهية التجريد الفني، هو ڤيلهلم ڤورينغر W.Worringer في كتابه «التجريد والتعاطف» Abstraktion und Einfühlung، وفيه أوضح أن التجريد يعني الانصراف عن الواقع.
ومع أن التجريد يعود إلى فنون ما قبل التاريخ، إلا أنه بمفهومه المعاصر ظهر في بداية القرن العشرين على يد مجموعة من المصورين والنحاتين من جنسيات مختلفة، وكانت مقدماته قد بدت منذ الانطباعية المحدثة حيث تجرأ الفنان على تفتيت الصورة الواقعية إلى بقع من الألوان الأساسية والمتممة. وتابعت التعبيرية تجاوز الشكل الواقعي لصالح المعنى، مما مهَّد للتحرر المتزايد من الشكل المشخص، حتى بلوغه حدود التجريد الذي قدمه المصور الروسي كاندينسكي Kandinsky والمصور الهولندي موندريان Mondrian منذ العام العاشر من القرن العشرين. حيث لم يعد في أعمالهما، أي أثر للواقع والحقيقة، بل ثمة واقع جديد لم يكن له محل في ذاكرة المتلقي، ابتكره الفنان معتمداً على نظرية جديدة، ومفهوم جمالي جديد، توضح في كتاب «من الروحي في الفن» Du Spirituel dans l’art لكاندينسكي ونظرية «التشكيلية المحدثة» le néo-plasticisme لموندريان شاركه فيها ڤان دوسبورغ van Doesburg.
وإذا كانت التجريدية عند كاندينسكي روحانية، تعتمد على صيغ مطلقة، فإن التجريدية عند موندريان هندسية تعتمد على أشكال هندسية بذاتها، تملؤها طبقات لونية تتفاعل مع بعضها. ولكن مالفيتش Malevitch الذي وجد في الاتجاهين تسطيحاً جمالياً سعى إلى إنشاء اتجاه أطلق عليه اسم الأوجية Suprématisme تمسّك فيه بالشكل المحض واللون المحض لكي يرفع الشكل المجرد إلى المرتبة الروحية.
ولكن تيار التجريدية مازال مديناً لكاندينسكي في أعماله الخيالية التي تعبر عن طبع غنائي شرقي ثرّ جاء به كاندينسكي من روسيا بعد نزوحه منها، كما هو مَدين لموندريان في العودة إلى الأشكال الهندسية المجردة، وتنسيقها لكي تحدث حواراً فكرياً أكثر منه حواراً موسيقياً شاعرياً.
ثم امتدت التجربة لكي تظهر في أعمال بول كلي Klee السويسري الذي تأثر بالفن العربي بعد زيارته إلى القيروان. كما تأثَّر بالموسيقى التي أتقنها من والده، فكانت التجريدية التأملية. هكذا بدت أنماط متنوعة من التجريدية، فإضافة إلى كاندينسكي وموندريان وبول كلي كان مالڤيتش وكوبكا Kupka ودولوني Delaunay وبِڤسنر Pevsner يقدّم كلّ منهم لوناً خاصاً من التجريدية المحضة.
سار هؤلاء التجريديون في اتجاهات مختلفة ابتدعوها، فالتصقت ملامح كل أسلوب بصاحبها، إذ كان الإبداع والابتكار عنوان كل اتجاه من اتجاهات هؤلاء الرواد الذين أسسوا في النصف الأول من القرن الماضي هذا الفن، الذي تطور سريعاً وانتشر خارج حدود أوربا لكي يتبنّاه الفنانون في جميع أنحاء العالم.
ولعلَّ كل واحد من هؤلاء الرواد، شكَّل مرتكزاً في أسلوبه يقوم على مفهوم جمالي نسبي يساعد على تنظير هذا الفن، الذي تجاوز جميع مواصفات الفن التقليدي والمدارس الحديثة التي حورت الشكل من دون أن تتخلى عنه.
كان التجريد انقلاباً كاملاً في مفهوم الفن التشكيلي. فقد تميَّز هذا الفن بالتطور والتعددية الأسلوبية، كما تميّز أيضاً بمقدرته على التأقلم مع الفنون المحلية والتقليدية الشائعة في الحضارات الأخرى، كالحضارة الإفريقية، والحضارة الشرق آسيوية، والحضارة العربية. وكان السبب الأساسي لهذا الانتشار الواسع هو الحرية التي منحت للفنان كي يترك خياله منطلقاً لابتكار الأسلوب الذي يساعده على تجديد الصيغ الخطية واللونية، بعيداً عن أي قيد واقعي أو موضوعي، متخلياً عن أي ارتباط بأشكال الطبيعة، فاسحاً المجال للمتلقي أن يرى صيغاً تشكيلية مطلقة، من حقه أن يؤولها كما يشاء، فهي لا تحمل أي مضمون يفرض نفسه عليه، وهكذا تدعو التجريدية إلى مشاركة المتلقي في إعطاء اللوحة التجريدية مضموناً يختاره هو، ولا يفرضه الفنان.
ولكن السؤال الذي يطرحه نقاد هذا الفن، على الفنان التجريدي: هل يعرض في صيغه المجردة ما يعكس عالمه الداخلي، أم لعله الفكر الرياضي أو التجريب أو المصادفة التي تؤدي إلى صياغة اللوحة؟. فالعالم الداخلي الذي كان معبراً عنه في الأعمال التشبيهية، كان مبرراً لأن الموضوعات الواقعية مهما كانت محرفة، فهي تبقى الوسيلة لنقل الانفعال الداخلي واللاشعور، مما يساعد المتلقي على قراءة هذا الانفعال بوضوح، ولذلك يرى بعض نقاد التجريدية أنها وصلت إلى نقطة الصفر، إلى العدمية أو إلى اللافن.
ويبرر التجريديون فنهم بأنه فن خالص يعبر كالموسيقى عن أنغام وإيقاعات وتوافقات لونية وخطية، من دون تدخل الأشكال والأشياء التي تزاحم الفن الخالص في إقحام مفهومها المادي القائم على المنفعة أو اللذة أو الخطاب المباشر، فالعمل التجريدي ليس موضوعياً، ولكنه يقوم على الفطنة والذكاء والثقافة، وهذا ما يبدو في أعمال الجيل الثاني من التجريديين من أمثال هربان Herbin ونيكلسون Nicholson وڤازاريلي Vasarély.
ومع ذلك فإن ما يقدمه التجريديون من صيغ لا تتصل بالواقع، لا يعني أنهم لا يقدمون موضوعاً ما، إنه موضوع يعبر عن الانفعال من دون أن يعبر عن شيء معين، ولكنه يبقى موضوعاً تشكيلياً في التصوير وفي النحت، ولذلك فإن الجمهور الذي يدّعي عدم فهم العمل التجريدي سوف يقتنع أن ثمة موضوعات جديدة في الفن لا حدّ لأشكالها، تختلف في ماهيتها عن ماهية الأشياء والأشكال المألوفة، التي لم تعد محاكاتها هماً تشكيلياً، بعد أن تقدمت الوسائل الآلية التصويرية، في نقلها بدقة وبأساليب يعتز بها المصورون الضوئيون.
ويبقى هدف المصور التجريدي أن يترك للمتلقي أمام العمل الفني حق الانفعال الجمالي وليس الانفعال النفعي، وحق تبادل الانفعال الذي عاشه الفنان التجريدي، وهو انفعال جمالي بالضرورة، مع انفعاله وتذوقه هو. ومثال هذا الانفعال الفني يبدو واضحاً في أعمال ماتيو Mathieu الفرنسي وبولّوك Pollock الأمريكي وهارتونغ Hartung الألماني، كما ترك له في الفن البصري Op. art فرصة الإيهام البصري لرؤية الصيغ التجريدية متحركة، كما فعل فازاريلّي. أو متحركة بوساطة الكهرباء كما في أعمال شوفِر Schöffer.
وفي مجال النحت قدمت التجريدية فرصة التأكيد على خصائصه المحضة وهي الشكل والفضاء.
كان هنري مور Moore قد مهّد للتجريدية في النحت، ولكن ظهور الابتكارات التقانية ساعد على إمداد النحت بفرص تجريدية لا حدود لها، ولاسيما عند الانصراف إلى الحركية في النحت التي استمدت طاقتها من الرياح كما فعل كالدر Calder، أو من الكهرباء أو المغنطيس أو الماء.
ولكن استغلال الفضاء والفراغ، سمح للنحاتين من أمثال برانكوزي Brancusi أن يستغل البساطة «للتعبير عن المعنى الحقيقي للأشياء»، كما يقول. كما سمحت للنحات غونثالِس Gonzales ولغيره من النحاتين الإسبان استغلال الشكل المجرد، ليس بوصفه الخام، بل بتشكيله المطلق الجوهري.
وتتمثل براعة روبرت ياكوبسِن R.Jacobsen الدنماركي الأمريكي في استغلال المعدن معبراً عن طاقته الحركية من دون أن يباشر التحريك كما فعل كالدر.
أما بِڤسنر وأخوه غابو Gabo، فقد قدما أعمالاً نحتية تقوم على إعادة إنشاء الكون بعمارة فضائية دقيقة، تضعنا أمام عالم نحتي مصغرَّ، ولكنه ذو دلالة بليغة. وعشرات من النحاتين جذبتهم هذه التكوينات الإنشائية باستعمال المعدن مباشرة، وليس عن طريق صهره وسكبه كما يتم في التماثيل البرونزية، بل تطرف استعمال المعدن إلى استعمال المعادن الفضلات.
وبقي جان آرب Arp الذي ابتدأ دادائياً، ملتصقاً بعالم الكتل الضخمة التي تُمّثل موقفاً تجريدياً صخرياً. ويرى آرب أن التجريدية فن يعبر عن المطلق.
ليس من السهل حصر الفنانين التجريديين، فثّمة معجم يتحدَّث عنهم وعن أعمالهم، كما ليس من السهل حصر اتجاهات الفن التجريدي الذي أصبح شخصانياً محضاً لا حدود لتنوع أسلوبه.
ولأنَّ التجريدية أصبحت فناً شاملاً يمثل الحداثة، فلقد شملت العمارة التي انقلبت واجهاتها وإكساؤها وشكلها، إلى تشـكيل نحتي، مثل بناء كنيـسة نوتردام في رونـشان بفرنـسا للمعمار لوكوربوزييه Le Corbusier، وبناء مركز بومبيدو للمعمارين روجرز Rogers وبيانو Piano، وفيه تطابق في استعمال المفردات المعدنية مع النحت الحديث.
ومن العمارات الحديثة التجريدية عمارة برج العرب في دبي، وبرج المملكة في الرياض، ومن أشهر المعماريين الذين تبنوا التجريدية في العالم، لويد رايت L.Wright في بناء متحف غوغنهايم في نيويورك، والمعمار غاودي Gaudï الإسباني في عمارة كنيسة ساغرادا فاميليا في برشلونة، وجون أريسون J.Arison الدنماركي الذي صمم دار الأوبرا في سيدني.
واستمدت الطباعة القماشية أيضاً عناصر من التجريدية تحاكي الصيغ التي أبدعها كبار التجريديين.
وانتقلت التجريدية إلى أشكال الطائرات والسيارات والأدوات الكهربائية وإلى كثير من الأشياء الشائعة في عالم اليوم.
عفيف البهنسي
الفن التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non figuratifs التي تعتمد القيم التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصة non représentatif.
استمرَّ الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة، مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
كان التغيير الجمالي والفلسفي بين الاتجاهين مختلفاً جداً، حتى إن مبادئ علم الجمال التقليدي، لم تعد قادرة على صوغ قواعد جمالية لهذا الفن، الذي لم يعد مجرد اتجاه أو أسلوب من أساليب الفن المعاصر، مثل الانطباعية[ر] أو التعبيرية[ر] أو الوحشية[ر]، بل أصبح تياراً فنياً، موازياً ضمن مدارس متنوعة ومفاهيم مختلفة.
ومن الممكن الاعتقاد أن النزعة التجريدية في الفن كانت تعبيراً عن نزوع روحاني تصاعدي، كما هو التجريد في الفن الإسلامي، ومما يُرى في الرقش العربي arabesque، أو هي تعبير عما في الألوان والخطوط والأشكال الخالصة من موسيقى وعمارة وحركة كما هو الحال في الفن الحديث.
ولعل أول من تحدث في ماهية التجريد الفني، هو ڤيلهلم ڤورينغر W.Worringer في كتابه «التجريد والتعاطف» Abstraktion und Einfühlung، وفيه أوضح أن التجريد يعني الانصراف عن الواقع.
فاسيلي كاندينسكي: «منظر مع كنيسة» (1913) |
ألبرتو مانييلي: «تشكيل رقم 0526»(1915) | |
ولكن تيار التجريدية مازال مديناً لكاندينسكي في أعماله الخيالية التي تعبر عن طبع غنائي شرقي ثرّ جاء به كاندينسكي من روسيا بعد نزوحه منها، كما هو مَدين لموندريان في العودة إلى الأشكال الهندسية المجردة، وتنسيقها لكي تحدث حواراً فكرياً أكثر منه حواراً موسيقياً شاعرياً.
ثم امتدت التجربة لكي تظهر في أعمال بول كلي Klee السويسري الذي تأثر بالفن العربي بعد زيارته إلى القيروان. كما تأثَّر بالموسيقى التي أتقنها من والده، فكانت التجريدية التأملية. هكذا بدت أنماط متنوعة من التجريدية، فإضافة إلى كاندينسكي وموندريان وبول كلي كان مالڤيتش وكوبكا Kupka ودولوني Delaunay وبِڤسنر Pevsner يقدّم كلّ منهم لوناً خاصاً من التجريدية المحضة.
سار هؤلاء التجريديون في اتجاهات مختلفة ابتدعوها، فالتصقت ملامح كل أسلوب بصاحبها، إذ كان الإبداع والابتكار عنوان كل اتجاه من اتجاهات هؤلاء الرواد الذين أسسوا في النصف الأول من القرن الماضي هذا الفن، الذي تطور سريعاً وانتشر خارج حدود أوربا لكي يتبنّاه الفنانون في جميع أنحاء العالم.
ولعلَّ كل واحد من هؤلاء الرواد، شكَّل مرتكزاً في أسلوبه يقوم على مفهوم جمالي نسبي يساعد على تنظير هذا الفن، الذي تجاوز جميع مواصفات الفن التقليدي والمدارس الحديثة التي حورت الشكل من دون أن تتخلى عنه.
كان التجريد انقلاباً كاملاً في مفهوم الفن التشكيلي. فقد تميَّز هذا الفن بالتطور والتعددية الأسلوبية، كما تميّز أيضاً بمقدرته على التأقلم مع الفنون المحلية والتقليدية الشائعة في الحضارات الأخرى، كالحضارة الإفريقية، والحضارة الشرق آسيوية، والحضارة العربية. وكان السبب الأساسي لهذا الانتشار الواسع هو الحرية التي منحت للفنان كي يترك خياله منطلقاً لابتكار الأسلوب الذي يساعده على تجديد الصيغ الخطية واللونية، بعيداً عن أي قيد واقعي أو موضوعي، متخلياً عن أي ارتباط بأشكال الطبيعة، فاسحاً المجال للمتلقي أن يرى صيغاً تشكيلية مطلقة، من حقه أن يؤولها كما يشاء، فهي لا تحمل أي مضمون يفرض نفسه عليه، وهكذا تدعو التجريدية إلى مشاركة المتلقي في إعطاء اللوحة التجريدية مضموناً يختاره هو، ولا يفرضه الفنان.
ولكن السؤال الذي يطرحه نقاد هذا الفن، على الفنان التجريدي: هل يعرض في صيغه المجردة ما يعكس عالمه الداخلي، أم لعله الفكر الرياضي أو التجريب أو المصادفة التي تؤدي إلى صياغة اللوحة؟. فالعالم الداخلي الذي كان معبراً عنه في الأعمال التشبيهية، كان مبرراً لأن الموضوعات الواقعية مهما كانت محرفة، فهي تبقى الوسيلة لنقل الانفعال الداخلي واللاشعور، مما يساعد المتلقي على قراءة هذا الانفعال بوضوح، ولذلك يرى بعض نقاد التجريدية أنها وصلت إلى نقطة الصفر، إلى العدمية أو إلى اللافن.
ويبرر التجريديون فنهم بأنه فن خالص يعبر كالموسيقى عن أنغام وإيقاعات وتوافقات لونية وخطية، من دون تدخل الأشكال والأشياء التي تزاحم الفن الخالص في إقحام مفهومها المادي القائم على المنفعة أو اللذة أو الخطاب المباشر، فالعمل التجريدي ليس موضوعياً، ولكنه يقوم على الفطنة والذكاء والثقافة، وهذا ما يبدو في أعمال الجيل الثاني من التجريديين من أمثال هربان Herbin ونيكلسون Nicholson وڤازاريلي Vasarély.
ومع ذلك فإن ما يقدمه التجريديون من صيغ لا تتصل بالواقع، لا يعني أنهم لا يقدمون موضوعاً ما، إنه موضوع يعبر عن الانفعال من دون أن يعبر عن شيء معين، ولكنه يبقى موضوعاً تشكيلياً في التصوير وفي النحت، ولذلك فإن الجمهور الذي يدّعي عدم فهم العمل التجريدي سوف يقتنع أن ثمة موضوعات جديدة في الفن لا حدّ لأشكالها، تختلف في ماهيتها عن ماهية الأشياء والأشكال المألوفة، التي لم تعد محاكاتها هماً تشكيلياً، بعد أن تقدمت الوسائل الآلية التصويرية، في نقلها بدقة وبأساليب يعتز بها المصورون الضوئيون.
كازيمير ماليفيتش: «تشكيل تسلطي» (1914-1918) |
وفي مجال النحت قدمت التجريدية فرصة التأكيد على خصائصه المحضة وهي الشكل والفضاء.
كان هنري مور Moore قد مهّد للتجريدية في النحت، ولكن ظهور الابتكارات التقانية ساعد على إمداد النحت بفرص تجريدية لا حدود لها، ولاسيما عند الانصراف إلى الحركية في النحت التي استمدت طاقتها من الرياح كما فعل كالدر Calder، أو من الكهرباء أو المغنطيس أو الماء.
ولكن استغلال الفضاء والفراغ، سمح للنحاتين من أمثال برانكوزي Brancusi أن يستغل البساطة «للتعبير عن المعنى الحقيقي للأشياء»، كما يقول. كما سمحت للنحات غونثالِس Gonzales ولغيره من النحاتين الإسبان استغلال الشكل المجرد، ليس بوصفه الخام، بل بتشكيله المطلق الجوهري.
وتتمثل براعة روبرت ياكوبسِن R.Jacobsen الدنماركي الأمريكي في استغلال المعدن معبراً عن طاقته الحركية من دون أن يباشر التحريك كما فعل كالدر.
أما بِڤسنر وأخوه غابو Gabo، فقد قدما أعمالاً نحتية تقوم على إعادة إنشاء الكون بعمارة فضائية دقيقة، تضعنا أمام عالم نحتي مصغرَّ، ولكنه ذو دلالة بليغة. وعشرات من النحاتين جذبتهم هذه التكوينات الإنشائية باستعمال المعدن مباشرة، وليس عن طريق صهره وسكبه كما يتم في التماثيل البرونزية، بل تطرف استعمال المعدن إلى استعمال المعادن الفضلات.
وبقي جان آرب Arp الذي ابتدأ دادائياً، ملتصقاً بعالم الكتل الضخمة التي تُمّثل موقفاً تجريدياً صخرياً. ويرى آرب أن التجريدية فن يعبر عن المطلق.
ليس من السهل حصر الفنانين التجريديين، فثّمة معجم يتحدَّث عنهم وعن أعمالهم، كما ليس من السهل حصر اتجاهات الفن التجريدي الذي أصبح شخصانياً محضاً لا حدود لتنوع أسلوبه.
ولأنَّ التجريدية أصبحت فناً شاملاً يمثل الحداثة، فلقد شملت العمارة التي انقلبت واجهاتها وإكساؤها وشكلها، إلى تشـكيل نحتي، مثل بناء كنيـسة نوتردام في رونـشان بفرنـسا للمعمار لوكوربوزييه Le Corbusier، وبناء مركز بومبيدو للمعمارين روجرز Rogers وبيانو Piano، وفيه تطابق في استعمال المفردات المعدنية مع النحت الحديث.
ومن العمارات الحديثة التجريدية عمارة برج العرب في دبي، وبرج المملكة في الرياض، ومن أشهر المعماريين الذين تبنوا التجريدية في العالم، لويد رايت L.Wright في بناء متحف غوغنهايم في نيويورك، والمعمار غاودي Gaudï الإسباني في عمارة كنيسة ساغرادا فاميليا في برشلونة، وجون أريسون J.Arison الدنماركي الذي صمم دار الأوبرا في سيدني.
واستمدت الطباعة القماشية أيضاً عناصر من التجريدية تحاكي الصيغ التي أبدعها كبار التجريديين.
وانتقلت التجريدية إلى أشكال الطائرات والسيارات والأدوات الكهربائية وإلى كثير من الأشياء الشائعة في عالم اليوم.
عفيف البهنسي