الفصل الرابع
التربية من أجل الإبداع في العلوم
بعد أن تحدثنا عن الإبداع وعوامله وعن التربية من أجل الإبداع بصورة عامة ، يحسن بنا أن نضرب مثلاً عملياً ، وذلك بالتحدث عن التربية من أجل الإبداع في العلوم. ولمثل هذا الحديث فائدتان : أولاهما انه يعطينا مثلاً تطبيقياً واضحاً ، وثانيتهما انه يقف عند ميدان يعتبر اليوم من أهم ميادين المعرفة ونعني به ميدان العلوم . ونحن مدينون بما سوف نورد في هذا القسم من حديثنا الى مقال بالعنوان المذكور في أعلاه كتبه ( جيروم وايسنر J. Weisner ) الذي يقول : ان التوسع السريع للميادين العلمية والتقنية ونسبة التغير المتسارعة في هذه الميادين قد خلقت مشكلات محيرة بالنسبة للمجتمع بعامة وللمجتمع التقني بخاصة إن غزارة المفاهيم والنظريات الحديثة والطرائق الجديدة ينتج عنها نتاجات وطرائق سريعة التغير ومتزايدة التعقد. وكان من نتائج ذلك كله تغير دائم في الآلات المستعملة في البيت وفي المعمل يرافقه، تغير دائم آخر في تدريب القوى البشرية التي تسير هذه الآلات . ولنضرب على ذلك مثلاً أنه منذ خمس وعشرين سنة فقط كان المهندس يدرب ، وفي البال ان تدريبه هذا سيكون كافياً لنهوضه بعمله مدى حياته ، أما اليوم فإن مثل هذا الفرض خاطىء . ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان تدريبه اذا خدمه مدة عشر سنوات فإنه يكون تدريباً جيداً. ومن هنا كان الطلب اليوم على المتخرجين الجدد المتفوقين أكثر منه على الخريجين القدامى ذوي الخبرة السابقة .
إن التشديد على التجريد التقني جذب الانتباه الى حقيقة كون عدد قليل جداً من العلماء والمهندسين العاملين هم أصحاب معظم الأفكار الجديدة . ولذلك فإن أمثال هؤلاء من أصحاب المواهب الإبداعية قلائل ومطلوبون بإلحاح .
إن هذه الحقائق لا تشير الى الحاجة الى إعادة النظر فيما نعلمه الآن فحسب وذلك بهدف إثارة القدرات الإبداعية عند الطلاب وتنمية مهاراتهم التي يمكن أن تبقى إبداعية أطول مدة ممكنة ، ولكنها تشير أيضاً الى أهمية إعادة النظر في النظم التربوية وجعلها قادرة على إبقاء المتخصصين مواكبين لتقدم العلوم والتكنولوجيا كان اهتمامنا ببحث الطرائق التربوية التي تربي الإبداع في العلوم ومن هنا والهندسة .
ويرى ( وايسنر ) ان من المفيد تعريف كل من الانتاجية Productivity والإبداع Creativity ويقول انه بالرغم من ان هذين المصطلحين كثيراً ما يستعملان مترادفين فإنه لا بد من التفريق بينها ، وان مصطلح (الإبداع) يستعمل بصورة رئيسية ليعني فاعلية تتميز بالجدة والقيمة في مجال الخبرة الإنسانية ، بما في ذلك العلوم والآداب والموسيقى والفنون البصرية . وفي كل هذه السياقات يشتمل الإبداع بصورة عامة على الابتعاد عما هو مألوف . ومع ذلك فإن ثمة صفة هامة من صفات المساهمة الإبداعية في العلوم وهي صفة غير موجودة في كثير من الحقول الأخرى ونعني بها الصلات المنطقية ، الممكنة التعريف كمياً ، بالمعارف العلمية الموجودة سابقاً . وهكذا فإنه بالرغم من ان الصفة الانفعالية والحدسية للفكرة أو المفهوم الجديد أو غناه الجمالي - يمكن أن تجعله إبداعياً بالمعنى الفلسفي أو الفني فإنه لا أن يكون ممكن الاتصال منطقياً وبشكل كمي بمجموع العلوم من أجل اعتباره منتجاً علمياً ان لهذا التفريق معنى يتجاوز مجرد التفريق الدلالي من اهتمامنا بالتربية من جهة والإبداع والانتاجية من جهة أخرى . ان عنصراً من الانضباط المنطقي الصارم يجب يميز الجهود الإبداعية للعامل العلمي المنتج ، في حين ان مثل هذا الانضباط قد لا يوفر إطلاقاً في سلوك العاملين في الميادين غير العلمية. ووفقاً لذلك فإننا حين نقول ه الانتاجية في العلوم » نشير الى مجموعة الفاعليات العقلية التي تساهم في توسيع المعارف العلمية والتقنية . وهكذا فإن ( الإبداع ) مصطلح أكثر عمومية من مصطلح ( الانتاجية) وحين نستعمل مصطلح الإبداع في العلوم والتكنولوجيا فإنه من المفترض أن يشمل المصالح الانتاجية أيضاً .
والآن : ما نوع الفاعلية المبدعة التي يتوقعها المجتمع من العلماء والمهندسين؟ يكفي من أجل غرضنا الحاضر أن نجمع هذه الفاعليات في الزمر الثلاث الآتية :
(١) البحث العلمي المهتم بصورة خاصة بمشكلة زادت فهمنا للطبيعة .
(۲) البحث العلمي والتكنولوجي المطبق المهتم بتطوير أدوات وطرائق جديدة والتوفيق بين الأدوات والطرائق من أجل حل المشكلات الخاصة ذات الأهداف العملية .
(۳) التصاميم الهندسية المعنية بالدرجة الأولى بتكييف التقنية المتيسرة الأهداف الاجتماعية الخاصة جمالياً ومادياً واقتصادياً .
إن العنصر الإبداعي المشترك بين هذه الفاعليات يمكن وصفه بأنه ذلك التبصر الخيالي الذي بيسر للجنس البشري ، بزيادة معارفه ، خبرات مختلفة وأكثر اتساعاً وأسهل فهماً .
ولعل أهم ما يجب أن نعنى به هو البحث العلمي لا سيما وان هذا البحث كان موضع دراسة واهتمام أكثر من العاملين الآخرين .
وللمبدعين من الباحثين العلميين صفات مشتركة أهمها : محيط طفولي غني بالنسبة لقيمة المعرفة والجهد العقلي ، مما غرس في نفوسهم عادة القراءة والدرس لحد الإدمان وذلك في عمر باكر ، درجة غير عادية من الاستقلال حملتهم على الاكتشاف الباكر بأن في استطاعتهم إرضاء فضولهم بجهدهم الشخصي، اعتماد باكر على الموارد الشخصية وعلى وجوب التفكير بأنفسهم ولأنفسهم ، دافع عميق ولد عندهم جهوداً مركزة ، مثابرة وغير آبهة بالوقت وذلك في دراستهم وعملهم ، دراسة ثانوية تشددت في أهمية العلوم وذكاء عال ( وان كان من غير الضروري أن يكون ذكاؤهم عالياً جداً ) .
وبالإضافة الى هذه الصفات الشخصية هناك صفات لعملية البحث العلمي نفسها .
إن النجاح في القيام بالبحوث مرتبط بمواقف عقلية خاصة وعادات معينة أكثر من ارتباطه بطرائق أو عمليات متخصصة بالرغم من أن هذه الأخيرة قد تكون موجودة وهامة. ومن المؤكد ان الأشخاص المبدعين ينمون طرائق خاصة تميز صيغ عملهم. إن مثل هذه المواقف والعادات تسمح بملاحظة للظاهرات غير محدودة وبمتابعة مثابرة للنتائج المنطقية بالرغم من الحاجة المتكررة لملاحقة النتائج المنطقية من أجل إعادة لين النظر في القناعات السابقة وطرح الفاسد منها .
إن الوجوه الإبداعية لعملية البحث تبدو متحررة نسبياً وغير متقيدة بالقواعد وشخصية ولا تشبه كثيراً الصياغة المنطقية النهائية للنتائج . ويبدو ان هذه العملية المتحررة والشعورية جزئياً فقط التي بخلق أفكار هي تنتهي وتبصرات جديدة .
ويبدو ان الحدس يلعب دوره الكبير في الإبداع وان إعادة النظر في الأفكار المقبولة ومعاكستها كثيراً ما يعطي نتائج رائعة .
التربية من أجل الإبداع في العلوم
بعد أن تحدثنا عن الإبداع وعوامله وعن التربية من أجل الإبداع بصورة عامة ، يحسن بنا أن نضرب مثلاً عملياً ، وذلك بالتحدث عن التربية من أجل الإبداع في العلوم. ولمثل هذا الحديث فائدتان : أولاهما انه يعطينا مثلاً تطبيقياً واضحاً ، وثانيتهما انه يقف عند ميدان يعتبر اليوم من أهم ميادين المعرفة ونعني به ميدان العلوم . ونحن مدينون بما سوف نورد في هذا القسم من حديثنا الى مقال بالعنوان المذكور في أعلاه كتبه ( جيروم وايسنر J. Weisner ) الذي يقول : ان التوسع السريع للميادين العلمية والتقنية ونسبة التغير المتسارعة في هذه الميادين قد خلقت مشكلات محيرة بالنسبة للمجتمع بعامة وللمجتمع التقني بخاصة إن غزارة المفاهيم والنظريات الحديثة والطرائق الجديدة ينتج عنها نتاجات وطرائق سريعة التغير ومتزايدة التعقد. وكان من نتائج ذلك كله تغير دائم في الآلات المستعملة في البيت وفي المعمل يرافقه، تغير دائم آخر في تدريب القوى البشرية التي تسير هذه الآلات . ولنضرب على ذلك مثلاً أنه منذ خمس وعشرين سنة فقط كان المهندس يدرب ، وفي البال ان تدريبه هذا سيكون كافياً لنهوضه بعمله مدى حياته ، أما اليوم فإن مثل هذا الفرض خاطىء . ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان تدريبه اذا خدمه مدة عشر سنوات فإنه يكون تدريباً جيداً. ومن هنا كان الطلب اليوم على المتخرجين الجدد المتفوقين أكثر منه على الخريجين القدامى ذوي الخبرة السابقة .
إن التشديد على التجريد التقني جذب الانتباه الى حقيقة كون عدد قليل جداً من العلماء والمهندسين العاملين هم أصحاب معظم الأفكار الجديدة . ولذلك فإن أمثال هؤلاء من أصحاب المواهب الإبداعية قلائل ومطلوبون بإلحاح .
إن هذه الحقائق لا تشير الى الحاجة الى إعادة النظر فيما نعلمه الآن فحسب وذلك بهدف إثارة القدرات الإبداعية عند الطلاب وتنمية مهاراتهم التي يمكن أن تبقى إبداعية أطول مدة ممكنة ، ولكنها تشير أيضاً الى أهمية إعادة النظر في النظم التربوية وجعلها قادرة على إبقاء المتخصصين مواكبين لتقدم العلوم والتكنولوجيا كان اهتمامنا ببحث الطرائق التربوية التي تربي الإبداع في العلوم ومن هنا والهندسة .
ويرى ( وايسنر ) ان من المفيد تعريف كل من الانتاجية Productivity والإبداع Creativity ويقول انه بالرغم من ان هذين المصطلحين كثيراً ما يستعملان مترادفين فإنه لا بد من التفريق بينها ، وان مصطلح (الإبداع) يستعمل بصورة رئيسية ليعني فاعلية تتميز بالجدة والقيمة في مجال الخبرة الإنسانية ، بما في ذلك العلوم والآداب والموسيقى والفنون البصرية . وفي كل هذه السياقات يشتمل الإبداع بصورة عامة على الابتعاد عما هو مألوف . ومع ذلك فإن ثمة صفة هامة من صفات المساهمة الإبداعية في العلوم وهي صفة غير موجودة في كثير من الحقول الأخرى ونعني بها الصلات المنطقية ، الممكنة التعريف كمياً ، بالمعارف العلمية الموجودة سابقاً . وهكذا فإنه بالرغم من ان الصفة الانفعالية والحدسية للفكرة أو المفهوم الجديد أو غناه الجمالي - يمكن أن تجعله إبداعياً بالمعنى الفلسفي أو الفني فإنه لا أن يكون ممكن الاتصال منطقياً وبشكل كمي بمجموع العلوم من أجل اعتباره منتجاً علمياً ان لهذا التفريق معنى يتجاوز مجرد التفريق الدلالي من اهتمامنا بالتربية من جهة والإبداع والانتاجية من جهة أخرى . ان عنصراً من الانضباط المنطقي الصارم يجب يميز الجهود الإبداعية للعامل العلمي المنتج ، في حين ان مثل هذا الانضباط قد لا يوفر إطلاقاً في سلوك العاملين في الميادين غير العلمية. ووفقاً لذلك فإننا حين نقول ه الانتاجية في العلوم » نشير الى مجموعة الفاعليات العقلية التي تساهم في توسيع المعارف العلمية والتقنية . وهكذا فإن ( الإبداع ) مصطلح أكثر عمومية من مصطلح ( الانتاجية) وحين نستعمل مصطلح الإبداع في العلوم والتكنولوجيا فإنه من المفترض أن يشمل المصالح الانتاجية أيضاً .
والآن : ما نوع الفاعلية المبدعة التي يتوقعها المجتمع من العلماء والمهندسين؟ يكفي من أجل غرضنا الحاضر أن نجمع هذه الفاعليات في الزمر الثلاث الآتية :
(١) البحث العلمي المهتم بصورة خاصة بمشكلة زادت فهمنا للطبيعة .
(۲) البحث العلمي والتكنولوجي المطبق المهتم بتطوير أدوات وطرائق جديدة والتوفيق بين الأدوات والطرائق من أجل حل المشكلات الخاصة ذات الأهداف العملية .
(۳) التصاميم الهندسية المعنية بالدرجة الأولى بتكييف التقنية المتيسرة الأهداف الاجتماعية الخاصة جمالياً ومادياً واقتصادياً .
إن العنصر الإبداعي المشترك بين هذه الفاعليات يمكن وصفه بأنه ذلك التبصر الخيالي الذي بيسر للجنس البشري ، بزيادة معارفه ، خبرات مختلفة وأكثر اتساعاً وأسهل فهماً .
ولعل أهم ما يجب أن نعنى به هو البحث العلمي لا سيما وان هذا البحث كان موضع دراسة واهتمام أكثر من العاملين الآخرين .
وللمبدعين من الباحثين العلميين صفات مشتركة أهمها : محيط طفولي غني بالنسبة لقيمة المعرفة والجهد العقلي ، مما غرس في نفوسهم عادة القراءة والدرس لحد الإدمان وذلك في عمر باكر ، درجة غير عادية من الاستقلال حملتهم على الاكتشاف الباكر بأن في استطاعتهم إرضاء فضولهم بجهدهم الشخصي، اعتماد باكر على الموارد الشخصية وعلى وجوب التفكير بأنفسهم ولأنفسهم ، دافع عميق ولد عندهم جهوداً مركزة ، مثابرة وغير آبهة بالوقت وذلك في دراستهم وعملهم ، دراسة ثانوية تشددت في أهمية العلوم وذكاء عال ( وان كان من غير الضروري أن يكون ذكاؤهم عالياً جداً ) .
وبالإضافة الى هذه الصفات الشخصية هناك صفات لعملية البحث العلمي نفسها .
إن النجاح في القيام بالبحوث مرتبط بمواقف عقلية خاصة وعادات معينة أكثر من ارتباطه بطرائق أو عمليات متخصصة بالرغم من أن هذه الأخيرة قد تكون موجودة وهامة. ومن المؤكد ان الأشخاص المبدعين ينمون طرائق خاصة تميز صيغ عملهم. إن مثل هذه المواقف والعادات تسمح بملاحظة للظاهرات غير محدودة وبمتابعة مثابرة للنتائج المنطقية بالرغم من الحاجة المتكررة لملاحقة النتائج المنطقية من أجل إعادة لين النظر في القناعات السابقة وطرح الفاسد منها .
إن الوجوه الإبداعية لعملية البحث تبدو متحررة نسبياً وغير متقيدة بالقواعد وشخصية ولا تشبه كثيراً الصياغة المنطقية النهائية للنتائج . ويبدو ان هذه العملية المتحررة والشعورية جزئياً فقط التي بخلق أفكار هي تنتهي وتبصرات جديدة .
ويبدو ان الحدس يلعب دوره الكبير في الإبداع وان إعادة النظر في الأفكار المقبولة ومعاكستها كثيراً ما يعطي نتائج رائعة .
تعليق