جميعنا متّفقون أنّ هناك من يمارس الفنّ من أجل الفنّ، أو الرياضة من أجل المتعة، وليس بالضرورة أن يكون الفنان أو الرياضي محترفًا أي يكسب مالًا من حرفة الفن وحرفة الرياضة، فلماذا نسلب هذا الحقّ من علماء الرياضيّات؟
بالمناسبة فإنّ بعض التعريفات وتصنيفات العلوم تضع الرياضيات في خانة الفنون وليس العلوم وهو أمرٌ جدير بالنظر خصوصًا إن علمنا أنّ الرياضيّات غير قابلة للنقض، وهذا يفقدها واحدًا من أهمّ صفات العلوم وأقصد قابلية النقض، حتّى أنّ الإمام الغزالي قال “إنّ البراهين الرياضيّة لا سبيل لمعارضتها”.
في النهاية، إنّ دراسة الرياضيات البحتة تشبه زراعة مئة بذرة، والعناية بها لتنمو وتنضج، لكن القليل منها فقط سيصبح ثمارًا مفيدة للأكل، بينما البقية لن تُنتج إلا بذورًا أخرى، نعود ونزرعها في موسمٍ تالٍ لنحصل على جيلٍ جديد من الثمار اللذيذة، وبذورًا أخرى، وفي كلّ دورة سنرى ثمارًا أكثر نضارةً وأشدّ حلاوة وبذورًا أخرى تتابع المسيرة.
يبدو هذا طريقًا شائكًا أو مظلمًا على الأقلّ، فمن ذا الذي سيزرع بذورًا يأكل ربعها فقط؟ إنّه المزارع الذي يستمتع بعمله، وكذلك الرياضيّات البحتة، هناك علماء يستمتعون بدراستها، يقع على عاتقهم عبء رعاية بذور الرياضيات البحتة لإيصالها للأجيال اللاحقة، دون أن ينسوا نصيبهم من المتعة والترفيه، وأنا شخصيًا سأكون في أعلى درجات السعادة لو اكتشفتُ عددًا جديدًا من “أعداد ميرسين” أو “أعداد ثابت” مع علمي بأنّ فائدة هذه الأعداد تكاد تكون معدومة.
أخيرًا وبالرغم من أنّ أحد الأساليب التي استخدمتها في شرح قيمة الرياضيات البحتة كان تقليديًا وهو البحث عن الفوائد العملية للرياضيات البحتة والبرهان على أنّ مسحها من قائمة العلوم سيغيّر شكل العالم، إلا أنّي أميل لاعتبار الرياضيات –والبحتة خصوصًا– هي جزء أساسي من الكون وكانت موجودة على الدوام حتى قبل وجود الكون بخلاف الفيزياء التي لم ترَ النور إلا بعدما وُجد الكون نفسه.