امازيغ (بربر)
Amazigh - Amazigh
الأمازيغ (البربر ـ(
الأمازيغ Amazig كلمة تعني الإنسان الحر أو الكريم النسب، وهو الاسم الذي كان وما يزال قسم من السكان الأصليين في شمالي إفريقية يطلقونه على الواحد منهم، ويجمع على «إيمازيغن» ويقيم هؤلاء في منطقة مترامية الأطراف، تمتد من الحدود المصرية شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن البحر المتوسط شمالاً إلى نهر النيجر جنوباً. أما تسميتهم بالبربر فمن المرجح أن الشعوب الأخرى هي التي أطلقتها عليهم لرطانتهم، وتجدر الإشارة إلى أن الأمازيغ يتسمون بأسماء العشائر التي ينتمون إليها أو المنطقة التي يقيمون بها، من هذه الأسماء: القبائليون، والزواوة، والشاوية، والطارقية وبنوميزاب في الجزائر، والشلح في المغرب.
أصل الأمازيغ
جاء في دائرة «المعارف الإسلامية» أن اللغة هي المعيار الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في الوقت الحالي لتمييز الأمازيغ الذين يلاحظ في هيئاتهم خصائص متنوعة جداً، بل متباينة أحياناً، فلا يمكن التحدث عن عرق أمازيغي متجانس، ولاسيما أنهم كانوا منقسمين فيما بينهم أشد الانقسام مما حال دون تشكيلهم أمة واحدة.
وما يزال شطر كبير من تاريخهم مجهولاً على وفرة الآثار الباقية من عصور ما قبل التاريخ في بلاد الأمازيغ الواسعة، ومع وجود النقوش والصور الجدارية الكثيرة التي تشهد بمآثرهم التاريخية، والكتب التي ألفها عنهم اليونان والرومان والعرب. وخير مثال على ذلك، اللغة الأمازيغية التي لم يتم إلى اليوم تحديد المجموعة اللغوية التي تنتمي إليها، ولهذا من الصعب تحديد الأصل الذي انحدر منه هذا الشعب في غابر الأزمان، مع العلم أن فرضيات كثيرة وضعت بشأنهم من بينها: أن الأمازيغ هم السكان الأصليون لشمالي إفريقية ولم يفدوا إلى هذه المنطقة من بلد آخر، وقيل أيضاً إنهم إما شرقيون وإما إيجيون (نسبة إلى بحر إيجة). أما المؤرخون العرب فيعدونهم شرقيين، أي كنعانيين أو حميريين وهي فرضية تبناها وعززها بالأدلة المستشرق هلفرتز Helferist، في حين انفردت فرضية الأصل الكنعاني بتأييد المؤلفين المحدثين (أنتيشان Antichan، ودوماس Doumas، وسلوشز Slouchz). ويرى المستشرق كاريت Carette أن الأمازيغ سكان أصليون امتزجوا مع الآسيويين، ولاسيما الفينيقيين، ويزعم بعض المؤرخين من ذوي الأغراض الاستعمارية أن ثمة تقارباً بين الأمازيغ والكلتيين (السلت Celtes والأنغلوسكسون والغال Gaulois، والباسك Bassques والقفقاسيين)، وذلك بهدف تسويغ سياسة الاندماج العرقي والاستيطان التي انتهجها الاستعمار في شمالي إفريقية، وذهب المؤلف نفسه إلى أبعد من هذا، إذ ادعى وجود قرابة بين الأمازيغ وأهل أمريكة.
ومن ناحية أخرى، فإن الصفات العرقية (الإثنية) للأمازيغ زادت المسألة تعقيداً، لأن بعضهم ذوو لون أشقر، وهذا ما جعل المؤلفين النزهاء الجانب يتحرزون إطلاق الأحكام جزافاً، فقالوا إن السواد الأعظم من أهالي الشاطىء الجنوبي وأهالي الشاطىء الشمالي للبحر المتوسط متقاربون في صفاتهم، ثم انضمت إليهم وفود كثيرة من الجنوب ومن الشرق وربما من الشمال أيضاً. لكن هذه الهجرات وقعت في عهود سحيقة لا يمكن تحديد تاريخها.
تاريخ الأمازيغ
آ ـ قبل الإسلام: إن كل ما يمكن أن يقال بشيء من التأكيد هو أن الأمازيغ استقروا في شمالي إفريقية منذ أقدم العصور، وقد ورد ذكرهم في مؤلفات المؤرخين والجغرافيين القدامى بأسماء عدة زالت أو نسيت، لأن الأمازيغ لم يعترفوا بها. فقد ذكروا أن النسمون Nasamons والبسيل Psylles كانوا يقطنون برقة وطرابلس الغرب، وأن الغرمانت Gramantes كانوا يعيشون عيشة بدوية في الصحراء، وأن المكلي Machlyes والمكسي Maxyes استقروا في الساحل التونسي، وأن النوميديين استقروا في المنطقة الشرقية من المغرب الأقصى، ورابط الغتول Getules على حدود الصحراء والهضاب العليا، في حين انتشر المور Moors في المغرب الأوسط والأقصى، واستطاع الفينيقيون ومنهم القرطاجيون وكذلك اليونان، أن يستعمروا بعض المناطق من تلك البلاد، إلا أن تأثير هؤلاء في السكان الأصليين كان ضئيلاً، ما عدا المناطق المجاورة لقرطاجنة، وكان الأمازيغ منقسمين إلى قبائل متصارعة حالت دون إنشاء دولة قوية طويلة الأمد، ولكنهم كانوا يتحدون كلما أحدق بهم خطر أجنبي، على أنه في أثناء الحروب البونية، حين سادت الفوضى في المنطقة الشرقية، شهدت البلاد في وسطها وغربيها قيام نوع من النظام السياسي، وتمكن مسينيسا Massinissa، بدعم من الرومان، من إنشاء مملكة جمعت شمل الأمازيغ وامتدت من نهر مولوية، أي من الحدود المغربية الجزائرية الحالية، إلى خليج سرت على الحدود الليبية التونسية، ولكن هذه المملكة لم تعمر طويلاً فانقرضت عام 46ق.م وغدت نوميدية الشرقية (الجزائر اليوم) إحدى الولايات التابعة للرومان.
أما المملكة الموريتانية التي أنشأها أغسطس عام 17م، ونصب عليها يوبا الثاني JubaII، فقد كانت أقصر عمراً لأنها تحولت إلى ولاية رومانية عام 42م.
دام احتلال الرومان لشمالي إفريقية حتى القرن الخامس الميلادي، وامتزج الأمازيغ في هذه الحقبة بالأجانب في ولاية إفريقية (تونس) وفي نوميدية، ما عدا الذين كانوا يعيشون في الجبال والهضاب العليا أو في جوار الصحراء وموريتانية، وقد اقتصر الرومان في أثناء الاحتلال على تجنيد بعض الأهالي وفرض الجزية عليهم، وتركوا مقاليد الحكم لشيوخ القبائل، ومع ذلك لم تخمد جذوة الاستقلال لدى الأمازيغ، وتجلّت أحياناً في حركات تمرّدية بقيادة ثلة من المتأثرين نوعاً ما بحضارة الرومان، مثل تكفاريناس (17- 29م) Tacfarinas، وأحياناً في غارات يقوم بها بدو الصحراء، أو قبائل الدواخل، التي لم تأخذ بأسباب الحضارة الرومانية إلا قليلاً. ومن الأمثلة على ذلك: الهجمات التي شنها النسميون والغرمانت في عهدي أغسطس ودوميتيان، وحركات التمرّد التي قام بها المور في عهد هادريان وأنطونين وكومود، وثورة الغتول في أثناء الفوضى العسكرية التي عمّت صفوف الرومان، وانتفاضة القبائليين بجبال جرجرة في نهاية القرن الثالث.
وهكذا، بقدر ما كان الحكم الروماني يضعف تدريجياً، كان ردّ فعل الأمازيغ يزداد قوة، معبرين عن خصوصيتهم باعتناق المذاهب «الهرطقية»، كالدوناتية مثلاً (نسبة إلى دونات، أسقف قرطاجنة المتوفى سنة 355م الذي أنشأ بدعة أحدثت شقاقاً في النصرانية) مما يدل على تمسك الأمازيغ بشخصيتهم، ورفضهم الذوبان في الكيان الأجنبي، لأن الحروب الدينية التي اجتاحت إفريقية (تونس) في القرن الرابع الميلادي، لم تكن في الحقيقة إلا حروباً بين الأهالي الغيورين على وطنهم والغزاة المغتصبين. ومن ذلك مثلاً ثورة الأمير الأمازيغي فيرموس (372- 275م) الذي سيطر على مدينتي سيزاري (شرشال اليوم) وإيكوسيوم (الجزائر العاصمة اليوم) وثورة أخيه كيلدون (398م) الذي قطع عن رومة الضريبة السنوية من المحاصيل الزراعية بقصد تجويع إيطالية وعاصمتها.
ولما كانت نقطة الضعف لدى الأمازيغ تتمثل في عجزهم عن توحيد الصف للتصدي بقوة للعدو المشترك، فإن عداوتهم للرومان مهدت الطريق لغزو البرابرة الواندل Vandales الجرمانيين، وقد واجه هؤلاء من الأمازيغ المقاومة التي واجهها الرومان قبلهم. ولئن تأتّى لقائدهم جيسريك (428-477م) Gaiseric أن يطوّع الأمازيغ بتجنيدهم في جيشه، إن خلفاءه اضطروا إلى خوض معارك لا تنتهي معهم. واستطاعت موريتانية وبلاد القبائل والأوراس وطرابلس أن تحافظ على استقلالها.
لم يكن البيزنطيون أسعد حظاً في احتلالهم شمالي إفريقية من سابقيهم، فقد رفع الأهالي راية الكفاح بقيادة أنتالاس Antalas (في بيزاسين Byzacene بتونس) ويبداس Yabdas (في الأوراس بالجزائر) فوقفوا في وجه القائد العسكري سليمان Soloman المنتدب من الامبراطور البيزنطي جستنيان الأول. وبعد مقتل هذا القائد في الحملة الموجهة إلى قبائل لواتة في طرابلس أصبح موقف البيزنطيين في شمالي إفريقية حرجاً جداً، حتى إن حنا تروغليتا Jean Troglita لم يستطع صد هجوم لواتة إلا بمساعدة أمازيغ الأوراس. غير أن الأهالي في مجموعهم لم يدينوا بالولاء للحكم البيزنطي. وباستثناء بيزاسين (الجنوب التونسي) والولاية الإفريقية القديمة (الشمال التونسي) والمنطقة الشمالية من ولاية قسنطينة Costantine والحواضر الواقعة على الساحل وبعض المعاقل الموجودة في الدواخل، فإن الأمازيغ كانوا يتمتعون بالاستقلال وكانوا في ذلك الوقت يتألفون من ثلاثة أقسام رئيسية:
ـ في شرقي البلاد (طرابلس وبرقة والجريد والأوراس) تقيم قبائل لواتة، المتفرعة إلى هوارة وأورغة ونفزاوة وأوربة.
ـ في غربي البلاد (المغرب الأوسط والمغرب الأقصى) تقيم قبائل كتامة في منطقة القبائل الصغرى، والزواوة في منطقة القبائل الكبرى، والزناتة في الساحل الجزائري بين منطقة القبائل ونهر الشلف، وبنو يفرن في المنطقة الممتدة بين نهر الشلف شرقاً ونهر مولوية غرباً، وغمارة في الريف المغربي ومصمودة على الساحل الأطلسي، وجزولة في جبل الأطلس الكبير، ولمطة في جنوبي المغرب، وصنهاجة المعروفة باسم أهل اللثام التي تعيش عيشة البدو الرّحل في الصحراء الغربية.
ـ في البقاع المحاذية للهضاب العليا، والممتدة من طرابلس إلى جبل عمور، تقيم قبائل زناتة، ومن تلك البقاع تنتشر تدريجياً نحو المغرب الأوسط والمغرب الأقصى.
ب ـ الأمازيغ بعد الإسلام: لم يتغير الوضع السابق كثيراً بعد مجيء العرب المسلمين الذين اقتصروا في بداية فتح شمالي إفريقية على شن بعض الغارات، ثم عمدوا إلى إنشاء مدينة القيروان (50 هـ /670م) لتكون قاعدة تنطلق منها عملياتهم العسكرية. ومع ذلك فالحملات التي قادها عقبة بن نافع كانت أقرب إلى الغارات منها إلى الفتوح، لأنه لم يتمكن من الاستيلاء على المدن التي بقيت في يد البيزنطيين، كما تعذر عليه الوصول إلى معاقل الأهالي في الجبال المنيعة، بل إن أحد زعماء الأمازيغ، وهو كُسيلةُ، أخذ عقبة على حين غرة وقتله في تهوذة، وتمكّن من إجلاء العرب المسلمين عن إفريقية (تونس)، وإقامة مملكة أمازيغية ضمت الأوراس والجنوب القسنطيني والجزء الأكبر من تونس (68-71هـ /687-690م) لكن كُسيلة لم يصمد طويلاً، كما لم تُجدِ مقاومة أمازيغ الأوراس التي لا تزال تُروى في الحكايات الشعبية، ممثلة في شخصية بطلتها الكاهنة فقد تحقق النصر للمسلمين، وبدأ الإسلام ينتشر بينهم وانخرطوا في الجيوش التي استطاعت تحت الإمرة العربية وأحياناً الأمازيغية (طارق بن زياد) أن تفتح، في بضع سنين، الشمال الإفريقي كله والأندلس في أقل من نصف قرن، ومع ذلك فإن العلاقات بين العرب والأمازيغ لم يكن يسودها الصفاء بصورة دائمة، لأن الأمازيغ كان ينتابهم الشعور بأنهم لم ينالوا ما يستحقون من مكافأة على خدماتهم ولا يعاملون على قدم المساواة مع العرب، مما جعل بعضهم ينحازون إلى مذهب الخوارج الصفرية أو الإباضية.
بدأ هذا التمرد في غربي البلاد عام (122هـ/749م) بزعامة أحد رجال مدغرة من الخوارج الصفرية اسمه ميسرة السقّاء، وبعد مقتل ميسرة على يد أبناء عشيرته لأمور أنكروها عليه، ولّوا أمرهم خالد بن حميد الزناتي، الذي انتصر على الجيش الذي بعث به والي إفريقية عبيد الله بن الحبحاب بقيادة خالد ابن حبيب في موقعة الأشراف (122هـ)، فأرسل الخليفة هشام بن عبد الملك جيشاً للقضاء على الثورة بقيادة كلثوم بن عياض الذي هزم أيضاً وقتل (123هـ)، وألهب هذا النصر الذي أحرزه الخوارج حماسة بقية إخوانهم، فثار الخوارج الصفرية من زناتة وهوارة في المنطقة الواقعة بين قابس في إفريقية وطرابلس في ليبية وهددوا العاصمة القيروان، لولا تمكن حنظلة ابن صفوان، عامل هشام بن عبد الملك الجديد، من الانتصار على جيشين لهم بمعونة أهل القيروان في معركتين: معركة الأصنام على بعد مرحلة من القيروان، ومعركة القرن على بعد 6 أميال منها أواخر (124هـ/742م).
وعلى أهمية نصر جيش الخلافة بقيادة حنظلة بن صفوان، فإن ما أسفر عنه لم يتجاوز تخليص المغرب الأدنى أو إفريقية من الخوارج، أما بقية المغرب فبقيت بأيديهم، لأن الدولة انشغلت عقدين من السنين تقريباً بالفتن والثورات، وقُيّض لقبيلة ورفجومة الزناتية الخارجية (وهم من أتباع الصفرية) أن تحتل القيروان عام 139هـ/756م، ثم انتصرت قبيلة هوّارة (الإباضية المذهب) بقيادة أبي الخطّاب على قبيلة ورفجومة، وتأتّى لها أن تؤسس دولة إباضية تضم طرابلس وتونس والمقاطعة الشرقية من الجزائر، وبذلك زال بعض الوقت نفوذ الخليفة العباسي في إفريقية، على أن الأمازيغ ما لبثوا أن فقدوا ما غنموه بسبب انقسامهم المستمرّ، وكان ذلك إثر قدوم جيش من الشام وهزيمته لجيش أبي الخطّاب، فعادت إفريقية مرة أخرى إلى حوزة الخلافة العباسية عام (144هـ/761م)، لكنهم لم يتمكنوا من بسط سيطرتهم التامة على المغرب الأدنى إلا بعد أربعين سنة من المعارك الدامية التي بلغ عددها ثلاثمئة معركة، في رواية ابن خلدون. أما المغرب الأوسط والمغرب الأقصى فلم يدينا لهم بالولاء، بل تأسست في مختلف أرجائه دولة مستقلة عن الخليفة العباسي، تولّى الحكم فيها أمراء من أصل عربي، ورعاياها من الأمازيغ: ذلك هو شأن مملكة تيهرت (144- 296هـ/761- 908م) التي أسّسها الإمام ابن رستم، مستعيناً في ذلك بمن بقي على قيد الحياة من الإباضيين الفارين من المغرب الأدنى، والملتجئين إلى المغرب الأوسط، ومملكة سجلماسة التي تولّى الحكم فيها بنو مدرار (155- 366هـ/772- 977م) ومملكة تلمسان التي أسسها أبو قرة، شيخ بني يفرن، ومملكة نَكَّور في الريف بالمغرب الأقصى، ودولة بَرَغواطة على ساحل المحيط الأطلسي، ودولة الأدارسة التي أسسها إدريس الأوّل، من نسل الإمام علي بن أبي طالب في نهاية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، بمساعدة القبائل الأمازيغية (مكناسة، سدراتة، زوّاغة).
لم يعترف من دول الشمال الإفريقي بسلطان العبّاسيين سوى دولة الأغالبة شبه المستقلّة (184-296هـ/800- 909م) التي عمد أمراؤها إلى تجنيد الأمازيغ لفتح صقلّية، إلا أن الأغالبة اضطّروا إلى إخماد حركات تمرّد كثيرة قام بها أهالي طرابلس والجنوب التونسي والزاب والحضنة في الجزائر، لأن مقاومة الأمازيغ للعرب لم تضعف عما كانت عليه،بل توافر لها من القوة ما مكنها من تحقيق النصر لمذهب الشيعة مع مخالفتها التامّة لمذاهب الخوارج التي كان الأمازيغ قد انتصروا لها في القرن السابق. فقد أمدت قبيلة كتامة الداعي أبا عبد الله الشيعي بالجند الذين حاربوا الأغالبة وأسسوا الدولة الفاطمية القوية بزعامة عبيد الله المهدي سنة 297هـ/910م.
ولم يتمكن الفاطميون من إخضاع جميع الأمازيغ المنتشرين في رقعة جغرافية واسعة، ولئن تمكنوا من القضاء على مملكة تيهرت فإنهم عجزوا عن منع الأدارسة من توطيد حكمهم في المغرب الأقصى، ولم يفلحوا في ضم قبيلتي مغراوة وزناتة إلى صفّهم، لتفضيلهما الولاء لبني أمية المستقرّين بالأندلس. كما اضطر الفاطميون إلى إخماد ثورة الخوارج التي قام بها أبو يزيد (332- 336هـ/943- 947م)، لأنها كانت خطراً على نفوذهم، ولم يتغلبوا عليهم إلاّ بفضل مؤازرة صنهاجة بالمغرب الأوسط. وما لبث الفاطميون أن تحولوا صوب المشرق، ولم يكد الخليفة المعز لدين الله يوطد حكمه في مصر (362هـ/973م) حتى انصرف عن الاهتمام بشمالي إفريقية حيث تجدد النزاع بين مختلف القبائل الأمازيغية، من غير أن يتوافر لأي منها القوة التي تمكّنها من السيطرة على غيرها.
أمّا في شرقي البلاد، فإنّ صنهاجة التي أخذت مكان كتامة، ساندت بني زيري، حُكّام إفريقية وطرابلس (362- 563هـ/973- 1167م). وأمّا في غربي البلاد، فقد انتقل الحكم إثر سقوط الأدارسة في المغرب إلى بني زناتة الذين كانوا في أول الأمر ولاة تابعين لبني أمية في الأندلس، ثم نصبوا أنفسهم أمراء مستقلين في فاس واستمروا على هذه الحال إلى حين وصول المرابطين إلى الحكم (455هـ/1063م).
وفي بداية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي تجزأت دولة بني زيري، فظهرت في المغرب الأوسط الدولة الحمادية التي دان أمراؤها بالولاء للخليفة العباسي في بغداد، واتخذوا القلعة ثم بجاية عاصمة لهم (405- 547هـ/1014- 1152م). ثم عمت الفوضى البلاد بسبب اشتداد الصراع بين الأمازيغ، وتفاقم الوضع باجتياح قبائل بني هلال البلاد في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، وتخريبهم لإفريقية وجزء من المغرب وتأثيرهم العميق في التركيب السكاني لإفريقية الشمالية.
وفي غمرة هذه الفوضى انتهجت أسرتان من الأمازيغ المرابطين والموحدين منهج الإصلاح الديني، وأسستا دولتين هما دولة المرابطين ودولة الموحدين، نجحت كل منهما في توطيد سلطانها في شمالي إفريقية. والحقيقة أن انتصار المرابطين هو في الوقت نفسه انتصار لقبائل لمتونة ومسوفة وجدّالة، التي كانت في ذلك الحين تعيش عيشة البداوة والترحّل فيما بين المغرب الأقصى الساحلي وضفاف نهري السنغال والنيجر. وقد اعتنقت الإسلام في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، غير أنه لم يكن لها منه سوى الاسم، إلى أن أخذت تعاليم هذا الدين الحنيف وشعائره من الإمام عبد الله بن ياسين مؤسس طائفة المرابطين، المتوفى سنة 451هـ/1059م. وقد أخذت دولة المرابطين الفتية على عاتقها القيام بالدعوة لهذا الدين في المناطق المأهولة بالسودان بقيادة أبي بكر بن عمر اللمتوني وفي الساحل المراكشي بقيادة يوسف بن تاشفين. وسرعان ما توسعت فتوحات المرابطين في هذه المناطق وتجاوزت تلك الحدود. وقد تأتّى ليوسف بن تاشفين أن يؤسّس مدينة مراكش (465هـ/1073م) وأن يُخضع المغرب الأقصى كلّه في بضع سنوات، وكذا المغرب الأوسط إلى حدود مملكة بني حماد، كما أنه أوقف زحف جيوش النصارى في الأندلس عندما هزمها في معركة الزلاقة (479هـ/1086م)، وأعاد توحيد الأندلس بعد أن أخضع ملوك الطوائف وظلّ سيّد الموقف فيها.
وكما كانت انتصارات المرابطين سريعة فكذلك كانت هزائمهم، إذ استنفدت تلك الانتصارات قوى الأمازيغ وكشف احتكاكهم بحضارة متفوقة على حضارتهم عن نقائصهم وفتَّ من عَضُدهم، فاختفى بربر الصحراء واضطر خلفاء المرابطين إلى التعويض عن الأمازيغ بتجنيد العبيد والمرتزقة من النصارى. ومن ناحية أخرى فإن المرابطين أخذوا يفرّطون في الدين ويثيرون بسلوكهم استياء المتشددين من المسلمين، وهذا ما حدا بالمَصَامِدة (المقيمين في الأطلس الأعلى) الذين تأثروا بدعوة ابن تومرت[ر] ومذهبه التوحيدي، إلى الثورة على المرابطين تحت إمرة قائد عظيم يدعى عبد المؤمن من قبيلة «كومية»، وتغلّبوا عليهم (541هـ/1147م).
كانت الدولة التي أنشأها الموحّدون أكثر اتساعاً من الدول السابقة، لأن عبد المؤمن، وإن لم يوفّق في إخضاع الأندلس بأكملها، إلا أنه استطاع أن يقضي على مملكة بني حمّاد في بجاية ومملكة بني زيري في إفريقية، وأن يطرد النصارى من الثغور (الموانئ) التي استولوا عليها، وأن يسيطر على سائر المناطق الممتدّة بين خليج سرت والمحيط الأطلسي. وبذلك قامت دولة أمازيغية عظيمة احتلّت كامل المنطقة الواقعة في شمالي إفريقية، ولكن سرعان ما تقوّضت هذه الدولة أيضاً، لأنّ الموحّدين لم يكونوا أكثر تمسكاً بالدين الحنيف من المرابطين، حتى إن أحدهم، واسمه المأمون لعن ابن تومرت جهاراً، وما لبث التنافس بين مختلف العشائر الأمازيغية أن مزق شمل المملكة التي بناها عبد المؤمن وانقسم المغرب آنذاك إلى عدة دول فتيّة وهي: بنو مرين في فاس، وبنو عبد الواد في تلمسان، والدولة الحفصية في تونس، ولم تستطع أي دولة من هذه الدول أن تفرض إرادتها على الأخريات، أو أن تحظى بالهيبة حتى بين رعاياها فقد استمرت القبائل في المناطق الجبلية بمراكش في تمردها على بني مرين، وفي المغرب الأوسط خرج عن طاعة أمراء قسنطينة وبجاية وتونس بنو ومانو في الونشريس، والزواوة في جرجرة، والقبائليون في ولاية قسنطينة، وسكّان الميزاب والجريد، وكذلك كان الأمر في واحات جبل نفوسة والأوراس.
إن عجز الأمازيغ عن تنظيم أنفسهم ضمن دولة كبيرة واحدة أمر واضح للعيان، ولذلك يصعب على الباحث تتبع تاريخ قبائل الأمازيغ إلا إذا عمد إلى تقويم دور القبائل المختلفة، ولكن هذا العمل يبدو معقداً جداً نتيجة للتطورات والانقلاب في الأوضاع إثر اجتياح بني هلال للبلاد. ففي السهوب والهضاب اختلط الأمازيغ بالعرب، وتخلوا تدريجياً عن لغتهم وعاداتهم، بل استعاضوا عن اسمهم القديم باسم شخص عربي مشهور لعقد صلة النسب معه، وبهذه الكيفية أصبحوا من المستعربين، على أن هذا الانقلاب السكاني لم يمس بعض الفئات التي اجتمعت في الجبال المنيعة، كالأوراس وجرجة بالجزائر، والريف وجبال الأطلس بمراكش. وانضمّ إليهم هناك لاجئون كثر من مختلف الأجناس، كما نزحت بعض الفئات الأخرى منهم إلى الصحراء. وابتداءً من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي أصبح الأمازيغ يشكلون في المنطقة الواقعة على حدود السودان (الجنس الأسود) صفّاً من السكان يقابل الصفّ الذي شكّله العرب على حدود المغرب الأدنى والأوسط والأقصى. وقد صاحب هذا التدهور في الأوضاع تأخر حضاري حتى صار كثير من الأمازيغ أقرب إلى الهمجية، ولم يحتفظوا من الإسلام إلا ببعض الجوانب السطحية، وكان رجوعهم إلى الإسلام في القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي بفضل المرابطين (أي المتمسكين بالدين من نزلاء الرباطات)، الذين قيل إنهم وفدوا من جنوبي مراكش ومن الساقية الحمراء التي اشتهرت لدى العامة بأنها موطن الأولياء الصالحين. وقد بلغ من تأثير هؤلاء أن طائفة من القبائل الأمازيغية كانت جد حريصة على وصل نسبها بهم.
تعليق