التخيل والحدس
قبل أن ننظر في العملية الإبداعية نظرة متعمقة يجب علينا أن نناقش بعض المفاهيم الأخرى التي كثيراً ما تذكر مقترنة بالإبداع . ومن هذه المفاهيم التخيل والحدس ان لكلمة تخيل عدداً من المعاني المختلفة. وهكذا فنحن نستطيع القول : اني أستطيع تخيل الشكل الذي سيكون لهذا البيت حين يتم بناؤه . أو « تخيل ما كان عليه المحاربون العرب في وقعة القادسية وفي هاتين الحالتين فإننا نعني بالتخيل تصور أمور غير موجودة أمام العين مما حدث في الماضي أو سوف يحدث في المستقبل ومعنى ذلك القدرة على تكوين صور أو مفاهيم عقلية لأمور أو أشياء لم يختبرها الانسان . اننا نستحضر في أذهاننا لا الأشياء الممكنة فحسب بل والأشياء أو الحوادث البعيدة عن الواقع الحالي والتي هي ببساطة أمور خلقها خيالنا وهكذا ففي عز الشتاء ونحن جالسون الى الموقد الذي تستعر فيه النار نستطيع أن نطير بخيالنا الى أرض تسطع فيها الشمس وينتشر الدفء وتزدهر الأشجار . اننا اذ نفعل ذلك نستعمل خيالنا في ما يسميه العلماء بحلم يقظة . ولا شك في ان المسافة غير بعيدة بين حلم اليقظة وبين الهلوسة أو بين الحلم العادي حيث تعمل مخيلاتنا .
وثمة استعمال آخر لكلمة ( تخيل ) وذلك حين نتحدث عن يفكرون تخيلياً ، أو أطفال يلعبون بخيال خصب نقول عن مقال انه « كتب بروح تخيلية » . ونحن نعني بذلك ان الأمور جرت بشيء من الاختراع وان كنا لا نوافق على المبالغة في الاختراع وذلك حين نقول « ان خیال فلان جمح به بدلاً من أن نقول « انه يكذب أضف الى ذلك كله اننا نصف الإبداع الفني بالتخيل ونعني بذلك الابتكار والخلق .
والحق ان مصطلح « التخيل» يعني دوماً تجاوز الحقائق المعطاة . وهكذا ففي حالة الطفل (غوس ) فإن الجمع ، مجرد جمع الأرقام ، لم يكن عملاً فيه تخيل . ولكن اكتشاف ما وراء هذه الأرقام من علاقة كان عملاً تخيلياً وبالتالي إبداعياً. ان ( برونر ) يقترح استعمال مصطلح الفعالية الصورية Formal Effectiveness ليصف ما فعله (غوس) انه ينحصر في تنظيم العناصر بحيث يتمكن الانسان من رؤية العلاقات التي لم تكن بينة من قبل وتجميعها بصورة لم تكن موجودة » . وبالرغم من قدرتنا على تخيل الأشياء غير الحقيقية فإن هذه الأشياء تكون في الواقع متصلة بطريقة أو بأخرى بأجزاء من عالمنا الواقعي . ومن الظاهر ، مثلاً ، ان اللوحات التي رسمها الفنانون الألمان للأراضي المقدسة كانت تشبه في تفاصيلها والى كبير ما كان موجوداً في ألمانيا ذاتها .
ويبدو للوهلة الأولى انه من السهل القول بالتضاد بين التفكير المنطقي المنتظم وبين التفكير الخيالي. ففي التفكير النظامي يكون الهدف والمشكلة والطريقة معرفة بوضوح كما تكون العملية مدروسة ومنهجية ، وتكون المشكلة أخيراً مما يمكن للمفكر أن يفكر فيه . ومثل هذا التفكير النظامي يطبق في المواقف التي يمكن فيها وضع الخطط وحيث يكون عدد المتحولات والفرضيات محدوداً . أما التبصر فيحدث في حل المشكلات المحيرة ويكون مصحوباً ببزوغ غير المتوقع وذلك بالبداية بشعور بالاحباط ثم محاولة التوحيد ومشاعر الاندهاش وأخيراً الانكشاف والإنجاز .
إن ( هتشنسون Hutchinson ١٩٤٩ ) يعتبر ان هذين الانموذجين هما نهايتا مقياس للتفكير. ويوافقه ( بارتلت Bartlett ١٩٥٨ ) فيفترض وجود أنواع من التفكير موزعة على مدى معين، ويسمي نهايتي هذا المدى التفكير ضمن أنظمة مغلقة ، التفكير المغامر » . وقد يغرى الانسان بأن يوحد بين التفكير المتخيل أو المتبصر وبين التفكير المغامر من جهة وبين التفكير النظامي ( الذي تنقصه المسحة التخيلية ) وبين التفكير وفق أنظمة مغلقة .. ولكن هذا التوحيد غير دقيق ولا مضبوط .
إن التحليل الدقيق يرينا ان التفكير المتخيل هو في الواقع جزء هام من التفكير ضمن أنظمة مغلقة وان الفرق الأهم بين التفكير النظامي والتفكير المتخيل هو فرق في حجم الخطوة التي يجب على المفكر أن يخطوها نقول هذا بالرغم من وجود فروق أخرى من مثل مستوى الوعي الذي تحدث فيه محاولة الحل، علماً بأن التحقق من الحل وضبطه بالوقائع يستلزم بالطبع اللجوء الى التفكير النظامي .
وثمة طريقة أخرى في النظر الى التمييز بين التفكير الروتيني النظامي وبين التفكير المبدع ، وذلك باعتبار الأول متصفاً بالوصول الى استجابات شائعة في حين ان الثاني يتوصل الى استجابات غير شائعة ولا مألوفة ولكن هذه النظرة تعجز - كما هو واضح عن بيان كنه التخيل المبدع ( مالتزمان - Maltzman ١٩٥٥ ) .
واذا عدنا الى بارتلت نجد انه يضع في إحدى نهايتي مقياس التفكير التفكير ضمن أنظمة مغلقة ، وفي النهاية الأخرى و التفكير المغامر الذي يمثل عليه بالتفكير التجريبي وفي تفكير الفنان . وهو يصف التضاد بين الاثنين على النحو التالي :
المفكر في النظام المغلق يكون في وضع يتأمل فيه بناء منتهياً . وفي كثير من الأحيان يكون البناء معقداً الى حد بعيد ومدروس وتكون قواعد بنائه صعبة التقدير . ومع ذلك فإن المفكر يكون في وضع مشاهد يبحث عن شيء يعتبره موجوداً دوماً ... أما المفكر التجريبي فهو في وضع شخص يجب يستعمل كل ما يقع تحت يده من أدوات ليكمل بناء لم يكتمل بعد ولن يستطيع هو نفسه أن يكمله .
في التفكير التجريبي أو المغامر تصبح الهوى أوسع والبناء أكثر تخلخلاً وتتحول المهمة الأهم من حل المشكل الى صياغته على أحسن وجه ممكن أو الى طرح الأسئلة الصحيحة . ومع ان ثمة مزيداً من الحاجة والمدى للتخيل في التفكير المغامر فإن التفكير التخيلي يمكن أن يحصل في كثير من المجالات والسياقات .
قبل أن ننظر في العملية الإبداعية نظرة متعمقة يجب علينا أن نناقش بعض المفاهيم الأخرى التي كثيراً ما تذكر مقترنة بالإبداع . ومن هذه المفاهيم التخيل والحدس ان لكلمة تخيل عدداً من المعاني المختلفة. وهكذا فنحن نستطيع القول : اني أستطيع تخيل الشكل الذي سيكون لهذا البيت حين يتم بناؤه . أو « تخيل ما كان عليه المحاربون العرب في وقعة القادسية وفي هاتين الحالتين فإننا نعني بالتخيل تصور أمور غير موجودة أمام العين مما حدث في الماضي أو سوف يحدث في المستقبل ومعنى ذلك القدرة على تكوين صور أو مفاهيم عقلية لأمور أو أشياء لم يختبرها الانسان . اننا نستحضر في أذهاننا لا الأشياء الممكنة فحسب بل والأشياء أو الحوادث البعيدة عن الواقع الحالي والتي هي ببساطة أمور خلقها خيالنا وهكذا ففي عز الشتاء ونحن جالسون الى الموقد الذي تستعر فيه النار نستطيع أن نطير بخيالنا الى أرض تسطع فيها الشمس وينتشر الدفء وتزدهر الأشجار . اننا اذ نفعل ذلك نستعمل خيالنا في ما يسميه العلماء بحلم يقظة . ولا شك في ان المسافة غير بعيدة بين حلم اليقظة وبين الهلوسة أو بين الحلم العادي حيث تعمل مخيلاتنا .
وثمة استعمال آخر لكلمة ( تخيل ) وذلك حين نتحدث عن يفكرون تخيلياً ، أو أطفال يلعبون بخيال خصب نقول عن مقال انه « كتب بروح تخيلية » . ونحن نعني بذلك ان الأمور جرت بشيء من الاختراع وان كنا لا نوافق على المبالغة في الاختراع وذلك حين نقول « ان خیال فلان جمح به بدلاً من أن نقول « انه يكذب أضف الى ذلك كله اننا نصف الإبداع الفني بالتخيل ونعني بذلك الابتكار والخلق .
والحق ان مصطلح « التخيل» يعني دوماً تجاوز الحقائق المعطاة . وهكذا ففي حالة الطفل (غوس ) فإن الجمع ، مجرد جمع الأرقام ، لم يكن عملاً فيه تخيل . ولكن اكتشاف ما وراء هذه الأرقام من علاقة كان عملاً تخيلياً وبالتالي إبداعياً. ان ( برونر ) يقترح استعمال مصطلح الفعالية الصورية Formal Effectiveness ليصف ما فعله (غوس) انه ينحصر في تنظيم العناصر بحيث يتمكن الانسان من رؤية العلاقات التي لم تكن بينة من قبل وتجميعها بصورة لم تكن موجودة » . وبالرغم من قدرتنا على تخيل الأشياء غير الحقيقية فإن هذه الأشياء تكون في الواقع متصلة بطريقة أو بأخرى بأجزاء من عالمنا الواقعي . ومن الظاهر ، مثلاً ، ان اللوحات التي رسمها الفنانون الألمان للأراضي المقدسة كانت تشبه في تفاصيلها والى كبير ما كان موجوداً في ألمانيا ذاتها .
ويبدو للوهلة الأولى انه من السهل القول بالتضاد بين التفكير المنطقي المنتظم وبين التفكير الخيالي. ففي التفكير النظامي يكون الهدف والمشكلة والطريقة معرفة بوضوح كما تكون العملية مدروسة ومنهجية ، وتكون المشكلة أخيراً مما يمكن للمفكر أن يفكر فيه . ومثل هذا التفكير النظامي يطبق في المواقف التي يمكن فيها وضع الخطط وحيث يكون عدد المتحولات والفرضيات محدوداً . أما التبصر فيحدث في حل المشكلات المحيرة ويكون مصحوباً ببزوغ غير المتوقع وذلك بالبداية بشعور بالاحباط ثم محاولة التوحيد ومشاعر الاندهاش وأخيراً الانكشاف والإنجاز .
إن ( هتشنسون Hutchinson ١٩٤٩ ) يعتبر ان هذين الانموذجين هما نهايتا مقياس للتفكير. ويوافقه ( بارتلت Bartlett ١٩٥٨ ) فيفترض وجود أنواع من التفكير موزعة على مدى معين، ويسمي نهايتي هذا المدى التفكير ضمن أنظمة مغلقة ، التفكير المغامر » . وقد يغرى الانسان بأن يوحد بين التفكير المتخيل أو المتبصر وبين التفكير المغامر من جهة وبين التفكير النظامي ( الذي تنقصه المسحة التخيلية ) وبين التفكير وفق أنظمة مغلقة .. ولكن هذا التوحيد غير دقيق ولا مضبوط .
إن التحليل الدقيق يرينا ان التفكير المتخيل هو في الواقع جزء هام من التفكير ضمن أنظمة مغلقة وان الفرق الأهم بين التفكير النظامي والتفكير المتخيل هو فرق في حجم الخطوة التي يجب على المفكر أن يخطوها نقول هذا بالرغم من وجود فروق أخرى من مثل مستوى الوعي الذي تحدث فيه محاولة الحل، علماً بأن التحقق من الحل وضبطه بالوقائع يستلزم بالطبع اللجوء الى التفكير النظامي .
وثمة طريقة أخرى في النظر الى التمييز بين التفكير الروتيني النظامي وبين التفكير المبدع ، وذلك باعتبار الأول متصفاً بالوصول الى استجابات شائعة في حين ان الثاني يتوصل الى استجابات غير شائعة ولا مألوفة ولكن هذه النظرة تعجز - كما هو واضح عن بيان كنه التخيل المبدع ( مالتزمان - Maltzman ١٩٥٥ ) .
واذا عدنا الى بارتلت نجد انه يضع في إحدى نهايتي مقياس التفكير التفكير ضمن أنظمة مغلقة ، وفي النهاية الأخرى و التفكير المغامر الذي يمثل عليه بالتفكير التجريبي وفي تفكير الفنان . وهو يصف التضاد بين الاثنين على النحو التالي :
المفكر في النظام المغلق يكون في وضع يتأمل فيه بناء منتهياً . وفي كثير من الأحيان يكون البناء معقداً الى حد بعيد ومدروس وتكون قواعد بنائه صعبة التقدير . ومع ذلك فإن المفكر يكون في وضع مشاهد يبحث عن شيء يعتبره موجوداً دوماً ... أما المفكر التجريبي فهو في وضع شخص يجب يستعمل كل ما يقع تحت يده من أدوات ليكمل بناء لم يكتمل بعد ولن يستطيع هو نفسه أن يكمله .
في التفكير التجريبي أو المغامر تصبح الهوى أوسع والبناء أكثر تخلخلاً وتتحول المهمة الأهم من حل المشكل الى صياغته على أحسن وجه ممكن أو الى طرح الأسئلة الصحيحة . ومع ان ثمة مزيداً من الحاجة والمدى للتخيل في التفكير المغامر فإن التفكير التخيلي يمكن أن يحصل في كثير من المجالات والسياقات .
تعليق