ملاحقة بَصًرية لخزائن بلورات الضوء
قراءة لمرئيات استثنائية
• خليل الطيار
الجزء الخامس
" التجريد والاكتساء البَصًري "
ثالثا
سيِمِياء القدم و الماء واليابسة
(مغادرة الماء للغرق برا)
مرئيتان لطارق العساف وسعد سالم
"نحن لا نريد الشكل وإنما الوظيفة" بول كيلي
رمز الافتتاح
يدرس علم (السيميوطقيا) ومرادفه علم (السيميولوجيا) * انساق الرموز والإشارات والأيقونات وفق نظم تأويلية، يتعقبون دلالاتها ومدلولاتها في مواطن النصوص السردية، سواء المكتوبة منها، أو تلك التي تظهر مشخصة بصريا. فقد ظهرت العلامات "السيميائية" سواء المنطوقة أو المرئية أو المصنعة، لتدلل عن معنى محدد. فمذ بدأ الإنسان الأول يفكر بكيفية التخاطب مع الآخر، ولدت حاجته لابتكار وسيلة تواصلية، كانت أدواتها الأولى الأصوات والإشارة بالحركة، ورسم الرموز، والإيحاء بأشكال الحيوانات. أو التدليل عن الوقت بأيقونات الطبيعة، ( الشمس- القمر- النجوم) كمحمولات لمعان يراد الإفصاح عنها في سياق متصل. وعُد ذلك أول مؤشر لصيرورة اللغة، وجدت آثارها في الرقم والألواح الطينية، ومدونة بالكتابات السومرية (المسمارية) والمصرية (الهيروغليفية) والصينية القديمة (التشو والهان) كأقدم لغات التاريخ البشري.
"السِيمِياء" لم تفارق متون الفنون "التشكيلية" بعموم ألوانها، وشكل وجودها مقاربة "علاماتية" فاعلة في "الفوتوغرافيا"، كأحد أجناس السرديات، تعتمد لغتها على مجموعة عناصر دلالية في سطوحها، سواء ظهرت بصورة مباشرة أو تماهت مبطنة في محمولات نصوصها.
هذه المقدمة نسوقها للحديث عن نصين بَصًريين اعتمد خطابهما على توظيف دلالة العلامات وتحديداً، ثلاثية القدم- الماء- اليابسة.
في هذا الجزء من دراستنا سنعمل على إيجاد مقاربة تحليلية لإيضاح الكيفيات التي اشتغل عليهما "طارق العساف و"سعد سالم" في توظيف رمزية هذه العلامات في مرئيتين احتوت جمالياتهما على الكثير من القيم التأويلية، نحاول تفكيك مداليلها المشتقة من متونهما البَصًرية.
دالة الأقدم ومدلولها
اكتسبت "الأقدام" تجليا ملفتا في الفكر الدلالي، كشاهد قوي وصريح لا يقبل الدحض عن وجود الحياة، وشغلت علامتها مساحة في النصوص والتحليلات الأدبية، واعتمدت كمصدر قوي في علم التحليل الجنائي، وعلم التنقيب الآثاري. فمذ أن مشت الكائنات على السواء تركت آثارها على الأرض مدللة عن وجودها، ومبرهنة عن اتجاهات خطواتها، وكاشفة عن عمرها ووزنها وجنسها.
وتجلت علامة "الإقدام" كأحفورة تاريخية، ظهر نموذجها الأمثل في قدمي نبينا "إبراهيم" عليه السلام، تدليلا لفاعلية بنائه الكعبة المشرفة، وإشارة لدعوته التوحيدية، ليستدل عباديا بآثار أقدامه في "مقام إبراهيم"، كأحد أركان العلامات الشاخصة بَصًريا في شعيرة الحج...
واتخذت رمزية "القدم" تشهيدا دقيقا على قدرة الإنسان لقهر المستحيل، وتمكنه من اقتحام الفضاء الخارجي، لتختزل بها كاميرا "هازلبلاد" كل قصة هذا المنجز، عندما التقطت أثر قدم أول رائد فضاء نزل على سطح القمر، وارسلتها إلى الأرض، لتصبح أقوى أيقونة مرئية تعبيرا عن تقدم الإنسان المعاصر. وما تزال آثار "الأقدام" تشكل علامة "سيميائية" تختزل وجود الإنسان وتكشف عن فاعلياته، وأن غاب عن المكان. وبناء على ما تقدم لنتساءل: كيف تعاطى "طارق العساف وسعد سالم" مع علامة "القدم"؟ وما هي الدلالات التي تركته تأويلات نصوصهما السردية؟ هذا ما نسعى للإجابة والاستدلال عنه.
اولا :
(الغرق براً ، مرئية لطارق العساف)
ماء الحياة ويابسة الموت
يربط الفيلسوف "تشارلز بيرس" تأويلاته "السيميائية" بجميع مظاهر الكون، ويتخذها "أداة تقرأ بها كل مظاهر السلوك الإنساني من انفعالات وطقوس اجتماعية، وصولا عند الأنساق الأيديولوجية الكبرى"(1).
يضعنا التنظير "البيرسي" للعلامة أمام منحنى تأويلي استند عليه أولا "طارق العساف" في مرئيته وأنشأ مكوناتها الجمالية على نسق علاماتي، متوقفا عند مشهد بَصًري "سيميائي" بامتياز، قسم توازنه في ثلاثة مستويات، وضع في مقدمته آثارا لأقدام إنسان خرجت للتو من الماء متجهة نحو اليابسة. وترك في الوسط كتلة مائية لشاطئ ما زال يحتفظ بامتداد آثر الأقدام التي انطلقت منه. وثبت في أعلى مرئياته حيزاً صغيراً لسماء ملبدة توشك أن تفصح عن فعل ما!
مخاض العلامات ومداليلها
يغلب طابع "التشاؤم" على مناخ مرئية "طارق العساف" تمثل في قصدية تسلسل مخاضات مثلثها السيميائي؛ مخاض بمساحة كبيرة لعلامة الأرض، التي يبست وتشققت لتصبح دالة لدفن الحياة. ومخاض لعلامة الماء كدالة لابتعاث الحياة. ومخاض السماء التي تشكلت دالة حمولتها بوجه أسود مكفهر ظل يحتفظ بمدلول مخبوء، لا يفصح عن إرادة هطول أمطار تزيل ملوحة الأرض لتبعث فيها حياة مخضرة من جديد. ولا ينبأ عن حبس للغيث، قد يتسبب بقحط ويبس للأرض.
هذه العلائق "السيميائية" الثلاث، بدأ "العساف" صريحاً في تحديد موقفه المتشائم من نتائج مخاضاتها، وبرهن على ذلك من خلال مخالفة قواعد توازنات التكوين في كادره البَصًري ليركز اهتمامه على إعطائنا دلالة قصدية لأسباب هذا التفاوت في نسب توزيع حجوم علاماته الثلاثة. ابتدأها من الأعلى للأسفل ليقودنا تدريجيا نحو خيار القناعة بنتيجة مدلولات سرديته، فعمل على حصر مخاض سمائه بحيز مقتضب، بالكاد تستطيع التعبير فيه عن هوية حملها! وبمخالفة أخرى، ترك لعنصر الماء مساحة وسطية أظهرها بلون أزرق، مانع عنها شرط فيزيائية انعكاس لون السماء السوداء عليها! ليدعها تحتفظ برغبة منح الإنسان أملا للبقاء في الحياة، طالما أبقى أثرا ممتدا يطهر أقدامه فيها!
هذا الانحدار المتدرج، تقصده "طارق العساف" لإيصالنا إلى تقبل مخاض مدلول مساحة أرضه اليابسة، فترك حجمها وتأثيرها اللوني القاني يبسطان نفوذا قويا، لجذبنا وتوقفنا عند علامتها. ملوحا بأدلجة مصير إنسانه الغائب، عندما قرر إخراج أقدامه من مساحة الماء، (علامة الحياة) متجها نحو مساحة ارض يابسة متشققة، (علامة الموت) وليس العكس! كقرار منطقي، لا بد ان نجْر فيه أقدامنا نحو مساحة الماء لنرتمس فيه تطهر من عطش الأرض المجدبة. لكن هذه المغايرة في قصدية مفهوم علامته، أراد بها "طارق العساف" التدليل على حتمية نتائج قرار خروج إنسانه من دالة الماء نحو دالة اليابسة ليذهب إلى مصير مجهول تقل فيه تدريجيا فرص النجاة! وحتى لا يعطي أي فرصة لانتزاع مدلول آخر، استعان بعنوان دلالي مباشر لمرئيته هو (الغرق في البر)! ليربطنا نهائياً بمعنى صريح لا يقبل أي تأويلٍ آخر لمداليل علاماته الثلاثة الفاعلة.
ثانيا:
(أحفورة رملية لسعد سالم)
تحجر بلل الأقدام
بالعودة إلى المفاهيم " البيرسية " تعد العلامات "بمثابة نسيج من الأدلة التي تحيل على أدلة أخرى، بطريقة تراجعية غير منتهية وتقوم على المؤول كأساس محوري تنبني عليها العلامة، وهو لا يقصد منه الدلالة البسيطة، بل هو لحظة تفكير تنطلق من مقدمات منطقية، وتصبح الدلالة في حاجة دائمة إلى الفهم بطريقة دلالية" *(2) من هذا المفهوم سنحاول تعقب الأثر الدلالي وتأويله في واحدة من أكثر الأعمال التجريدية التي حققها المصور "سعد سالم"، وبيان كيفية توظيف سمتها "سيميائيا" باعتماد أثر القدم كأساس محوري لبناء متنها. لكن من دون الاكتفاء بتشخيص مدلولاتها المجردة، بل باعتبارها مقدمة للتلقي بطريقة "تراجعية" لمعرفة أسباب تعقب الأثر، واستيضاح المؤشرات العامة المحيطة بتشكله بهذه الكيفية، والدوافع النفسية الخاصة التي جالت في لحظة انطلاق تفكير المصور للتماهي مع علامتها مرئيا.
الدليل لا التدليل
بالعودة إلى مفاهيم السيمولوجيين "الذين يعتبرون الدليل مجرد أداة تواصلية تؤدي وظيفة التبليغ وتحمل قصدا تواصليا. وهذا القصد التواصلي حاضر في الأنساق اللغوية وغير اللغوية*(3). "سعد سالم" في مرئيته لم يسع إلى إعطاء دليل (القدم) نسق أيديولوجي لمخاض علامتها، فهو لم يرغب بالتدليل عليه بدليل آخر، قد يشكل ثنائية تأويلية يعقد مسار فهم مغزاها، كما فعل" طارق العساف "في مرئيته عندما قام باستحضار مجموعة علامات تشكلت في نسق علائقي "سيميائي" أفضت إلى تأويل واضح لسياقات مدلولاتها وهي مجتمعة. بينما اكتفى "سعد سالم" بتسجيل شكل لعلامة مجردة كأداة تبليغ، قبل أن يتفاعل معها مرئيا كأثرٍ دلالي، يحمل قصداً تواصلياً مع إنسان غاب وترك سيرة مجهولة على أرض رملية ميتة رغم اقترابها من حافة الماء!".
كما تعامل مع علامة (قدمه) وفق رؤية "رولان بارت" في كتابه "عناصر السيميولوجيا" والتي خالف فيها مرادفيه "السيميوطقيين" باعتبار أية علامة هي "دال" بَصًري يفضي تشكله إلى إنتاج معنى لغوي يدل على مدلول. وأرادنا: أن نبحث معه عن تدليل لدالته، فهو لم ينشغل بالتبليغ المباشر لعلامته كقدم، بقدر اهتمامه بوظيفة العلامة كمحفز للتدليل عن معنى مختفٍ، يترك للمتلقي اكتشاف مداليله الخاصة فيها، ولا يقصر تأويله في معنى واحد، كما تعمل العلامة المرورية مثلا.
الانعكاس النفسي للعلامة
منذ أن وضعت الحرب أوزارها، بقيت العدسة " الموصلية " يكتنفها هاجس تمثيل فكرة (الغياب) وهي فكرة "فرويدية" شكلت انعكاساً نفسياً في نتاج المصورين "الموصلين"، وتبلورت عندهم في هواجس غياب علامة الإنسان والمكان والطبيعة، وغياب للحياة والأمان والحب والحرية. هذه "الغيابات" بدأت تظهر هواجسها في أغلب أعمالهم المنتجة ما بعد سنوات الحرب، كسمة شاخصة بوضوح كما في سرديات بصرية لأنور درويش، انعكست فيها علامة "الكراسي" كعلامة غياب لجالسها، وغياب الحياة من البيوت المهدمة والمهجورة. واتضحت في أعمال تعبيرية مميزة "لمحمد الجليلي" تحسس فيها افتقار أمكنة مدينته لإنسانها المغيب، وارتحاله بعيدا. كما برزت في أعمال "مصيب محمد" التي أظهر فيها معالم موحشة لمدينته وعزلة لطبيعتها، وتعقب فيها علامات تركها إنسانه الغائب على جدران وبطون البيوت المهجورة. كما ظل هذا الهاجس يتضح في أعمال "سعد سالم" بغياب علامات المدينة التاريخية وروحها (المنائر والحمائم) ".
الاقتران الشرطي للعلامة
ما يميز سمة "القدم" في مرئية "سعد سالم" كعلامة لغياب الإنسان، هو تقصده عدم التماهي معها مرئيا كدالة صريحة، بل اختار قاعدة "بافلوف" للاقتران الشرطي عندما استخدم مؤشر التغريب لقدمه كدال لأحفورة غامضة، بالكاد يستدل عن جنسها، وتركها تكتسب معالم محيطها الرملي وتتجذر فيه، ليسيل لعابنا عن سؤال صحابها الغائب! كما لم يسمح لظهور علامة أخرى قرينة لها، قد تؤطر مدلول قدمه. وكل ما حققه ونجح فيه هو انتاج دالة تحفيزية تمنح متلقيها فرصة الاقتران بها لاستذكار من غاب عن حياته، وترك أثره ذكرى متجذرة في أرض، لن تزول أو تمحى وإن اغتسلت بمياه البحر!.
كما عمد "سعد سالم" لتعزيز اقتران مرئيته الشرطية بتركيزه على اختيار علامة ساكنة لقدم مفردة، لم يعقب تنقلاتها بآثار خطوات أخرى، قد تكشف سلوكها واتجاهها، كما فعل زميله "طارق العساف" الذي تعقب في مرئيته خطوات آثار أقدام إنسانه وهي تخرج من الماء نحو اليابسة. فما أراده "سعد سالم" هو التسبب بزيادة تحفيز أقتران متلقيه بعلامته، ويفعل ردة فعله لإثارة سؤاله الافتراضي عنها؛ قدم من هذه التي تركت يتيمة الخطوة بلا تعقب؟ فيأتي الجواب مشروطا بتفريغ ذاتي: هي حتما أقدام من غاب ولم يعد، وهي قدم الإنسان في أي زمان ومكان (رجلاً كان أم امرأة، شاباً كان أم كهلاً). ويقترن أيضا بدلالتها المتمثلة بأنفسنا وأهلينا وأحبائنا، الذين غابوا وارتحلوا بلا اتجاه، ضيعتهم فواجع الحروب واغتسلوا بمياه شواطئ أوطانهم، غسلة ارتحالهم الأخير وتركوا أثارهم عليها مجهولة بلا هوية، لتصبح من بعدهم دلالة اقتران لاستذكار تواريخ مؤلمة، تقول (إنما الناس سطور كتبت... لكن بماء)! وهي العبارة التي اختارها "سعد سالم" بدلالة لغوية عززت مدلول علامته المثبتة على أرض رملية لم يطمرها بلل الأزمنة...
حتمية رحلة الأقدام
"سيِمِياء" بَصًرية أبدع تشكيل دوالها ومدلولاتها "مرئيان كبيران هما "طارق العساف وسعد سالم" وقدما عملين "سيميائيين"حملا رسائل واقعية ومبطنة تحيط بحتميات مجهولة لمصايرنا، عندما ندر ظهورنا بعيداً عن إرادة السماء والحياة نخالف مشيئتهما، ونعبث بمساراتهما الطبيعية، عندما نقرر إخراج أقدامنا من مياه شواطئ حياتنا المتبقية نترك عند حافاتها آثارنا بلا هويات، فتكون النتيجة غيابات قسرية نتوه فيها بأرض يبَِسٍ، تتشقق وتترمل من أثر ذنوبنا، لندفن فيها بلا شواهد.
المفاهيم
* إذا كان مصطلح (السيميولوجيا) Sémiologie يرتبط بتنظير العلماء الفرنسيين وبكل ما هو نظري بفلسفة الرموز وعلم العلامات والأشكال في صيغتها التصورية العامة، فإن اصطلاح (السيميوطيقا) Sémiotique ارتبط بتنظيرات الفلاسفة الأمريكان وحصرها العلماء وفي مقدمتهم دي سوسير وتشارلس بيرس بما هو نصي وتطبيقي وتحليلي. ومن هنا يمكن الحديث عن سيميوطيقا المسرح وسيميوطيقا الشعر وسيميوطيقا السينما. وعندما نريد الحديث عن العلامات علميا أو نظريا أو تصوريا نستخدم كلمة السيميولوجيا Sémiologie. ومن أبرز منظريها رولان بارت وامبرتو ايكو (تعاريف من ويكيبيديا)
المراجع
*1 (ذرائعيةُ تشارلز ساندرس بيرس التأويلية: بحث في العلامة و أنماط إنتاج المعنى سيميائيا) الكاتب "الوافي سامي" - مجلة قراءات. مجلد 11- عدد ا- سنة 2019
*2 (العلامة والتأويل عند بيرس) المؤلف/ كريمة بالخامسة / مجلة سيميائيات – مجلد9- العدد1 سنة 2019.
*3 الاتجاهات السيميوطيقية (التيارات والمدارس السيميوطيقية في الثقافة الغربية) الدكتور جميل حمداوي