"حياة مسيو موليير" كما كتبها صاحب "المعلم ومرغريتا" في "مؤامرة الأصوليين"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "حياة مسيو موليير" كما كتبها صاحب "المعلم ومرغريتا" في "مؤامرة الأصوليين"

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	IMG_٢٠٢٣٠٧٣١_١٥٥٩٥٠.jpg 
مشاهدات:	9 
الحجم:	78.5 كيلوبايت 
الهوية:	139696
    إبراهيم العريس
    من المؤكد أن القراء الذين أثارت شغفهم ودهشتهم رواية الكاتب السوفياتي ميخائيل بولغاكوف الكبرى "المعلم ومرغريتا"، وثمنوا دائماً كونها من أعظم روايات القرن الـ20، وتفهموا عداء السلطات السوفياتية الشديد لها إلى درجة إبقائها خارج النشر عقوداً طويلة من السنين، يعرفون أن لهذا الكاتب الكبير "رواية" عنوانها "حياة مسيو موليير"، حتى من دون أن يقرأها كثر منهم. بالتالي، فإن هؤلاء قد يجهلون حكاية هذا الكتاب ولماذا وفي أية ظروف نشر، وكذلك ربما يجهلون كونه واحداً من كتب بولغاكوف القليلة التي لم تعان مشكلات مع الرقابة، وربما يمكن القول إن عدم المعاناة تلك كانت هي التي بخست من قيمة "حياة مسيو موليير"، جاعلة القراء يعتقدون أن الأمر لا يعدو في النهاية كون الكتاب سيرة أخرى لصاحب "طرطوف" و"مريض الوهم" كتبها بولغاكوف في أزمنة صعبة (بداية سنوات الـ30 حين اندلعت محاكمات موسكو التي دفع المفكرون والمثقفون كلفتها باهظة وتلت نفي وسجن وانتحار أعداد منهم ما إن استتبت السلطة في يد ستالين)، لكن الحقيقة تقول لنا إن القراء لو "غامروا" يومها بولوج تلك السيرة لوجدوا أنفسهم أمام عمل رائع حدد، منذ سطوره الأولى، قوته الإبداعية الرؤيوية في الاستناد إلى موهبة بولغاكوف الأدبية الفريدة، وهو ما سنعود إليه بعد سطور. أما هنا فلا بد أن نحكي أولاً حكاية وضع بولغاكوف لهذه "السيرة" مؤكدين أن... أجل! هي في نهاية الأمر سيرة للكاتب المسرحي الفرنسي العظيم كتبت بقلم روائي سوفياتي كبير، ولكن.
    مؤامرة أصولية ضد الفن
    ولكن... لم تكن "حياة مسيو موليير" النص الوحيد الذي كتبه بولغاكوف عن موليير، بل ربما يصح أن نقول إنه نص "تعويضي" كتبه بولغاكوف في وقت كان يشتغل على روايته الكبرى "المعلم ومرغريتا"، والتي كان عنوانها الأصلي الذي رفضته الرقابة قبل رفضها الرواية جملة وتفصيلاً، "الشيطان في موسكو"، ولعل كلمة "تعويض" على رغم ما تثيره من دهشة تنطبق أكثر ما تنطبق هنا، بالنظر إلى أن الفكرة إنما ولدت لدى مكسيم غوركي الذي كان عند مطلع العقد الثلاثيني قد عاد إلى موسكو نهائياً بعد جولات ومناف اختيارية عديدة، وقد قرر هذه المرة أن يصدر سلسلة كتب عن "حياة الكبار" تحت رعاية النظام الذي كان كما يبدو في حاجة إلى مثقفين ذوي مكانة عالمية لدعمه، وقد انهارت سمعته في العالم بسبب انتحار كبار المبدعين هرباً من تسلطه القمعي، كما بسبب المحاكمات. وكانت تلك فرصة لغوركي كي يحقق بعض مشاريعه، كما للنظام كي يستعيد بعض سمعته، بالتالي كان مشروع "حياة الكبار" فرصة "محايدة" للطرفين، ولما كان بولغاكوف واحداً من كبار الكتاب حينها رأى غوركي أن يكون الكتاب الأول في السلسلة من توقيعه، وأن يكون بالتحديد كتاباً يروي حياة موليير، ولكن لماذا موليير؟ في إجابتنا عن هذا السؤال البسيط، يكمن سر استخدامنا كلمة "تعويضي" قبل سطور.
    موليير روسيا
    ذلك أن بولغاكوف كان قبل ذلك بحين، وربما على أثر انتحار صديقه المسرحي الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي الذي أثر فيه بشكل مدهش، قد قرر أن ينقل نشاطه الكتابي إلى المسرح، وهو لما كان من أطلق ذات يوم على ماياكوفسكي لقب "موليير المسرح الروسي"، رأى من المناسب أن يكتب مسرحية تتوخى الحذر الشديد، تتناول وضعية في تاريخ المسرح العالمي يمكن أن يفهم الناس من خلالها أنه إنما يريد أن يحكي حكاية ماياكوفسكي نفسه وحكاية معاناته وآلامه، وإن بشكل مموه. وهكذا كتب تلك المسرحية التي عنونها "مؤامرة الأصوليين"، وتتناول فصلاً من حياة موليير يتعلق بكتابته مسرحية "طرطوف" تحت رعاية القصر الملكي، إذ إن تلك الرعاية لم تمنع المتطرفين والأصوليين الرجعيين من محاربة المسرحية، وهي حكاية معروفة في حياة موليير، والأهم أنها حكاية تبين كيف أن ثمة فئات رجعية في المجتمعات تحارب كل تقدم وفن اجتماعيين حتى ولو تصدت في ذلك للبلاط الملكي الجاعل من نفسه راعياً للفنون كما الحال في فرنسا موليير، ولعل المهم في مسرحية "مؤامرة الأصوليين" أن مسرحية "طرطوف" نجحت في إرباك الملك نفسه على رغم إعجابه بها وملاحظته كيف أنها تنبهه، إذ كان من المعروف أن مسرحيات موليير، كما تراجيديات كورناي وراسين، كانت تفتتح عروضها أولاً في القصر الملكي، تنبهه إلى مغبة السكوت عن النفاق الاجتماعي الذي دائماً ما كان السد المنيع في وجه التقدم والعدالة الاجتماعية. وهو كما نعرف، الموضوع الأساسي لمسرحية "طرطوف".
    اعتقاد في غير محله
    والحال أن بولغاكوف حين كتب "مؤامرة الأصوليين" مستعيناً فيها بـ"طرطوف" موليير ضد الحاشية السلطوية، كان يعتقد أن زعيم البلاد سيحب المسرحية لأنها تخدمه أولاً وأخيراً. ففي نهاية المطاف لم يكن بولغاكوف يعتقد نفسه ثورياً مشاكساً، بل مجرد مصلح يحاول اكتساب رأس السلطة لا أكثر، لكن السلطة لن ترى الأمور كما كان يراها، ومن هنا، لئن كانت سلطة سيد الكرملين قد مكنت تلك المسرحية ذات الفصول الأربعة من الوصول إلى التمارين النهائية بغية تقديمها على خشبة "المسرح الفني"، فإن الرقابة وجدت أن الوقت قد حان كي تتدخل، فتدخلت طالبة من الكاتب إحداث تعديلات فيها، وهذا ما إن أذعن حتى راحت التعديلات المطلوبة تتفاقم لينتهي الأمر بمنع المسرحية من العرض بعد أن قدمت أمسيات عدة أمام جمهور نخبوي، وهكذا دفنت تلك المسرحية، وتحديداً بأمر من الرقابة واكبه "جبن" الكاتب الذي حتى وإن وقف إلى جانبه عدد من الكتاب ولا سيما من المقربين من ستالين، فإنه هو تراجع من دون أن يتوقف عن الشكوى من ناحية، ومن ناحية أخرى عن التوسل إلى أصدقائه أن يلفلفوا الموضوع كيلا يسببوا له مزيداً من المشكلات. والحقيقة أن مواقف بولغاكوف التي ستوصف بـ"الجبانة" كانت ناتجة من كونه بدأ في ذلك الحين يبلور روايته الكبرى "المعلم ومرغريتا" ولا يرغب أبداً في المشاكسة على إصدارها فآثر التضحية بـ"مؤامرة الأصوليين" لصالح ما كان يعتبره، وعن صواب، قضية أكبر منها.
    عودة مكسيم غوركي
    والحال أن مكسيم غوركي، ومن منفاه الاختياري، كان من متابعي قضية مسرحية بولغاكوف عن موليير، وكان قد حاول التدخل لصالح زميله الكاتب الشاب، لكنه حين عاد إلى موسكو في تلك الحقبة بالذات رأى إمكانية "تعويض" بولغاكوف على جهوده المولييرية الضائعة بأن أسند إليه كتابة "حياة مسيو موليير" كنص افتتاحي لسلسلة "حياة الكبار"، لكن ما كان يرى غوركي أنه سيكون كتاب سيرة لـ"النابغة الفرنسي" الكبير سرعان ما تحول بقلم بولغاكوف إلى تحفة أدبية، ولعل قراءة مدخل تلك "السيرة" يكفي لوضعنا في مناخها العام ولإدراك أن القراء لم يجدوا أنفسهم فيها أمام سيرة عادية، ففي المدخل وبعد أن يصف بولغاكوف ولادة الطفل بوكلان (الذي سيحمل لاحقاً لقب "موليير")، ويروي لنا كيف أن القابلة حملته بين يديها بتأن يخلو من الحذر، يوجه حديثه إلى تلك القابلة منبهاً إياها إلى حقيقة ذلك الوليد الذي تنقله من مكان إلى آخر، محذراً إياها من أن من تحمله لو وقع من بين يديها وأصابه مكروه لـ"حرمت الإنسانية يا أيتها المرأة من ذلك العبقري الذي سيبدل فن المسرح وينتج لتلك الإنسانية نحو دزينتين وأكثر من الروائع الأدبية". ويمكننا أن نتصور كيف أن ميخائيل بولغاكوف (1891 - 1940) عرف في هذه الصياغة المدهشة كيف يأسر قراءه مضفياً على فن كتابة السيرة تلك اللغة الذاتية التي تضع أولئك القراء في قلب الموضوع من دون مواربة، وهو ما يمكن لأولئك القراء تلمسه سواء كان ذلك في روايات ذلك الكاتب الرائعة والتي تتسم بقدر هائل من الحداثة والاشتغال على اللغة في استعانة بالتاريخ حيناً، كما في "الحرس الأبيض" المتحدثة عن حصار كييف عام 1918، أو في "الرواية المسرحية" التي تتشارك مع "حياة مسيو موليير" في كونها تنهل من حياة المسرح وفنه كما حال سيرة موليير، أو بخاصة الاستعانة بالمخيلة وإمكاناتها القصوى في تحفة بولغاكوف "المعلم ومرغريتا" التي ستنشر للمرة الأولى بعد رحيل ستالين في سنوات الـ60 متحدثة عن ظهور شيطان ما في موسكو يتجول في أوساطها الفكرية والأدبية بلغة ومخيلة تنهلان من روائع نيكولاي غوغول على أقل تعديل.
يعمل...
X