الفردوسـي (أبو القاسم -)
(329-411هـ/940-1021م)
أبو القاسم، منصور بن فخر الدين ابن فَـرُّخ الفردوسي، نسبة إلى بستان في مدينة طُوْس اسمه الفردوس كـان لأحـد عمداء خُراسان، وكان أبو الفردوسي خادماً فيه.
لمع اسم الفردوسي بين شعراء الفرس بعد أن نظم ملحمته الشهيرة «الشاهنامة» أي كتاب الملوك. وتتفق جميع الروايات على أنه وُلِدَ في مدينة طوس التابعة لنَيْسابور من أعمال خُراسان، إلاّ أن هذه المصادر تختلف في اسمه واسم أبيه وجده. وقد نشأ في بيئة فقيرة محرومة من المال والجاه، فلم تمنعه هذه النشأة من الإقبال على العلم والعكوف على القراءة، وإجادة اللغة العربية إلى جانب الفارسية، حتى فاق أقرانه وبدت عليه أمارات النبوغ.
وتذهب بعض الروايات إلى أن الفردوسي أصبح في شبابه واسع الثراء، يمتلك الضياع ويعيش على ما تدرُّه عليه من غلال. ولكنه حين اقترب من الشيخوخة تغيَّرت أحوالـه، وانقلب الغنى إلى فقر، واليسر إلى عسر، وهذا ما جعله يتوجّه إلى غَزْنَـة، ويقصد بلاط السلطان الغزنوي محمود بن سُبُكْتِكِين الذي كان هدف الشعراء والعلماء ومحط آمالهم، فيقدم إليه رائعته «الشاهنامة» التي كان قد بدأ بنظمها سنة 384هـ، وانتهى منها سنة 400هـ؛ وهي تتضمن ستين ألف بيت أودع فيها الفردوسي كل ما يجيش في نفسه من مشاعر الفخر والاعتزاز ببني قومه الفرس وبتاريخهم المجيد. ولم ينس أن يوشِّي بعض أطراف هذه الملحمة بأبيات شعرية في مـدح السلطان محمود والثناء عليه، وكان للشاعر بنت واحدة، فكان ينظم «الشاهنامة» وكل أمله أن يُعِدَّ جهاز هذه البنت من العطية التي سينالها لقاء هذا الكتاب، وهي عطية لن تقل في تقديره عن ستين ألف دينار بعدد أبيات الكتاب، ولكن أحلام الفردوسي وآمالـه لم تلبث أن عصفت بها وشاية المذهبيين وسعاية المنافسين، فلم يحظ من السلطان محمود إلاّ بعشرين ألف درهم فقط، فخرج من بلاط السلطان مغضباً هائج النفس، فوزَّع هذه العطية الشحيحة على الناس ثأراً لكرامته، وانطلق شريداً تائهاً في الأرض لا يطيب لـه قرار، فهرب من غزنة سنة 400هـ إلى قُهِسْتان (إقليم الجبال) ثم إلى مازَنْدَران (طَبَرَستان) فاتصل بواليها ومدحه، إلاّ أن هذا الوالي خاف من سطوة السلطان محمود، ولاسيما أنَّه نُمِيَ إليه أن الفردوسي كان قد نظم أبياتاً في هجاء السلطان، فأمر الفردوسيَّ بالرحيل، فقصد بغداد، وهناك عكـف على كتابة قصة «يوسف وزليخا» لعلَّـه يكفِّر بها عمَّا اقترفه في «الشاهنامة» من بعث الأساطير المجوسية والتغني بالمآثر الفارسية. ثم رجـع إلى موطنه الأصلي طوس واستقر فيها، إلى أن وافته المنيَّة.
يقال إن السلطان محموداً قد رضي بعد ذلك عن الشاعر وعفا عنه، وأرسل إليه وفداً يحمل ستين ألف دينار محمولة على الإبل مع الاعتذار إليه، ولكن القدر شاء أن يدخل الوفد باب المدينة في الوقت الذي كانت تخرج منه جنازة الفردوسي، فرأى السلطان أن تُقَدَّم هذه الهبة إلى ابنته الوحيدة، فأبت أن تتسلمها، فأمر السلطان أن تنفق في وجوه البِرّ وفي بناء رِباط على حدود طوس.
تُعد «الشاهنامة» (كتاب الملوك) كنزاً قومياً للشعب الإيراني كلِّـه، فهي تجمع ما وعـى الفرس من تاريخهم وأساطيرهم منذ نحو عام 3600ق.م حتى زمن الفتح الإسلامي وسقوط الدولة الساسانية عـام 651هـ. إلاّ أنها في أقسامها الأولى محشوة بالخرافات، حافلة بالخوارق. أما في أقسامها الأخيرة التي يستعرض فيها الفردوسي تاريخ ملوك الفرس منذ عهد أردشير مؤسس الدولة الساسانية؛ فإن الأحداث والأخبار التاريخية تقترب من الحقيقة، وتعتمد التوثيق، وتتقيد بالتسلسل الزمني، إذ تبدأ بذكر الأسرة الحاكمة وأول ملوكها، وما وقع في عهده من الحوادث والبطولات، ثم تنتقل إلى الملك الثاني وهلم جرًّا.
نُظمت «الشاهنامة» على النمط المثنوي المزدوج، والتزم فيها الشاعر وزن البحر المتقارب المثمَّن، فهي تمثِّل من الناحية الفنية التطور الذي أصاب الشعر الفارسي منذ نشأته إلى عهد الغزنويين، ففيها من القوة في تصوير المشاهد، والروعة في تشخيص الأفكار، والعناية بوصف الأبطال ما يُطلـق خيال قارئها، ويُحفزه على الإثارة والتشويق، ويجعله يستنتج من أبياتها حكماً خالدة في القدر ومأساة الوجود.
وقد ثبت أن الفردوسي كان يمتلك ثقافة عربية واسعة يُستَدلُّ عليها مما في الشاهنامة من تأثر بالقرآن الكريم والشعر العربي، سواء في المعاني والأفكار، أو في فنون التعبير والأداء، أم في طرائق التفكير والتخيل.
ومع أن المستشرق الإنكليزي براون Brawn يرى في كتابه «تاريخ الأدب في إيران» أن «الشاهنامة» لا يمكن أن ترقـى إلى مستوى المعلقات العربية، فإن المستشرق الألماني بروكلمان يقول في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية»: «والواقع أننا نقع في الشاهنامة على روح الأسلوب الملحمي الفارسي في قمة اكتمالـه، وأنها تتكشف برغم نمطيتها ورتابتها عن عبقرية شعرية رائعة».
قام بترجمة معظم «الشاهنامة» إلى العربية الفتح بن علي البُنْداري، وذلك في أوائل القرن السابع الهجري، ثم أتم ترجمتها في العصر الحديث وصحَّحها وقدَّم لها عبد الوهاب عزام، وقد طبعت في مصر سنة 1932م.
محمّد كمال
(329-411هـ/940-1021م)
أبو القاسم، منصور بن فخر الدين ابن فَـرُّخ الفردوسي، نسبة إلى بستان في مدينة طُوْس اسمه الفردوس كـان لأحـد عمداء خُراسان، وكان أبو الفردوسي خادماً فيه.
لمع اسم الفردوسي بين شعراء الفرس بعد أن نظم ملحمته الشهيرة «الشاهنامة» أي كتاب الملوك. وتتفق جميع الروايات على أنه وُلِدَ في مدينة طوس التابعة لنَيْسابور من أعمال خُراسان، إلاّ أن هذه المصادر تختلف في اسمه واسم أبيه وجده. وقد نشأ في بيئة فقيرة محرومة من المال والجاه، فلم تمنعه هذه النشأة من الإقبال على العلم والعكوف على القراءة، وإجادة اللغة العربية إلى جانب الفارسية، حتى فاق أقرانه وبدت عليه أمارات النبوغ.
وتذهب بعض الروايات إلى أن الفردوسي أصبح في شبابه واسع الثراء، يمتلك الضياع ويعيش على ما تدرُّه عليه من غلال. ولكنه حين اقترب من الشيخوخة تغيَّرت أحوالـه، وانقلب الغنى إلى فقر، واليسر إلى عسر، وهذا ما جعله يتوجّه إلى غَزْنَـة، ويقصد بلاط السلطان الغزنوي محمود بن سُبُكْتِكِين الذي كان هدف الشعراء والعلماء ومحط آمالهم، فيقدم إليه رائعته «الشاهنامة» التي كان قد بدأ بنظمها سنة 384هـ، وانتهى منها سنة 400هـ؛ وهي تتضمن ستين ألف بيت أودع فيها الفردوسي كل ما يجيش في نفسه من مشاعر الفخر والاعتزاز ببني قومه الفرس وبتاريخهم المجيد. ولم ينس أن يوشِّي بعض أطراف هذه الملحمة بأبيات شعرية في مـدح السلطان محمود والثناء عليه، وكان للشاعر بنت واحدة، فكان ينظم «الشاهنامة» وكل أمله أن يُعِدَّ جهاز هذه البنت من العطية التي سينالها لقاء هذا الكتاب، وهي عطية لن تقل في تقديره عن ستين ألف دينار بعدد أبيات الكتاب، ولكن أحلام الفردوسي وآمالـه لم تلبث أن عصفت بها وشاية المذهبيين وسعاية المنافسين، فلم يحظ من السلطان محمود إلاّ بعشرين ألف درهم فقط، فخرج من بلاط السلطان مغضباً هائج النفس، فوزَّع هذه العطية الشحيحة على الناس ثأراً لكرامته، وانطلق شريداً تائهاً في الأرض لا يطيب لـه قرار، فهرب من غزنة سنة 400هـ إلى قُهِسْتان (إقليم الجبال) ثم إلى مازَنْدَران (طَبَرَستان) فاتصل بواليها ومدحه، إلاّ أن هذا الوالي خاف من سطوة السلطان محمود، ولاسيما أنَّه نُمِيَ إليه أن الفردوسي كان قد نظم أبياتاً في هجاء السلطان، فأمر الفردوسيَّ بالرحيل، فقصد بغداد، وهناك عكـف على كتابة قصة «يوسف وزليخا» لعلَّـه يكفِّر بها عمَّا اقترفه في «الشاهنامة» من بعث الأساطير المجوسية والتغني بالمآثر الفارسية. ثم رجـع إلى موطنه الأصلي طوس واستقر فيها، إلى أن وافته المنيَّة.
يقال إن السلطان محموداً قد رضي بعد ذلك عن الشاعر وعفا عنه، وأرسل إليه وفداً يحمل ستين ألف دينار محمولة على الإبل مع الاعتذار إليه، ولكن القدر شاء أن يدخل الوفد باب المدينة في الوقت الذي كانت تخرج منه جنازة الفردوسي، فرأى السلطان أن تُقَدَّم هذه الهبة إلى ابنته الوحيدة، فأبت أن تتسلمها، فأمر السلطان أن تنفق في وجوه البِرّ وفي بناء رِباط على حدود طوس.
تُعد «الشاهنامة» (كتاب الملوك) كنزاً قومياً للشعب الإيراني كلِّـه، فهي تجمع ما وعـى الفرس من تاريخهم وأساطيرهم منذ نحو عام 3600ق.م حتى زمن الفتح الإسلامي وسقوط الدولة الساسانية عـام 651هـ. إلاّ أنها في أقسامها الأولى محشوة بالخرافات، حافلة بالخوارق. أما في أقسامها الأخيرة التي يستعرض فيها الفردوسي تاريخ ملوك الفرس منذ عهد أردشير مؤسس الدولة الساسانية؛ فإن الأحداث والأخبار التاريخية تقترب من الحقيقة، وتعتمد التوثيق، وتتقيد بالتسلسل الزمني، إذ تبدأ بذكر الأسرة الحاكمة وأول ملوكها، وما وقع في عهده من الحوادث والبطولات، ثم تنتقل إلى الملك الثاني وهلم جرًّا.
نُظمت «الشاهنامة» على النمط المثنوي المزدوج، والتزم فيها الشاعر وزن البحر المتقارب المثمَّن، فهي تمثِّل من الناحية الفنية التطور الذي أصاب الشعر الفارسي منذ نشأته إلى عهد الغزنويين، ففيها من القوة في تصوير المشاهد، والروعة في تشخيص الأفكار، والعناية بوصف الأبطال ما يُطلـق خيال قارئها، ويُحفزه على الإثارة والتشويق، ويجعله يستنتج من أبياتها حكماً خالدة في القدر ومأساة الوجود.
وقد ثبت أن الفردوسي كان يمتلك ثقافة عربية واسعة يُستَدلُّ عليها مما في الشاهنامة من تأثر بالقرآن الكريم والشعر العربي، سواء في المعاني والأفكار، أو في فنون التعبير والأداء، أم في طرائق التفكير والتخيل.
ومع أن المستشرق الإنكليزي براون Brawn يرى في كتابه «تاريخ الأدب في إيران» أن «الشاهنامة» لا يمكن أن ترقـى إلى مستوى المعلقات العربية، فإن المستشرق الألماني بروكلمان يقول في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية»: «والواقع أننا نقع في الشاهنامة على روح الأسلوب الملحمي الفارسي في قمة اكتمالـه، وأنها تتكشف برغم نمطيتها ورتابتها عن عبقرية شعرية رائعة».
قام بترجمة معظم «الشاهنامة» إلى العربية الفتح بن علي البُنْداري، وذلك في أوائل القرن السابع الهجري، ثم أتم ترجمتها في العصر الحديث وصحَّحها وقدَّم لها عبد الوهاب عزام، وقد طبعت في مصر سنة 1932م.
محمّد كمال