ابن أبي أُصيبعة
اصيبعه
Ibn abi Usaybiaa - Ibn abi Usaybiaa
أصيبعة ( ابن أبي ـ)
أسرة عربية سورية، اشتهرت أيام الحكم الأيوبي، مارس بعض أفرادها الطب وبرع فيه، كما عرفت بمحبة العلوم والأدب. وأشهر أفرادها:
خليفة بن يونس بن أبي القاسم بن خليفة
(ت نحو600هـ)
ويعود نسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي. ولد في دمشق ونشأ فيها، وأقام سنين متعددة لا يفارقها. وكانت له همة عالية ومحبة للفضائل وأهلها، وله نظر في العلوم، وكان يعرف بابن أبي أصيبعة.
توجه إلى مصر عندما فتحها الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 567هـ/ 1171م، وبقي في خدمته وخدمة أولاده من بعده إلى أن عاد إلى الشام عام 597هـ/ 1200م. وبقي فيها حتى توفي. فإن صح هذا كانت وفاته نحو 600 هـ. ودفن بظاهر باب الفراديس على طريق جبل قاسيون.
رشيد الدين علي بن خليفة
(579ـ 616هـ/ 1183ـ 1219م)
توجه أيضاً إلى مصر حيث تعلم صناعة الطب على يد جمال الدين أبي الحوافر، رئيس الأطباء بالديار المصرية على أيام الملك العزيز عثمان بن الملك الناصر صلاح الدين، وقرأ رشيد الدين على أبي الحوافر شيئاً من كتب جالينوس الستة عشر، ولازم مشاهدة المرضى وأجرى لهم أعمالاً جراحية بالبيمارستان الناصري بإشراف القاضي نفيس الدين الزبير الذي قرأ عليه علم صناعة الكحل وتطبيقاته.
عاد رشيد الدين إلى الشام (597هـ/ 1200م) والتحق بالبيمارستان النوري بدمشق، حيث عمل بإشراف كبار الأطباء أمثال رضي الدين الرحبي (ت 631هـ)، ومهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدخوار (ت 628هـ)، فصار شيخاً يقتدى به في صناعة الطب. كما اشتغل أيضاً بالحكمة وتلقاها على يد موفق الدين عبد اللطيف البغدادي (ت 629هـ)، ولازم جماعة من أهل الأدب ومعرفة العربية، وأتقن هذه العلوم كلها. كما كان إلى جانب ذلك يتقن الفارسية ويتكلم التركية. ولم يكن في زمانه من يعرف الموسيقى واللعب بالعود مثله ولا أطيب صوتاً منه، حتى إنه شوهد من تأثر الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي (ت 339هـ).
وفي عام 605هـ استدعاه السلطان الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وسمع كلامه، فحسن موقعه عنده وأنعم عليه.
وبعد ذلك بأيام سمع به صاحب بعلبك، وهو الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه، فبعث إليه يستدعيه ويستدعي والده، فلما وصلا إليه تلقاهما وأحسن إليهما غاية الإحسان. ولما رأى علم رشيد الدين بالحساب وجودة تصرفه فيه طلب أن يريه منه شيئاً، فألف له كتاباً يحتوي على أربع مقالات.
وحينما جاء الملك المعظم لنجدة الملك الأمجد وجد عنده رشيد الدين، فأخذه إليه وطلب منه أن يكون في خدمته وكان ذلك عام 612هـ. كما اعتمد عليه أخوا الملك المعظم، الملك الكامل محمد والملك الأشرف.
وفي عام 611هـ حج الملك المعظم وحج معه الطبيب رشيد الدين، ولم يزل في خدمته حتى أواخر عام 614هـ، إذ استدعاه الملك العادل أبو بكر بن أيوب لما سمع عن تحصيله وسيرته، وذلك في الخامس من شهر محرم عام 615هـ، وولاّه طب البيمارستانيّن بدمشق، فكان يتردد إليهما وإلى القلعة، كما أطلقت له أيضاً ست الشام، أخت الملك العادل، جامكية في الطب، لأنه كان يتردد إلى دارها أيضاً.
أقام رشيد الدين مجلساً عاماً لصناعة الطب في دمشق، فاشتغل عليه جماعة، وكلهم تميزوا في الطب فيما بعد. وفي ذلك العام (615هـ) اجتمع رشيد الدين بالعالم صدر الدين بن حموية شيخ شيوخ الصوفية، فألبسه خرقة التصوف في شهر رمضان وكتب له حجة تشهد بذلك.
وفي عام 616هـ أرسل الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل رسالة بخطه إلى الطبيب رشيد الدين يطلب منه أن يتوجه إليه ليعالج والدته ومرضى آخرين في مدينة بصرى. وكان قد عرض في تلك المدينة وباء عظيم، فتوجه إليه وعالج والدته فصلحت في مدة يسيرة، إلا أن حمّى حادة أصابت الطبيب رشيد الدين، فعاد إلى دمشق حيث قام على علاجه مشايخ الأطباء، ولكن المرض ازداد سوءاً فقضى نحبه وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، ودفن إلى جوار والده في ظاهر باب الفراديس.
وضع رشيد الدين مجموعة من المؤلفات العلمية ذكر أسماءها ابن أخيه موفق الدين في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء وهي: كتاب الموجز المفيد في علم الحساب، وهو أربع مقالات ألفه للملك الأمجد صاحب بعلبك. وكتاب في الطب ألفه للملك المؤيد نجم الدين مسعود بن الملك الناصر صلاح الدين، استقصى فيه الأمور الكلية في صناعة الطب ومعرفة الأمراض وأسبابها ومداواتها. وكتاب طب السوق ألفه لبعض تلامذته، ويشتمل على ذكر الأمراض التي تحدث كثيراً ومداواتها بالأشياء السهلة الوجود. ومقالة في نسبة النبض وموازنته إلى الحركات الموسيقارية، وكتاب الاسطقسات، وتعاليق ومجربات في الطب.
سديد الدين القاسم بن خليفة
(ت 649هـ/ 1251م)
تعلم صناعة الكحل على يد أبي الحجاج يوسف، وكان أبو الحجاج يكحل في البيمارستان الكائن في السقطيين خارج باب زويلة بأسفل القاهرة، وبقي ملازماً له متعلماً الصنعة حتى أتقنها.
وقرأ سديد الدين كذلك على بعض أعيان المشايخ الأطباء في ذلك الوقت بمصر مثل الرئيس موسى بن ميمون القرطبي. ثم رجع إلى دمشق بصحبة والده وأخيه سنة 597هـ، وصار يتردد إلى القلعة لخدمة الدور السلطانية، وداوى بها جماعة كانت في أعينهم أمراض صعبة فصلحوا في أسرع وقت. وفي عام 609هـ تفاقم المرض في عيني خادمٍ عزيزٍ على السلطان الملك العادل، وعجز عن مداواته وشفائه مشايخ الأطباء والكحالين، وأجمعوا على أنه قد عمي ولا سبيل إلى شفائه. ولمّا رآه الطبيب سديد الدين، قال: أنا أداويه وأرد إليه بصره إن شاء الله. وشرع في مداواة عيني الخادم حتى ارتد إليه بصره. فأحسن الملك العادل ظنه به كثيراً وأكرمه، وفوض إليه النظر في أمر الكحالين وامتحانهم، وأن من يصلح منهم لمعالجة أمراض العين ويرتضيه يكتب له خطاً (شهادة) بما يعرفه.
بقي سديد الدين حظياً عند الملك العادل وعند جميع أولاده الملوك، يعتمدون عليه في المداواة وله منهم الإحسان الكثير. وكان يتردد أيضاً إلى البيمارستان النوري ويقصده الناس من كل ناحية لما يجدون في مداواته من سرعة البرء. وكان يعالج أمراض العين ويبرئها بالأدوية أو بالجراحة.
توفي سديد الدين ودفن إلى جانب أبيه وأخيه في ظاهر باب الفراديس، وذلك أيام الملك الناصر يوسف بن محمد صاحب دمشق.
موفق الدين أحمد بن سديد الدين
(نحو 596 ـ 668هـ/ 1200 ـ 1270م)
أشهر أفراد أسرة ابن أبي أصيبعة، وهو الذي يعنيه المؤرخون والكتّاب حينما يطلقون لقب ابن أبي أصيبعة.
ولد موفق الدين في دمشق في أسرة ثرية اشتهرت بالعلم والأدب، وكان لها صلاتها الجيدة بالملوك في الشام ومصر، فتوافرت له أسباب التحصيل، فدرس الأدب والحكمة والعلوم على مشاهير عصره من العلماء في كل من دمشق والقاهرة، فقرأ علم الطب على رضي الدين الرحبي (ت631هـ/ 1233م)، والعلوم الحكمية على رفيع الدين الجبلي (ت641هـ/ 1244م)، وعلم النبات والعقاقير على ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار (ت646هـ/ 1248م). كما أخذ الطب والكحالة على أبيه سديد الدين.
مارس الطب متمرناً في البيمارستان النوري، الذي كان يرأسه الطبيب الشهير مهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدمشقي، المشهور بابن الدخوار (ت628هـ/ 1230م)، ثم انتقل إلى القاهرة فطبب في البيمارستان الناصري سنة 631هـ، وأخيراً عاد إلى دمشق سنة 634هـ ليتابع تطبيبه في البيمارستان النوري. وفي ربيع الأول سنة 634هـ/ 1236م انتقل إلى صرخد (صلخد اليوم) ليعمل في خدمة أميرها عز الدين أيبك المعظمي، وتوفي فيها.
كان من أصدقاء ابن أبي أصيبعة عدد من علماء عصره، أمثال رشيد الدين بن علي الصوري، الذي عاش فيما بين عامي (573ـ 639هـ)، وكان يرافقه في جمع الأعشاب والنباتات وتصويرها في لبنان، وكذلك الطبيب عز الدين إبراهيم بن الطرخان السويدي (ت690هـ).
اشتهر موفق الدين ابن أبي أصيبعة بكتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء». وقد ورد في كتابه المذكور أنه قام بتأليف عدد من الكتب لم يعثر عليها حتى اليوم، وهي: كتاب إصابات المنجمين ـ كتاب التجارب والفوائد ـ كتاب حكايات الأطباء في علاجات الأدواء. أما كتابه (عيون الأنباء) فهو بلا شك من أهم المراجع في ترجمة الأطباء وطبقاتهم، وهو يحتوي أكثر من 400 ترجمة لقدماء الأطباء والمحدثين.
استهل كتابه بمقدمة فلسفية ودينية واجتماعية، تناول فيها مكانة الطب بين العلوم والصناعات المختلفة، والكتاب مرتّب في خمسة عشر باباً بحسب بلاد الأطباء وتعاقب طبقاتهم، وقد جعل الباب الأول للحديث عن كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها، ثم تحدث عن طبقات الأطباء الأول الذين كانت لهم مؤلفات في صناعة الطب، وتحدث عن الأطباء اليونانيين، ثم استوفى الحديث عن الأطباء في الديار الإسلامية ورتبهم بحسب أقاليم الدولة الإسلامية المشرقية منها والمغربية.
ويعد كتاب ابن أبي أصيبعة أشمل الكتب التي وضعت في تاريخ الطب والأطباء، قبل الإسلام وبعده، وقد نقل المؤلف معلوماته عن مشاهير عصره، جامعاً ماتفرّق في الكتب الكثيرة عن حكماء القدماء وعلماء العرب والإسلام، ولا سيما ابن جلجل (ت بعد 384هـ)، وأصبح مرجعاً أساسياً في تاريخ الطب.
لقد اعترف بذلك الكاتب المؤرخ كارلو نلّينو في مؤلفه «تاريخ علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى»، إلا أنه أخذ على ابن أبي أصيبعة بعض الأخطاء التاريخية والجغرافية واللغوية، وقد عزا بعضهم ذلك إلى النساخ.
ويعود الفضل في تحقيق كتاب عيون الأنباء إلى «أوغوست مولّر»، الذي راجع خمس عشرة نسخة خطية من الكتاب المذكور. ثم قام بتصنيف النسخ الخطية التي حصل عليها في ثلاث روايات مختلفة:
الأولى: وسمّاها الصغرى، وهي أقدمها، إذ نشرها المؤلف بدمشق سنة 640هـ تقريباً. وقد حفظت في خزانة أمين الدولة، أبي الحسن ابن الغزال، وزير الملك الصالح إسماعيل الأيوبي.
الثانية: وسمّاها الكبرى: وهي نسخة مطوّرة، زاد عليها المؤلف زيادات حسنة، بعد أن نقحها وأصلحها. ونشرها سنة 667هـ، أي قبل وفاته بعام واحد.
الثالثة: وسمّاها مولّر الممتزجة، وهي نسخة وضعها رجل مجهول، مازجاً بين النسختين السابقتين، حاذفاً منهما ماشاء، ومغيراً أحياناً في العبارة، وتوجد منها نسخة في خزانة الكتب الكبرى في برلين.
لقد نشر مولّر كتاب عيون الأنباء، بعد تحقيق شاق، بمطبعة وهبة بمصر عام 1299هـ/ 1882م محافظاً على نص الروايتين الأولى والثانية، مع زيادات في الشرح والتوضيح. غير أن الطبعة جاءت مشوّهة لكثرة الأخطاء في الطبع، من حذف واختصار وتغيير في الأصل، مما اضطر مولّر إلى تأليف ذيل مطوّل لتصحيح الطبعة المصرية، نشره في مدينة كونغسبرغ سنة 1884م.
استفاد الدكتور لوسيان لوكلرك من كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء عند تأليف كتابه تاريخ الطب العربي سنة 1876، فأخذ عن ابن أبي أصيبعة تصنيفه قدماء الأطباء إلى طبقات، بحسب القرن الذي عاشوا فيه، وبحسب المكان الذي نشؤوا به. كما أنه نقل عن ابن أبي أصيبعة أسماء جميع المؤلفات التي قام بوضعها هؤلاء الأطباء، إضافة إلى ذكر لمحة موجزة عن ترجمة أكثرهم.
وفي عام 1942م نشر الدكتور أحمد عيسى ذيلاً لكتاب عيون الأنباء تحت عنوان «معجم الأطباء»، تدارك فيه ذكر أسماء بعض الأطباء العرب والمسلمين، ممن عاش قبل ابن أبي أصيبعة أو عاصره أو جاء من بعده.
زهير الكتبي
اصيبعه
Ibn abi Usaybiaa - Ibn abi Usaybiaa
أصيبعة ( ابن أبي ـ)
أسرة عربية سورية، اشتهرت أيام الحكم الأيوبي، مارس بعض أفرادها الطب وبرع فيه، كما عرفت بمحبة العلوم والأدب. وأشهر أفرادها:
خليفة بن يونس بن أبي القاسم بن خليفة
(ت نحو600هـ)
ويعود نسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي. ولد في دمشق ونشأ فيها، وأقام سنين متعددة لا يفارقها. وكانت له همة عالية ومحبة للفضائل وأهلها، وله نظر في العلوم، وكان يعرف بابن أبي أصيبعة.
توجه إلى مصر عندما فتحها الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 567هـ/ 1171م، وبقي في خدمته وخدمة أولاده من بعده إلى أن عاد إلى الشام عام 597هـ/ 1200م. وبقي فيها حتى توفي. فإن صح هذا كانت وفاته نحو 600 هـ. ودفن بظاهر باب الفراديس على طريق جبل قاسيون.
رشيد الدين علي بن خليفة
(579ـ 616هـ/ 1183ـ 1219م)
توجه أيضاً إلى مصر حيث تعلم صناعة الطب على يد جمال الدين أبي الحوافر، رئيس الأطباء بالديار المصرية على أيام الملك العزيز عثمان بن الملك الناصر صلاح الدين، وقرأ رشيد الدين على أبي الحوافر شيئاً من كتب جالينوس الستة عشر، ولازم مشاهدة المرضى وأجرى لهم أعمالاً جراحية بالبيمارستان الناصري بإشراف القاضي نفيس الدين الزبير الذي قرأ عليه علم صناعة الكحل وتطبيقاته.
عاد رشيد الدين إلى الشام (597هـ/ 1200م) والتحق بالبيمارستان النوري بدمشق، حيث عمل بإشراف كبار الأطباء أمثال رضي الدين الرحبي (ت 631هـ)، ومهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدخوار (ت 628هـ)، فصار شيخاً يقتدى به في صناعة الطب. كما اشتغل أيضاً بالحكمة وتلقاها على يد موفق الدين عبد اللطيف البغدادي (ت 629هـ)، ولازم جماعة من أهل الأدب ومعرفة العربية، وأتقن هذه العلوم كلها. كما كان إلى جانب ذلك يتقن الفارسية ويتكلم التركية. ولم يكن في زمانه من يعرف الموسيقى واللعب بالعود مثله ولا أطيب صوتاً منه، حتى إنه شوهد من تأثر الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي (ت 339هـ).
وفي عام 605هـ استدعاه السلطان الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وسمع كلامه، فحسن موقعه عنده وأنعم عليه.
وبعد ذلك بأيام سمع به صاحب بعلبك، وهو الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه، فبعث إليه يستدعيه ويستدعي والده، فلما وصلا إليه تلقاهما وأحسن إليهما غاية الإحسان. ولما رأى علم رشيد الدين بالحساب وجودة تصرفه فيه طلب أن يريه منه شيئاً، فألف له كتاباً يحتوي على أربع مقالات.
وحينما جاء الملك المعظم لنجدة الملك الأمجد وجد عنده رشيد الدين، فأخذه إليه وطلب منه أن يكون في خدمته وكان ذلك عام 612هـ. كما اعتمد عليه أخوا الملك المعظم، الملك الكامل محمد والملك الأشرف.
وفي عام 611هـ حج الملك المعظم وحج معه الطبيب رشيد الدين، ولم يزل في خدمته حتى أواخر عام 614هـ، إذ استدعاه الملك العادل أبو بكر بن أيوب لما سمع عن تحصيله وسيرته، وذلك في الخامس من شهر محرم عام 615هـ، وولاّه طب البيمارستانيّن بدمشق، فكان يتردد إليهما وإلى القلعة، كما أطلقت له أيضاً ست الشام، أخت الملك العادل، جامكية في الطب، لأنه كان يتردد إلى دارها أيضاً.
أقام رشيد الدين مجلساً عاماً لصناعة الطب في دمشق، فاشتغل عليه جماعة، وكلهم تميزوا في الطب فيما بعد. وفي ذلك العام (615هـ) اجتمع رشيد الدين بالعالم صدر الدين بن حموية شيخ شيوخ الصوفية، فألبسه خرقة التصوف في شهر رمضان وكتب له حجة تشهد بذلك.
وفي عام 616هـ أرسل الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل رسالة بخطه إلى الطبيب رشيد الدين يطلب منه أن يتوجه إليه ليعالج والدته ومرضى آخرين في مدينة بصرى. وكان قد عرض في تلك المدينة وباء عظيم، فتوجه إليه وعالج والدته فصلحت في مدة يسيرة، إلا أن حمّى حادة أصابت الطبيب رشيد الدين، فعاد إلى دمشق حيث قام على علاجه مشايخ الأطباء، ولكن المرض ازداد سوءاً فقضى نحبه وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، ودفن إلى جوار والده في ظاهر باب الفراديس.
وضع رشيد الدين مجموعة من المؤلفات العلمية ذكر أسماءها ابن أخيه موفق الدين في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء وهي: كتاب الموجز المفيد في علم الحساب، وهو أربع مقالات ألفه للملك الأمجد صاحب بعلبك. وكتاب في الطب ألفه للملك المؤيد نجم الدين مسعود بن الملك الناصر صلاح الدين، استقصى فيه الأمور الكلية في صناعة الطب ومعرفة الأمراض وأسبابها ومداواتها. وكتاب طب السوق ألفه لبعض تلامذته، ويشتمل على ذكر الأمراض التي تحدث كثيراً ومداواتها بالأشياء السهلة الوجود. ومقالة في نسبة النبض وموازنته إلى الحركات الموسيقارية، وكتاب الاسطقسات، وتعاليق ومجربات في الطب.
سديد الدين القاسم بن خليفة
(ت 649هـ/ 1251م)
تعلم صناعة الكحل على يد أبي الحجاج يوسف، وكان أبو الحجاج يكحل في البيمارستان الكائن في السقطيين خارج باب زويلة بأسفل القاهرة، وبقي ملازماً له متعلماً الصنعة حتى أتقنها.
وقرأ سديد الدين كذلك على بعض أعيان المشايخ الأطباء في ذلك الوقت بمصر مثل الرئيس موسى بن ميمون القرطبي. ثم رجع إلى دمشق بصحبة والده وأخيه سنة 597هـ، وصار يتردد إلى القلعة لخدمة الدور السلطانية، وداوى بها جماعة كانت في أعينهم أمراض صعبة فصلحوا في أسرع وقت. وفي عام 609هـ تفاقم المرض في عيني خادمٍ عزيزٍ على السلطان الملك العادل، وعجز عن مداواته وشفائه مشايخ الأطباء والكحالين، وأجمعوا على أنه قد عمي ولا سبيل إلى شفائه. ولمّا رآه الطبيب سديد الدين، قال: أنا أداويه وأرد إليه بصره إن شاء الله. وشرع في مداواة عيني الخادم حتى ارتد إليه بصره. فأحسن الملك العادل ظنه به كثيراً وأكرمه، وفوض إليه النظر في أمر الكحالين وامتحانهم، وأن من يصلح منهم لمعالجة أمراض العين ويرتضيه يكتب له خطاً (شهادة) بما يعرفه.
بقي سديد الدين حظياً عند الملك العادل وعند جميع أولاده الملوك، يعتمدون عليه في المداواة وله منهم الإحسان الكثير. وكان يتردد أيضاً إلى البيمارستان النوري ويقصده الناس من كل ناحية لما يجدون في مداواته من سرعة البرء. وكان يعالج أمراض العين ويبرئها بالأدوية أو بالجراحة.
توفي سديد الدين ودفن إلى جانب أبيه وأخيه في ظاهر باب الفراديس، وذلك أيام الملك الناصر يوسف بن محمد صاحب دمشق.
موفق الدين أحمد بن سديد الدين
(نحو 596 ـ 668هـ/ 1200 ـ 1270م)
أشهر أفراد أسرة ابن أبي أصيبعة، وهو الذي يعنيه المؤرخون والكتّاب حينما يطلقون لقب ابن أبي أصيبعة.
ولد موفق الدين في دمشق في أسرة ثرية اشتهرت بالعلم والأدب، وكان لها صلاتها الجيدة بالملوك في الشام ومصر، فتوافرت له أسباب التحصيل، فدرس الأدب والحكمة والعلوم على مشاهير عصره من العلماء في كل من دمشق والقاهرة، فقرأ علم الطب على رضي الدين الرحبي (ت631هـ/ 1233م)، والعلوم الحكمية على رفيع الدين الجبلي (ت641هـ/ 1244م)، وعلم النبات والعقاقير على ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار (ت646هـ/ 1248م). كما أخذ الطب والكحالة على أبيه سديد الدين.
مارس الطب متمرناً في البيمارستان النوري، الذي كان يرأسه الطبيب الشهير مهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدمشقي، المشهور بابن الدخوار (ت628هـ/ 1230م)، ثم انتقل إلى القاهرة فطبب في البيمارستان الناصري سنة 631هـ، وأخيراً عاد إلى دمشق سنة 634هـ ليتابع تطبيبه في البيمارستان النوري. وفي ربيع الأول سنة 634هـ/ 1236م انتقل إلى صرخد (صلخد اليوم) ليعمل في خدمة أميرها عز الدين أيبك المعظمي، وتوفي فيها.
كان من أصدقاء ابن أبي أصيبعة عدد من علماء عصره، أمثال رشيد الدين بن علي الصوري، الذي عاش فيما بين عامي (573ـ 639هـ)، وكان يرافقه في جمع الأعشاب والنباتات وتصويرها في لبنان، وكذلك الطبيب عز الدين إبراهيم بن الطرخان السويدي (ت690هـ).
اشتهر موفق الدين ابن أبي أصيبعة بكتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء». وقد ورد في كتابه المذكور أنه قام بتأليف عدد من الكتب لم يعثر عليها حتى اليوم، وهي: كتاب إصابات المنجمين ـ كتاب التجارب والفوائد ـ كتاب حكايات الأطباء في علاجات الأدواء. أما كتابه (عيون الأنباء) فهو بلا شك من أهم المراجع في ترجمة الأطباء وطبقاتهم، وهو يحتوي أكثر من 400 ترجمة لقدماء الأطباء والمحدثين.
استهل كتابه بمقدمة فلسفية ودينية واجتماعية، تناول فيها مكانة الطب بين العلوم والصناعات المختلفة، والكتاب مرتّب في خمسة عشر باباً بحسب بلاد الأطباء وتعاقب طبقاتهم، وقد جعل الباب الأول للحديث عن كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها، ثم تحدث عن طبقات الأطباء الأول الذين كانت لهم مؤلفات في صناعة الطب، وتحدث عن الأطباء اليونانيين، ثم استوفى الحديث عن الأطباء في الديار الإسلامية ورتبهم بحسب أقاليم الدولة الإسلامية المشرقية منها والمغربية.
ويعد كتاب ابن أبي أصيبعة أشمل الكتب التي وضعت في تاريخ الطب والأطباء، قبل الإسلام وبعده، وقد نقل المؤلف معلوماته عن مشاهير عصره، جامعاً ماتفرّق في الكتب الكثيرة عن حكماء القدماء وعلماء العرب والإسلام، ولا سيما ابن جلجل (ت بعد 384هـ)، وأصبح مرجعاً أساسياً في تاريخ الطب.
لقد اعترف بذلك الكاتب المؤرخ كارلو نلّينو في مؤلفه «تاريخ علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى»، إلا أنه أخذ على ابن أبي أصيبعة بعض الأخطاء التاريخية والجغرافية واللغوية، وقد عزا بعضهم ذلك إلى النساخ.
ويعود الفضل في تحقيق كتاب عيون الأنباء إلى «أوغوست مولّر»، الذي راجع خمس عشرة نسخة خطية من الكتاب المذكور. ثم قام بتصنيف النسخ الخطية التي حصل عليها في ثلاث روايات مختلفة:
الأولى: وسمّاها الصغرى، وهي أقدمها، إذ نشرها المؤلف بدمشق سنة 640هـ تقريباً. وقد حفظت في خزانة أمين الدولة، أبي الحسن ابن الغزال، وزير الملك الصالح إسماعيل الأيوبي.
الثانية: وسمّاها الكبرى: وهي نسخة مطوّرة، زاد عليها المؤلف زيادات حسنة، بعد أن نقحها وأصلحها. ونشرها سنة 667هـ، أي قبل وفاته بعام واحد.
الثالثة: وسمّاها مولّر الممتزجة، وهي نسخة وضعها رجل مجهول، مازجاً بين النسختين السابقتين، حاذفاً منهما ماشاء، ومغيراً أحياناً في العبارة، وتوجد منها نسخة في خزانة الكتب الكبرى في برلين.
لقد نشر مولّر كتاب عيون الأنباء، بعد تحقيق شاق، بمطبعة وهبة بمصر عام 1299هـ/ 1882م محافظاً على نص الروايتين الأولى والثانية، مع زيادات في الشرح والتوضيح. غير أن الطبعة جاءت مشوّهة لكثرة الأخطاء في الطبع، من حذف واختصار وتغيير في الأصل، مما اضطر مولّر إلى تأليف ذيل مطوّل لتصحيح الطبعة المصرية، نشره في مدينة كونغسبرغ سنة 1884م.
استفاد الدكتور لوسيان لوكلرك من كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء عند تأليف كتابه تاريخ الطب العربي سنة 1876، فأخذ عن ابن أبي أصيبعة تصنيفه قدماء الأطباء إلى طبقات، بحسب القرن الذي عاشوا فيه، وبحسب المكان الذي نشؤوا به. كما أنه نقل عن ابن أبي أصيبعة أسماء جميع المؤلفات التي قام بوضعها هؤلاء الأطباء، إضافة إلى ذكر لمحة موجزة عن ترجمة أكثرهم.
وفي عام 1942م نشر الدكتور أحمد عيسى ذيلاً لكتاب عيون الأنباء تحت عنوان «معجم الأطباء»، تدارك فيه ذكر أسماء بعض الأطباء العرب والمسلمين، ممن عاش قبل ابن أبي أصيبعة أو عاصره أو جاء من بعده.
زهير الكتبي