تاريخ الصين
تقع جمهورية الصين الشعبية المترامية الأطراف في الجزء الشرقي من قارة آسيا، وعلى الساحل الغربي من المحيط الهادئ، وتكاد مساحتها تعادل مساحة أوربا بأكملها.
على هذه الأراضي الشاسعة نشأت حضارة الصين التي تعد من أقدم الحضارات في العالم، وهي وحدها، من بين أربع حضارات عريقة، تواصلت فيها الحضارة ولم تنقطع، مثلها مثل حضارة وادي النيل وحضارة بلاد ما بين النهرين وحضارة الهند القديمة. لقد اكتُشف في الصين متحجرات الإنسان البدائي في «يواغو» بمقاطعة «يونّان» (إنسان يواغو) الذي عاش قبل (1.7)مليون عام تقريباً. وظهر «إنسان بكين» الذي عاش في «زوكوديان» بالقرب من بكين قبل 600ألف عام تقريباً، ويتصف بالمميزات الأساسية للإنسان، إذ استطاع المشي معتدل القامة، وصنع أدوات حجرية بسيطة واستعملها، كما عرف كيف يستخدم النار ويسيطر عليها، وانتشرت آثار العصر الحجري الحديث قبل عشرة آلاف سنة تقريباً في أنحاء الصين، واكتشف الأرز وحبوب الدخن التي زرعها الإنسان وبقايا أدوات زراعية في مواقع «خيمودو» في «يويتاو» بمقاطعة «جيجيان» Zhejiang وبانيوه في «شيآن» Xi’an التي يعود تاريخها إلى ما قبل الألف السابع قبل الميلاد.
وقبل نحو أربعة آلاف عام قبل الميلاد.استوعب الصينيون فن صهر البرونز،وقبل أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، أي في عهد أسرة شانغ نحو (1700ـ1046ق.م)، بدؤوا يستخدمون الأدوات الحديدية، وفي مجال صناعة الفخار،تم إنتاج أدوات الفخار الأبيض و الفخار الملوّن، كما تطور نسيج الحرير، فظهرت أول فنون نسيج الحرير «الجيكاري» في تاريخ العالم. وفي أسرة تشو (1046ـ256ق.م) ظهر في الصين فن صناعة الفولاذ، وفي هذا العصر وعصر الممالك المتحاربة كانت النشاطات العلمية والفكرية في تطور لم يسبق له مثيل، إذ ظهر الفيلسوف «لاوتسى» Lao Tzuو«كونفوشيوس» Confucius، و«منشيوس»Mencius، والاستراتيجي «سون وو» الذين أثروا تأثيراً عميقاً واسعاً في الأجيال اللاحقة.
في عام 221ق.م أنهى الإمبراطور الداهية «تشين شي هوانغ» النزاعات بين الأمراء وحكام الممالك المتحاربة التي دامت أكثر من 250سنة، وأسس أول دولة إقطاعية مركزية موحدة متعددة القوميات في تاريخ الصين، كما وحدّ اللغة المكتوبة والمقاييس والمكاييل والنقد، وأقام نظام المحافظات والولايات واستخدم أكثر من 300ألف شخص لمدة بضعة عشر عاماً لبناء سور الصين العظيم، كما بدأ في بناء مقبرة ضخمة،وهو ما يزال على قيد الحياة، فيها تماثيل الجنود والخيول الصلصالية لحراسة مقبرة الامبراطور المكتشفة عام 1974، وكانت بمنزلة اكتشاف العصر،و عُدّت «الأعجوبة الثامنة في العالم» حيث اكتشف فيها 8000تمثال لجنود وخيول وعربات حربية صلصالية بالحجم الواقعي.
في عهد أسرة «هان» (220ـ206ق.م)Han تطورت الزراعة والحرف اليدوية والتجارة تطوراً كبيراً، حتى وصلت علاقات المقاطعات الصينية إلى الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وكان هذا التطور بداية لما عرف بـ«طريق الحرير» الذي انتقلت خلاله المنسوجات الحريرية الزاهية من الصين إلى الغرب دون انقطاع، ومع تكثيف الاتصالات بين الشرق و الغرب، دخلت الديانة البوذية الصين في القرن الأول الميلادي، وفي عام105 اخترع الموظف «تساي لون» فن الطباعة بعد تلخيص تجربة صنع الورق الشعبية، فطرأت تغيرات جذرية على مواد الكتابة.
بعد أسرة هان، جاء عصر أسرة «تانغ» (618ـ907م) Tang فشهدت الصين سلسلة من السياسات المنفتحة، مما حقق الازدهار و الرخاء في مجال الزراعة و الحرف اليدوية والتجارة، وتطورت فنون الغزل و النسيج والفخار والخزف وصهر المعادن وصناعة السفن، وفي الوقت نفسه تطورت المواصلات البرية والمائية وقامت اتصالات اقتصادية وثقافية واسعة مع كثير من البلدان مثل: اليابان وكوريا والهند وبلاد فارس والبلدان العربية.
وفي عهد أسرة تانغ انتقلت صناعة الورق و الغزل والنسيج والخزف الصيني إلى البلدان العربية ثم إلى أوربا، وقلّد اليابانيون الثقافة الصينية ونظام أسرة تانغ في تحديد النظام السياسي والأسلوب المعماري، حتى أزياء النساء،لذلك تكونت الثقافة اليابانية متأثرة بثقافة أسرة تانغ، حيث كانت هذه الأسرة تتمتع بسمعة عظيمة في العالم، وبدأت البلدان الأخرى تسمي الصينيين «إنسان تانغ» وتستخدم هذه التسمية في بعض الدول حتى هذه الأيام.
ظهر انفتاح أسرة «تانغ» في الشؤون الدينية أيضاً، حيث جعلت الأديان المحلية والأديان الدخيلة متساوية، ووصلت البوذية إلى قمة ازدهارها. ووجد الإسلام الذي جاء من المنطقة العربية، والمذهب النسطوري الذي جاء من البحر المتوسط، مكاناً لهما في الصين. وفي عهد هذه الأسرة التقت تقنية الطباعة بصناعة الورق، مما ساعد كثيراً على انتشار الثقافة، وبدأ استخدام البارود في الشؤون العسكرية، ثم انتشر البارود مع صناعة إكسير الخلود والطب الصيني في البلدان العربية، ثم انتقل إلى أوربا بوساطة العرب في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين.
بعد انتهاء أسرة تانغ شهدت الصين انقساماً، حيث ظهرت أسرات ملكية في أواسط الصين على التوالي من عام 907إلى960م، ثم تأسست أسرة سونغ Sungالتي قامت ببعض تجارب الإصلاح في المناطق الشمالية،لكنها تعرضت إلى تهديد القوميات البدوية،فانتقلت مضطرة إلى الجنوب. ومع أن هذه الأسرة كانت ضعيفة نسبياً في الشؤون العسكرية والدبلوماسية، فقد شهد اقتصادها في القرن العاشر أعظم تقدم منذ فجر تاريخ الصين، ومع تطور الصناعة والتجارة ظهرت بجوانب المدن والطرق الرئيسة الريفية بلدات جديدة كمراكز للبضائع و الطباعة وإنتاج الخزف، فتشكل أسلوب حياة مدنية جديدة مزدهرة.
وبين عامي 1008و1016م نشر/17/تاجراً غنياً بشكل مشترك عملة «جياوتشي»، وهي أول عملة ورقية في العالم، وكانت التجارة المحلية والخارجية نشيطة جداً،حيث وصلت السفن التجارية الصينية إلى جنوب شرقي آسيا وسواحل المحيط الهندي والجزيرة العربية، وساحل إفريقيا الشرقي. وكانت الصين في مقدمة العالم في صناعة السفن والملاحة، وكانت فترة أسرة «سونغ» قمة تطور العلوم والتقنية الصينية القديمة حيث ظهرت الطباعة بالحروف المطبعية، والإبرة المغنطيسية، وآلة النسيج بالقوة المائية، وجدار السفينة المقاوم للماء. وقد انتقلت هذه الاختراعات إلى المناطق والبلدان الآسيوية والأوربية، ومن المعروف أن هذه الاختراعات غيّرت ملامح العالم وأوضاعه.
كانت أسرة «يوان» (1271ـ1368م)Yuan ، بعد أسرة سونغ، أول سلطة موحدة أقامتها إحدى الأقليات القومية في تاريخ الصين، فبعد أن وحد «جنكيزخان» القبائل المنغولية في أوائل القرن الثالث عشر، شن الحروب الواسعة في شتى أنحاء العالم، وأسس أبناؤه وأحفاده امبراطورية امتدت على القارتيين الأوربية والآسيوية التي سرعان ما انقسمت إلى عدة دول. وفي عام 1271م، حولت السلطة المنغولية التي دخلت أواسط الصين اسم دولتها إلى أسرة «يوان» واتخذت مدينة دادو (بكين الحالية) عاصمة لها، ومع تعاقب الأسر الإقطاعية الصينية كانت بكين عاصمة لها أيضاً.
كانت هذه فترة امتزاج القوميات الصينية، وانتقال عدد كبير من العرب والفرس إلى الصين، وشهدت فيها صناعة الغزل و النسيج و الخزف تطوراً جديداً، وأصبح القماش القطني مادة رئيسة لملابس الجنوب، وأصبحت المنسوجات الحريرية والخزفيات أهم الصادرات،كما كانت هناك علاقات تجارية متطورة بين كثير من الدول والمناطق الآسيوية و الإفريقية والأوربية، كما تطور الأدب و الفن الصيني.
الفترة الواقعة بين (1368ـ1644م) كانت فترة أسرة «مينغ» Ming التي قامت بطرد آخر أباطرة أسرة «يوان» إلى الصحراء، وكانت هذه الأسرة قوية في مرحلتها الأولى، وبلغت نشاطات الملاحة فيها أوجها، حيث جابت السفن الصينية شتى أرجاء العالم، تذهب بالحرير والطاسات الخزفية الزرقاء،وتعود بالمجوهرات والتوابل والعقاقير الطبية.
وفي القرن السادس عشر استوردت أسرة «مينغ» البطاطا والذرة و الفول السوداني والتبغ ونشرتها في أرجاء البلاد. كما تطورت صناعة الخزف إلى مستوى جديد. وفي عهد هذه الأسرة ظهرت معامل للغزل والنسيج اليدوي، كما تحققت إنجازات جديدة في مشروعات الري والطب والعقاقير الصينية، ومن آثارها الباقية الكثير من الأبنية وبعض أجزاء من سور الصين العظيم، والقصر الامبراطوري في «بكين» وحدائق «شوتشو» الشهيرة وغيرها.
كانت أسرة «تشينغ » (1636ـ1911م)Ching التي أقامتها قومية «مان» أخر أسرة إقطاعية في تاريخ الصين. وفي المرحلة الأولى من عهدها شهدت الصين أكثر من مئة عام من السلم و الازدهار,ومما أفاد التجارة الصينية الدولية,حيث انتشر الشاي والخزف والحرير والمنسوجات الحريرية والمشغولات الحرفية في أوربا وروسيا واليابان. وكانت الصناعة في هذه الفترة أكثر تطوراً منها في فترة أسرة «مينغ» لكن الاقتصاد الاجتماعي في هذه الفترة ظل يجمع ما بين الزراعة الصغيرة والأعمال اليدوية العائلية، ويحقق الاكتفاء الذاتي، ولم يعتمد على السوق.
في أواخر عهد هذه الأسرة طبقت سياسة الباب المغلق، ومنعت التجارة الخارجية، مما أوقف التبادل الاقتصادي والثقافي بين الصين والبلدان الأخرى، وعرقل تقدم العلوم والثقافة الصينية، فتخلفت الصين وتعرضت للعدوان. ففي عام1840م اعتدت بريطانيا على الصين وشنت حرب «الأفيون» واحتلت جزيرة هونغ كونغ، وتلتها الدول الاستعمارية الأخرى التي بدأت التدخل في شؤون الصين وأجبرتها على فتح أسواقها وأراضيها للبضائع والنفوذ الأجنبي، وعقد المعاهدات غير المتكافئة. وقد أدى هذا إلى تفجر الأوضاع الداخلية وبدأت عمليات المقاومة (ثورة الملاكمين) وتأسست التنظيمات الوطنية الثورية التي أطاحت بالنظام الامبراطوري، وانتهى عهد أسرة تشينغ عام 1911، وتم اختيار الزعيم صن يات سن أول رئيس الجمهورية عام 1912 والذي شكل حزب الشعب الوطني (كومنتانغ Kumintang).
وتعد حركة (4 أيار) التي اندلعت في الصين عام 1919م مصدر أفكار لأحداث مهمة في تاريخ الصين المعاصر، ويعود سببها المباشر إلى المعاهدات التي فرضت على الصين في عام 1921م فتأسس الحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماوتسي تونغ[ر]، وقد مر كفاح هذا الحزب في أثناء قيادته للشعب الصيني بأربع مراحل:
ـ مرحلة الحملة الشمالية (1924ـ1927).
ـ مرحلة الثورة الزراعية: (1927ـ1937).
ـ مرحلة حرب المقاومة ضد اليابان: (1937ـ1945).
ـ مرحلة حرب التحرير الوطني: (1945ـ 1949).
وفي مرحلة حرب المقاومة ضد اليابان، تعاون الحزب الشيوعي الصيني مع حزب «الكومنتانع» في مقاومة اليابانيين، وأحرز انتصارات عديدة، ولكن في عام 1945، شن حزب «الكومنتانغ» حرباً أهلية، وبعد حرب استمرت نحو ثلاث سنوات أطاح الحزب الشيوعي الصيني بحكم حكومة «الكومنتانغ» عام 1949بقيادة تشانغ كاي تشك [ر]، التي لجأت إلى جزيرة تايوان.
وفي أول تشرين الأول عام 1949 أقيم احتفال ضخم في ميدان «تيان أن» في بكين، وأعلن الرئيس «ماوتسي تونغ» تأسيس جمهورية الصين الشعبية رسمياً، وهي التي وضعت الخطط والمشروعات الضخمة للقيام بإنجازات كبيرة، كان لها أثرها العظيم في بناء الصين الحديثة.
في بداية التأسيس، كان إنجاز الإصلاح الزراعي، وحصل 300مليون فلاح على 47مليون هكتار من الأراضي الزراعية، ونجحت الخطة الخمسية الأولى (1953ـ1957) في تحقيق إنجازات اقتصادية مدهشة، كما أقيمت مجموعة من الصناعات الأساسية التي يحتاج إليها التحديث الصناعي، ولم يكن لها وجود فيما سبق، منها صناعة السيارات والطائرات والآلات الثقيلة والدقيقة ومعدات توليد الكهرباء ومعدات التعدين والمناجم وسبائك الفولاذ وصهر المعادن وغيرها؛ أما على صعيد السياسة الخارجية فقد سعت الصين إلى التقارب مع الدول الآسيوية، وشاركت في مؤتمر باندونغ عام 1955، الذي تمخض عنه قيام حركة عدم الانحياز التي صار لها دور فاعل في السياسة الدولية.
في الفترة بين (1957ـ1966) قامت الصين بالبناء الاشتراكي على نطاق واسع، فازداد الدخل الوطني، كما ازدادت كميات الإنتاج في الصناعات الرئيسة عدة مرات، وجرى البناء الأساسي الزراعي على نطاق واسع.
وتعد الفترة الواقعة بين (1966ـ1976) التي أطلق عليها اسم «الثورة الثقافية الكبرى» من أخطر الفترات في تاريخ الصين الحديث، إذ يعدها النقاد الفترة التي نزلت فيها أخطر نكسة وأكبر خسارة بالبلاد والشعب منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، بالرغم من أن الصين أصبحت في هذه الفترة في عداد الدول النووية.
وفي تشرين الأول من عام 1976 تخلصت الصين من آثار «الثورة الثقافية الكبرى» ودخلت مرحلة جديدة في التاريخ، هي مرحلة تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي،وطرأت تغييرات كبيرة وعميقة في ملامح الصين، وأخذ يتطور اقتصادها تطوراً سريعاً، ويرتفع مستوى معيشة الشعب ارتفاعاً ملموساً.
وعلى الصعيد الخارجي تحسنت العلاقات مع اليابان وأمريكا والاتحاد السوفييتي (سابقاً)، وانتخبت الصين عضواً دائماً في مجلس الأمن (بدلاً من تايوان)، واستعادت مستعمرة هونغ كونغ من بريطانيا.
وعلى الصعيد الريفي، بدأ الإصلاح أولاً في الريف عام 1987، فأصبح بمقدور الفلاحين الذين أمسكوا من جديد بسلطة الانتفاع بالأراضي أن يرتبوا أعمالهم الزراعية باستقلالية، وتم ربط المكافأة بالإنتاج، ثم انتقل نظام إصلاح النظام الاقتصادي من الريف إلى المدن. وفي عام 1992 أعلنت الصين برنامجها الإصلاحي، وهو إقامة نظام اقتصاد السوق الاشتراكي، الذي يقوم على التمسك بمبدأ سيطرة الملكية العامة، وتطوير أشكال متنوعة من الفعاليات الاقتصادية، وتحويل آلية إدارة المؤسسات الحكومية، وإنشاء نظام السوق الموحد المنفتح داخل البلاد، ودمج السوق المحلية بالسوق الدولية.
وفي عام 1997، أكدت حكومة الصين مرة أخرى أن الاقتصاد غير الحكومي جزء مهم من الاقتصاد الاشتراكي الصيني، كما شجعت رأس المال والتقانات وغيرهما من العناصر الإنتاجية على إظهار دورها في توزيع الفوائد، لكي يخطو إصلاح النظام الاقتصادي الصيني خطوات أوسع، وكان من نتائج هذه الخطوات الاستراتيجية:
ـ تحقيق معدل نمو اقتصادي سنوي مرتفع، قلّ مثيله.
ـ تحسين هيكلية الصناعات والوصول بها إلى مستويات متطورة قادرة بقوة على المنافسة العالمية.
ـ الارتقاء بمستوى البحوث والدراسات التنموية في البلاد كلها،والسيطرة على الزيادة السكانية.
وأدى كل هذا إلى ازدياد معدل نصيب الفرد من الدخل، وارتفاع مستوى الدخل لفئات الشعب الصيني كافة. وهكذا غدت الصين الشعبية إحدى القوى الاقتصادية الكبرى في العالم.
علي القيّم
تقع جمهورية الصين الشعبية المترامية الأطراف في الجزء الشرقي من قارة آسيا، وعلى الساحل الغربي من المحيط الهادئ، وتكاد مساحتها تعادل مساحة أوربا بأكملها.
على هذه الأراضي الشاسعة نشأت حضارة الصين التي تعد من أقدم الحضارات في العالم، وهي وحدها، من بين أربع حضارات عريقة، تواصلت فيها الحضارة ولم تنقطع، مثلها مثل حضارة وادي النيل وحضارة بلاد ما بين النهرين وحضارة الهند القديمة. لقد اكتُشف في الصين متحجرات الإنسان البدائي في «يواغو» بمقاطعة «يونّان» (إنسان يواغو) الذي عاش قبل (1.7)مليون عام تقريباً. وظهر «إنسان بكين» الذي عاش في «زوكوديان» بالقرب من بكين قبل 600ألف عام تقريباً، ويتصف بالمميزات الأساسية للإنسان، إذ استطاع المشي معتدل القامة، وصنع أدوات حجرية بسيطة واستعملها، كما عرف كيف يستخدم النار ويسيطر عليها، وانتشرت آثار العصر الحجري الحديث قبل عشرة آلاف سنة تقريباً في أنحاء الصين، واكتشف الأرز وحبوب الدخن التي زرعها الإنسان وبقايا أدوات زراعية في مواقع «خيمودو» في «يويتاو» بمقاطعة «جيجيان» Zhejiang وبانيوه في «شيآن» Xi’an التي يعود تاريخها إلى ما قبل الألف السابع قبل الميلاد.
وقبل نحو أربعة آلاف عام قبل الميلاد.استوعب الصينيون فن صهر البرونز،وقبل أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، أي في عهد أسرة شانغ نحو (1700ـ1046ق.م)، بدؤوا يستخدمون الأدوات الحديدية، وفي مجال صناعة الفخار،تم إنتاج أدوات الفخار الأبيض و الفخار الملوّن، كما تطور نسيج الحرير، فظهرت أول فنون نسيج الحرير «الجيكاري» في تاريخ العالم. وفي أسرة تشو (1046ـ256ق.م) ظهر في الصين فن صناعة الفولاذ، وفي هذا العصر وعصر الممالك المتحاربة كانت النشاطات العلمية والفكرية في تطور لم يسبق له مثيل، إذ ظهر الفيلسوف «لاوتسى» Lao Tzuو«كونفوشيوس» Confucius، و«منشيوس»Mencius، والاستراتيجي «سون وو» الذين أثروا تأثيراً عميقاً واسعاً في الأجيال اللاحقة.
في عام 221ق.م أنهى الإمبراطور الداهية «تشين شي هوانغ» النزاعات بين الأمراء وحكام الممالك المتحاربة التي دامت أكثر من 250سنة، وأسس أول دولة إقطاعية مركزية موحدة متعددة القوميات في تاريخ الصين، كما وحدّ اللغة المكتوبة والمقاييس والمكاييل والنقد، وأقام نظام المحافظات والولايات واستخدم أكثر من 300ألف شخص لمدة بضعة عشر عاماً لبناء سور الصين العظيم، كما بدأ في بناء مقبرة ضخمة،وهو ما يزال على قيد الحياة، فيها تماثيل الجنود والخيول الصلصالية لحراسة مقبرة الامبراطور المكتشفة عام 1974، وكانت بمنزلة اكتشاف العصر،و عُدّت «الأعجوبة الثامنة في العالم» حيث اكتشف فيها 8000تمثال لجنود وخيول وعربات حربية صلصالية بالحجم الواقعي.
تاي تسونغ أول وأقوى أباطرة سلالة تانغ |
بعد أسرة هان، جاء عصر أسرة «تانغ» (618ـ907م) Tang فشهدت الصين سلسلة من السياسات المنفتحة، مما حقق الازدهار و الرخاء في مجال الزراعة و الحرف اليدوية والتجارة، وتطورت فنون الغزل و النسيج والفخار والخزف وصهر المعادن وصناعة السفن، وفي الوقت نفسه تطورت المواصلات البرية والمائية وقامت اتصالات اقتصادية وثقافية واسعة مع كثير من البلدان مثل: اليابان وكوريا والهند وبلاد فارس والبلدان العربية.
وفي عهد أسرة تانغ انتقلت صناعة الورق و الغزل والنسيج والخزف الصيني إلى البلدان العربية ثم إلى أوربا، وقلّد اليابانيون الثقافة الصينية ونظام أسرة تانغ في تحديد النظام السياسي والأسلوب المعماري، حتى أزياء النساء،لذلك تكونت الثقافة اليابانية متأثرة بثقافة أسرة تانغ، حيث كانت هذه الأسرة تتمتع بسمعة عظيمة في العالم، وبدأت البلدان الأخرى تسمي الصينيين «إنسان تانغ» وتستخدم هذه التسمية في بعض الدول حتى هذه الأيام.
ظهر انفتاح أسرة «تانغ» في الشؤون الدينية أيضاً، حيث جعلت الأديان المحلية والأديان الدخيلة متساوية، ووصلت البوذية إلى قمة ازدهارها. ووجد الإسلام الذي جاء من المنطقة العربية، والمذهب النسطوري الذي جاء من البحر المتوسط، مكاناً لهما في الصين. وفي عهد هذه الأسرة التقت تقنية الطباعة بصناعة الورق، مما ساعد كثيراً على انتشار الثقافة، وبدأ استخدام البارود في الشؤون العسكرية، ثم انتشر البارود مع صناعة إكسير الخلود والطب الصيني في البلدان العربية، ثم انتقل إلى أوربا بوساطة العرب في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين.
بعد انتهاء أسرة تانغ شهدت الصين انقساماً، حيث ظهرت أسرات ملكية في أواسط الصين على التوالي من عام 907إلى960م، ثم تأسست أسرة سونغ Sungالتي قامت ببعض تجارب الإصلاح في المناطق الشمالية،لكنها تعرضت إلى تهديد القوميات البدوية،فانتقلت مضطرة إلى الجنوب. ومع أن هذه الأسرة كانت ضعيفة نسبياً في الشؤون العسكرية والدبلوماسية، فقد شهد اقتصادها في القرن العاشر أعظم تقدم منذ فجر تاريخ الصين، ومع تطور الصناعة والتجارة ظهرت بجوانب المدن والطرق الرئيسة الريفية بلدات جديدة كمراكز للبضائع و الطباعة وإنتاج الخزف، فتشكل أسلوب حياة مدنية جديدة مزدهرة.
وبين عامي 1008و1016م نشر/17/تاجراً غنياً بشكل مشترك عملة «جياوتشي»، وهي أول عملة ورقية في العالم، وكانت التجارة المحلية والخارجية نشيطة جداً،حيث وصلت السفن التجارية الصينية إلى جنوب شرقي آسيا وسواحل المحيط الهندي والجزيرة العربية، وساحل إفريقيا الشرقي. وكانت الصين في مقدمة العالم في صناعة السفن والملاحة، وكانت فترة أسرة «سونغ» قمة تطور العلوم والتقنية الصينية القديمة حيث ظهرت الطباعة بالحروف المطبعية، والإبرة المغنطيسية، وآلة النسيج بالقوة المائية، وجدار السفينة المقاوم للماء. وقد انتقلت هذه الاختراعات إلى المناطق والبلدان الآسيوية والأوربية، ومن المعروف أن هذه الاختراعات غيّرت ملامح العالم وأوضاعه.
كانت أسرة «يوان» (1271ـ1368م)Yuan ، بعد أسرة سونغ، أول سلطة موحدة أقامتها إحدى الأقليات القومية في تاريخ الصين، فبعد أن وحد «جنكيزخان» القبائل المنغولية في أوائل القرن الثالث عشر، شن الحروب الواسعة في شتى أنحاء العالم، وأسس أبناؤه وأحفاده امبراطورية امتدت على القارتيين الأوربية والآسيوية التي سرعان ما انقسمت إلى عدة دول. وفي عام 1271م، حولت السلطة المنغولية التي دخلت أواسط الصين اسم دولتها إلى أسرة «يوان» واتخذت مدينة دادو (بكين الحالية) عاصمة لها، ومع تعاقب الأسر الإقطاعية الصينية كانت بكين عاصمة لها أيضاً.
كانت هذه فترة امتزاج القوميات الصينية، وانتقال عدد كبير من العرب والفرس إلى الصين، وشهدت فيها صناعة الغزل و النسيج و الخزف تطوراً جديداً، وأصبح القماش القطني مادة رئيسة لملابس الجنوب، وأصبحت المنسوجات الحريرية والخزفيات أهم الصادرات،كما كانت هناك علاقات تجارية متطورة بين كثير من الدول والمناطق الآسيوية و الإفريقية والأوربية، كما تطور الأدب و الفن الصيني.
الفترة الواقعة بين (1368ـ1644م) كانت فترة أسرة «مينغ» Ming التي قامت بطرد آخر أباطرة أسرة «يوان» إلى الصحراء، وكانت هذه الأسرة قوية في مرحلتها الأولى، وبلغت نشاطات الملاحة فيها أوجها، حيث جابت السفن الصينية شتى أرجاء العالم، تذهب بالحرير والطاسات الخزفية الزرقاء،وتعود بالمجوهرات والتوابل والعقاقير الطبية.
وفي القرن السادس عشر استوردت أسرة «مينغ» البطاطا والذرة و الفول السوداني والتبغ ونشرتها في أرجاء البلاد. كما تطورت صناعة الخزف إلى مستوى جديد. وفي عهد هذه الأسرة ظهرت معامل للغزل والنسيج اليدوي، كما تحققت إنجازات جديدة في مشروعات الري والطب والعقاقير الصينية، ومن آثارها الباقية الكثير من الأبنية وبعض أجزاء من سور الصين العظيم، والقصر الامبراطوري في «بكين» وحدائق «شوتشو» الشهيرة وغيرها.
كانت أسرة «تشينغ » (1636ـ1911م)Ching التي أقامتها قومية «مان» أخر أسرة إقطاعية في تاريخ الصين. وفي المرحلة الأولى من عهدها شهدت الصين أكثر من مئة عام من السلم و الازدهار,ومما أفاد التجارة الصينية الدولية,حيث انتشر الشاي والخزف والحرير والمنسوجات الحريرية والمشغولات الحرفية في أوربا وروسيا واليابان. وكانت الصناعة في هذه الفترة أكثر تطوراً منها في فترة أسرة «مينغ» لكن الاقتصاد الاجتماعي في هذه الفترة ظل يجمع ما بين الزراعة الصغيرة والأعمال اليدوية العائلية، ويحقق الاكتفاء الذاتي، ولم يعتمد على السوق.
في أواخر عهد هذه الأسرة طبقت سياسة الباب المغلق، ومنعت التجارة الخارجية، مما أوقف التبادل الاقتصادي والثقافي بين الصين والبلدان الأخرى، وعرقل تقدم العلوم والثقافة الصينية، فتخلفت الصين وتعرضت للعدوان. ففي عام1840م اعتدت بريطانيا على الصين وشنت حرب «الأفيون» واحتلت جزيرة هونغ كونغ، وتلتها الدول الاستعمارية الأخرى التي بدأت التدخل في شؤون الصين وأجبرتها على فتح أسواقها وأراضيها للبضائع والنفوذ الأجنبي، وعقد المعاهدات غير المتكافئة. وقد أدى هذا إلى تفجر الأوضاع الداخلية وبدأت عمليات المقاومة (ثورة الملاكمين) وتأسست التنظيمات الوطنية الثورية التي أطاحت بالنظام الامبراطوري، وانتهى عهد أسرة تشينغ عام 1911، وتم اختيار الزعيم صن يات سن أول رئيس الجمهورية عام 1912 والذي شكل حزب الشعب الوطني (كومنتانغ Kumintang).
وتعد حركة (4 أيار) التي اندلعت في الصين عام 1919م مصدر أفكار لأحداث مهمة في تاريخ الصين المعاصر، ويعود سببها المباشر إلى المعاهدات التي فرضت على الصين في عام 1921م فتأسس الحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماوتسي تونغ[ر]، وقد مر كفاح هذا الحزب في أثناء قيادته للشعب الصيني بأربع مراحل:
الغزو الياباني للصين في 7حزيران 1937 عند جسر ماركو بولو قرب بكين يقف هذا الجندي الصيني حارساً قبل الهجوم بقليل |
ـ مرحلة الثورة الزراعية: (1927ـ1937).
ـ مرحلة حرب المقاومة ضد اليابان: (1937ـ1945).
ـ مرحلة حرب التحرير الوطني: (1945ـ 1949).
وفي مرحلة حرب المقاومة ضد اليابان، تعاون الحزب الشيوعي الصيني مع حزب «الكومنتانع» في مقاومة اليابانيين، وأحرز انتصارات عديدة، ولكن في عام 1945، شن حزب «الكومنتانغ» حرباً أهلية، وبعد حرب استمرت نحو ثلاث سنوات أطاح الحزب الشيوعي الصيني بحكم حكومة «الكومنتانغ» عام 1949بقيادة تشانغ كاي تشك [ر]، التي لجأت إلى جزيرة تايوان.
وفي أول تشرين الأول عام 1949 أقيم احتفال ضخم في ميدان «تيان أن» في بكين، وأعلن الرئيس «ماوتسي تونغ» تأسيس جمهورية الصين الشعبية رسمياً، وهي التي وضعت الخطط والمشروعات الضخمة للقيام بإنجازات كبيرة، كان لها أثرها العظيم في بناء الصين الحديثة.
في بداية التأسيس، كان إنجاز الإصلاح الزراعي، وحصل 300مليون فلاح على 47مليون هكتار من الأراضي الزراعية، ونجحت الخطة الخمسية الأولى (1953ـ1957) في تحقيق إنجازات اقتصادية مدهشة، كما أقيمت مجموعة من الصناعات الأساسية التي يحتاج إليها التحديث الصناعي، ولم يكن لها وجود فيما سبق، منها صناعة السيارات والطائرات والآلات الثقيلة والدقيقة ومعدات توليد الكهرباء ومعدات التعدين والمناجم وسبائك الفولاذ وصهر المعادن وغيرها؛ أما على صعيد السياسة الخارجية فقد سعت الصين إلى التقارب مع الدول الآسيوية، وشاركت في مؤتمر باندونغ عام 1955، الذي تمخض عنه قيام حركة عدم الانحياز التي صار لها دور فاعل في السياسة الدولية.
في الفترة بين (1957ـ1966) قامت الصين بالبناء الاشتراكي على نطاق واسع، فازداد الدخل الوطني، كما ازدادت كميات الإنتاج في الصناعات الرئيسة عدة مرات، وجرى البناء الأساسي الزراعي على نطاق واسع.
وتعد الفترة الواقعة بين (1966ـ1976) التي أطلق عليها اسم «الثورة الثقافية الكبرى» من أخطر الفترات في تاريخ الصين الحديث، إذ يعدها النقاد الفترة التي نزلت فيها أخطر نكسة وأكبر خسارة بالبلاد والشعب منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، بالرغم من أن الصين أصبحت في هذه الفترة في عداد الدول النووية.
وفي تشرين الأول من عام 1976 تخلصت الصين من آثار «الثورة الثقافية الكبرى» ودخلت مرحلة جديدة في التاريخ، هي مرحلة تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي،وطرأت تغييرات كبيرة وعميقة في ملامح الصين، وأخذ يتطور اقتصادها تطوراً سريعاً، ويرتفع مستوى معيشة الشعب ارتفاعاً ملموساً.
وعلى الصعيد الخارجي تحسنت العلاقات مع اليابان وأمريكا والاتحاد السوفييتي (سابقاً)، وانتخبت الصين عضواً دائماً في مجلس الأمن (بدلاً من تايوان)، واستعادت مستعمرة هونغ كونغ من بريطانيا.
وعلى الصعيد الريفي، بدأ الإصلاح أولاً في الريف عام 1987، فأصبح بمقدور الفلاحين الذين أمسكوا من جديد بسلطة الانتفاع بالأراضي أن يرتبوا أعمالهم الزراعية باستقلالية، وتم ربط المكافأة بالإنتاج، ثم انتقل نظام إصلاح النظام الاقتصادي من الريف إلى المدن. وفي عام 1992 أعلنت الصين برنامجها الإصلاحي، وهو إقامة نظام اقتصاد السوق الاشتراكي، الذي يقوم على التمسك بمبدأ سيطرة الملكية العامة، وتطوير أشكال متنوعة من الفعاليات الاقتصادية، وتحويل آلية إدارة المؤسسات الحكومية، وإنشاء نظام السوق الموحد المنفتح داخل البلاد، ودمج السوق المحلية بالسوق الدولية.
وفي عام 1997، أكدت حكومة الصين مرة أخرى أن الاقتصاد غير الحكومي جزء مهم من الاقتصاد الاشتراكي الصيني، كما شجعت رأس المال والتقانات وغيرهما من العناصر الإنتاجية على إظهار دورها في توزيع الفوائد، لكي يخطو إصلاح النظام الاقتصادي الصيني خطوات أوسع، وكان من نتائج هذه الخطوات الاستراتيجية:
ـ تحقيق معدل نمو اقتصادي سنوي مرتفع، قلّ مثيله.
ـ تحسين هيكلية الصناعات والوصول بها إلى مستويات متطورة قادرة بقوة على المنافسة العالمية.
ـ الارتقاء بمستوى البحوث والدراسات التنموية في البلاد كلها،والسيطرة على الزيادة السكانية.
وأدى كل هذا إلى ازدياد معدل نصيب الفرد من الدخل، وارتفاع مستوى الدخل لفئات الشعب الصيني كافة. وهكذا غدت الصين الشعبية إحدى القوى الاقتصادية الكبرى في العالم.
علي القيّم