الوثيقة بالفنون البصرية والشعائر الرمزية جعلت الكاتب يحدد مكانها في تاريخ الثقافة قائلاً إنها ذات صلة متينة بالدين وروح العصر والكاثوليكية .
وحين نرقى نجد أرفع ثلاث درجات من الصورة وهي تصاعدياً : الغارقة فالحذرية فالممتدة ، والأولى تشيع في الشعر التقليدي ، والثانية في الميتافيزيقي ، والثالثة لدى شكسبير وبيكون وبراون وبيرك والعناصر التي تشهد لهذه الصورة بالتفوق هي خصائصها الأدبية ورفضها التصوير البصري ، وجوهر ها قيامها على التفكير الإستعاري وتداخل مركباتها وتزاوجها المثمر الخلاق ، والصورة الأولى «الغارقة» ويجب ألا نخلط بينها وبين الصورة البالية أو الخابية )Faded تظل في مستوى يحول دون رؤيتنا لها رؤية كاملة، وتوحي عادة بالحسي والمجسد دون أن توضحه أو تحدده ، وافتقارها إلى المعالم البارزة الصارخة يجعلها ملائمة لكتابة التأملات. أما الصورة الجذرية (وربما سميت كذلك لأن مركباتها لا تلتقي إلا عند جذورها ، و على أساس منطقي في مثل الدافع الأول أو السبب البعيد وإن كان هذا لا يمنع أن تلتقي عند السطوح الواضحة لها ) -- فلعلنا نجد لها وصفاً ليس شاملاً ولا دقيقاً غير غرضنا فنقول إنها غير شاعرية ، إما لأنها مألوفة جداً ، أو لقصد النفع منها ، أو لأنها تقوم على أساس علمي، إن الصورة الجذرية تتوسل بجانب استبصاري ليس له ارتباطات عاطفية ولذلك فهي أقرب إلى التفكير المجرد ، أو الإستعمال النثري ، ويقول ) واز » ورغم ذلك فانه لا يمنع أن تستقي هذه الصور موادها من آبار اعتدنا أن نجد فيها ماء رومانسياً كالأنهار والبحار والجبال . وأخيراً نصل إلى الصور يوحي اسمها على نقيض المركزة ، إنها صورة العاطفة المشبوبة والتأمل الأصيل ، وتصل إلى أوجها في الإستعارات الشاملة الشائعة في الفلسفة والدين ، وإذا شئنا تحديداً لها قلنا إنها ذات أوجه شبه يفتح كل منها آفاقاً عريضة أمام الخيال ، ويعدل كل مركب فيها صاحبه ، إنها تلك التي نجد فيها أهم صور التأثير الشعري ألا وهو التفاعل والتداخل والإلتحام بين المركبات .
وفي نطاق الرؤية الكلية للصورة نجد الإتجاهين الآخرين أو النمطين من البحث : الأول يتجه نحو المضمون والآخر نحو الشكل ، وقد صدرت دراسات عديدة حول النمط الأول ( مضمون الصورة ) بدأت من دراسة الرائدة (سبير جين ) عن ( الصور عند شكسبير وماذا تنبئنا عنه ) ، وامتدت حتى اليوم ، وتركز جميعها حول المصادر التي تستقى منها الصور ، أو حول موضوعاتها وموادها ومجالاتها ، وما يمكن لهذه كلها أن تكشف عنه من ذوق العصر أو الفنان وطبيعة شخصيتهما ومزاجهما وأفكارهما ومعارفهما ، وبكلمة مختصرة ماذا تخبرنا عن فرديتهما وخصوصيتهما وروحيهما ، روح الإنسان الشاعر وروح العصر الذي وجد فيه ، ومعظم هذه الدراسات تنهج الطريقة الإحصائية Statistic Way في رصد الصور وإن كان بعضها يجنح إلى دراسة الصور في نسقها الفرد ، في حين يؤثر بعضها الآخر دراسة الصور في تجمعاتها ، أو ما يمكن أن نقد عناقيد الصور وتمثل ( سبير جين » الفريق الأول ، في حين يمثل ) أرمسترونغ ( الذي تأثر بها كثيراً الفريق الثاني ، وطريقة سبير جين ) في القسم الأول من دراستها أصبحت الآن أكثر من معروفة، فقد صنفت جميع صور شكسبير إلى أنماط أو أنواع تبعاً للمصادر التي استقى منها الشاعر صوره ، وبمقارنة الرسوم البيانية نتبين مثلاً أنه استقى ١٥,٥٪ من مجموع صوره من الطبيعة الحية و ١٣,٥ ٪ من الطبيعة الميته ، و ١٨,٥٪ من الحياة اليومية وهلم جرا .... وانتهت إلى اعطاء صورة لشخصية الكاتب وإحساساته وطرق تفكيره .
و في القسم الثاني من الكتاب وعنوانه « وظيفة الصور من حيث هي متكا ونغم خفي في فن شكسبير فانه يضطلع بتطوير الظاهرة التالية وإرساء قواعدها أن كل مسرحية من مسرحياته مبنية تقريباً حول وهي من الصور المتكررة تؤلف لها موضوعها الخاص بها ، فترتكز مسرحية ( الحب الضائع ) على الحرب والسلام ، وترتكز ( هاملت ) و « ترو بلوس » على المرض والداء والفساد والملك لير » على الجسم الإنساني وهو يتلوى في العذاب ... وهكذا فلكل مسرحية صور خاصة تصدر عن حالة مزاجية خاصة ، وتقول « سبير جين » إن هذه الصور ليست المعالم السطحية للمسرحيات وإنما هي أعمق من ذلك بكثير لأنها اندماج الشعور باللاشعور .
وقد استغل « ثيودور سبنسر ( في كتابه شكسبير وطبيعة الإنسان ) الذي صدر عام ١٩٤٢ نتائج ( سبير جن ) كثيراً ، واقترح نوعاً آخر من التوسع يقوم على المعالجة الحية النامية لا الساكتة للعمل ، فلا نكتفي بأن كما لاحظت - أن مسرحية هاملت ، تحوي من صور الداء أكثر من أية مسرحية أخرى، وإنما أن نرى في تراكم الصور حتى يصبح لها ذروة أمراً ذا مغزى على وجه الخصوص ، و ، وأن ١٥% منها ترد بعد منتصف المسرحية .
أما الدراسة العنقودية التي قام بها ( آرمسترونغ ) فتعتمد على صور الطيور والحشرات عند شكسبير ، وتتبع عناقيد التداعي المتصل بها خلال أعماله والكشف عن المبادىء والإستقطابات وعادات الفكر التي تكمن تحت تأثير هذا التداعي ، ويقدم لذلك أربعة جداول يعدها مفاتيح العناقيد ، كما يعدها مفاتيح لشخصية شكسبير ، ولطبيعة ذهنه وهذه طائرة الورق و ( الخنفساء ) و ( اليعسوب وابن عرس ) العناقيد هي الأوزة معاً ، وينتهي من كتابه إلى النتائج الآتية :
١ - تقنية جديدة لحل المشكلات القائمة في الدراسات الشكسبيرية .
٢ - نظرية عن كيفية عمل الخلق بعامة .
٣ - سير لعقل شكسبير وآثاره .
والفرق بين هذه الدراسة العنقودية والدراسة السابقة الأفرادية أن هذه تتبع تداعي الموضوع الواحد وصوره في ذهن الفنان في جميع أعماله فتقول لنا إن صورة كذا ترتبط في ذهن الشاعر بكذا » الدراسة الأخرى على رؤية الصورة في صلتها بغيرها في العمل الواحد . وبعد ذلك تلتقي الدراستان في أنهما تفصلان الصور عن نطاقها الحي وتجردانها من نسقها .
هذه الدراسات العديدة التي ركزت على مضمون الصورة لا يقابلها في دراسة شكل الصورة وتطورها سوى العدد المحدود من الأبحاث ، ولعل أشهرها دراسة كليمن» عن «تطور الصور الشعرية عند شكسبير » (۱) يبدأ البحث بأن يهاجم الدارس منهج (سبير جن ) هجوماً صريحاً ، ويسخر من طريقة الإحصاء التي اتبعتها ويقول : من الأمور الغريبة أن جهودنا لا ترتوي إلا إذا نجحنا في تصنيف المادة الأدبية وتبويبها فنظن أننا قد أصبنا الهدف مادمنا قد قسمنا الظواهر الأدبية وفصلناها ، ثم أعدنا تقسيمها إلى فروع أدق وأضيق نطاقاً . وجعلنا منها أبواباً تشبه الأعشاش في أبراج الحمام ، وألصقنا على كل باب بطاقة بالاسم والعنوان ، وهذا بطبيعة الحال يدمر إحساسنا النابض بوحدة العمل الشعري ، وتنوع ظلاله ، وثراء أصباغه ، والمصدر الأساسي الخطأ هو منهج الإحصاء المضلل الذي لا يمكن له أن يحرز نتائج مرضية في الدراسات الأدبية ، إن الإحصاءات تو همنا أن المادة المبوبة تحت إحدى البطاقات مادة من نوع واحد متساوية في دلالتها ، فاذا انتهينا مثلاً من إحصاء مسرحية ما إلى أن ثمة ثلاث صور البحر تقابل ثماني صور للحدائق وجدنا بين أيدينا إحصاء قد ضللنا بدلاً من أن يفيدنا ، فربما كانت صور البحر صوراً سائدة شاملة وربما كان موقعها في العمل وعلاقاتها بالشخصيات التي نطقت بها سبباً أو أكثر لكي تميل كفة الموازنة إلى جانبها رغم قلة عددها .
ورغم ذلك فالباحث يلتمس الأعذار لسبير جن لأن هدفها لم يكن دراسة فن شكسبير بل دراسة شخصيته وحواسه وذوقه واهتماماته، وهنا يكمن جوهر الإختلاف بين الدراستين أو المنهجين فكارولين شغلت أولا وقبل كل شيء بمضمون الصور ، أما كليمين فيهتم بشكل الصور وعلاقتها بالسياق الذي وردت ونبتت فيه وعاشت ، إلى جانب دراسة وظائفها المختلفة وتطورها مع فن شكسبير ، ولكي يتجنب الدارس أضرار فصل الصور عن السياق بدأ بتحديد جو الصورة بأن طرح الأسئلة الآتية : ماصلة الصورة الفنية بتسلسل الفكرة ؟ كيف تلائم الصورة سياق النص هل هناك مقاييس تمكن من التمييز بين ألوان علاقة الصورة بالسياق؟ ثم هل يؤثر شكل الحديث المسرحي حواراً كان أم « مونولوجاً ، في طبيعة الصورة ؟ ما الدوافع الخاصة التي تؤدي إلى خلق الصور في المسرحيات هل ثمة مواقف معينة تتطلب التعبير بالصور ؟ ما علاقة الصور بهذه جميعاً؟ وأخيراً ما العلاقة - إن وجدت - بين طبيعة الشخصيات التي يرسمها شكسبير وبين الصور الفنية التي يستخدها والتساؤل عما إذ كانت هناك شخصيات تتميز باللجوء إلى الصور في التعبير بصفة خاصة ..؟! . .
في نطاق هذا الإطار يخطو كليمين خطواته لدراسة التطور العام لفن شكسبير وكيف أسهمت الصور الشعرية فيه، كيف أثرت وتأثرت كيف سارت مراحله متمهلة السير وثيدته في البداية ثم أسرعت حثيثاً نحو النضج والإكتمال في آخر ما أبدعه الشاعر ؟ . . ويضرب الدارس أمثلة على ذلك فيقول : إن أي شخص يتجشم عناء مقارنة الصور الفنية في مسرحية « أنطونيو وكليو باتره ( بالصور الفنية في مسرحية « هنري السادس ) أو ( السيدان من فيرونا ) سوف يهوله الفرق الشاسع بين هذه وتلك ، وسوف يحمله ذلك التباين الكبير على الإعتقاد بأنه لا توجد ثمة علاقة أو فترة انتقال بين هذين الأسلوبين ، ولكننا إذا أنعمنا النظر في مسرحيات شكسبير جميعها وفحصنا كل مسرحية حسب سياقها التاريخي رأينا جلياً أن فن الصور في مآسيه لم ينشأ طفرة ، وإنما سبقه إعداد تدريجي استغرق زمناً طويلاً فان شكسبير لم يكتشف امكانات هذا الفن، في العمل المسرحي إلا بعد ممارسة مضنية ومعاناة وتجارب لا حصر لها ؟ فالوظائف التي تقوم بها الصور في البداية قليلة وبسيطة أما في مآسيه الأخيرة فوظائفها تتنوع وتلعب أدواراً حاسمة في رسم والتعبير عن موضوعاته المسرحية ، بل إن الصور الفنية تصبح ا وسائل التعبير لديه في آخر أعماله ، ومن ثم يحدد الكتاب هدفه وهو دراسة هذا التطور في مراحله المنفصلة وأشكاله المستقلة ، وإظهار علاقته بالتطور العام لفن الشاعر العظيم ، ويبدأ البحث بدراسة كل مسرحية على حدة وربطها جميعاً بالرباط العام الذي يسير في أعماق الجميع وهو تطور صورها الفنية .
وإذا كان لنا من كلمة نقولها هنا فهي إعادة تلك المشكلة التقليدية عن خطر الفصل بين الشكل والمضمون، والإعتماد على منهج واحد يتناسى معه بقية المناهج أو نتائجها ، فالدراسات التي وقفت عند مضمون الصورة أو مادتها دون أن تتضمن أي تحليل لبنائها أو تطورها لا تفترق في قليل ولا كثير عن الدراسات التقليدية التي اهتمت بمعنى العمل أو موضوعات القصيدة ، وقد وصلت معظمها إلى نتائج مضحكة فالآنسة ( سميث) في ( الصور الفنية عند مارلو ) انتهت إلى أن بعض الأبيات التي نسبت إلى الشاعر لم يكتبها هو . فنسبتها إلى مجهول ! ! ، وانتهى ( بانكس ) في دراسته لشعر ملتون إلى أن مضمون صوره يؤكد ما تناقلته الأخبار عن حياته أما الأطروحة التي تتبعت خطا سبيرجن ، و درست الصور عند ورد زورث فقد وصلت إلى عكس ذلك ، وصلت إلى أن مضمون شعره من خلال صوره يخالف حقائق حياته التي وردت فيها نصوص كثيرة ، بل إن « هل » انتهت إلى أن معظم صوره مستمد من الطبيعة ولذلك فقد كان يعيش في الريف بعيداً عن المدينة ، بل كان يمضي أكثر أيامه فوق سفوح الجبال بعيداً عن العمران أيضاً ! ! .
ومن مخاطر هذه الدراسة الإتكاء على الطريقة الإحصائية التي هاجمها و كليمين كما رأينا . وفي الحق أنها طريقة تجريدية فضلاً عن أنها ذاتية صرف ، وتحكمية متغيرة ، وربما حملت في كثير من الأحيان دلالة سالبة لا موجبة ، فعدد الصور الذي ترصده هذه الطريقة لا يعني شغف الفنان بالموضوع فحسب وإنما قد يعني عكس ذلك ، فمثلاً كان المعلقون قد استنتجوا من كثرة إشارات شكسبير إلى الصيد أنه شغف به ، ووصفه بعضهم بأنه صياد حاذق ، ثم اتضح من دراسة الكيف في صوره ، أنه ينفر من الصيد ويكرهه لما فيه من قسوة وسفك دماء .
ومثل ذلك يقال عن الدراسة الشكلية والتطورية للصورة وإن كانت أقل مخاطر وأكثر أهمية من سابقتها ، فأي شاعر يحاول أن يقدم دلالة أو وجهة نظر أو مضموناً ، أو اختر أي لفظ شئت لا يستطيع أن يصل إلى ذلك عن طريق الشكل أو دراسة تطور الصورة فحسب دون الإشارة إلى غرض العمل والقصد من ورائه ، إن البناء الفني يتأثر ويؤثر بما يحمله من قيم ومعطيات ، ويشكل العمل بأكمله، ودراسة قطاع واحد من هذا العمل ، أو فصله عن بقية القطاعات لا يلقي بالضوء الكافي على طبيعته ، وعلى هذا يمكن أن نزعم أن معظم الأخطاء في هذه الطريقة أو تلك تأتي من اتباع منهج واحد وتجاهل آخر ، أو سلوك طريقة ونسيان أخرى .
ونحن نعتقد من هذه الجهة أنه سواء أردنا أن للوصول إلى فن الكاتب وتطوره ، أم للوقوف على شخصيته أو فرديته أو حياته فلا بد من أن تتعاون الأخبار ومعطيات الصور . شكلها وتطورها . بناؤها ونماؤها ، الخارج والداخل فيها حتى نكون أقرب مانكون من الصحة والسلامة والحقيقة التي نتلمسها ونسعى إليها جميعاً .
وحين نرقى نجد أرفع ثلاث درجات من الصورة وهي تصاعدياً : الغارقة فالحذرية فالممتدة ، والأولى تشيع في الشعر التقليدي ، والثانية في الميتافيزيقي ، والثالثة لدى شكسبير وبيكون وبراون وبيرك والعناصر التي تشهد لهذه الصورة بالتفوق هي خصائصها الأدبية ورفضها التصوير البصري ، وجوهر ها قيامها على التفكير الإستعاري وتداخل مركباتها وتزاوجها المثمر الخلاق ، والصورة الأولى «الغارقة» ويجب ألا نخلط بينها وبين الصورة البالية أو الخابية )Faded تظل في مستوى يحول دون رؤيتنا لها رؤية كاملة، وتوحي عادة بالحسي والمجسد دون أن توضحه أو تحدده ، وافتقارها إلى المعالم البارزة الصارخة يجعلها ملائمة لكتابة التأملات. أما الصورة الجذرية (وربما سميت كذلك لأن مركباتها لا تلتقي إلا عند جذورها ، و على أساس منطقي في مثل الدافع الأول أو السبب البعيد وإن كان هذا لا يمنع أن تلتقي عند السطوح الواضحة لها ) -- فلعلنا نجد لها وصفاً ليس شاملاً ولا دقيقاً غير غرضنا فنقول إنها غير شاعرية ، إما لأنها مألوفة جداً ، أو لقصد النفع منها ، أو لأنها تقوم على أساس علمي، إن الصورة الجذرية تتوسل بجانب استبصاري ليس له ارتباطات عاطفية ولذلك فهي أقرب إلى التفكير المجرد ، أو الإستعمال النثري ، ويقول ) واز » ورغم ذلك فانه لا يمنع أن تستقي هذه الصور موادها من آبار اعتدنا أن نجد فيها ماء رومانسياً كالأنهار والبحار والجبال . وأخيراً نصل إلى الصور يوحي اسمها على نقيض المركزة ، إنها صورة العاطفة المشبوبة والتأمل الأصيل ، وتصل إلى أوجها في الإستعارات الشاملة الشائعة في الفلسفة والدين ، وإذا شئنا تحديداً لها قلنا إنها ذات أوجه شبه يفتح كل منها آفاقاً عريضة أمام الخيال ، ويعدل كل مركب فيها صاحبه ، إنها تلك التي نجد فيها أهم صور التأثير الشعري ألا وهو التفاعل والتداخل والإلتحام بين المركبات .
وفي نطاق الرؤية الكلية للصورة نجد الإتجاهين الآخرين أو النمطين من البحث : الأول يتجه نحو المضمون والآخر نحو الشكل ، وقد صدرت دراسات عديدة حول النمط الأول ( مضمون الصورة ) بدأت من دراسة الرائدة (سبير جين ) عن ( الصور عند شكسبير وماذا تنبئنا عنه ) ، وامتدت حتى اليوم ، وتركز جميعها حول المصادر التي تستقى منها الصور ، أو حول موضوعاتها وموادها ومجالاتها ، وما يمكن لهذه كلها أن تكشف عنه من ذوق العصر أو الفنان وطبيعة شخصيتهما ومزاجهما وأفكارهما ومعارفهما ، وبكلمة مختصرة ماذا تخبرنا عن فرديتهما وخصوصيتهما وروحيهما ، روح الإنسان الشاعر وروح العصر الذي وجد فيه ، ومعظم هذه الدراسات تنهج الطريقة الإحصائية Statistic Way في رصد الصور وإن كان بعضها يجنح إلى دراسة الصور في نسقها الفرد ، في حين يؤثر بعضها الآخر دراسة الصور في تجمعاتها ، أو ما يمكن أن نقد عناقيد الصور وتمثل ( سبير جين » الفريق الأول ، في حين يمثل ) أرمسترونغ ( الذي تأثر بها كثيراً الفريق الثاني ، وطريقة سبير جين ) في القسم الأول من دراستها أصبحت الآن أكثر من معروفة، فقد صنفت جميع صور شكسبير إلى أنماط أو أنواع تبعاً للمصادر التي استقى منها الشاعر صوره ، وبمقارنة الرسوم البيانية نتبين مثلاً أنه استقى ١٥,٥٪ من مجموع صوره من الطبيعة الحية و ١٣,٥ ٪ من الطبيعة الميته ، و ١٨,٥٪ من الحياة اليومية وهلم جرا .... وانتهت إلى اعطاء صورة لشخصية الكاتب وإحساساته وطرق تفكيره .
و في القسم الثاني من الكتاب وعنوانه « وظيفة الصور من حيث هي متكا ونغم خفي في فن شكسبير فانه يضطلع بتطوير الظاهرة التالية وإرساء قواعدها أن كل مسرحية من مسرحياته مبنية تقريباً حول وهي من الصور المتكررة تؤلف لها موضوعها الخاص بها ، فترتكز مسرحية ( الحب الضائع ) على الحرب والسلام ، وترتكز ( هاملت ) و « ترو بلوس » على المرض والداء والفساد والملك لير » على الجسم الإنساني وهو يتلوى في العذاب ... وهكذا فلكل مسرحية صور خاصة تصدر عن حالة مزاجية خاصة ، وتقول « سبير جين » إن هذه الصور ليست المعالم السطحية للمسرحيات وإنما هي أعمق من ذلك بكثير لأنها اندماج الشعور باللاشعور .
وقد استغل « ثيودور سبنسر ( في كتابه شكسبير وطبيعة الإنسان ) الذي صدر عام ١٩٤٢ نتائج ( سبير جن ) كثيراً ، واقترح نوعاً آخر من التوسع يقوم على المعالجة الحية النامية لا الساكتة للعمل ، فلا نكتفي بأن كما لاحظت - أن مسرحية هاملت ، تحوي من صور الداء أكثر من أية مسرحية أخرى، وإنما أن نرى في تراكم الصور حتى يصبح لها ذروة أمراً ذا مغزى على وجه الخصوص ، و ، وأن ١٥% منها ترد بعد منتصف المسرحية .
أما الدراسة العنقودية التي قام بها ( آرمسترونغ ) فتعتمد على صور الطيور والحشرات عند شكسبير ، وتتبع عناقيد التداعي المتصل بها خلال أعماله والكشف عن المبادىء والإستقطابات وعادات الفكر التي تكمن تحت تأثير هذا التداعي ، ويقدم لذلك أربعة جداول يعدها مفاتيح العناقيد ، كما يعدها مفاتيح لشخصية شكسبير ، ولطبيعة ذهنه وهذه طائرة الورق و ( الخنفساء ) و ( اليعسوب وابن عرس ) العناقيد هي الأوزة معاً ، وينتهي من كتابه إلى النتائج الآتية :
١ - تقنية جديدة لحل المشكلات القائمة في الدراسات الشكسبيرية .
٢ - نظرية عن كيفية عمل الخلق بعامة .
٣ - سير لعقل شكسبير وآثاره .
والفرق بين هذه الدراسة العنقودية والدراسة السابقة الأفرادية أن هذه تتبع تداعي الموضوع الواحد وصوره في ذهن الفنان في جميع أعماله فتقول لنا إن صورة كذا ترتبط في ذهن الشاعر بكذا » الدراسة الأخرى على رؤية الصورة في صلتها بغيرها في العمل الواحد . وبعد ذلك تلتقي الدراستان في أنهما تفصلان الصور عن نطاقها الحي وتجردانها من نسقها .
هذه الدراسات العديدة التي ركزت على مضمون الصورة لا يقابلها في دراسة شكل الصورة وتطورها سوى العدد المحدود من الأبحاث ، ولعل أشهرها دراسة كليمن» عن «تطور الصور الشعرية عند شكسبير » (۱) يبدأ البحث بأن يهاجم الدارس منهج (سبير جن ) هجوماً صريحاً ، ويسخر من طريقة الإحصاء التي اتبعتها ويقول : من الأمور الغريبة أن جهودنا لا ترتوي إلا إذا نجحنا في تصنيف المادة الأدبية وتبويبها فنظن أننا قد أصبنا الهدف مادمنا قد قسمنا الظواهر الأدبية وفصلناها ، ثم أعدنا تقسيمها إلى فروع أدق وأضيق نطاقاً . وجعلنا منها أبواباً تشبه الأعشاش في أبراج الحمام ، وألصقنا على كل باب بطاقة بالاسم والعنوان ، وهذا بطبيعة الحال يدمر إحساسنا النابض بوحدة العمل الشعري ، وتنوع ظلاله ، وثراء أصباغه ، والمصدر الأساسي الخطأ هو منهج الإحصاء المضلل الذي لا يمكن له أن يحرز نتائج مرضية في الدراسات الأدبية ، إن الإحصاءات تو همنا أن المادة المبوبة تحت إحدى البطاقات مادة من نوع واحد متساوية في دلالتها ، فاذا انتهينا مثلاً من إحصاء مسرحية ما إلى أن ثمة ثلاث صور البحر تقابل ثماني صور للحدائق وجدنا بين أيدينا إحصاء قد ضللنا بدلاً من أن يفيدنا ، فربما كانت صور البحر صوراً سائدة شاملة وربما كان موقعها في العمل وعلاقاتها بالشخصيات التي نطقت بها سبباً أو أكثر لكي تميل كفة الموازنة إلى جانبها رغم قلة عددها .
ورغم ذلك فالباحث يلتمس الأعذار لسبير جن لأن هدفها لم يكن دراسة فن شكسبير بل دراسة شخصيته وحواسه وذوقه واهتماماته، وهنا يكمن جوهر الإختلاف بين الدراستين أو المنهجين فكارولين شغلت أولا وقبل كل شيء بمضمون الصور ، أما كليمين فيهتم بشكل الصور وعلاقتها بالسياق الذي وردت ونبتت فيه وعاشت ، إلى جانب دراسة وظائفها المختلفة وتطورها مع فن شكسبير ، ولكي يتجنب الدارس أضرار فصل الصور عن السياق بدأ بتحديد جو الصورة بأن طرح الأسئلة الآتية : ماصلة الصورة الفنية بتسلسل الفكرة ؟ كيف تلائم الصورة سياق النص هل هناك مقاييس تمكن من التمييز بين ألوان علاقة الصورة بالسياق؟ ثم هل يؤثر شكل الحديث المسرحي حواراً كان أم « مونولوجاً ، في طبيعة الصورة ؟ ما الدوافع الخاصة التي تؤدي إلى خلق الصور في المسرحيات هل ثمة مواقف معينة تتطلب التعبير بالصور ؟ ما علاقة الصور بهذه جميعاً؟ وأخيراً ما العلاقة - إن وجدت - بين طبيعة الشخصيات التي يرسمها شكسبير وبين الصور الفنية التي يستخدها والتساؤل عما إذ كانت هناك شخصيات تتميز باللجوء إلى الصور في التعبير بصفة خاصة ..؟! . .
في نطاق هذا الإطار يخطو كليمين خطواته لدراسة التطور العام لفن شكسبير وكيف أسهمت الصور الشعرية فيه، كيف أثرت وتأثرت كيف سارت مراحله متمهلة السير وثيدته في البداية ثم أسرعت حثيثاً نحو النضج والإكتمال في آخر ما أبدعه الشاعر ؟ . . ويضرب الدارس أمثلة على ذلك فيقول : إن أي شخص يتجشم عناء مقارنة الصور الفنية في مسرحية « أنطونيو وكليو باتره ( بالصور الفنية في مسرحية « هنري السادس ) أو ( السيدان من فيرونا ) سوف يهوله الفرق الشاسع بين هذه وتلك ، وسوف يحمله ذلك التباين الكبير على الإعتقاد بأنه لا توجد ثمة علاقة أو فترة انتقال بين هذين الأسلوبين ، ولكننا إذا أنعمنا النظر في مسرحيات شكسبير جميعها وفحصنا كل مسرحية حسب سياقها التاريخي رأينا جلياً أن فن الصور في مآسيه لم ينشأ طفرة ، وإنما سبقه إعداد تدريجي استغرق زمناً طويلاً فان شكسبير لم يكتشف امكانات هذا الفن، في العمل المسرحي إلا بعد ممارسة مضنية ومعاناة وتجارب لا حصر لها ؟ فالوظائف التي تقوم بها الصور في البداية قليلة وبسيطة أما في مآسيه الأخيرة فوظائفها تتنوع وتلعب أدواراً حاسمة في رسم والتعبير عن موضوعاته المسرحية ، بل إن الصور الفنية تصبح ا وسائل التعبير لديه في آخر أعماله ، ومن ثم يحدد الكتاب هدفه وهو دراسة هذا التطور في مراحله المنفصلة وأشكاله المستقلة ، وإظهار علاقته بالتطور العام لفن الشاعر العظيم ، ويبدأ البحث بدراسة كل مسرحية على حدة وربطها جميعاً بالرباط العام الذي يسير في أعماق الجميع وهو تطور صورها الفنية .
وإذا كان لنا من كلمة نقولها هنا فهي إعادة تلك المشكلة التقليدية عن خطر الفصل بين الشكل والمضمون، والإعتماد على منهج واحد يتناسى معه بقية المناهج أو نتائجها ، فالدراسات التي وقفت عند مضمون الصورة أو مادتها دون أن تتضمن أي تحليل لبنائها أو تطورها لا تفترق في قليل ولا كثير عن الدراسات التقليدية التي اهتمت بمعنى العمل أو موضوعات القصيدة ، وقد وصلت معظمها إلى نتائج مضحكة فالآنسة ( سميث) في ( الصور الفنية عند مارلو ) انتهت إلى أن بعض الأبيات التي نسبت إلى الشاعر لم يكتبها هو . فنسبتها إلى مجهول ! ! ، وانتهى ( بانكس ) في دراسته لشعر ملتون إلى أن مضمون صوره يؤكد ما تناقلته الأخبار عن حياته أما الأطروحة التي تتبعت خطا سبيرجن ، و درست الصور عند ورد زورث فقد وصلت إلى عكس ذلك ، وصلت إلى أن مضمون شعره من خلال صوره يخالف حقائق حياته التي وردت فيها نصوص كثيرة ، بل إن « هل » انتهت إلى أن معظم صوره مستمد من الطبيعة ولذلك فقد كان يعيش في الريف بعيداً عن المدينة ، بل كان يمضي أكثر أيامه فوق سفوح الجبال بعيداً عن العمران أيضاً ! ! .
ومن مخاطر هذه الدراسة الإتكاء على الطريقة الإحصائية التي هاجمها و كليمين كما رأينا . وفي الحق أنها طريقة تجريدية فضلاً عن أنها ذاتية صرف ، وتحكمية متغيرة ، وربما حملت في كثير من الأحيان دلالة سالبة لا موجبة ، فعدد الصور الذي ترصده هذه الطريقة لا يعني شغف الفنان بالموضوع فحسب وإنما قد يعني عكس ذلك ، فمثلاً كان المعلقون قد استنتجوا من كثرة إشارات شكسبير إلى الصيد أنه شغف به ، ووصفه بعضهم بأنه صياد حاذق ، ثم اتضح من دراسة الكيف في صوره ، أنه ينفر من الصيد ويكرهه لما فيه من قسوة وسفك دماء .
ومثل ذلك يقال عن الدراسة الشكلية والتطورية للصورة وإن كانت أقل مخاطر وأكثر أهمية من سابقتها ، فأي شاعر يحاول أن يقدم دلالة أو وجهة نظر أو مضموناً ، أو اختر أي لفظ شئت لا يستطيع أن يصل إلى ذلك عن طريق الشكل أو دراسة تطور الصورة فحسب دون الإشارة إلى غرض العمل والقصد من ورائه ، إن البناء الفني يتأثر ويؤثر بما يحمله من قيم ومعطيات ، ويشكل العمل بأكمله، ودراسة قطاع واحد من هذا العمل ، أو فصله عن بقية القطاعات لا يلقي بالضوء الكافي على طبيعته ، وعلى هذا يمكن أن نزعم أن معظم الأخطاء في هذه الطريقة أو تلك تأتي من اتباع منهج واحد وتجاهل آخر ، أو سلوك طريقة ونسيان أخرى .
ونحن نعتقد من هذه الجهة أنه سواء أردنا أن للوصول إلى فن الكاتب وتطوره ، أم للوقوف على شخصيته أو فرديته أو حياته فلا بد من أن تتعاون الأخبار ومعطيات الصور . شكلها وتطورها . بناؤها ونماؤها ، الخارج والداخل فيها حتى نكون أقرب مانكون من الصحة والسلامة والحقيقة التي نتلمسها ونسعى إليها جميعاً .
تعليق