
بيت النَّص
وصية من محتضر
ــــــــــــــــــــــــــ
يا صمتُ ، يا صمتَ المقابر في شوارعها الحزينةْ ،
أعوي أصيحُ أصيح في لهَفٍ فأسمع في السكينةْ
ما تنثر الظلماءُ من ثلج وقارِ
تصْدَي عليه خطى وحيداتٌ و تبتلع المدينةْ
أصداءهن كأن وحشًا من حديدٍ من حجارِ ،
سفَّ الحياة فلا حياةَ من المساء إلى النهارِ .
أين العراقُ ؟ و أين شمسُ ضحاه تحملها سفينةْ
في ماءِ دجلة أو بويب ؟ و أين أصداءُ الغناءِ
خفقت كأجنحةِ الحمام على السنابل و النخيلْ
من كل بيت في العراءِ
من كل رابية تدثرها أزاهيرُ السهولْ ؟
إن متُّ يا وطني : فقبرٌ في مقابرك الكئيبةْ
أقصى مناي . وإن سلمتُ فإن كوخًا في الحقولْ
هو ما أريدُ من الحياة . فدى صحاراك الرحيبةْ
أرباضُ لندن والدروب ، ولا أصابتك المصيبةْ !
*
أنا قد أموت غدًا ، فإنّ الداء يقرض غير وانِ
حبلاً يشدّ إلى الحياة حطامَ جسمٍ مثل دارِ
نخرت جوانبها الرياحُ و سقفَها سيل القطارِ ،
يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمالِ
بين المعابر و السهول و بين عاليةِ الجبالِ
أبناءَ شعبي في قراه و في مدائنه الحبيبةْ..
لا تكفروا نِعَم العراق...
خير البلاد سكنتموها بين خضراءٍ وماءِ ،
الشمس ، نور الله ، تغمرها بصيف أو شتاءِ،
لا تبتغوا عنها سواها.
هي جنة فحذارِ من أفعى تدبُّ على ثراها .
أنا ميت لا يكذب الموتى . وأكفر بالمعاني
إن كان غير القلب منبعُها.
فيا ألق النهارِ
اغمر بعسجدك العراقَ فإنّ من طين العراقِ
جسدي ومن ماء العراقِ ...
.
(بدر شاكر السياب)
العراق