بمناسبة الذكرى 28 لمجزرة ( سربرنيتسا ) التي حصلت في 11 يوليو / تموز 1995
إلى أين تذهبين يا عايدة ؟ Quo Vadis Aida
هذا أحد الأفلام التي وصلت الى القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار لعام 2021 ، فئة ( أفضل فيلم دولي ) .
الفيلم من البوسنة ، و قد سبق و أن فاز بجائزة مهرجان البندقية السينمائي الدولي لعام 2020 و مهرجان ( الجونة ) السينمائي الدولي في نفس العام ، في مصر ، و كذلك بجائزة ( فيستيفال ديزارك ) الفرنسي .
مخرجة الفيلم هي " ياسميلا زبانيتش " المولودة في سراييفو عام 1974 ، و التي يبدو أنها كرست جهدها السينمائي الأخير في توثيق ما جرى من فضائع لاإنسانية في حرب البلقان في العقد التاسع من القرن الماضي . و فيلم ( إلى أين تذهبين يا عايدة ) هو فيلمها الثالث حول هذا الموضوع بعد فيلمها (غرابافيتشا : أرض أحلامي ) الذي فاز بجائزة الدُب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 2006 ، و أيضاً بعد فيلمها الآخر ( على الطريق ) عام 2010 .
عنوان الفيلم ( إلى أين تذهبين يا عايدة ) وحده يحمل وجعاً إنسانياً . و هو يوحي أصلاً بأننا سنكون في مواجهة ملحمة من الألم ، و هذا ما سيجسده الفيلم من خلال محنة سيدة بوسنية مسلمة إسمها " عايدة " ، هي بالأساس معلمة لغة إنجليزية تعمل مع الفرقة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة و العاملة في البوسنة ، و تحديداً في ( سربرنيتسا ) أثناء حرب البلقان عام 1995 .
و سنجد في هذا الفيلم ، و كما في فيلم ( فندق رواندا ) الذي يصف المجازر الوحشية التي حصلت في ذلك البلد الإفريقي ، رواندا ، و كما في غيرهما من الأفلام التي تناولت الحروب المعاصرة و تدخل الأمم المتحدة ، و كما نرى في النشرات الإخبارية عبر القنوات التلفزيونية الفضائية ، سنجد أن ( قوات حفظ السلام ) الدولية إن هي إلا ( قوات ) شكلية عزلاء لا حول لها و لا قوة ، تطبق التعليمات حتى لو كانت على حساب من وُجدت لحمايته . و هذا ما سنراه جلياً في فيلم ( الى أين تذهبين يا عايدة ) .
" عايدة " قادتها صدفة اتقانها للغة الإنجليزية الى العمل مع قوات حفظ السلام التي أرسلتها الأمم المتحدة الى ( يوغسلافيا السابقة ) التي نشبت فيها الحرب الأهلية ، ولكن " عايدة " أم و زوجة لزوج تحبه و أنجبت منه ولدين هما كل إرثها في هذه الحياة التي باتت تظلّمُ أمام عينيها .
هل على " عايدة " أن تنسى عائلتها و تولي كل اهتمامها بالترجمة لحل مشاكل مواطنيها المكتظين في ملجأ المكتب الذي تعمل فيه ، أم تكرس إهتمامها لإنقاذ عائلتها في خضم هذا المجهول الذي تحدق عيونه المميتة بعائلتها و بمواطنيها معاً ؟ لذلك فهي في المواجهة المتكررة أمام السؤال الضمني ( هل أن عائلتك أفضل من غيرها ؟ ) و الذي طرحه عليها أكثر من شخص .
مَن راقب حرب البلقان ، تلمّس حينها أنها كانت حرباً دينية ، قد يصفها البعض بأنها استعادة مصغرة للحروب الصليبية ، ولكن التفسير الأقرب اليها أنها انتقام ، في اللاوعي ، من حكم العثمانيين المسلمين لبلاد البلقان لصربيا المسيحية ، على الرغم من إدعاء الصرب أن الهدف من حربهم هو ضم البوسنة و الهرسك الى ( صربيا الكبرى ) ، و هذا بحد ذاته اعتراف بأن معركة الصربيين هي قومية دينية ، إذ لابد أن هزيمة الصرب أمام العثمانيين في معركة أمسيفيلد عام 1499 كانت ماثلة في أذهان صرب ما بعد يوغوسلافيا .. بعد تفكك الإتحاد السوفييتي السابق . لكن هذا لا يبرر القسوة الباطشة الطائشة التي مارسها المسيحيون الصرب بحق البوسنيين المسلمين إذا كانوا يعتبرونهم مواطنين لصربيا الكبرى . لذلك لم تقف قوات حلف الناتو ( المسيحي ) مكتوفة الأيدي أمام حماقة و قسوة مسيحيي صربيا ، فهاجمتهم و أدرجت قادتهم في قوائم مجرمي الحرب و مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية ، فتم إلتقاطهم واحداً واحداً و قُدّموا الى محاكمات دولية عادلة قضت بتجريمهم و حكمت عليهم بأحكام يستحقونها وفقاً لجرائمهم ضد الإنسانية ، و من ضمنهم المجرم " راتكو ملاديتش" الذي خطط و أمر و قاد مجزرة ( سربرنيتسا ) الشهيرة التي راح ضحيتها ثمانية آلاف و 372 بوسني مسلم من الرجال ، من ضمنهم زوج و ولدا " عايدة " ( حسب الفيلم ) ، و هو السفاح الذي بقي فاراً و متخفياً لمدة ستة عشر عاماً و متستراً بأسم " ميلوراد كوماديتش " حتى ألقيَ عليه القبض في 26 مايو / أيار عام 2011 من قِبل قوة مكونة من ثلاث وحدات ، و قد داهمت ــ فجراً ــ منزلا جنوب غرب بلغراد ، كان يقطن فيه ، قرب الحدود مع رومانيا ، و هو حالياً يقضي حكماً بالسجن المؤبد مدى الحياة .
فقتلُ البوسنيين الذكور من قبل الصربيين المتطرفين ، في مكان معزول و بعيداً عن زوجاتهم و أمهاتهم و أبنائهم ، إنما يعني ــ في ما يعني ــ قطع النسل ( البوسني المسلم ) ، و بالتالي طمس الذاكرة ، الأمر الذي يعكس عمق الحقد لدى المتعصبين من الصربيين الذين تعايشوا ــ غصباً ــ مع البوسنيين في ظل حكم يوغسلافيا السابقة ، و ما أن سقط الإتحاد السوفييتي السابق حتى انفرطت الإتحادات المزيفة و برزت الأحقاد الدفينة ، و ما مذبحة ( سربرنيتسا ) إلا نموذج لذلك .
مذبحة ( سربرنيتسا ) كانت واحدة من أبشع جرائم العصر ، و أشدها تطرفاً و عنصرية من الناحية الدينية ، أثبتت الأمم المتحدة عجزها عن وقفها ، كما تجسد ذلك في الفيلم ، بل أن أوروبا ( الإنسانية ) لم تتحرك و لم تفعل شيئاً حيالها ، و اعترف " أوليفر فاريلي " مفوض الإتحاد الأوروبي لشؤون التوسع ، في الذكرى الـخامسة و العشرين للمذبحة ، أنها تشكل ( جرحاً لن يندمل ) بالنسبة لأوروبا .
إذاً ، تناولت المخرجة " ياسميلا زبانيتش " قضية مهمة و حساسة في السجل الأوروبي المعاصر على المستوى الإنساني ، و وثقت هذا الجرح الأوروبي ، و أثبتت قدرتها على تحريك الجموع و انتزعت الإعتراف بها كمخرجة مقتدرة .
إلى أين تذهبين يا عايدة ؟ Quo Vadis Aida
هذا أحد الأفلام التي وصلت الى القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار لعام 2021 ، فئة ( أفضل فيلم دولي ) .
الفيلم من البوسنة ، و قد سبق و أن فاز بجائزة مهرجان البندقية السينمائي الدولي لعام 2020 و مهرجان ( الجونة ) السينمائي الدولي في نفس العام ، في مصر ، و كذلك بجائزة ( فيستيفال ديزارك ) الفرنسي .
مخرجة الفيلم هي " ياسميلا زبانيتش " المولودة في سراييفو عام 1974 ، و التي يبدو أنها كرست جهدها السينمائي الأخير في توثيق ما جرى من فضائع لاإنسانية في حرب البلقان في العقد التاسع من القرن الماضي . و فيلم ( إلى أين تذهبين يا عايدة ) هو فيلمها الثالث حول هذا الموضوع بعد فيلمها (غرابافيتشا : أرض أحلامي ) الذي فاز بجائزة الدُب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 2006 ، و أيضاً بعد فيلمها الآخر ( على الطريق ) عام 2010 .
عنوان الفيلم ( إلى أين تذهبين يا عايدة ) وحده يحمل وجعاً إنسانياً . و هو يوحي أصلاً بأننا سنكون في مواجهة ملحمة من الألم ، و هذا ما سيجسده الفيلم من خلال محنة سيدة بوسنية مسلمة إسمها " عايدة " ، هي بالأساس معلمة لغة إنجليزية تعمل مع الفرقة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة و العاملة في البوسنة ، و تحديداً في ( سربرنيتسا ) أثناء حرب البلقان عام 1995 .
و سنجد في هذا الفيلم ، و كما في فيلم ( فندق رواندا ) الذي يصف المجازر الوحشية التي حصلت في ذلك البلد الإفريقي ، رواندا ، و كما في غيرهما من الأفلام التي تناولت الحروب المعاصرة و تدخل الأمم المتحدة ، و كما نرى في النشرات الإخبارية عبر القنوات التلفزيونية الفضائية ، سنجد أن ( قوات حفظ السلام ) الدولية إن هي إلا ( قوات ) شكلية عزلاء لا حول لها و لا قوة ، تطبق التعليمات حتى لو كانت على حساب من وُجدت لحمايته . و هذا ما سنراه جلياً في فيلم ( الى أين تذهبين يا عايدة ) .
" عايدة " قادتها صدفة اتقانها للغة الإنجليزية الى العمل مع قوات حفظ السلام التي أرسلتها الأمم المتحدة الى ( يوغسلافيا السابقة ) التي نشبت فيها الحرب الأهلية ، ولكن " عايدة " أم و زوجة لزوج تحبه و أنجبت منه ولدين هما كل إرثها في هذه الحياة التي باتت تظلّمُ أمام عينيها .
هل على " عايدة " أن تنسى عائلتها و تولي كل اهتمامها بالترجمة لحل مشاكل مواطنيها المكتظين في ملجأ المكتب الذي تعمل فيه ، أم تكرس إهتمامها لإنقاذ عائلتها في خضم هذا المجهول الذي تحدق عيونه المميتة بعائلتها و بمواطنيها معاً ؟ لذلك فهي في المواجهة المتكررة أمام السؤال الضمني ( هل أن عائلتك أفضل من غيرها ؟ ) و الذي طرحه عليها أكثر من شخص .
مَن راقب حرب البلقان ، تلمّس حينها أنها كانت حرباً دينية ، قد يصفها البعض بأنها استعادة مصغرة للحروب الصليبية ، ولكن التفسير الأقرب اليها أنها انتقام ، في اللاوعي ، من حكم العثمانيين المسلمين لبلاد البلقان لصربيا المسيحية ، على الرغم من إدعاء الصرب أن الهدف من حربهم هو ضم البوسنة و الهرسك الى ( صربيا الكبرى ) ، و هذا بحد ذاته اعتراف بأن معركة الصربيين هي قومية دينية ، إذ لابد أن هزيمة الصرب أمام العثمانيين في معركة أمسيفيلد عام 1499 كانت ماثلة في أذهان صرب ما بعد يوغوسلافيا .. بعد تفكك الإتحاد السوفييتي السابق . لكن هذا لا يبرر القسوة الباطشة الطائشة التي مارسها المسيحيون الصرب بحق البوسنيين المسلمين إذا كانوا يعتبرونهم مواطنين لصربيا الكبرى . لذلك لم تقف قوات حلف الناتو ( المسيحي ) مكتوفة الأيدي أمام حماقة و قسوة مسيحيي صربيا ، فهاجمتهم و أدرجت قادتهم في قوائم مجرمي الحرب و مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية ، فتم إلتقاطهم واحداً واحداً و قُدّموا الى محاكمات دولية عادلة قضت بتجريمهم و حكمت عليهم بأحكام يستحقونها وفقاً لجرائمهم ضد الإنسانية ، و من ضمنهم المجرم " راتكو ملاديتش" الذي خطط و أمر و قاد مجزرة ( سربرنيتسا ) الشهيرة التي راح ضحيتها ثمانية آلاف و 372 بوسني مسلم من الرجال ، من ضمنهم زوج و ولدا " عايدة " ( حسب الفيلم ) ، و هو السفاح الذي بقي فاراً و متخفياً لمدة ستة عشر عاماً و متستراً بأسم " ميلوراد كوماديتش " حتى ألقيَ عليه القبض في 26 مايو / أيار عام 2011 من قِبل قوة مكونة من ثلاث وحدات ، و قد داهمت ــ فجراً ــ منزلا جنوب غرب بلغراد ، كان يقطن فيه ، قرب الحدود مع رومانيا ، و هو حالياً يقضي حكماً بالسجن المؤبد مدى الحياة .
فقتلُ البوسنيين الذكور من قبل الصربيين المتطرفين ، في مكان معزول و بعيداً عن زوجاتهم و أمهاتهم و أبنائهم ، إنما يعني ــ في ما يعني ــ قطع النسل ( البوسني المسلم ) ، و بالتالي طمس الذاكرة ، الأمر الذي يعكس عمق الحقد لدى المتعصبين من الصربيين الذين تعايشوا ــ غصباً ــ مع البوسنيين في ظل حكم يوغسلافيا السابقة ، و ما أن سقط الإتحاد السوفييتي السابق حتى انفرطت الإتحادات المزيفة و برزت الأحقاد الدفينة ، و ما مذبحة ( سربرنيتسا ) إلا نموذج لذلك .
مذبحة ( سربرنيتسا ) كانت واحدة من أبشع جرائم العصر ، و أشدها تطرفاً و عنصرية من الناحية الدينية ، أثبتت الأمم المتحدة عجزها عن وقفها ، كما تجسد ذلك في الفيلم ، بل أن أوروبا ( الإنسانية ) لم تتحرك و لم تفعل شيئاً حيالها ، و اعترف " أوليفر فاريلي " مفوض الإتحاد الأوروبي لشؤون التوسع ، في الذكرى الـخامسة و العشرين للمذبحة ، أنها تشكل ( جرحاً لن يندمل ) بالنسبة لأوروبا .
إذاً ، تناولت المخرجة " ياسميلا زبانيتش " قضية مهمة و حساسة في السجل الأوروبي المعاصر على المستوى الإنساني ، و وثقت هذا الجرح الأوروبي ، و أثبتت قدرتها على تحريك الجموع و انتزعت الإعتراف بها كمخرجة مقتدرة .