الوحدة ، وحدة الأشياء ، وحدة الذهن والموضوع ، وحدة العربة وماتحمل ، الفكرة والوسيلة ، وعن طريق هذه الوحدة وفيها يتوالد الكائن الجديد ، وتتخلق الرؤية المبدعة والفريدة في الوقت ذاته (۲۳) .
ثالثاً ـ مشكلة البناء المنطقي
يتميز بناء الأشكال البلاغية التقليدية في إدراك العلاقة بين مركباتها ، وكذلك اقتراب الدارسين منها في بيان أنماطها وضروبها بالاتكاء على العقل والمنطق ، وقد تم هذا تحت تأثير عدة عوامل : منها نظرية الجمال الحسية والموضوعية ، والبحث عن وجه شبه بين المركبات ، والإلحاح على مضمون الألوان البيانية ، فالفنان عندما كان ينشيء أبنيته الفنية كان يولدها توليداً منطقياً، ويدرك العلاقة بينها إدراكاً عقلياً، ويقيم الصلات وينسبها بعضها إلى بعض بطريقة خارجية موضوعية دون أن يربطها بشعوره ، أو يلتفت إلى مدى قربها أو بعدها من إحساسه ، أو يفطن إلى إقامتها على أساس متين من إنفعاله ، ولم يبعد الدارسون عن هذه الظواهر والآثار المنطقية والعقلية والخارجية ، بل كانت دراساتهم كلها تقوم حولها سواء أكانت تلك الدراسات التي اهتمت بمضمون الأشكال أم تلك التي عنيت بلغتها ، ونجد ذلك واضحاً في بلاغتنا العربية وفي أيام تحجرها بالذات ، في القرنين السابع والثامن الهجريين ، حين قسم السكاكي وغير السكاكي أبوابها ، وميز بين أنماطها وأشكالها البيانية والمعنوية على أسس عقلية صرف لا تمت إلى طبيعة الفن بصلة (٢٤) .
وفي الحق أنا لانريد أن ننفي جميع الجوانب العقلية في طبيعة الأشكال البلاغية ولكنا نريد أن ندعي أن الإنفعال لا العقل ولا منطقه هو مصدر الصور ورحمها الذي تتولد فيه ، وإذا جاز أن نعني بالعقل هنا الذهن فانا نميز بين نمطين منه نقول عن أحدهما إنه خاص بالمنطق والتركيبات العليية . وعن الآخر إنه خاص بتوليد الأشكال البيانية ، والتركيبات العضوية ، والأول هو الدهن العلمي ، والآخر هو الذهن الشعري ، وفي الوقت الذي يتمسك فيه الذهن العلمي بالعلاقات الآلية المستقلة بين المركبات على أساس المنطق فحسب ولتقرير الحقائق - يملك الذهن الشعري الحرية كاملة في بنائها على أساس الحدس للتعبير والخلق وبالرؤية التي يحسها ، وقد يقيم هذا الذهن علاقة بين مركبين لا يرى الذهن الأول بينهما أية رابطة منطقية أو وجه شبه ، بينما يرى هو فيهما جميع أنواع الترابط والإلتحام وأقواها . والسبب في ذلك ظاهر فالفكر العلمي يقيم العلاقات بين المركبات أو الأشياء تبعاً لمنطقه الخارجي ، في حين يقيم الفكر الشعري ارتباطاته تبعاً لمنطق الحس الداخلي ، إنه يشد داخله إلى دواخلها ، ولا يلتفت للصلات بين قشورها الخارجية (۱) .
ولعل هذا التفريق بين الذهنين العلمي والشعري ورؤيتهما للعلاقات بين الأشياء يذكرنا بتلك التفرقة العريضة التي أقمناها بين الشعر وبين النثر ، وزعمنا فيها أن الشعر لغة إنفعالية ، والنثر لغة علمية ، وربطنا الأول بالحدس ، والثاني بالمنطق ، ومن هذا القبيل ما فعله « وليم جيمس ) (۲) في مقارنته بين الذهنين العلمي والحدسي ، وإن انتهى إلى عكس ما انتهينا إليه ، فقد أعلى من قيمة أحدهما ( العلمي ) على حساب الآخر ( الحدسي ) ، وهو إعلاء من طرف واحد يمكن أن يقابل باعلاء
آخر للذهن المقابل، ونظن أن المقابلة بين الذهنين يجب أ أل إلى المفاضلة لأن العالم لابد أن يعلي رؤينته وكذلك الفنان ، والواجب في هذه الحالة أن الذهنين مختلفان فأحدهما . نبين يرى الأشياء من الخارج العلاقات بينها على هذا الأساس بينما يرى الثاني الأشياء من الداخل ويبني العلاقات بينها على هذا الأساس ، وعند الكثير من الدارسين أن الرؤية الأخيرة - من الداخل . أعمق وأقوم وأغنى (٢٥) . .
ونستطيع أن نربط بسهولة بين هذين الذهنين العلمي والحدسي أو الموقفين العقلي والشعري وبين التفريق الذي تعرضنا له بين ضروب الأشكال البلاغية على أساس المنطق أو الإنفعال ، فاذا كانت القاعدة التي تبنى عليها العلاقات بين المركبات الصورية منطقية فان الرؤية علمية أو نثرية أو تقريرية ، وإذا كانت القاعدة إنفعالية فان الرؤية شعرية أو حدسية ، والواقع أن من طبيعة الأشكال البلاغية أن نستكشف شيئاً بمساعدة آخر ، والمهم فيها هو ذلك الإستكشاف ذاته أو لنقل الإفراز ، أي معرفة غير المعروف لا المزيد من معرفة المعروف ، ولهذا لا يكون للعلاقة المنطقية بين الشيئين أية قيمة ، إن المقارنات اللغوية التي هي من هذا النوع كما يقول « كارل فسلر ) (۱) - ليست على الإطلاق حركات منطقية للتفكير ، إنها حلم الشاعر حيث تتضام الأشياء لا لأنها تختلف فيما بينها أو تتحدد بل لأنها تجتمع في الفكر والشعور في وحدة - عاطفية (٢٦)
والذي نريد أن ننتهي ! إليه هو أن العلاقات بين المركبات في الأشكال البلاغية ليست علاقات منطقية تقوم على الضرورة وإنما هي علاقات حدسية أو شعورية تقوم على الإحتمال ، وعلى الإسقاط الروحي ، إنها علاقات لا تقوم على المشابهة أي لا تحمل إنعكاسات مقيدة، وإنما علاقات تقوم على الحدس ، ولذلك فهي إنعكاسات حرة لا يقيدها سوی منطق الفن وحده ۲۷ .
رابعاً - مشكلة الجمود :
رافقت المشكلات الثلاث السابقة جميع الأشكال البلاغية التي نشأت وتجمدت في ظل نظرية المحاكاة ، وارتبطت بالعقل الذي كان يحتل المنزلة العليا فيها ، ومن الطبيعي أن يكون قيام أية نظرية شعرية جديدة كنظرية التعبير دافعاً وسبباً في الوقت نفسه لقيام أشكال وأنماط بلاغية جديدة ، ترتبط بها وبقيمها وبالملكة الجديدة ( الخيال ) التي أصبح لها المكان الأول فيها ، وهذا ماحدث في دراسة الأسلوب في الأدب الغربي التي تطورت بتطور النظريات الشعرية والنقدية ، ولم يحدث في بلاغتنا أن العديد من الشعراء حاولوا وما زالوا يحاولون أن يتلمسوا ضروباً جديدة من التعبير لاتقف عند حدود التعبيرات الجاهزة إلا أنهم كانوا يصطدمون بحواجز المواضعات والأصول العرفية التي اصطلح عليها الدارسون منذ قرون . ومن ثم قامت على مر الفترات الأدبية في تاريخنا صراعات بين جيلين يوصف الأول بأنه قديم أ أو مقلد والآخر بأنه جديد أو محدث ، وإن ليست الصفة الأخيرة الفريق الأول يوم أن كانت آراؤه حديث عصره ، وكذلك العكس ، يصدق هذا على الفترة التقليدية كما يصدق على الفترتين الحديثة والمعاصرة ، أي يصدق على الصراع الذي قام بين أبي تمام وخصومه ، أو بين المتنبي وحساده أو بين شوقي والعقاد ، أو بين العقاد وأبوللو ، أو بين التقليديين والرومانسيين من جانب وأنصار الشعر الجديد من جانب آخر ... وكلها مشكلة الجمود ضروب من الصراع تدور حول مشكلة واحدة هي هم صانعو والتطور » ، أو مشكلة التعبير الصوري على العموم ، فالصورة هي الطريق الوحيدة أو الرئيسة لإثراء اللغة ، وتوسيع معجمها ، وزيادة قدرتها على التعبير ، وبث الحياة والنضارة فيها ، والشعراء هذه اللغة وواهبوها ، لأنهم خالقو الصور ومبدعوها ، وإن أي حجر لحريتهم ، أو أي وقوف مهما كان لونه ضد العلاقات التي ينشؤونها وضد المجازات التي يبدعونها بدعوى الحفاظ على التقاليد العرفية في البلاغة في الواقع حجر عثرة للغة ذاتها ، ومنع لتوسيعها وإثرائها ، بل والوقوف ضد الحياة نفسها وضد قانونها السرمد ( التطور ) ..
لقد رأينا أن البلاغة التقليدية أرجعت العلاقة بين المركبات الفنية إلى أصل واحد هو ( المشابهة ) ، . وأباحت إستعارة اللفظ أو نقله من مجاله إلى مجال آخر شريطة أن يتم هذا النقل في نطاق القانون الشهير « الجامع في كل » ، ولكن لا المشابهة ولا الجامع في كل يستطيعان أن يفسرا العلاقات الجديدة التي نشأت مع نشأة الشعر الحديث ( رومانسيه وحره وما بينهما) ، ولا أن يستوعبا الأنماط الفنية الكثيرة التي جدت بجدة الفن وتطورت بتطور الحياة ، لا تستطيع الأشكال البلاغية القديمة بدلالاتها وطبائعها وبالأوضاع المتحجرة التي وصلت إلينا أن توضح الأبنية الصورية كالرمز والأسطورة والمقارنة وعنصر التورية الساخر والأشكال المتجاوبة والمتراسلة أو غيرها مما سنعرض له في كتابنا « تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث . فالعلاقات هنا كلها لا تنحل إلى التشابه .
ولا تعبأ بالدلالة المنطقية أو العقلية . ولا تنشطر إلى اثينينية متعارضة لأنها علاقات تحكمية متناقضة ومتواردة ومستمدة من مجالات متباعدة ومتباينة، وإذا اتخذنا العلاقات المتراسلة مثالاً على ذلك فانا نجد أن النقل فيها يتم فقط في نطاق قانون التعبير ، هذا القانون الذي حل محل القانون القديم كأساس للعلاقات بين الأشياء ، وكأساس للأبنية الصورية ، ومادام الشاعر يهدف في تجربته إلى أن يعبر أو يؤثر فانه يجد نفسه مضطراً لخلق علاقات جديدة ترتبط أول ما ترتبط بانفعاله وحده ، ومدفوعاً لاستعمال إلى مجال آخر ، ونحن لا ننكر أن ذلك رغم أهميته أخطر بكثير من القانون القديم بصلاته الرتيبة ، فالحرية أشق من القيد وأعسر . وتلك مهمة الفنان ، فعليه دائماً أن يدرك بوعي أين ينتهي الصدق والإخلاص في تجربته ، وأين يبدأ الإفتعال والزيف. إن الأشكال البلاغية أو الصورية ترتبط بالإنفعال وتصدر عنه ، والإنفعال متغير ومتبدل من عصر إلى عصر . فلكل تيار كما لكل فترة حساسيات خاصة ، وقيم شعورية خاصة ، ولا بد أن تخضع ضروب الأشكال الصورية لهذا التغير أو التبدل الذي هو سنة الحياة والكون ولعل أولئك الذين يحاربون كل تعبير جديد بحجة السلامة اللغوية أن يعرفوا الفرق الواضح بين سلامة اللغة وسلامة التعبير ، بين طبيعة المنطق وطبيعة الفن ، بين التقليد الأعمى الميت ، والخلق الواعي الحي : وإذ ذاك فقط يجدون أنفسهم لا يقفون عند حدود الأشكال التقليدية بديباجاتها ، ولا عند حدود علاقاتها ، بل يجدون أنفسهم مضطرين للخروج من أفقها الضيق إلى الأفق الأوسع والأرحب الذي يمتلىء بالعلاقات الجديدة ، وأشكال التعبير الجديدة ، لأنه أفق يعج بالحياة
والنضارة ، إنه أفق عبقرية الإنسان ، مبدع الفن ، وخالق الصورة ، أفق اللغة ولا عبقريتها ، وأظن أن هذا أحد الأسباب الكبرى التي تدفعنا كما دفعت غيرنا إلى إيثار مصطلح ( صورة ) على جميع المصطلحات البيانية القديمة التي تخفق بدلالاتها المحددة العرفية ، وبطبيعتها المتحجرة الصلدة في حمل القيم الجديدة ، واحتواء الأشكال المستجدة ، و مسايرة ركب الحياة المتطورة ، في حين تقدر الصورة أن تفعل ذلك وأكثر .
هذه المشكلات الأربع : المشابهة والأثينينية والمنطقية والجمود وجدت بدرجات مختلفة في الأشكال البلاغية القديمة ، كما وجدت إلى عصر ، ومن فترة جمالية إلى أخرى . وقد قابلناها بعناصر أساسية أربعة تقوم الصورة الفنية عليها وهي : الوحدة ، والرؤية ، والإسقاط الروحي. والتطور . . ولا توجد هذه الأخرى بالدرجة نفسها في الصور ، كما أن الموقف تجاهها يختلف من أمة إلى أمة ، و من تيار فني إلى آخر ، ومن شاعر إلى سواه ، وإذا كنا قد رفضنا طبيعة الأشكال الأولى ومشكلاتها فلأننا نرى فيها أبنية مهدمة طال عليها الزمان ، وأشكالاً استنفدت طاقاتها ، وخلقت جدتها ، وران عليها الموت ، ونحن نتهم الدراسات البلاغية التقليدية بأنها عالجت هذه الأشكال بطريقة سطحية خارجية ، وباعتبارها محسنات لفظية وتزيينات ، أي باعتبارها أجزاء منعزلة عن الآثار الأدبية التي تحتويها ، أما وجهة نظرنا فتعتبر أن بناء الشعر ووظيفته وجوهره وطبيعته وكل شيء فيه إنما يقوم بشكل مركزي في الصورة وعليها .
ولو أنا عدنا إلى الدلالة الذهنية للصورة لوجدنا أنها تلفت انتباهنا أو انتباه البعض إلى اثنينية حين تقابل بالمادة ، إلا أن ذلك معارضة قديمة ، فالمصطلح ينظر إلى الإتجاهين معاً ، أي أنه يعني قوة شد الشعر إلى العالم من جانب، وإلى الميتافيزيقا والغيب من جانب آخر ، وحين نستعرض مناهج دراسة الصورة نشعر بذلك التوتر أو الشد غير العادل الذي يجنح بها إلى هنا أو هناك ، وإذا كان الإتكاء على الجانب الجمالي البحت للصورة يعد شيئاً قديماً فان خطر رد الفعل اليوم يكمن في المغالاة في الإتكاء على الجانب الميتافيزيقي أو الغيبي لها ، إن الصورة وحدة شاملة ، ويجب أن تدرس في ضوء منهج تكاملي شامل لا يعلي من عناصرها على حساب الآخر .
ولعل هذه النقطة _ مناهج دراسة الصورة _ هي نهاية مطافنا في هذه الدراسة .
ثالثاً ـ مشكلة البناء المنطقي
يتميز بناء الأشكال البلاغية التقليدية في إدراك العلاقة بين مركباتها ، وكذلك اقتراب الدارسين منها في بيان أنماطها وضروبها بالاتكاء على العقل والمنطق ، وقد تم هذا تحت تأثير عدة عوامل : منها نظرية الجمال الحسية والموضوعية ، والبحث عن وجه شبه بين المركبات ، والإلحاح على مضمون الألوان البيانية ، فالفنان عندما كان ينشيء أبنيته الفنية كان يولدها توليداً منطقياً، ويدرك العلاقة بينها إدراكاً عقلياً، ويقيم الصلات وينسبها بعضها إلى بعض بطريقة خارجية موضوعية دون أن يربطها بشعوره ، أو يلتفت إلى مدى قربها أو بعدها من إحساسه ، أو يفطن إلى إقامتها على أساس متين من إنفعاله ، ولم يبعد الدارسون عن هذه الظواهر والآثار المنطقية والعقلية والخارجية ، بل كانت دراساتهم كلها تقوم حولها سواء أكانت تلك الدراسات التي اهتمت بمضمون الأشكال أم تلك التي عنيت بلغتها ، ونجد ذلك واضحاً في بلاغتنا العربية وفي أيام تحجرها بالذات ، في القرنين السابع والثامن الهجريين ، حين قسم السكاكي وغير السكاكي أبوابها ، وميز بين أنماطها وأشكالها البيانية والمعنوية على أسس عقلية صرف لا تمت إلى طبيعة الفن بصلة (٢٤) .
وفي الحق أنا لانريد أن ننفي جميع الجوانب العقلية في طبيعة الأشكال البلاغية ولكنا نريد أن ندعي أن الإنفعال لا العقل ولا منطقه هو مصدر الصور ورحمها الذي تتولد فيه ، وإذا جاز أن نعني بالعقل هنا الذهن فانا نميز بين نمطين منه نقول عن أحدهما إنه خاص بالمنطق والتركيبات العليية . وعن الآخر إنه خاص بتوليد الأشكال البيانية ، والتركيبات العضوية ، والأول هو الدهن العلمي ، والآخر هو الذهن الشعري ، وفي الوقت الذي يتمسك فيه الذهن العلمي بالعلاقات الآلية المستقلة بين المركبات على أساس المنطق فحسب ولتقرير الحقائق - يملك الذهن الشعري الحرية كاملة في بنائها على أساس الحدس للتعبير والخلق وبالرؤية التي يحسها ، وقد يقيم هذا الذهن علاقة بين مركبين لا يرى الذهن الأول بينهما أية رابطة منطقية أو وجه شبه ، بينما يرى هو فيهما جميع أنواع الترابط والإلتحام وأقواها . والسبب في ذلك ظاهر فالفكر العلمي يقيم العلاقات بين المركبات أو الأشياء تبعاً لمنطقه الخارجي ، في حين يقيم الفكر الشعري ارتباطاته تبعاً لمنطق الحس الداخلي ، إنه يشد داخله إلى دواخلها ، ولا يلتفت للصلات بين قشورها الخارجية (۱) .
ولعل هذا التفريق بين الذهنين العلمي والشعري ورؤيتهما للعلاقات بين الأشياء يذكرنا بتلك التفرقة العريضة التي أقمناها بين الشعر وبين النثر ، وزعمنا فيها أن الشعر لغة إنفعالية ، والنثر لغة علمية ، وربطنا الأول بالحدس ، والثاني بالمنطق ، ومن هذا القبيل ما فعله « وليم جيمس ) (۲) في مقارنته بين الذهنين العلمي والحدسي ، وإن انتهى إلى عكس ما انتهينا إليه ، فقد أعلى من قيمة أحدهما ( العلمي ) على حساب الآخر ( الحدسي ) ، وهو إعلاء من طرف واحد يمكن أن يقابل باعلاء
آخر للذهن المقابل، ونظن أن المقابلة بين الذهنين يجب أ أل إلى المفاضلة لأن العالم لابد أن يعلي رؤينته وكذلك الفنان ، والواجب في هذه الحالة أن الذهنين مختلفان فأحدهما . نبين يرى الأشياء من الخارج العلاقات بينها على هذا الأساس بينما يرى الثاني الأشياء من الداخل ويبني العلاقات بينها على هذا الأساس ، وعند الكثير من الدارسين أن الرؤية الأخيرة - من الداخل . أعمق وأقوم وأغنى (٢٥) . .
ونستطيع أن نربط بسهولة بين هذين الذهنين العلمي والحدسي أو الموقفين العقلي والشعري وبين التفريق الذي تعرضنا له بين ضروب الأشكال البلاغية على أساس المنطق أو الإنفعال ، فاذا كانت القاعدة التي تبنى عليها العلاقات بين المركبات الصورية منطقية فان الرؤية علمية أو نثرية أو تقريرية ، وإذا كانت القاعدة إنفعالية فان الرؤية شعرية أو حدسية ، والواقع أن من طبيعة الأشكال البلاغية أن نستكشف شيئاً بمساعدة آخر ، والمهم فيها هو ذلك الإستكشاف ذاته أو لنقل الإفراز ، أي معرفة غير المعروف لا المزيد من معرفة المعروف ، ولهذا لا يكون للعلاقة المنطقية بين الشيئين أية قيمة ، إن المقارنات اللغوية التي هي من هذا النوع كما يقول « كارل فسلر ) (۱) - ليست على الإطلاق حركات منطقية للتفكير ، إنها حلم الشاعر حيث تتضام الأشياء لا لأنها تختلف فيما بينها أو تتحدد بل لأنها تجتمع في الفكر والشعور في وحدة - عاطفية (٢٦)
والذي نريد أن ننتهي ! إليه هو أن العلاقات بين المركبات في الأشكال البلاغية ليست علاقات منطقية تقوم على الضرورة وإنما هي علاقات حدسية أو شعورية تقوم على الإحتمال ، وعلى الإسقاط الروحي ، إنها علاقات لا تقوم على المشابهة أي لا تحمل إنعكاسات مقيدة، وإنما علاقات تقوم على الحدس ، ولذلك فهي إنعكاسات حرة لا يقيدها سوی منطق الفن وحده ۲۷ .
رابعاً - مشكلة الجمود :
رافقت المشكلات الثلاث السابقة جميع الأشكال البلاغية التي نشأت وتجمدت في ظل نظرية المحاكاة ، وارتبطت بالعقل الذي كان يحتل المنزلة العليا فيها ، ومن الطبيعي أن يكون قيام أية نظرية شعرية جديدة كنظرية التعبير دافعاً وسبباً في الوقت نفسه لقيام أشكال وأنماط بلاغية جديدة ، ترتبط بها وبقيمها وبالملكة الجديدة ( الخيال ) التي أصبح لها المكان الأول فيها ، وهذا ماحدث في دراسة الأسلوب في الأدب الغربي التي تطورت بتطور النظريات الشعرية والنقدية ، ولم يحدث في بلاغتنا أن العديد من الشعراء حاولوا وما زالوا يحاولون أن يتلمسوا ضروباً جديدة من التعبير لاتقف عند حدود التعبيرات الجاهزة إلا أنهم كانوا يصطدمون بحواجز المواضعات والأصول العرفية التي اصطلح عليها الدارسون منذ قرون . ومن ثم قامت على مر الفترات الأدبية في تاريخنا صراعات بين جيلين يوصف الأول بأنه قديم أ أو مقلد والآخر بأنه جديد أو محدث ، وإن ليست الصفة الأخيرة الفريق الأول يوم أن كانت آراؤه حديث عصره ، وكذلك العكس ، يصدق هذا على الفترة التقليدية كما يصدق على الفترتين الحديثة والمعاصرة ، أي يصدق على الصراع الذي قام بين أبي تمام وخصومه ، أو بين المتنبي وحساده أو بين شوقي والعقاد ، أو بين العقاد وأبوللو ، أو بين التقليديين والرومانسيين من جانب وأنصار الشعر الجديد من جانب آخر ... وكلها مشكلة الجمود ضروب من الصراع تدور حول مشكلة واحدة هي هم صانعو والتطور » ، أو مشكلة التعبير الصوري على العموم ، فالصورة هي الطريق الوحيدة أو الرئيسة لإثراء اللغة ، وتوسيع معجمها ، وزيادة قدرتها على التعبير ، وبث الحياة والنضارة فيها ، والشعراء هذه اللغة وواهبوها ، لأنهم خالقو الصور ومبدعوها ، وإن أي حجر لحريتهم ، أو أي وقوف مهما كان لونه ضد العلاقات التي ينشؤونها وضد المجازات التي يبدعونها بدعوى الحفاظ على التقاليد العرفية في البلاغة في الواقع حجر عثرة للغة ذاتها ، ومنع لتوسيعها وإثرائها ، بل والوقوف ضد الحياة نفسها وضد قانونها السرمد ( التطور ) ..
لقد رأينا أن البلاغة التقليدية أرجعت العلاقة بين المركبات الفنية إلى أصل واحد هو ( المشابهة ) ، . وأباحت إستعارة اللفظ أو نقله من مجاله إلى مجال آخر شريطة أن يتم هذا النقل في نطاق القانون الشهير « الجامع في كل » ، ولكن لا المشابهة ولا الجامع في كل يستطيعان أن يفسرا العلاقات الجديدة التي نشأت مع نشأة الشعر الحديث ( رومانسيه وحره وما بينهما) ، ولا أن يستوعبا الأنماط الفنية الكثيرة التي جدت بجدة الفن وتطورت بتطور الحياة ، لا تستطيع الأشكال البلاغية القديمة بدلالاتها وطبائعها وبالأوضاع المتحجرة التي وصلت إلينا أن توضح الأبنية الصورية كالرمز والأسطورة والمقارنة وعنصر التورية الساخر والأشكال المتجاوبة والمتراسلة أو غيرها مما سنعرض له في كتابنا « تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث . فالعلاقات هنا كلها لا تنحل إلى التشابه .
ولا تعبأ بالدلالة المنطقية أو العقلية . ولا تنشطر إلى اثينينية متعارضة لأنها علاقات تحكمية متناقضة ومتواردة ومستمدة من مجالات متباعدة ومتباينة، وإذا اتخذنا العلاقات المتراسلة مثالاً على ذلك فانا نجد أن النقل فيها يتم فقط في نطاق قانون التعبير ، هذا القانون الذي حل محل القانون القديم كأساس للعلاقات بين الأشياء ، وكأساس للأبنية الصورية ، ومادام الشاعر يهدف في تجربته إلى أن يعبر أو يؤثر فانه يجد نفسه مضطراً لخلق علاقات جديدة ترتبط أول ما ترتبط بانفعاله وحده ، ومدفوعاً لاستعمال إلى مجال آخر ، ونحن لا ننكر أن ذلك رغم أهميته أخطر بكثير من القانون القديم بصلاته الرتيبة ، فالحرية أشق من القيد وأعسر . وتلك مهمة الفنان ، فعليه دائماً أن يدرك بوعي أين ينتهي الصدق والإخلاص في تجربته ، وأين يبدأ الإفتعال والزيف. إن الأشكال البلاغية أو الصورية ترتبط بالإنفعال وتصدر عنه ، والإنفعال متغير ومتبدل من عصر إلى عصر . فلكل تيار كما لكل فترة حساسيات خاصة ، وقيم شعورية خاصة ، ولا بد أن تخضع ضروب الأشكال الصورية لهذا التغير أو التبدل الذي هو سنة الحياة والكون ولعل أولئك الذين يحاربون كل تعبير جديد بحجة السلامة اللغوية أن يعرفوا الفرق الواضح بين سلامة اللغة وسلامة التعبير ، بين طبيعة المنطق وطبيعة الفن ، بين التقليد الأعمى الميت ، والخلق الواعي الحي : وإذ ذاك فقط يجدون أنفسهم لا يقفون عند حدود الأشكال التقليدية بديباجاتها ، ولا عند حدود علاقاتها ، بل يجدون أنفسهم مضطرين للخروج من أفقها الضيق إلى الأفق الأوسع والأرحب الذي يمتلىء بالعلاقات الجديدة ، وأشكال التعبير الجديدة ، لأنه أفق يعج بالحياة
والنضارة ، إنه أفق عبقرية الإنسان ، مبدع الفن ، وخالق الصورة ، أفق اللغة ولا عبقريتها ، وأظن أن هذا أحد الأسباب الكبرى التي تدفعنا كما دفعت غيرنا إلى إيثار مصطلح ( صورة ) على جميع المصطلحات البيانية القديمة التي تخفق بدلالاتها المحددة العرفية ، وبطبيعتها المتحجرة الصلدة في حمل القيم الجديدة ، واحتواء الأشكال المستجدة ، و مسايرة ركب الحياة المتطورة ، في حين تقدر الصورة أن تفعل ذلك وأكثر .
هذه المشكلات الأربع : المشابهة والأثينينية والمنطقية والجمود وجدت بدرجات مختلفة في الأشكال البلاغية القديمة ، كما وجدت إلى عصر ، ومن فترة جمالية إلى أخرى . وقد قابلناها بعناصر أساسية أربعة تقوم الصورة الفنية عليها وهي : الوحدة ، والرؤية ، والإسقاط الروحي. والتطور . . ولا توجد هذه الأخرى بالدرجة نفسها في الصور ، كما أن الموقف تجاهها يختلف من أمة إلى أمة ، و من تيار فني إلى آخر ، ومن شاعر إلى سواه ، وإذا كنا قد رفضنا طبيعة الأشكال الأولى ومشكلاتها فلأننا نرى فيها أبنية مهدمة طال عليها الزمان ، وأشكالاً استنفدت طاقاتها ، وخلقت جدتها ، وران عليها الموت ، ونحن نتهم الدراسات البلاغية التقليدية بأنها عالجت هذه الأشكال بطريقة سطحية خارجية ، وباعتبارها محسنات لفظية وتزيينات ، أي باعتبارها أجزاء منعزلة عن الآثار الأدبية التي تحتويها ، أما وجهة نظرنا فتعتبر أن بناء الشعر ووظيفته وجوهره وطبيعته وكل شيء فيه إنما يقوم بشكل مركزي في الصورة وعليها .
ولو أنا عدنا إلى الدلالة الذهنية للصورة لوجدنا أنها تلفت انتباهنا أو انتباه البعض إلى اثنينية حين تقابل بالمادة ، إلا أن ذلك معارضة قديمة ، فالمصطلح ينظر إلى الإتجاهين معاً ، أي أنه يعني قوة شد الشعر إلى العالم من جانب، وإلى الميتافيزيقا والغيب من جانب آخر ، وحين نستعرض مناهج دراسة الصورة نشعر بذلك التوتر أو الشد غير العادل الذي يجنح بها إلى هنا أو هناك ، وإذا كان الإتكاء على الجانب الجمالي البحت للصورة يعد شيئاً قديماً فان خطر رد الفعل اليوم يكمن في المغالاة في الإتكاء على الجانب الميتافيزيقي أو الغيبي لها ، إن الصورة وحدة شاملة ، ويجب أن تدرس في ضوء منهج تكاملي شامل لا يعلي من عناصرها على حساب الآخر .
ولعل هذه النقطة _ مناهج دراسة الصورة _ هي نهاية مطافنا في هذه الدراسة .
تعليق