الفصل الثالث
الصورة الفنية والاشكال البلاغية التقليدية
إن وصولنا إلى النقطة الأخيرة عن استعمال المصطلح ليغطي جميع الأشكال البلاغية يدفع بنا إلى أن نتحدث . علاقة الصورة بهذه الأشكال ، وعن المشكلات المشتركة أو المختلفة بينهما ، ويمكن أن نقسم هذه المشكلات إلى ثلاثة أقسام : مشكلات خاصة بالصورة ، وأخرى خاصة بالمجاز ، وثالثة مشتركة بينهما .
أما المشكلات الأولى الخاصة بالصورة فقد أغنانا عن ذكرها والرد عليها كل من ( ريتشاردز ) في هجومه ، و (مري ) في دفاعه ، اللذين تعرضنا لهما من قبل (۱) . وأما المشكلات المشتركة بينهما فهي التي أدعوها « بمقولات المصطلح » ، ففي الصورة كما في المجاز توجد التعبير مختلفة ، وأشكال متفاوتة ، أو نقول توجد حساسيات متباينة لدى الشعراء وفي الفترات ترضي نفسها بدرجات مختلفة من التعبير ، ومن هنا تعددت الأشكال البلاغية التقليدية لدى الدارسين القدماء حتى وصلت عند بعضهم إلى مائتين وعشرين نوعاً ولوناً ، في حين ردها آخرون إلى سبعة أصول (۱) ، كما تعددت أنماط الصورة لدى الدارسين المحدثين . وما مقولات « واز » (۲) أو مقولات سكليتون » (١٥) أو غيرها من المقولات (۳) عنا ببعيدة وهي جميعاً استعمالات لا تقدم ولا تؤخر في طبيعة الصورة ذاتها ، إنها مجرد تفريقات بين الأشكال البلاغية أو بين ضروب الصورة تمت على أساس الرؤية السلمية لها وتصنيفها إلى الأعلى والأسفل ، أو إلى الأرفع والأحط ، وسواء أتم ذلك عن طريق الرؤية الإدماجية أم الأثينينية للمركبات فانما هو عمل أقرب إلى التصنيف والتجريد . ومع ذلك فربما يبدو أن مجرد فكرة المقولات ضرورة يحتمها منطق الفن ومنطق تطوره . وإذن فلتنبع هذه المقولات من دراسة الفن نفسها ولا تفرض عليه ولا عليها فرضاً ، ولندرس الصورة كما ندرس الشكل البلاغي في نطاق النص الواحد لاخارجه ، وفي هذه الحالة فقط لانستطيع أن نضع صورة في أعلى السلم وأخرى في أدناه لمجرد أن الأولى رمز مثلاً والأخرى تشبيه ، فقد تكون الصورة الدنيا في موضعها من النص أعمق أثراً وأبعد أصالة من مجرد فرض الصورة العليا عليه فرضاً .
وبالنسبة للمشكلات الخاصة بالمجاز أو بالأشكال البلاغية التقليدية على العموم فيمكن أن نحصرها في أربع مشكلات :
١ - مشكلة المشابهة .
٢ - مشكلة البناء المنطقي .
٣ - مشكلة الرؤية الأثنينية .
٤ - مشكلة الجمود .
وسنحاول الآن أن نتعرض لكل من هذه المشكلات على حدة :
أولاً - مشكلة المشابهة :
يتضمن أي شكل من أشكال المجاز القديم ولاسيما التشبيه والإستعارة، وهما أهم لونين تقليديين من ألوان البيان - علاقة بين مركبين تقوم غالباً على أساس التشابه وبجامعه ، وإذا كان هذا الأساس أو الجامع أوضح ما يكون في شكل التشبيه فانه في الإستعارة كما أريد لها - لا يبعد عنه بل يعود إليه ، ويمكننا أن نسوق في ذلك الكثرة من التحديدات والتعريفات والدراسات التي تؤكد مسألة التشابه وتتكيء عليها . . فالآمدي في موازنته يقول (۱) : « . . . . إنما استعارت العرب المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله ، أو كان سبباً من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه . . » ، ومحمد بن يزيد النحوي يزعم (۲) ه . . أن أحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه . . ) ، وينتهي الجرجاني في وساطته (۳) إلى أن ملاك الإستعارة هو تقريب الشبه ، ومناسبة المستعار له المستعار منه (١٦) » .
ولعل مدرسة التشبيه العباسية ، مدرسة « ابن المعتز » ( +٢٩٦ ) و و الصنوبري ( ٣٣٤ ) و ( كشاجم ) ( +٣٥٠ أو ٣٦٠ ) هي أفضل من يطبق وجهات النظر هذه ، ويبلغ بها الذروة ، ويحقق في الوقت نفسه ذوق العصر والنقاد ، وإذا رجعنا إلى أعمال هؤلاء وأشعارهم التي سارت الأمثال ، وإلى آراء دارسيها والمعجبين بها فانا واجدون ثلاثة محاور يدور خلالها سحرهم البياني ، وهي الجامع في كل، ومفهوم العكس (۱۷)، والوضوح ، وكلها محاور ترتد إلى عنصر المشابهة الذي نستطيع أن نرده هو الآخر ونربطه بنظرية المحاكاة بالدلالة غير الأرسطية كما فهمها سير النقاد العرب .
ونعتقد أن هذه الرؤية قاصرة ، بل وحيدة الجانب ، لأن عنصر المشابهة في الإستعارة لايقل بأية حال من الأحوال عن عنصر المغايرة فيها ، وكلا العنصرين في وحدتهما واندماجهما يشكل المركب الثالث أو الناتج النهائي للعملية الفنية ، وقد أدرك عبد القاهر الجرجاني في « دلائل الانجاز» وفي « أسرار البلاغة ) بعض ذلك حين فرق بين لون من الإستعارة يقوم على المشابهة ، وهو - كما يقول - ( ضرب تعير فيه المشبه به للمشبه وتجريه عليه ولون آخر لا يقوم عليها وسمى هذا اللون الإستعارة المكنية، وهو لون تعود البلاغيون أن يضموه إلى الأول أنه يختلف عنه . مع ونحن نريد ألا نقف عند حدود عبد القاهر لأنا نزعم أن عنصر المشابهة كعنصر المغايرة موجود هنا وهناك، في الإستعارة المكنية وفي غير الإستعارة المكنية ، ولكن أياً منهما لا يهمنا في ذاته ولذاته فالذي يهمنا هو العلاقة النهائية الناتجة عن تداخله في غيره ، وإنعكاسه في قرينه ، ولو فرضنا جدلاً أن العلاقة الأولى المشابهة هي ( نعم ) ، والعلاقة الثانية المغايرة هي ( لا ) فان العلاقة النهائية هي ( نعم لا ) ، وهي علاقة لا يغطيها إصطلاح التشبيه ولا الإستعارة فضلاً عن طبيعتيهما .
ونسوق مثالاً لبيان مانريد : « السفينة تحرث البحر ، ، هذه العلاقة تضم وحدتين . . السفينة . . البحر ، وبينهما كلمة ( تحرث » مستعملة لتشير إلى علاقتين أو موقفين حرفي ( المحراث والأرض ) وفي (السفينة والأمواج ) ، وقد كانت في البلاغة القديمة تحلل على هذا الأساس : إن فعل السفينة في الأمواج مثل فعل المحراث في التربة » أو « إن السفينة تمخر عباب اليم مثلما يشق المحراث تربة الأرض ) أو ( إن نسبة أو علاقة السفينة إلى الأمواج كنسبة أو علاقة المحراث إلى التربة ) . . . . .. وهي كلها تحليلات تسعى وراء الجامع » أو النسبة بين العنصرين ، أو لنقل وجه الشبه بين المركبين فحسب ، وقد قلنا إنه ليس العنصر الوحيد فيهما فهناك عنصر المغايرة ، ونظن أن العنصرين متكافئان في العلاقة تماماً سواء أقامت على مركبين أم على العديد من المركبات ، فان نسبة الحرث إلى الأرض ( مشابهة ) هي النسبة نفسها التي يريد الفنان أن يلحقها بالسفينة ( مغايرة ) . بل أكثر من ذلك فان هاتين النسبتين ليستا هما المقصودتين من لأنهما نسبتان لاقيمة لهما لا في ذهن الفنان وأثناء خلقه ولا في ذهن المتلقي وأثناء إدراكه ، فالمقصود هو المركب الناتج عن إنعكاس هاتين النسبتين وتداخلهما ، والذي يحمل رؤية الفنان والتأثير الذي يريد أن يخلقه في روع القارىء ، وقد أشار « ريتشاردز » إلى هذا العنصر غير المتكافيء في الإستعارة وأعلاه على عنصر المشابهة أو العنصر المتكافي ، (۱) ، ، بينما ذهب « فوغل » إلى عكس ذلك ، ورأى أن عنصر المشابهة هو العامل
الصورة الفنية والاشكال البلاغية التقليدية
إن وصولنا إلى النقطة الأخيرة عن استعمال المصطلح ليغطي جميع الأشكال البلاغية يدفع بنا إلى أن نتحدث . علاقة الصورة بهذه الأشكال ، وعن المشكلات المشتركة أو المختلفة بينهما ، ويمكن أن نقسم هذه المشكلات إلى ثلاثة أقسام : مشكلات خاصة بالصورة ، وأخرى خاصة بالمجاز ، وثالثة مشتركة بينهما .
أما المشكلات الأولى الخاصة بالصورة فقد أغنانا عن ذكرها والرد عليها كل من ( ريتشاردز ) في هجومه ، و (مري ) في دفاعه ، اللذين تعرضنا لهما من قبل (۱) . وأما المشكلات المشتركة بينهما فهي التي أدعوها « بمقولات المصطلح » ، ففي الصورة كما في المجاز توجد التعبير مختلفة ، وأشكال متفاوتة ، أو نقول توجد حساسيات متباينة لدى الشعراء وفي الفترات ترضي نفسها بدرجات مختلفة من التعبير ، ومن هنا تعددت الأشكال البلاغية التقليدية لدى الدارسين القدماء حتى وصلت عند بعضهم إلى مائتين وعشرين نوعاً ولوناً ، في حين ردها آخرون إلى سبعة أصول (۱) ، كما تعددت أنماط الصورة لدى الدارسين المحدثين . وما مقولات « واز » (۲) أو مقولات سكليتون » (١٥) أو غيرها من المقولات (۳) عنا ببعيدة وهي جميعاً استعمالات لا تقدم ولا تؤخر في طبيعة الصورة ذاتها ، إنها مجرد تفريقات بين الأشكال البلاغية أو بين ضروب الصورة تمت على أساس الرؤية السلمية لها وتصنيفها إلى الأعلى والأسفل ، أو إلى الأرفع والأحط ، وسواء أتم ذلك عن طريق الرؤية الإدماجية أم الأثينينية للمركبات فانما هو عمل أقرب إلى التصنيف والتجريد . ومع ذلك فربما يبدو أن مجرد فكرة المقولات ضرورة يحتمها منطق الفن ومنطق تطوره . وإذن فلتنبع هذه المقولات من دراسة الفن نفسها ولا تفرض عليه ولا عليها فرضاً ، ولندرس الصورة كما ندرس الشكل البلاغي في نطاق النص الواحد لاخارجه ، وفي هذه الحالة فقط لانستطيع أن نضع صورة في أعلى السلم وأخرى في أدناه لمجرد أن الأولى رمز مثلاً والأخرى تشبيه ، فقد تكون الصورة الدنيا في موضعها من النص أعمق أثراً وأبعد أصالة من مجرد فرض الصورة العليا عليه فرضاً .
وبالنسبة للمشكلات الخاصة بالمجاز أو بالأشكال البلاغية التقليدية على العموم فيمكن أن نحصرها في أربع مشكلات :
١ - مشكلة المشابهة .
٢ - مشكلة البناء المنطقي .
٣ - مشكلة الرؤية الأثنينية .
٤ - مشكلة الجمود .
وسنحاول الآن أن نتعرض لكل من هذه المشكلات على حدة :
أولاً - مشكلة المشابهة :
يتضمن أي شكل من أشكال المجاز القديم ولاسيما التشبيه والإستعارة، وهما أهم لونين تقليديين من ألوان البيان - علاقة بين مركبين تقوم غالباً على أساس التشابه وبجامعه ، وإذا كان هذا الأساس أو الجامع أوضح ما يكون في شكل التشبيه فانه في الإستعارة كما أريد لها - لا يبعد عنه بل يعود إليه ، ويمكننا أن نسوق في ذلك الكثرة من التحديدات والتعريفات والدراسات التي تؤكد مسألة التشابه وتتكيء عليها . . فالآمدي في موازنته يقول (۱) : « . . . . إنما استعارت العرب المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله ، أو كان سبباً من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه . . » ، ومحمد بن يزيد النحوي يزعم (۲) ه . . أن أحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه . . ) ، وينتهي الجرجاني في وساطته (۳) إلى أن ملاك الإستعارة هو تقريب الشبه ، ومناسبة المستعار له المستعار منه (١٦) » .
ولعل مدرسة التشبيه العباسية ، مدرسة « ابن المعتز » ( +٢٩٦ ) و و الصنوبري ( ٣٣٤ ) و ( كشاجم ) ( +٣٥٠ أو ٣٦٠ ) هي أفضل من يطبق وجهات النظر هذه ، ويبلغ بها الذروة ، ويحقق في الوقت نفسه ذوق العصر والنقاد ، وإذا رجعنا إلى أعمال هؤلاء وأشعارهم التي سارت الأمثال ، وإلى آراء دارسيها والمعجبين بها فانا واجدون ثلاثة محاور يدور خلالها سحرهم البياني ، وهي الجامع في كل، ومفهوم العكس (۱۷)، والوضوح ، وكلها محاور ترتد إلى عنصر المشابهة الذي نستطيع أن نرده هو الآخر ونربطه بنظرية المحاكاة بالدلالة غير الأرسطية كما فهمها سير النقاد العرب .
ونعتقد أن هذه الرؤية قاصرة ، بل وحيدة الجانب ، لأن عنصر المشابهة في الإستعارة لايقل بأية حال من الأحوال عن عنصر المغايرة فيها ، وكلا العنصرين في وحدتهما واندماجهما يشكل المركب الثالث أو الناتج النهائي للعملية الفنية ، وقد أدرك عبد القاهر الجرجاني في « دلائل الانجاز» وفي « أسرار البلاغة ) بعض ذلك حين فرق بين لون من الإستعارة يقوم على المشابهة ، وهو - كما يقول - ( ضرب تعير فيه المشبه به للمشبه وتجريه عليه ولون آخر لا يقوم عليها وسمى هذا اللون الإستعارة المكنية، وهو لون تعود البلاغيون أن يضموه إلى الأول أنه يختلف عنه . مع ونحن نريد ألا نقف عند حدود عبد القاهر لأنا نزعم أن عنصر المشابهة كعنصر المغايرة موجود هنا وهناك، في الإستعارة المكنية وفي غير الإستعارة المكنية ، ولكن أياً منهما لا يهمنا في ذاته ولذاته فالذي يهمنا هو العلاقة النهائية الناتجة عن تداخله في غيره ، وإنعكاسه في قرينه ، ولو فرضنا جدلاً أن العلاقة الأولى المشابهة هي ( نعم ) ، والعلاقة الثانية المغايرة هي ( لا ) فان العلاقة النهائية هي ( نعم لا ) ، وهي علاقة لا يغطيها إصطلاح التشبيه ولا الإستعارة فضلاً عن طبيعتيهما .
ونسوق مثالاً لبيان مانريد : « السفينة تحرث البحر ، ، هذه العلاقة تضم وحدتين . . السفينة . . البحر ، وبينهما كلمة ( تحرث » مستعملة لتشير إلى علاقتين أو موقفين حرفي ( المحراث والأرض ) وفي (السفينة والأمواج ) ، وقد كانت في البلاغة القديمة تحلل على هذا الأساس : إن فعل السفينة في الأمواج مثل فعل المحراث في التربة » أو « إن السفينة تمخر عباب اليم مثلما يشق المحراث تربة الأرض ) أو ( إن نسبة أو علاقة السفينة إلى الأمواج كنسبة أو علاقة المحراث إلى التربة ) . . . . .. وهي كلها تحليلات تسعى وراء الجامع » أو النسبة بين العنصرين ، أو لنقل وجه الشبه بين المركبين فحسب ، وقد قلنا إنه ليس العنصر الوحيد فيهما فهناك عنصر المغايرة ، ونظن أن العنصرين متكافئان في العلاقة تماماً سواء أقامت على مركبين أم على العديد من المركبات ، فان نسبة الحرث إلى الأرض ( مشابهة ) هي النسبة نفسها التي يريد الفنان أن يلحقها بالسفينة ( مغايرة ) . بل أكثر من ذلك فان هاتين النسبتين ليستا هما المقصودتين من لأنهما نسبتان لاقيمة لهما لا في ذهن الفنان وأثناء خلقه ولا في ذهن المتلقي وأثناء إدراكه ، فالمقصود هو المركب الناتج عن إنعكاس هاتين النسبتين وتداخلهما ، والذي يحمل رؤية الفنان والتأثير الذي يريد أن يخلقه في روع القارىء ، وقد أشار « ريتشاردز » إلى هذا العنصر غير المتكافيء في الإستعارة وأعلاه على عنصر المشابهة أو العنصر المتكافي ، (۱) ، ، بينما ذهب « فوغل » إلى عكس ذلك ، ورأى أن عنصر المشابهة هو العامل
تعليق