في ذلك مثل أية ظاهرة طبيعية حية نامية ، ويكفي أن ندرك كيف يعبر الحدس الشعري بالكلمة في نطاق التجربة الفنية وكيف ينتقل بها وتنتقل به في ذبذبات متجاوبة مترددة ، ومن مرحلة غير متكاملة ولا تامة إلى وضع فيه الإكتمال كله والتمام - لنرفض كل تفسير علمي لطبيعة الصورة مثل تفسير واطسون .
لقد قال ( كولردج ) (۱) منذ عشرات السنين إن الشعر ذو منطق خاص به قاس قسوة منطق العلم ، وربما كان أكثر صعوبة منه لأنه أكثر لطفاً وأوفر تعقيداً ، ذلك أن الشاعر حين ينطلق إلى العمل ينطلق من وحدة عاطفية داخلية ، ويتوسل بأداة تلائم هذه الوحدة ، وإذا كانت الصورة اللغوية الخارجية التي نعبر بها عن أفكارنا المنطقية الجبرية تخضع لقانونها الرمزي الخاص والثابت فان الصورة اللغوية الداخلية التي تحمل طاقاتنا الوجدانية كلها وتعبر عنها تخضع لقانونها الإنفعالي الخاص والمتحرك ، وشتان بين القانونين .
لقد تكلم الله أول ما تكلم بالصورة ، ونطقت الحكمة أول ما نطقت بالصورة ، وتحدث الأنبياء أول ما تحدثوا بالصورة ، وعبر الإنسان الأول أول ماعبر بالصورة ، فالصورة هي قطب رحى الوجود، وأساس الخلق، تلتقي فيها قوى النفس والطبيعة جميعاً ، قوى الداخل والخارج في وحدة هي رؤية الخالق والفنان للنفس والحياة (٢) ، بيد أن التطور التاريخي أبعد الذهن عن ذلك كله وعمل على تفتيت الدلالة الكلية المتعددة لوسيلة التعبير ، وحطم وحدة الكون (۱) ، واقترب بالانسان من التعميم والتجريد والإنعزال ، وأحل الكلمة محل الصورة أداة الخلق ، وإني لأزعم أن ذلك يصبح على كل الفترة الثنائية ، فترة انفصال الذات عن الموضوع ، أو فترة تحطيم وحدة الكون والإنسان ومع الشعراء سواء في هذه الفترة أو في غيرها يحنون للعودة إلى الفترة البدئية الأولى للتعبير بالصورة، بل كانوا يحاولون دائماً التعبير بها وخلق علاقات جديدة، وارتباطات مختلفة عديدة بين الكلمات وإقامة مركبات تارة تقوم على التشابه وأخرى على غيره ، ولذلك استمرت اللغة ، وعاشت وما تزال تعيش وهي حبلى بالصور الحية والميته ونصف الموات (۸) .
وفي الواقع أن ظاهرة موت الصورة كظاهرة خلقها (۲) تحتاج إلى حديث ، فان أية صورة كأي وليد جديد سرعان مايحيا عمره ثم يموت ، وكل كلمة في اللغة تبدأ في صورة استعارة حية حين يبدعها خالقها ويستعملها لأول مرة إلا أنها تتجرد بالتدريج من طبيعتها الناضرة وتفقد نبضها وحيويتها وتصبح اوناً من المقابلات التي تمتليء بها متاحف اللغة ومعاجمها كموميات لاحياة فيها . ثم يأتي النير فيستعمل هذه الآثار التي خلنمها الشعراء وغادروها إلى غيرها ، وقد لاحظ « شللي » في الشعر أن الصور تصبح بمرور الزمن مجرد علامات تدل على أجزاء أو أنواع من الأفكار بدلاً من كونها صور أفكار متكاملة (۳).
ويبدو أن الكثيرين ممن يستعملون هذه المقابلات أو العلامات ينسون أصلها الإنفعالي الصوري الذي فقدته ، ويستعملونها على أنها تعبيرات حرفية تساقطت إليهم ، وليس النثر هو الوحيد الذي يستعمل هذه المقابلات بل إن أحاديثنا العادية ، ولهجاتنا العامية الدارجة ولغاتنا المحكية لتنوء بمثل هذه التعبيرات (۱) ، فالأمثال والإستعمالات الجاهزة المنتظمة ( الإكليشهات ) التي نعبر أو نصف بها حالات أو أفكاراً معينة ليست سوى أنماط من الصور الميتة (۲) ، ولعل البعض لا يوافق على هذه الصفة الأخيرة ( الميتة ) ، التي وصفنا مها الصور البائدة ، ويؤثر أن يقول إنها نصف ميته أو نائمة (۳) ، مثلها مثل تلك الحشائش الشائكة التي فقدت قدرتها على الوخز ، والفنان العظيم وحده هو القادر على بعثها وإيقاظها من سباتها العميق بشكل أو بآخر ، وقد يكون ذلك صحيحاً إلا أننا يجب ألا أن الموت قد أصابها مرتين مرة حين خلقت من كثرة الإستعمال ومرور الأيام ، ومرة حين فقدت حيويتها ونضارتها وجدتها وتفردها وتحولت إلى أن تحمل دلالة حرفية واحدة ، وإن أي استعمال لها سواء أكان ذلك بوضعها الجاهز أم بتحوير قليل يطرأ عليها مضر بالعمل الشعري فالتحوير وحده لا يخلق من الموت حياة ، والذي يفعل ذلك هو التحطيم وحده ، تحطيم العلاقات والمركبات القديمة وإقامة خلق آخر جديد حي نابض ، وربما كان الإستعمال الأول الجاهز أكثر ضرراً وخطراً لأنه يعني أن الشاعر يستعمل في فنه إشارات حرفية عامة ، أي أنه يستعمل أدوات نثرية في عمل شعري ، وفي هذا قضاء على الفنان وعلى فنه .
والحق أن اللغة كانت وماتزال من صنع الشعراء ومن عطائهم فمن طريق إستخدامهم للصورة ، وبواسطة خلقهم علاقات جديدة . دائماً بين الكلمات تنتعش وتتوسع وتحيا وتستمر إن الشعر يجدد قيمة اللغة في وحداتها الجزئية بخلاف النثر الذي يعمل على المحافظة على استمرار القيمة ، أي استمرار المعنى في الكلمة ، ومن أجل ذلك فهو في حاجة دائبة إلى الإنعاش الثر الغزير ، ولن يكون ذلك إلا بواسطة الخلق الصوري، ولئن ظلت اللغة بين ظهرانينا متحدرة من الماضي فلانها كانت تتجدد باستمرار ، وستظل كذلك إلى المستقبل مادام الشعراء يدفعون بها إلى الأمام ، وإذا لم توهب أية لغة مثل هؤلاء الشعراء الذين يعملون على نضارتها ونضجها بالموائمة بين أساليبها وألفاظها وبين روح العصر وتوليد صور مغايرة يشتقونها من إحساساتهم التي تغاير بالضرورة أويجب أن تغاير إحساسات من تبعوهم فانها لا محالة ستصبح فقيرة عاجزة ، بل ستصبح مجرد كلمات خاوية ميتة لا رواء فيها ولا حياة ، حتماً إلى الجمود والتحجر وستصير من عنصريه إذا كنا قد انتهينا في كتابنا « الشعر بين الفنون الجميلة ، إلى أن فن الشعر ينقل إلينا زمنكانية التجربة الشعورية في تشكيلتين إحداهما متعاقبة والأخرى رى متزامنة ، وأن العصور التالية حين أعلت أحد الإيقاعي أو التصويري على حساب الآخر كانت خاطئة فيما صنعته لأن الشعر يتوسل بالعنصرين معاً فإنا ننتهي في هذا الفصل إلى أن لغة الفن لغة إنفعالية ، والإنفعال (۹) لايتوسل بالكلمة وإنما يتوسل بوحدة تركيبة معقدة حيوية لا تقبل الإختصار نطلق عليها اسم ( الصورة ) ، فالصورة إذن هي واسطة الشعر وجوهره ، وكل قصيدة من | القصائد وحدة كاملة تنتظم في داخلها وحدات متعددة. لبنات بنائها العام وكل لبنة من هذه اللبنات هي صورة تشكل مع أخواتها الصورة الكلية التي هي العمل الفني نفسه ، ومن هنا نزعم أن بناء الشعر هو بناء صوري ، وإذا كانت العصور والفترات قد استخدمت الصورة بدرجات مختلفة وبأشكال متعددة ، وبمفاهيم متغايرة ، وأوجدت لها حساسيات متباينة وطبائع متفاوتة - فان الشعر يظل في النهاية يحمل صفته الأساسية . وقد تأتي مصطلحات الشعر وتروح وتتحول طرز موسيقاه ، وتتغير أنماط البناء فيه ، وتختلف مواده من بيئة إلى أخرى ، ومن فنان إلى غيره ، ولكن واسطة التعبير فيه ، ومبدأ خلقه . . . الصورة : . . تبقى أداته الأولى والرئيسة (۱) . تفرق عصراً من عصر ، وتياراً من تيار ، وشاعراً من شاعر ، وتظهر أصالة الخالق ، وتدل على قيمة فنه ، وترمز إلى عبقريته وشخصيته ، بل وتحمل خصوصيته وفرديته لأنها الأداة الوحيدة التي ينقل مها تجربته ولا يمكن أن يستعيرها من سواه (٢) .
لقد قال ( كولردج ) (۱) منذ عشرات السنين إن الشعر ذو منطق خاص به قاس قسوة منطق العلم ، وربما كان أكثر صعوبة منه لأنه أكثر لطفاً وأوفر تعقيداً ، ذلك أن الشاعر حين ينطلق إلى العمل ينطلق من وحدة عاطفية داخلية ، ويتوسل بأداة تلائم هذه الوحدة ، وإذا كانت الصورة اللغوية الخارجية التي نعبر بها عن أفكارنا المنطقية الجبرية تخضع لقانونها الرمزي الخاص والثابت فان الصورة اللغوية الداخلية التي تحمل طاقاتنا الوجدانية كلها وتعبر عنها تخضع لقانونها الإنفعالي الخاص والمتحرك ، وشتان بين القانونين .
لقد تكلم الله أول ما تكلم بالصورة ، ونطقت الحكمة أول ما نطقت بالصورة ، وتحدث الأنبياء أول ما تحدثوا بالصورة ، وعبر الإنسان الأول أول ماعبر بالصورة ، فالصورة هي قطب رحى الوجود، وأساس الخلق، تلتقي فيها قوى النفس والطبيعة جميعاً ، قوى الداخل والخارج في وحدة هي رؤية الخالق والفنان للنفس والحياة (٢) ، بيد أن التطور التاريخي أبعد الذهن عن ذلك كله وعمل على تفتيت الدلالة الكلية المتعددة لوسيلة التعبير ، وحطم وحدة الكون (۱) ، واقترب بالانسان من التعميم والتجريد والإنعزال ، وأحل الكلمة محل الصورة أداة الخلق ، وإني لأزعم أن ذلك يصبح على كل الفترة الثنائية ، فترة انفصال الذات عن الموضوع ، أو فترة تحطيم وحدة الكون والإنسان ومع الشعراء سواء في هذه الفترة أو في غيرها يحنون للعودة إلى الفترة البدئية الأولى للتعبير بالصورة، بل كانوا يحاولون دائماً التعبير بها وخلق علاقات جديدة، وارتباطات مختلفة عديدة بين الكلمات وإقامة مركبات تارة تقوم على التشابه وأخرى على غيره ، ولذلك استمرت اللغة ، وعاشت وما تزال تعيش وهي حبلى بالصور الحية والميته ونصف الموات (۸) .
وفي الواقع أن ظاهرة موت الصورة كظاهرة خلقها (۲) تحتاج إلى حديث ، فان أية صورة كأي وليد جديد سرعان مايحيا عمره ثم يموت ، وكل كلمة في اللغة تبدأ في صورة استعارة حية حين يبدعها خالقها ويستعملها لأول مرة إلا أنها تتجرد بالتدريج من طبيعتها الناضرة وتفقد نبضها وحيويتها وتصبح اوناً من المقابلات التي تمتليء بها متاحف اللغة ومعاجمها كموميات لاحياة فيها . ثم يأتي النير فيستعمل هذه الآثار التي خلنمها الشعراء وغادروها إلى غيرها ، وقد لاحظ « شللي » في الشعر أن الصور تصبح بمرور الزمن مجرد علامات تدل على أجزاء أو أنواع من الأفكار بدلاً من كونها صور أفكار متكاملة (۳).
ويبدو أن الكثيرين ممن يستعملون هذه المقابلات أو العلامات ينسون أصلها الإنفعالي الصوري الذي فقدته ، ويستعملونها على أنها تعبيرات حرفية تساقطت إليهم ، وليس النثر هو الوحيد الذي يستعمل هذه المقابلات بل إن أحاديثنا العادية ، ولهجاتنا العامية الدارجة ولغاتنا المحكية لتنوء بمثل هذه التعبيرات (۱) ، فالأمثال والإستعمالات الجاهزة المنتظمة ( الإكليشهات ) التي نعبر أو نصف بها حالات أو أفكاراً معينة ليست سوى أنماط من الصور الميتة (۲) ، ولعل البعض لا يوافق على هذه الصفة الأخيرة ( الميتة ) ، التي وصفنا مها الصور البائدة ، ويؤثر أن يقول إنها نصف ميته أو نائمة (۳) ، مثلها مثل تلك الحشائش الشائكة التي فقدت قدرتها على الوخز ، والفنان العظيم وحده هو القادر على بعثها وإيقاظها من سباتها العميق بشكل أو بآخر ، وقد يكون ذلك صحيحاً إلا أننا يجب ألا أن الموت قد أصابها مرتين مرة حين خلقت من كثرة الإستعمال ومرور الأيام ، ومرة حين فقدت حيويتها ونضارتها وجدتها وتفردها وتحولت إلى أن تحمل دلالة حرفية واحدة ، وإن أي استعمال لها سواء أكان ذلك بوضعها الجاهز أم بتحوير قليل يطرأ عليها مضر بالعمل الشعري فالتحوير وحده لا يخلق من الموت حياة ، والذي يفعل ذلك هو التحطيم وحده ، تحطيم العلاقات والمركبات القديمة وإقامة خلق آخر جديد حي نابض ، وربما كان الإستعمال الأول الجاهز أكثر ضرراً وخطراً لأنه يعني أن الشاعر يستعمل في فنه إشارات حرفية عامة ، أي أنه يستعمل أدوات نثرية في عمل شعري ، وفي هذا قضاء على الفنان وعلى فنه .
والحق أن اللغة كانت وماتزال من صنع الشعراء ومن عطائهم فمن طريق إستخدامهم للصورة ، وبواسطة خلقهم علاقات جديدة . دائماً بين الكلمات تنتعش وتتوسع وتحيا وتستمر إن الشعر يجدد قيمة اللغة في وحداتها الجزئية بخلاف النثر الذي يعمل على المحافظة على استمرار القيمة ، أي استمرار المعنى في الكلمة ، ومن أجل ذلك فهو في حاجة دائبة إلى الإنعاش الثر الغزير ، ولن يكون ذلك إلا بواسطة الخلق الصوري، ولئن ظلت اللغة بين ظهرانينا متحدرة من الماضي فلانها كانت تتجدد باستمرار ، وستظل كذلك إلى المستقبل مادام الشعراء يدفعون بها إلى الأمام ، وإذا لم توهب أية لغة مثل هؤلاء الشعراء الذين يعملون على نضارتها ونضجها بالموائمة بين أساليبها وألفاظها وبين روح العصر وتوليد صور مغايرة يشتقونها من إحساساتهم التي تغاير بالضرورة أويجب أن تغاير إحساسات من تبعوهم فانها لا محالة ستصبح فقيرة عاجزة ، بل ستصبح مجرد كلمات خاوية ميتة لا رواء فيها ولا حياة ، حتماً إلى الجمود والتحجر وستصير من عنصريه إذا كنا قد انتهينا في كتابنا « الشعر بين الفنون الجميلة ، إلى أن فن الشعر ينقل إلينا زمنكانية التجربة الشعورية في تشكيلتين إحداهما متعاقبة والأخرى رى متزامنة ، وأن العصور التالية حين أعلت أحد الإيقاعي أو التصويري على حساب الآخر كانت خاطئة فيما صنعته لأن الشعر يتوسل بالعنصرين معاً فإنا ننتهي في هذا الفصل إلى أن لغة الفن لغة إنفعالية ، والإنفعال (۹) لايتوسل بالكلمة وإنما يتوسل بوحدة تركيبة معقدة حيوية لا تقبل الإختصار نطلق عليها اسم ( الصورة ) ، فالصورة إذن هي واسطة الشعر وجوهره ، وكل قصيدة من | القصائد وحدة كاملة تنتظم في داخلها وحدات متعددة. لبنات بنائها العام وكل لبنة من هذه اللبنات هي صورة تشكل مع أخواتها الصورة الكلية التي هي العمل الفني نفسه ، ومن هنا نزعم أن بناء الشعر هو بناء صوري ، وإذا كانت العصور والفترات قد استخدمت الصورة بدرجات مختلفة وبأشكال متعددة ، وبمفاهيم متغايرة ، وأوجدت لها حساسيات متباينة وطبائع متفاوتة - فان الشعر يظل في النهاية يحمل صفته الأساسية . وقد تأتي مصطلحات الشعر وتروح وتتحول طرز موسيقاه ، وتتغير أنماط البناء فيه ، وتختلف مواده من بيئة إلى أخرى ، ومن فنان إلى غيره ، ولكن واسطة التعبير فيه ، ومبدأ خلقه . . . الصورة : . . تبقى أداته الأولى والرئيسة (۱) . تفرق عصراً من عصر ، وتياراً من تيار ، وشاعراً من شاعر ، وتظهر أصالة الخالق ، وتدل على قيمة فنه ، وترمز إلى عبقريته وشخصيته ، بل وتحمل خصوصيته وفرديته لأنها الأداة الوحيدة التي ينقل مها تجربته ولا يمكن أن يستعيرها من سواه (٢) .
تعليق