كلام نساوين ....
حكاية نساء
" كلام نساوين " النص الغير مكتمل ل"منصور أبوشناف" فالمسرحية قسمها الكاتب إلى تسع لوحات، كل لوحة تحمل أسم بطلتها، " خد يجة الأولى ، والثانية والثالثة. مبروكة الأولى ، والثانية والثالثة . فوزية الأولى والثانية والثالثة ". أنجز منها المؤلف خمس لوحات حيث توقف عند مبروكة الثانية . هذا النص الذي تعامل معه المخرج " محمد الصادق " .
النص يحكي سيرة ثلاث أخوات عشن في أزمان مختلفة، أو ثلاث مراحل تاريخية. فكل منهن تمثل أفكار وتقاليد المرحلة التي تعيشها ، عهد الترك والطليان الذي تمثله" خديجة" الابنة الكبرى ، وجيل الرائدات اللواتي اقتحمن العديد من المجالات رغم القيود الاجتماعية القاسية الذي تمثله الابنة الوسطى " مبروكة " التي اختارت مجال التمثيل في المسرح . والجيل الحاضر الذي تمثله " فوزية " التي لم نتعرف على مهنتها هل هي طالبة أو موظفة أم عاطلة ؟ فلا يوجد في النص أي ملامح لأبعاد هذه الشخصية ، فالكاتب لم يكتب الجزء الخاص لهذه الشخصية حسب تقسيمه الذي أشرت إليه آنفا . إضافة لشخصية " الأب " الذي يمثل المراحل الثلاثة فطريقة التعامل مع بناته متفاوتة ، في الوقت الذي يسجن فيه الكبرى" خديجة" في البيت مانعا عنها نور الشمس ، هو نفسه الذي نراه يترك الابنة الوسطى " مبروكة " تمتهن مهنة التمثيل ، ونراه غير حاضر عند الابنة الصغرى " فوزية " تاركا لها المجال واسعاً مع مواعيدها الغرامية أو هذا ما لمسناه . ربما يكون هذا السبب الذي جعل الكاتب يترك شخصية " الأب" بدون اسم ، بهذه الطريقة لعب الكاتب على فكرة (الزمن والمكان) عندما ترك شخصيتي " الأب والمطرب " مطاطيتين بجعلهما أداتي ربط بين هذه الأزمنة والأمكنة عن طريق" التحوّل ". نستطيع القول بأن الأب شانه شان كل الشخصيات في المسرحية يتغيّر ويتحوّل زمانياً ومكانياً مع كل شخصية " الأب الأول ، والثاني ، والثالث " وأحياناً يعطينا إيحاء بأنه "أب" لكل البنات الذي يمثل السلطة الاجتماعية ، و تحوّله إلى "فقيه" ليمثل السلطة الدينية . هذه الفكرة تسري أيضا على " الموزيقانتي، المطرب، الشاعر الشعبي" دونما أن يسبغ عليهم الكاتب أسماء .
أما الشخصيات النسائية فتحمل كل منهم زمنها التي عاشت فيه ماعدا شخصية الممثلة " مبروكة " التي أعطت مساحة مبررة لفتح مجال أرحب للنص، فمن خلالها_ المهنة _جسدت الكثير من المشاهد، وعمقت الكثير من الشخصيات بحضورها، وكانت دعماً حقيقيا لتكريس الفكرة التي يسعى إليها المؤلف. فدونما شك ستكون المساحة أضيق لو تم اختيار أي مهنة أخرى مثل " مدرسة أو موظفة " ومن خلالها أيضا جذر الكاتب فكرته عندما وظف مشهد من أهم المشاهد المسرحية في تاريخ المسرح العالمي الذي ينادي بحرية المراءة والدفاع عنها وهو المشهد الأخير ل" نورا " من مسرحية " بيت الدمية " ل" هنريك ابسن " لتتحد فيه "الممثلة والشخصية" وأحياناً نراها تكوّن صلة تقارب بين الشخصية الفنية والشخصية الواقعية .ومازالت هذه الشخصية تحتمل الكثير لإثراء هذا العمل لو عكف الكاتب على إكمال مسرحيته . .
وأخيراً الشخصية الغائبة الحاضرة وهي شخصية" الأم" التي لا نراها في النص إلا من خلال الأغنية المؤثرة المتكررة التي تترنم بها الشقيقات عند أي أزمة " يا ميما وين مشيتي" كأنما تشير إلى سلطة الأب وتغييبه لدور الأم تاركا لها دور الخادمة، وأيضاً تشير إلى الفراغ الذي تركته الأم ، وعن لسان " خديجة " التي تسير على خطى أمها كل ما ضاقت بها الدنيا تهرب إلى الغزل " قالتلي أمي اغزلي لما تتضايقي " كما كانت أمها تهرب إلى" الدخان والشاهي" يرد ذكرها عندما يرفض الأب أحد خطابها" بوي كان راجل ..اللي تقوله آمي ولا نقوله أنا يقول عليه.. كلام نساوين " المرة الوحيدة التي ذكرت فيها الأم " كجلاد" أو أداة في يد الأب تتمثل في هذا المقطع من الحوار على لسان خديجة: " وانا صغيرة زرني كلب ، طلقاته أمي ونشّاته وقالتله أنتشها في عراقيبها ... وجريت والكلب وراي... وطبنجة بوي وراي " وهو إشارة للقهر المزدوج من الأب والأم التي تنقلب إلى جلاد عندما تحاول أن تنفذ نواميس سيد البيت . أما على لسان الأب فدائما يرد ذكر الأم بشكل سلبي فهو يصب جام غضبه على الأم إذا ما خرجت خديجة على تقاليده التي سنها في البيت ، وعن طريق أصوات أطفال في فصل دراسي " هذه أمي .. أمي تغسل .. أمي تطبخ ..هذه جدتي .. جدتي تحكي " .
المساحة الأخرى التي قدمها الكاتب للنص وهي تقنية "المسرح داخل المسرح، أو المسرح في قلب المسرح" مستفيدا من " السدة بالكلة " لتوظيفها كمكان تدور فيه الكثير من الأحداث جاعلاً منها مسرحاً صغيرا وهي فكرة أثرت بنية النص وخدمت فكرة الزمان والمكان .
يستهل مخرج المسرحية " محمد الصادق " قبل فتح إضاءة المشهد بمقدمة موسيقية لأغنية " يطق القلب ومجور عليا" للمرحوم " نوري كمال" تتبعها أهزوجة شعبية من التراث . لنرى بعدها المنظر الذي صممه الفنان التشكيلي " عادل جربوع " وهو عبارة عن " سدة بالكلة وكرسي " في أعلى وسط المسرح ، وتشكيل في اسفل يمين الخشبة كإشارة " للمسدة " ، مع مجسم ل" زيانة" ومستويات لمقاعد على شكل شفاه ضاحكة في أ سفل يسار الخشبة مع مفردات صغيرة على شكل " قرون فلفل " تتكرر في " الكلة" وفي " الزيانة" ، هذه المفردات استلهمها من التراث الشعبي الليبي ، تاركاً وسط المسرح خال تماماً. المجهود واضح في التكوين الذي كوّن منه " المسدة" فبشافية عالية استلهم هذا التكوين من مجموعة أشكال وأنوع للمسدة مكونا منه تكوينا مخالفا يعطي إيحاء للمسدة لا تخطئه العين . دلالات " قرون الفلفل " جنحت إلى المباشرة والتقريرية ففي التراث الشعبي الكثير من المفردات الذكورية لها علاقة بالعناصر التي استلهمها، ربما ستكون أكثر عمقاً وجمالا ً وأكثر تاثير من إدخال مفردة غريبة على التكوين. وأيضا كرسي اللدائن الذي تم إدخاله على " السدة بالكلة"، كان بإمكانه تصميم كرسي تقليدي أو معاصر ينسجم مع التكوين " الهرموني العام للمنظر". أهمل مهندس المنظر روح المعاصرة في النص فالنص يحكي سيرة أجيال، معتمداً مفرداته من التراث فقط . فالمنظر بشكل عام متوازن لا يخلو من الجمال، بالذات العرض الذي شاهدته في مدينة "شحات ". فالعرض الذي تم في مسرح الفكر القومي جاء بعجالة مما اضطر مهندس المناظر تغطية بعض عيوب قاعة العرض،، الذي كان ضحيتها جمالية المنظر العامة .
يدخل " محمد الصادق " في مغامرة نص غير مكتمل محاولاً عن طريق أدواته الإخراجية ترتيق أبعاد بعض الشخصيات، بالذات شخصية فوزية " أينور فتحي " التي تعامل معها المخرج من خلال أبعادها الخارجية كفتاة معاصرة بتزويدها " بنقال" وهي المفردة الأكثر وضوحاً في العرض كدلالة على معاصرة النص . إقحامها في المشهد الأول وهي تحمل نقال في حوار خديجة " عبير الترهوني" كان كفيل بإضاعة المشهد لولا سيطرة " عبير الترهوني " على أدائها في هذا المشهد . فتوقيت تقديمها ما يزال مبكراً بعد مشهدها هي ومبروكة " ياسمين الو رفلي" في بداية المشهد. قدمها المخرج شخصية بدون ملامح
ولا تحمل أي قضية أو همّ . محاولته بتحميلها بعض الحوارات من شخصيات المسرحية مثل حوار مبروكة " ياسمين الورفلي" عن سناء محيدلي الذي أحاله المخرج إلى فوزية " اينور فتحي " التي لا تحمل أي همّ محلي ولا دولي . بينما نراه _ أي المخرج _ استطاع أن يخلق من الشخصية الكثير من الجماليات والتكوينات الجماعية عندما تكون بصحبة" خديجة ومبروكة" وبقية الفريق في هذه الحالة جعل وجودها حقيقي ومبرر ،كما أستثمر صوتها لدعم المشاهد ببعض الجمل الغنائية بعضها مدروس بعناية والبعض مقحم في المشاهد ، ثنائية العشيق والفتاة لم تدرس بعناية رغم تقبل الصالة لها ساهمت في تسطيح الشخصية .
أريد أن أقول بأن المخرج حاول جاهداً إعطاء ملمح ومكان لشخصية بدون ملامح في النص الغير المكتمل رغم هذا فمجهوده البصري حيال هذه الشخصية ينسجم في الكثير من المشاهد مع الرؤية العامة للعرض . إحساس المخرج بالفراغ _ ربما يكون مرده نص غير مكتمل_ جعله يضيف شخصيتن للعمل. عازف " الدربوكة " وعازف " الزكرة " لتوظيفهما في مشهدي "العرس" و " الحضرة " مما سبب الكثير من الإرباك للحركة داخل المشهد. خاصة عندما نعرف بأن المخرج لديه فريق يملك الحضور الجماعي للقيام وبإتقان هذا النوع من المشاهد، مثلما شاهدناه في اللوحة الثالثة عندما عمل الفريق على مفردتي " بف_بردف" إضافة للمشهد الختامي للمسرحية . تم اختيار دمية الرجل على شكل مجسم عرض من مادة اللداين، ربما سيكون أكثر حيوية لو تم اختيار المادة من القماش وإعطائنا تمهيداً يوحي بمشاركة الأخوات الثلاث في نسجها لإيجاد مبرر للصراع الذي دار بين الأخوات حول هذه" الدمية" التي شاركن في خلقها .لم يتم استغلال الإضاءة بشكل يخدم النص خاصة مواقع الإظلام بين المشاهد فلا يوجد مبرر يجعل المخرج يلجاء الى الإظلام مثل تغيير المنظر فصو ت" الرحاء " الذي ينبعث من جهاز الصوت قام بمهمة الإنتقال من حالة إلى أخرى . استخدم الإضاءة بشكل دقيق في المشهد الختامي للوحة الرابعة عندما ركز الإضاءة على " السدة بالكلة " وخديجة"عبير الترهوني " المشهد الذي استبدل به المخرج مشهد الفصل الدراسي الذي يحكي على الأم بإهزوجة شعبية بأداء " فرج عبدالكريم " و" عبدالسلام الهواري" تذكر فضائل الأم، فكان المشهد أكثر تأثيراً من أصوات تلاميذ تنبعث من جهاز للصوت كما يذكر النص. لم يشتغل " محمد الصادق" على مشهد" بيت الدمية" بإمكانه الرجوع للمسرحية الأصلية ليتناول الجزء الأخير من نهاية المسرحية بين" هلمر و نورا" والتركيز على صفقة الباب الصفقة التي أثارت ضجة في المسرح العالمي. فالمشهد كان عابر وأداء الممثلة متواضعاً بالنسبة لشخصية مسرحية معروفة مثل "نورا" .
سأتوقف عند الممثل الذي جسد دور المطرب " فرج عبدالكريم " الذي يمتلك حضور وحيوية مسرحية لا نجدها عند الكثيرين من الممثلين الشباب كما يملك القدرة على الانتقال من حالة الى أخرى بسهولة نأمل من الممثل" فرج عبدالكريم" أن يعي هذه القدرة ويطورها وينميها بوعي ، فمن خلال العرض نلاحظ التناغم بينه وبين المخرج فكان "فرج" وهو الذي يقود المجموعة أشبه بالمايسترو للفريق بالذات في المشاهد الجماعية . " عبدالسلام الهواري " في دور الأب كوّن تنائيا متجانسا مع زميله" فرج عبدالكريمً" قدرة فرج وعبدالسلام هي التي أنقذت العناصر النسائية في العمل. نلاحظ الفرق بين المشاهد الجماعية والمشاهد الفردية للممثلات ، فمجهود "عبير الترهوني " واضح لولا التذبذب في قراءتها للشخصية فأحيانا تعطينا إحساس بأن شخصية "خديجة " شخصية معتوهة ، وأحيانا تجنح لإرضاء الجمهور فالمتفرج ليس دائماً على حق.
يعتبر هذا العمل الرابع للممثل المخرج " محمد الصادق" بعد " الضباب" و"شابن هذوب الليل" و"شيع وطي" و"محمد " يمتلك القدرة لخلق كم من المفردات البصرية ف"كلام نساوين" من الأعمال المسرحية الجميلة والممتعة التي شاهدتها في الفترة الأخيرة .
أخيراً اشكر كل الفريق الذين ساهموا في إنجاز هذا العمل كما أشكر إدارة مسرح الفكر القومي.
حكاية نساء
" كلام نساوين " النص الغير مكتمل ل"منصور أبوشناف" فالمسرحية قسمها الكاتب إلى تسع لوحات، كل لوحة تحمل أسم بطلتها، " خد يجة الأولى ، والثانية والثالثة. مبروكة الأولى ، والثانية والثالثة . فوزية الأولى والثانية والثالثة ". أنجز منها المؤلف خمس لوحات حيث توقف عند مبروكة الثانية . هذا النص الذي تعامل معه المخرج " محمد الصادق " .
النص يحكي سيرة ثلاث أخوات عشن في أزمان مختلفة، أو ثلاث مراحل تاريخية. فكل منهن تمثل أفكار وتقاليد المرحلة التي تعيشها ، عهد الترك والطليان الذي تمثله" خديجة" الابنة الكبرى ، وجيل الرائدات اللواتي اقتحمن العديد من المجالات رغم القيود الاجتماعية القاسية الذي تمثله الابنة الوسطى " مبروكة " التي اختارت مجال التمثيل في المسرح . والجيل الحاضر الذي تمثله " فوزية " التي لم نتعرف على مهنتها هل هي طالبة أو موظفة أم عاطلة ؟ فلا يوجد في النص أي ملامح لأبعاد هذه الشخصية ، فالكاتب لم يكتب الجزء الخاص لهذه الشخصية حسب تقسيمه الذي أشرت إليه آنفا . إضافة لشخصية " الأب " الذي يمثل المراحل الثلاثة فطريقة التعامل مع بناته متفاوتة ، في الوقت الذي يسجن فيه الكبرى" خديجة" في البيت مانعا عنها نور الشمس ، هو نفسه الذي نراه يترك الابنة الوسطى " مبروكة " تمتهن مهنة التمثيل ، ونراه غير حاضر عند الابنة الصغرى " فوزية " تاركا لها المجال واسعاً مع مواعيدها الغرامية أو هذا ما لمسناه . ربما يكون هذا السبب الذي جعل الكاتب يترك شخصية " الأب" بدون اسم ، بهذه الطريقة لعب الكاتب على فكرة (الزمن والمكان) عندما ترك شخصيتي " الأب والمطرب " مطاطيتين بجعلهما أداتي ربط بين هذه الأزمنة والأمكنة عن طريق" التحوّل ". نستطيع القول بأن الأب شانه شان كل الشخصيات في المسرحية يتغيّر ويتحوّل زمانياً ومكانياً مع كل شخصية " الأب الأول ، والثاني ، والثالث " وأحياناً يعطينا إيحاء بأنه "أب" لكل البنات الذي يمثل السلطة الاجتماعية ، و تحوّله إلى "فقيه" ليمثل السلطة الدينية . هذه الفكرة تسري أيضا على " الموزيقانتي، المطرب، الشاعر الشعبي" دونما أن يسبغ عليهم الكاتب أسماء .
أما الشخصيات النسائية فتحمل كل منهم زمنها التي عاشت فيه ماعدا شخصية الممثلة " مبروكة " التي أعطت مساحة مبررة لفتح مجال أرحب للنص، فمن خلالها_ المهنة _جسدت الكثير من المشاهد، وعمقت الكثير من الشخصيات بحضورها، وكانت دعماً حقيقيا لتكريس الفكرة التي يسعى إليها المؤلف. فدونما شك ستكون المساحة أضيق لو تم اختيار أي مهنة أخرى مثل " مدرسة أو موظفة " ومن خلالها أيضا جذر الكاتب فكرته عندما وظف مشهد من أهم المشاهد المسرحية في تاريخ المسرح العالمي الذي ينادي بحرية المراءة والدفاع عنها وهو المشهد الأخير ل" نورا " من مسرحية " بيت الدمية " ل" هنريك ابسن " لتتحد فيه "الممثلة والشخصية" وأحياناً نراها تكوّن صلة تقارب بين الشخصية الفنية والشخصية الواقعية .ومازالت هذه الشخصية تحتمل الكثير لإثراء هذا العمل لو عكف الكاتب على إكمال مسرحيته . .
وأخيراً الشخصية الغائبة الحاضرة وهي شخصية" الأم" التي لا نراها في النص إلا من خلال الأغنية المؤثرة المتكررة التي تترنم بها الشقيقات عند أي أزمة " يا ميما وين مشيتي" كأنما تشير إلى سلطة الأب وتغييبه لدور الأم تاركا لها دور الخادمة، وأيضاً تشير إلى الفراغ الذي تركته الأم ، وعن لسان " خديجة " التي تسير على خطى أمها كل ما ضاقت بها الدنيا تهرب إلى الغزل " قالتلي أمي اغزلي لما تتضايقي " كما كانت أمها تهرب إلى" الدخان والشاهي" يرد ذكرها عندما يرفض الأب أحد خطابها" بوي كان راجل ..اللي تقوله آمي ولا نقوله أنا يقول عليه.. كلام نساوين " المرة الوحيدة التي ذكرت فيها الأم " كجلاد" أو أداة في يد الأب تتمثل في هذا المقطع من الحوار على لسان خديجة: " وانا صغيرة زرني كلب ، طلقاته أمي ونشّاته وقالتله أنتشها في عراقيبها ... وجريت والكلب وراي... وطبنجة بوي وراي " وهو إشارة للقهر المزدوج من الأب والأم التي تنقلب إلى جلاد عندما تحاول أن تنفذ نواميس سيد البيت . أما على لسان الأب فدائما يرد ذكر الأم بشكل سلبي فهو يصب جام غضبه على الأم إذا ما خرجت خديجة على تقاليده التي سنها في البيت ، وعن طريق أصوات أطفال في فصل دراسي " هذه أمي .. أمي تغسل .. أمي تطبخ ..هذه جدتي .. جدتي تحكي " .
المساحة الأخرى التي قدمها الكاتب للنص وهي تقنية "المسرح داخل المسرح، أو المسرح في قلب المسرح" مستفيدا من " السدة بالكلة " لتوظيفها كمكان تدور فيه الكثير من الأحداث جاعلاً منها مسرحاً صغيرا وهي فكرة أثرت بنية النص وخدمت فكرة الزمان والمكان .
يستهل مخرج المسرحية " محمد الصادق " قبل فتح إضاءة المشهد بمقدمة موسيقية لأغنية " يطق القلب ومجور عليا" للمرحوم " نوري كمال" تتبعها أهزوجة شعبية من التراث . لنرى بعدها المنظر الذي صممه الفنان التشكيلي " عادل جربوع " وهو عبارة عن " سدة بالكلة وكرسي " في أعلى وسط المسرح ، وتشكيل في اسفل يمين الخشبة كإشارة " للمسدة " ، مع مجسم ل" زيانة" ومستويات لمقاعد على شكل شفاه ضاحكة في أ سفل يسار الخشبة مع مفردات صغيرة على شكل " قرون فلفل " تتكرر في " الكلة" وفي " الزيانة" ، هذه المفردات استلهمها من التراث الشعبي الليبي ، تاركاً وسط المسرح خال تماماً. المجهود واضح في التكوين الذي كوّن منه " المسدة" فبشافية عالية استلهم هذا التكوين من مجموعة أشكال وأنوع للمسدة مكونا منه تكوينا مخالفا يعطي إيحاء للمسدة لا تخطئه العين . دلالات " قرون الفلفل " جنحت إلى المباشرة والتقريرية ففي التراث الشعبي الكثير من المفردات الذكورية لها علاقة بالعناصر التي استلهمها، ربما ستكون أكثر عمقاً وجمالا ً وأكثر تاثير من إدخال مفردة غريبة على التكوين. وأيضا كرسي اللدائن الذي تم إدخاله على " السدة بالكلة"، كان بإمكانه تصميم كرسي تقليدي أو معاصر ينسجم مع التكوين " الهرموني العام للمنظر". أهمل مهندس المنظر روح المعاصرة في النص فالنص يحكي سيرة أجيال، معتمداً مفرداته من التراث فقط . فالمنظر بشكل عام متوازن لا يخلو من الجمال، بالذات العرض الذي شاهدته في مدينة "شحات ". فالعرض الذي تم في مسرح الفكر القومي جاء بعجالة مما اضطر مهندس المناظر تغطية بعض عيوب قاعة العرض،، الذي كان ضحيتها جمالية المنظر العامة .
يدخل " محمد الصادق " في مغامرة نص غير مكتمل محاولاً عن طريق أدواته الإخراجية ترتيق أبعاد بعض الشخصيات، بالذات شخصية فوزية " أينور فتحي " التي تعامل معها المخرج من خلال أبعادها الخارجية كفتاة معاصرة بتزويدها " بنقال" وهي المفردة الأكثر وضوحاً في العرض كدلالة على معاصرة النص . إقحامها في المشهد الأول وهي تحمل نقال في حوار خديجة " عبير الترهوني" كان كفيل بإضاعة المشهد لولا سيطرة " عبير الترهوني " على أدائها في هذا المشهد . فتوقيت تقديمها ما يزال مبكراً بعد مشهدها هي ومبروكة " ياسمين الو رفلي" في بداية المشهد. قدمها المخرج شخصية بدون ملامح
ولا تحمل أي قضية أو همّ . محاولته بتحميلها بعض الحوارات من شخصيات المسرحية مثل حوار مبروكة " ياسمين الورفلي" عن سناء محيدلي الذي أحاله المخرج إلى فوزية " اينور فتحي " التي لا تحمل أي همّ محلي ولا دولي . بينما نراه _ أي المخرج _ استطاع أن يخلق من الشخصية الكثير من الجماليات والتكوينات الجماعية عندما تكون بصحبة" خديجة ومبروكة" وبقية الفريق في هذه الحالة جعل وجودها حقيقي ومبرر ،كما أستثمر صوتها لدعم المشاهد ببعض الجمل الغنائية بعضها مدروس بعناية والبعض مقحم في المشاهد ، ثنائية العشيق والفتاة لم تدرس بعناية رغم تقبل الصالة لها ساهمت في تسطيح الشخصية .
أريد أن أقول بأن المخرج حاول جاهداً إعطاء ملمح ومكان لشخصية بدون ملامح في النص الغير المكتمل رغم هذا فمجهوده البصري حيال هذه الشخصية ينسجم في الكثير من المشاهد مع الرؤية العامة للعرض . إحساس المخرج بالفراغ _ ربما يكون مرده نص غير مكتمل_ جعله يضيف شخصيتن للعمل. عازف " الدربوكة " وعازف " الزكرة " لتوظيفهما في مشهدي "العرس" و " الحضرة " مما سبب الكثير من الإرباك للحركة داخل المشهد. خاصة عندما نعرف بأن المخرج لديه فريق يملك الحضور الجماعي للقيام وبإتقان هذا النوع من المشاهد، مثلما شاهدناه في اللوحة الثالثة عندما عمل الفريق على مفردتي " بف_بردف" إضافة للمشهد الختامي للمسرحية . تم اختيار دمية الرجل على شكل مجسم عرض من مادة اللداين، ربما سيكون أكثر حيوية لو تم اختيار المادة من القماش وإعطائنا تمهيداً يوحي بمشاركة الأخوات الثلاث في نسجها لإيجاد مبرر للصراع الذي دار بين الأخوات حول هذه" الدمية" التي شاركن في خلقها .لم يتم استغلال الإضاءة بشكل يخدم النص خاصة مواقع الإظلام بين المشاهد فلا يوجد مبرر يجعل المخرج يلجاء الى الإظلام مثل تغيير المنظر فصو ت" الرحاء " الذي ينبعث من جهاز الصوت قام بمهمة الإنتقال من حالة إلى أخرى . استخدم الإضاءة بشكل دقيق في المشهد الختامي للوحة الرابعة عندما ركز الإضاءة على " السدة بالكلة " وخديجة"عبير الترهوني " المشهد الذي استبدل به المخرج مشهد الفصل الدراسي الذي يحكي على الأم بإهزوجة شعبية بأداء " فرج عبدالكريم " و" عبدالسلام الهواري" تذكر فضائل الأم، فكان المشهد أكثر تأثيراً من أصوات تلاميذ تنبعث من جهاز للصوت كما يذكر النص. لم يشتغل " محمد الصادق" على مشهد" بيت الدمية" بإمكانه الرجوع للمسرحية الأصلية ليتناول الجزء الأخير من نهاية المسرحية بين" هلمر و نورا" والتركيز على صفقة الباب الصفقة التي أثارت ضجة في المسرح العالمي. فالمشهد كان عابر وأداء الممثلة متواضعاً بالنسبة لشخصية مسرحية معروفة مثل "نورا" .
سأتوقف عند الممثل الذي جسد دور المطرب " فرج عبدالكريم " الذي يمتلك حضور وحيوية مسرحية لا نجدها عند الكثيرين من الممثلين الشباب كما يملك القدرة على الانتقال من حالة الى أخرى بسهولة نأمل من الممثل" فرج عبدالكريم" أن يعي هذه القدرة ويطورها وينميها بوعي ، فمن خلال العرض نلاحظ التناغم بينه وبين المخرج فكان "فرج" وهو الذي يقود المجموعة أشبه بالمايسترو للفريق بالذات في المشاهد الجماعية . " عبدالسلام الهواري " في دور الأب كوّن تنائيا متجانسا مع زميله" فرج عبدالكريمً" قدرة فرج وعبدالسلام هي التي أنقذت العناصر النسائية في العمل. نلاحظ الفرق بين المشاهد الجماعية والمشاهد الفردية للممثلات ، فمجهود "عبير الترهوني " واضح لولا التذبذب في قراءتها للشخصية فأحيانا تعطينا إحساس بأن شخصية "خديجة " شخصية معتوهة ، وأحيانا تجنح لإرضاء الجمهور فالمتفرج ليس دائماً على حق.
يعتبر هذا العمل الرابع للممثل المخرج " محمد الصادق" بعد " الضباب" و"شابن هذوب الليل" و"شيع وطي" و"محمد " يمتلك القدرة لخلق كم من المفردات البصرية ف"كلام نساوين" من الأعمال المسرحية الجميلة والممتعة التي شاهدتها في الفترة الأخيرة .
أخيراً اشكر كل الفريق الذين ساهموا في إنجاز هذا العمل كما أشكر إدارة مسرح الفكر القومي.