كاتب ومسرحية .. من ليبيا
عمر علي السويحلي
بقلم / تيسير بن موسى
يلخص الكاتب المسرحي العالمي :"برتولد بريخت" مهمة المسرح بقوله: إن هذا الفن العظيم يجب أن ينمي عند الناس،متعة الفهم والإدراك،ويجب أن يدربهم على الاغتباط بتغير الواقع،ولا يكفي أن يسمع متفرجونا ويروا كيف تحرر "بروميثيوس"،بل يجب أن يتدربوا على كيفية تحريره والاعتباط بهذا التحرير..ويضيف بريخت قائلاً:"نعم يجب أن نعلم الناس في المسرح كيف يشعرون بالفرحة والرضى التي يشعر بها المكتشف والمخترع،وبنشوة النصر التي يستشعرها الفائز على الطغيان.
لقد عبر بريخي بكلماته القليلة هذه،عن دور المسرح الحقيقي في المجتمعات الإنسانية،إذا هو ـ أي المسرح ـ الأستاذ،والموجه،والمثقف،وأيضاً المحرض، لجموع الناس في المجتمعات التي مازالت تكافح وتناضل لتحتل مكانها تحت الشمس،وتتصدى ببسالة لركائز الشر وقوى الطغيان،لنيل حرية وطنها وحرية كلمتها والمسرح حتى ولو لبس ثوب الترفيه والفكاهة والضحك،فهو لم ولن يتخلى عن دوره التعليمي والتحريضي هذا،سواء كان من نوع الكوميديا السوداء،أو الكوميديا البيضاء الضاحكة ذلك أنه يتولى،بكل فنونه وفروعه مهمة المنشط والمهذب لملكات الإنسان وقدراته الإبداعية والجمالية،وينمي أحساسيس النبل والصفاء والحب،مع اتساع الأفق ورحابته في الذات الإنسانية،كان هذا دائماً رأيي في المسرح ودوره الكبير في هذه الحياة.
وفي هذا العدد من مجلة (المسرح والخيالة) سنتعرف على شخصية عربية ليبية،عشقت المسرح وعرفت دوره الكبير والمؤثر في مجتمعها فنذرت نفسها وقلمها له لكن ظروف الحياة التي مرت بها ووقوعها في مرض شديد عضال،حال دون استكمال هذه الشخصية وهذا الفنان رسالته والوصول للمكانة الخليقة بها وبه في عالم هذا الفن الجميل،لقد اختطف الموت عمر السويحلي سريعاً بعد أن ترك بين أيدينا إنتاجه الأول وانطلاقته الفنية الأولى حيث جعلنا جميعاً نسعد بولادة موهبة مسرحية متميزة في وطننا الحبيب ليبيا،لكن القدر كان أقوى فوئدت هذه الموهبة قبل أن تستكمل نموها ويشتد عودها،لا،ويكفي أن أقول بأن ثاني عمل كتبه عمر السويحلي وهو المسرحية الشعرية "من وراء القضبان" في عام ١٩٧٠،قد تحصل على الجائزة الأولى في المهرجات المسرحي الوطني الأول الذي انتظم في ذلك العام على مستوى الجماهيرية وعرضت فيه مجموعة من المسرحيات من مختلف الفرق المسرحية الليبية الكثيرة،ولد عمر السويحلي في ١٩٤٩/١١/٨ افرنجي في مدينة طرابلس،التحق بمعهد المعلمين في هذه المدينة لكنه لم يستكمل تعليمه فيها إذ شدته الحياة العسكرية فالتحق بالقوات المسلحة،لكن روح الفن واهتمامه بالكلمة جعلت رؤساءه يختارونه للعمل في الصحف والمجلات التي كانت تصدرها القوات المسلحة مثل مجلة (المقاتل) و(جيش الشعب) و(الجندي) و(صحيفة الفاتح) ومجلة (الشعب المسلح) وفي عام ١٩٨٢ أوفد في بعثة دراسية إلى بريطانيا لدراسة فن كتابة المشهدية (السيناريو) وبعد أن قضى عدة سنوات فيها عاد إلى الجماهيرية،ليواصل عمله الأدبي والفني،غير أن المرض بدأ يغزو جسمه،وقد استفحل هذا المرض بعد حادث عرضي مؤسف أسفر عن سقوطه وكسر ساقه ثم بترها،مما ضاعف من آلامه وأوجاعه وأحزانه،حتى أتت لحظة رحيله الأبدي المبكرة في عام ١٩٩٨ قبل أن يكمل العقد الخامس من عمره.
إنتاجه الأدبي والفني
في هذه السنين القليلة التي عاشها عمر،خاصة في السنوات الأولى من السبعينيات حيث بدأ عطاؤه الفني والأدبي،ظهرت له في الصحف والمجلات الليبية العديد من الأعمال في الشعر والقصة والمقالة،والتحقيق الصحفي،إلى جانب أعماله المسرحية،أما عن هذا المجال الأخير أي المسرح فقد بدأ ميوله لهذا الفن الرفيع مذ كان طالباً صغيراً حيث شارك تمثيلاً وكتابة في الأعمال التي كانت تقدم في مدرسته،وقد كتب أولى مسرحياته وهو مازال في سني تحصيله العلمي،وكانت تحت عنوان (كرسي الحكم) وتدور حول أسرار الحياة داخل الأسرة القرمانللية التي حكمت ليبيا ما بين ١٧١١ وحتى عام ١٨٣٥ افرنجي وقد قامت بتمثيلها فرقة مدرسة علي النجار الثانوية في طرابلس ثم في عام ١٩٧٠ف كتب مسرحيته الثانية وهي مسرحية "من وراء القضبان" وتروي بأسلوب شاعري تعبيري،قصة تفجر ثورة الفاتح العظيمة،وقد استقبلت الأوساط الفنية في ليبيا هذا العمل بإعجاب وتقدير خصوصاً وأن كاتبها شاب يمتلئ حيوية ونشاطاً وحماساً مما بشر بولادة موهبة مسرحية متميزة،وليس أدل على ذلك من أن فرقة المسرح الشعبي بنغازي،قامت بتقديمها ضمن فعاليات المهرجان المسرحي الوطني في عام ١٩٧١،وأخرجها الفنان رجب العقوري تحت إشراف وتوجيه الفنان المصري الكبير عمر الحريري،وقد حظيت هذه المسرحية بإعجاب منقطع النظير من قبل مشاهديها ومنحتها لجنة المهرجان جائزتها التقديرية الأولى،وسأقوم باستعراض هذه المسرحية بعد قليل.
ثم تواصلت كتابات عمر السويحلي المسرحية فكتب مسرحية "أولاد وبنات و ...ولحظات تحدي.
كما التحق في هذه الفترة بالحركة المسرحية،فانتسب إلى فرقة "الأنوار" ومثل وشارك في عدد من أعمالها ولم يقتصر عمر على العمل المسرحي بل شدته الإذاعة المرئية والخيالة،خصوصاً بعد سفره إلى بريطانيا وتخصصه في فن كتابة المشهدية "السيناريو" حيث كتب مشهدية باللغة الإنكليزية مشروعاً لتخرج من المعهد الذي درس فيه ثم نقلها إلى العربية تحت عنوان (الموت في بحار الملح) كما كتب بعد عودته مجموعة أخرى من المشهديات القصيرة التي لم يكتب لها الظهور لعدم وجود جهات منتجة وكان يمكن أن يستمر في عطائه الفني وصقل موهبته وإثراء تجربته ليغدو صوتاً مسرحياً له صداه الكبير على الساحة الليبية والساحة العربية الفنية ولكن القدر كان له رأي آخر.
عرض مسرحية (من وراء القضبان)
تعتبر هذه المسرحية من بواكير ما أنتج المرحوم عمر السويحلي،وقد بناها في شكل لوحات في قالب شعري ففي اللوحة الأولى تظهر مجموعة من الشباب الوطني تشكل خلية ثورية تمثل الشرائح الشعبية الطالب والموظف، والعامل، والعسكري، ويتزعم هذه المجموعة شاب ثوري يؤدي دور البطل الذي يحث أفراد مجموعته على الثورة ضد حكم الرجعية والفساد من أجل الشعب وتخليصه من ربقة الاستبداد والعسف وإننا في سبيل هذا المبدأ النبيل لن نخشى سطوة السلطان الجائر ويبدأ في توزيع دور كل عضو من أعضاء هذه المجموعة فيقول للعامل:
( ستمر في العمال- ستزرع في نفوسهم الحب للنضال - ليبدأوا الإضراب - ولينقشوا كلماتهم على صفحة السحاب - ليعلموا أنهم أسياد - عامل الميناء، والبناء، والحداد - ليهتفوا - ليصرخوا لا ظلم لا استعباد).
ثم يتجه نحو الطالب فيقول:
( وأنت في الفصول - تبث في إخوانك أنشودة النضال - أنشودة عربية - تشع في حياتهم حرية - ليتركوا الخمول - ليسمعوا رنة الكفاح - ويعلموا أنهم أسنة الرماح - أقلامهم سلاح)
ثم يتجه إلى الموظف قائلاًِ:
( وأنت في المكاتب - أيقظ النفوس النائمة- المقيدة بالراتب - أفق النائمين - ليفتحوا العيون - ليحطموا الروتين - ليعلموا أنهم سنين وهم غافلون - وعندها لن يطبقوا الجفون - سيشرعوا أقلامهم - كلماتهم ستزدري أحبولة الظلام).
وهكذا يستمر البطل في توجيه رفاقه وحثهم على توعية زملائهم وفي اللوحة الثانية - تظهر على المسرح جماعة كثيرة تمثل مظاهرة جماهيرية يتقدمها البطل وهي تهتف ( آمالنا اشتراكية - أهدافنا عربية - لتسقط ركائز الرجعية ).
ويعتلي البطل إحدى المنصات المرتفعة ويهتف في الجماهير ( الوحدة ضماضة الجراح - وشعلة المصباح - تسطر لأمتي وثيقة النجاح - لنقتل الأشباح - لنحرق التخلف ونهدم اللئيم - ونكشف عن وجهه المغلف)
وبينما هم هكذا تخرج إلى المسرح مجموعة من قوات البوليس الإرهابي فتفرق الجموع وتفصلهم عن البطل الذي تعتقله وهو يصيح ( لا..لا..نستسلم .. سترون أننا سننتقم).
كما تخرج امرأة هي زوجة البطل تصيح في رجال البوليس إلى أين تأخذوه ألتضربوه .. وتشنقوه..؟ أتهدمون صرحي .. وتقتلون حبي ..؟
أما كفاكم .. بطونكم مملوءة ، سجونكم مملوءة تقتلون في أفواهنا كلماتنا المخنوقة - لماذا .. ألتفرحوا ملككم وتلعقوا أقدامه المعروفة ؟)
وحين تنخرط الزوجة في البكاء يصيح فيها البطل:
( ما هذه الدموع ، لا تجزعي - لن تطفأ الشموع - ولن تسكت الرياح في الربوع - لن يستمر في حياتنا الأنين - ولن يقدروا أن يقفلوا أفواه جميع المخلصين - هناك ألف ممن ينتظر الإشارة ليوقد الشرارة - ليحرق تاريخهم بناره).
ويتعرض البطل للتنكيل والضرب المبرح من قبل رجال البوليس والمخابرات وتبدأ معنوياته في الانهيار خصوصاً حين يبلغه أولئك الجلادون بأن الثورة الشعبية قد هدأت وأن رفاقه تخلوا عنه .. لكن زوجته التي تزوره في سجنه، وتسمع منه عبارات يأسه وقنوطه ورغبته في الموت حتى لا يرى آماله وأحلامه قد تحطمت تصرخ به قائلة الموت .. لا تردد هذه الكلمة .. إنها صورة اليأس الكئيبة - يجب أن تعيش .. لتصير أمنيتك قريبة - لك ابناً .. لك ابنة .. لك هدفاً وحبيبة).
ويجيبها بألم ويأس لي ابن .. إنه خلف الجدار - وبنية تذرف الدمع على عتبة الدار - ألم تسألك أين أباها حين سألها الصغار .. ؟ لي حبيبة .. لي أنت .. ولكن أين أنت ؟ فبعد أن يمضي النهار - .. ترجعين إلى الديار ) وحين تطلب من زوجها التعلق بالأمل الذي يجب أن تمتلئ به صدور المؤمنين يجيبها:
( الأمل .. إنه خلف السجون .. وليس هنا سوى الصخر الحزين .. - الأمل قد قتل .. لقد قتله المجرمون، وهم يسكرون .. وهم يرقصون).
ثم يريها آثار التعذيب الوحشي التي ملأت جسده كله، وأن الأمل قد ضاع.. كما ضاع اليقين وضاع رفاقه الآخرون فتسارع زوجته صائحة:
( كلا .. لم يضع الرفاق الآخرون - فهم كما بالأمس يرعون أطفالك ويرعوني ...ويرعون اليمين .. فهم لم يحنثوا قسم اليمين).
وحين يتأكد البطل أن نار الثورة مازالت تعتمل في صدور رفاقه ، وأنهم لم ينسوه ويواصلون النضال وأن يوم الفرج قريب، تعود له حيويته ونشاطه ويهتف مخاطباً زوجته الآن عاد لي الإيمان والأمل الجديد.. سأفك يوماً من ذراعي القيود .. سأقول يوماً ما أريد .. فرفاقي الأحرار خلف المحن يبنون النشيد .. قولي لهم إني سعيد .. قولي لهم إني هنا جلد عنيد .. ليعجلوا بالنار .. لتذيب الجليد لتذيب قضبان الحديد مع الفجر الجديد .. قولي لهم الدفء يملأ مهجتي .. أملاً جديداً.
ويختم هذا الكاتب والشاعر الرقيق مسرحيته بلوحة تمثل انتصار الشعب وقيام الثورة ويخرج صوت المذيع وهو يقول بصوت هادئ عميق
( في ليلة ظلماء .. لمع البرق وهز الشرق .. ضاءت ليلتنا السوداء .. خطوات تمزق السكون تكسر دروع الماكرين لتمسح الأنين وتنطلق زغرودة المسكين إنها قوية، كأرضنا القوية إنها أقدام الثائرين تدق فوق جسرنا المديد تكسر من فوقه الجليد تمهد الطريق لشعبنا المولود من جديد .. ليعيد البناء والتشييد).