الشعر
الشعر Poésie, Poetry هو أحد أشكال فن القول، إلى جانب النثر والمسرح. ولا يمكن وضع تعريف جامع مانع له، لأنه يختلف باختلاف الحضارات واللغات والمراحل، بل وحتى بين شاعر وآخر أحياناً في المرحلة عينها، إلا أنه بصورة عامة تاريخياً قول منظوم بليغ يدل على معنى، ولعل تعريف كولردج S.T.Coleridge، الذي أخذه عن جوناثان سويفت J.Swift في سياق حديثه عن الأسلوب في الكتابة، هو الأبلغ حين قال «النثر هو الكلمات في أفضل ترتيب والشعر هو أفضل الكلمات في أفضل ترتيب». أما التزام القافية فيرتبط ببعض الشعر. والشعر هو أقدم الآثار الأدبية في جميع الحضارات لارتباطه بالشعائر الدينية، وعنه تفرع النثر الفني، وهو حسب الناقد الإنكليزي رتشاردزI.A.Richards «أكمل وسيلة للخطاب». ويعيد كثيرون في الغرب اصطلاح «شعر» إلى اللغة الإغريقية، من كلمة Poiesis = صنعة ـ إبداع. أما في الحضارات الشرقية فتختلف المصادر والاشتقاقات، فمصدره عند العرب مثلاً فعل شَعَرَ، وهم يعدّونه صنعة، كما الإغريق والهنود والصينيين القدامى. وشعر هوميروس Homeros كان ينشد قبل أن يدوَّن في أيّ كتاب، وكذلك الأمر في الحضارات الأخرى. ويعد كتاب أرسطو «فن الشعر» Peri poietikes أول كتاب في نظرية الشعر وأنواعه، وسار على منواله كثيرون حتى اليوم في مختلف اللغات.
يتميز الشعر شكلاً ببنيته الإيقاعية الناشئة من تقسيم دقيق لوحدات مقيسة، لا تتطابق مبدئياً مع تقسيمه إلى وحدات نحوية، في حين ينقسم النثر إلى مقاطع وجمل وفقرات. كما يتميز الخطاب الشعري بالعبارة الشعرية poetic diction أو بنية اللغة الشعرية، التي كانت تعني قديماً انتقاء الكلمات وتنسيقها لتكون لغة رفيعة لفن سام. وهذا الفهم يُخرج من دائرة الشعر أشكالاً حديثة صارت شائعة، مثل الشعر الحر free verse و قصيدة النثر poème en prose. كما أن دلالة المصطلح لا تشمل الشعر كله بمفهومه المعاصر، لأن الشعر سيحدُّ نفسه تاريخياً وأسلوبياً، ولن يوجِد في لغته إلا تقاليد محدِّدة حكمت استعمال اللغة في الأدب، أي منظومة خاصة من أدوات التعبير مغلقة على نفسها. وظل هذا الفهم للشعر قائماً حتى نهاية عصر النهضة الأوربية، وحتى بداية عصر النهضة العربية.
يقوم الشعر عامة على بنية لغوية (لغة الشعر) وبنية جمالية (جيد الشعر ورديئه) وبنية المعنى (المقاصد والأغراض) وبنية صوتية (العَروض prosody والوزن metreوالقافية rhyme والمقطع stanza). وتعارف النقاد على دراسة التجانس الصوتيassonance ضمن البنية الصوتية، وهو تكرار صوت أو أكثر في كلمات متوالية، أو في مجموعات إيقاعية rhythm متتالية. وهو أيضاً مظهر من مظاهر موسيقى الكلام، يولِّد إيقاعاً ونغماً يتجلى في الوزن، أي في مجموع القوانين الناظمة لبنية الشعر الإيقاعية، التي تختلف من منظومة شعرية إلى أخرى، ومن لغة إلى أخرى. وهو كذلك مجموعة من الأنماط الإيقاعية التي تتألف من تتابع معين في النبر، أو من تتابع محدد لمقاطع الكلمات، أو مما تشمله من مقاطع لغوية. أما علم العروض فهو مصطلح يطلق على مجموعة الوسائل التي يمكن بها تحليل الكلام إلى عناصره الصوتية الإيقاعية، أي ضبط القوالب الموسيقية الشعرية وحصرها وتبيان ما يطرأ عليها من تحوير بزيادة أو نقص لا يختل به النغم. كما ترتبط بنية الشعر العروضية بالقافية أحياناً، وهي تكرار أصوات متشابهة أو متماثلة بانتظام، تكون في نهاية البيت أو الشطر، وقد تكون استهلالية. ويلاحظ أن القافية لم تستعمل دائماً في الشعر، لا غربيّه ولا شرقيّه، لكنها لازمت الشعر العربي والفارسي والعثماني. ومن أجل دراسة مستفيضة للشعر العربي[ر: الأدب العربي، القصيدة].
يمكن تقسيم أنواع الشعر إلى ثلاثة أقسام:
ـ الشعر السردي: narrative ويأخذ أشكالاً مختلفة، قصيرة أو طويلة، بسيطة أو معقدة، أهمها الملحمة[ر] Epic والبالادة[ر] Balladوالرومانس Romanz (أي ما كتب بلغة الشعب أو بالعامية).
ـ الشعر الدرامي: dramatic ويعتمد الأسلوب السامي والشخصيات النبيلة من الكتب المقدسة، مروراً بنصوص المسرح الإغريقي والروماني ومسرح عصر النهضة ومسرح القرن الثامن عشر. وقد طوَّر الإنكليزي روبرت براوننغ R.Browning أحد أشكاله الحديثة وهو المنولوغ الدراميDramatic Monologue.
ـ الشعر الغنائي lyric: وهو الشعر المنظوم للغناء بمصاحبة آلة موسيقية، ويركز على عاطفة الشاعر الذاتية. ومن أنواعه الترنيمة Hymn والأود[ر] Ode والسونيته[ر]Sonnet والمرثية Elegy، والرعوية Pastoral. وتختلف هذه الأنواع كلها من حيث الطول والوزن وعدد المقاطع والقافية.
الشعر في الغرب:
تعود بداية الشعر الأوربي إلى القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد مع ظهور ملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة»، ثم كتَبَت سافو Sappho في الشعر الغنائي والغزلي. وفي القرن الخامس قبل الميلاد ازدهر الشعر الدرامي في مآسي أسخيلوسAeschylus وسوفوكليس Sophoclesوأوربيديس Euripides وملاهي أريستوفانسAristophanes. أما في العصر الهلنستي (338-30ق.م) فقد ابتكر ثيوقريطس Theokritosالشعر الرعوي في أغانيه idylls، كما جمع السوري ملياغروسMeleagros ت(140-70ق.م) في «الإكليل» The Garlandمختارات من الحِكَم، ضُمت لاحقاً في ما عُرف بـ«المختارات الإغريقية» Greek Anthology التي مهدت الطريق لهذا النوع من الكتب. وفي العصر البيزنطي ومع انتشار المسيحية نشأت أشكال جديدة في الشعر الديني اليوناني، مثل الترانيم الطويلة Kanonالتي كان القديس يوحنا الدمشقي من أفضل كتّابها، وما زالت ترانيمه تنشد في الشعائر الكنسية liturgy حتى الوقت الحاضر.
في بدايات الشعر اللاتيني ظهرت عدة ترجمات لأعمال هوميروس، وفي القرن الثاني قبل الميلاد كتب إنيوس Ennius، مؤسس الشعر اللاتيني، «الحوليات»Annales، وأسهم بلوتس Plautus وتيرنسTerence في الشعر الدرامي، كما كتب لوكريتيوس Lucretius «في طبيعة الأشياء»De rerum natura وهو عمل فلسفي شعري. وفي العصر الذهبي كتب فرجيل Virgil ملحمة «الإنيادة»، وفي الرعويات[ر]، كما كتب أوفيدOvid «مسخ الكائنات» أو «التحولات»Metamorphoseon و«فن الحب» Ars amatoria، وتلاهما في العصر الفضي كل من برسيوس Persius ويوفينال Juvenal.
تميزت العصور الوسطى بظهور اللهجات المحلية المنبثقة من اللاتينية وصارت لغات قومية، وبظهور الشعر الغنائي الدنيوي، مثل «كارمينا بورانا» Carmina Burana ت(13ق.م)، وبظهور مؤلفات آذنت ببداية الآداب المحلية، مثل «حياة القديس ألكسيس» La vie de Saint Alexis (نحو 1040م) في فرنسا، وملحمة «السيد» El Cid (نحو 1140م) في إسبانيا، والأغاني الدينية على يد فرنسيس الأسيسي Francis of Assisi ودانتي في إيطاليا، الذي كتب «الكوميديا الإلهية» التي تُعد أكبر عمل أدبي في اللغات الأوربية. كما نشأ ما أُطلق عليه تسمية «مادة فرنسا»Matière de France و«مادة روما» و«مادة بريطانيا» في رومانسات مثل «أغنية رولان»Chanson de Roland في فرنسا، و«قصة الإسكندر» Le Roman d’Alexandre حول شخصيات من الأدب الكلاسيكي، و«قصة بروتوس» Roman de Brut و«موت أرثر»Morte Arthure و«سير غاوين والفارس الأخضر» Sir Gawain and the Green Knightحول شخصيات أسطورية بريطانية. أما في شمالي أوربا فقد كان لملاحم «بيوولف»Beowulf ت(9ق.م) و«أغنية هيلدبراند»Hildebrandslied ت(8ق.م) وقصائـد الـ «إدا»Edda ت(9-11ق.م) و«أغنية نيبلونغن»Nibelungenlied ت(12ق.م) والساغا الإيسلندية مثل «ساغانيال» Njalssagaت(13-14ق.م) دور رئيسي في تطور الشعر.
يرتبط الشعر الغنائي في لغات الرومانس ارتباطاً عضوياً بتطور الشعر العربي في الأندلس، ولاسيما بالزجل والموشحات والخرجات التي انتشرت بين المستعربين من الأقوام الإيبيرية بعد بداية الألف الثانية للميلاد. فقد انتقلت تقاليد هذا الشعر إلى منطقة البروفانس في جنوبي فرنسا مع أول شعراء التروبادور[ر]troubadours وليم الأكيتيني William of Aquitaine الذي غنى بلغة الأوك langue d’oc، ومع شعراء التروفير trouvères في الشمال الذين غنوا بلغة الأويل langue d’oïl، وشعراء مينزينغَر minnesinger الألمان، فاقتبس هؤلاء جميعاً موضوعات الغزل والوقوف على الأطلال أو «أين هم؟» ubi sunt، والحب العذري amour courtois. وكان لابتكار السونيته الذي يعزى إلى الإيطالي جاكوبو دا لنتينو Jacopo da Lentino، الدور الأساسي في هذا الانتشار الواسع للشعر الغنائي، وقد استخدمها كل من دانتي وبتراركا Petrarcaوبوكاتشو Boccacio وتشوسر Chaucerوشكسبير.
عادت الملحمة في عصر النهضة إلى الصدارة في أعمال الشاعرين الإيطاليين أريوستو Ariosto وتاسو Tasso، وكان موريس سيف M.Scève في فرنسا، مع جماعة «الثريا أو البلياد»، من أبرز الشعراء إلى جانب رونسار Ronsard وسينيور دو بارتاسSeigneur du Bartas. أما السونيته فقد وصلت إنكلترا في أشعار وايات Wyatt وسبنسرSpenser، وسيدني Sidney، الذي ألَّف «دفاع عن الشعر»The Defence of Poesie ت(1595)، وأيضاً في أشعار مارلو Marloweوملتون Milton. وكان دي بيغا de Vega ودي لاباركا de la Barca من أبرز شعراء إسبانيا في عصرها الذهبي. وفي ألمانيا كتب مارتن لوتر (لوثر) Luther أهم ترانيم الكنيسة البروتستنتية، كما وضع مارتن أوبيتسM.Opitz أهم الأعمال النظرية في الشعر (1624). وظل الشعر الميتافيزيقي يسود بريطانيا في أشعار جون دَن J.Donne وأندرو مارفِل A.Marvell، في حين كان شعر عصر الباروك Baroque ت(1580-1680) يسود بقية أوربا.
حدد فرانسوا دي مالِرب F.de Malherbeسمات الاتباعية الجديدة Neoclassicism في القرن السابع عشر، ثم بلورها بوالو Boileauفي كتابه «فن الشعر» L’Art poétiqueت(1674). وكان بوالو من أبرز شعراء تلك المرحلة إلى جانب لافونتين وكورنيCorneille وراسين Racine. وفي القرن الثامن عشر وصل فولتير Voltaire بالشعر إلى ذروته. أما في إنكلترا فقد كان النفوذ لدرايدنDryden في «مقالة حول الشعر الدرامي» An Essay on Dramatic Poesy ت(1668)، وبوبPope في «مقالة حول النقد» An Essay on Criticism، كما بشَّر شعراء مثل غراي Grayوبرنز Burns وبليك Blake وآخرون بالحركة الإبداعية (الرومنسية). كان لكلوبشتوك Klopstock كبير الأثر في إحياء الشعر في ألمانيا، إلا أن غوته Goethe وشيلر Schillerوهولدرلين Hölderlin هم عمالقة الشعر الألماني، ولعب لومونوسوف Lomonosovالدور ذاته في الشعر الروسي، وكرويتسCreutz في السويد، وغونزاغا Gonzaga في البرازيل. وبانتشار الإبداعية في الشعر الإنكليزي على أيدي وردزورث Wordsworthوكولردج برزت أسماء كبيرة أخرى، مثل شليShelley الذي كتب «دفاع عن الشعر»A Defence of Poetry ت(1840)، وبايرونByron وكيتس Keats، إلى جانب هاينه Heineفي ألمانيا، ومانزوني Manzoni وليوبارديLeopardi في إيطاليا، وليرمنتوف Lermontovوبوشكين Pushkin في روسيا، ولامارتينLamartine وهوغو Hugo ونرفال Nerval في فرنسا، وثوريللا Zorilla في إسبانيا، وبو Poeفي الولايات المتحدة، وستاغنيليوسStagnelius في السويد، ولُنْروت Lönnrot، الذي جمع الملحمة الوطنية الفنلندية «كالفالا» Kalevala ت(1849)، في فنلندا.
أخذت ملامح الحركة الرمزية[ر]Symbolism بالظهور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان بودلير Baudelaire، الذي كتب «أزهار الشر» Les Fleurs du Mal ت(1857)، أبرز شعراء تلك الحقبة، وتلاه من حيث الأهمية شعراء كبار، مثل فرلينVerlaine ورامبو Rimbaud ومالارميهMallarmé ومترلينك Maeterlinck وفاليريValéry. وكان أبولينير Apollinaire مبشراً بالحركة السريالية[ر] Surrealism، وبروتونBreton وأراغون Aragon وإيلوار Éluardبالحركة الدادائية[ر] التي تأثر بها الألمانيان غيورغة George وريلكه Rilke والإيطاليان دانونتسيو D’Annunzio وكوازيمودوQuasimodo. وكانت هذه مرحلة الحداثة الشعرية Modernism التي مثلها كل من أخماتوفا Achmatova وماياكوفسكيMayakovsky في روسيا، وداريو Daríoونيرودا Neruda في أمريكا الجنوبية، ولوركاLorca في إسبانيا، وسيفريس Seferis في اليونان، وإبسن Ibsen في النروج، وسترندبرغStrindberg وفرودنغ Fröding وكارلفِلتKarlfeldt في السويد. أما على صعيد الشعر المنظوم بالإنكليزية فقد عبّر شعراء مثل آرنولد M.Arnold وهاردي T.Hardy عن تشاؤم عميق، وأفرزت الحرب العالمية الأولى شعراء أُطلق عليهم تسمية «الجيل الضائع» Lost Generation تركوا بصمات واضحة في الشعر العالمي، مثل جويس Joyce وإليوت Eliotوباوند Pound ووليمز C.W.Williams وغريفزGraves وأودِن W.H.Auden، وأيضاً شعراء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية «الجيل المنهك»Beat Generation، مثل ألان غنزبرغA.Ginsberg، إضافة إلى شعراء عالميين مثل حمزاتوف Gamzatov من قرقيزيا، وبريشتBrecht من ألمانيا، وديلن توماس D.Thomasمن بريطانيا، وسيلفيا بلاث S.Plath من الولايات المتحدة.
الشعر في الشرق
ـ الشعر الإيراني:
بسبب التقلبات البشرية واللغوية والسياسية المتعاقبة في إيران، ونتيجة لضعف التدوين، لم يتبق من تراث إيران الفكري ما قبل الإسلام إلا القليل. ومع دخول إيران الإسلام في القرن السابع الميلادي تبنى الفرس الخط العربي لكتابة لغتهم، وصاروا بالتدريج جزءاً من الحضارة العربية الإسلامية، وأنتجوا أدباً غنياً. وعلى صعيد الشعر تبنى الفرس بحور الشعر العربي، وبدأ الازدهار منذ القرن التاسع الميلادي، فتطورت مجموعة من الأشكال الشعرية المشابهة للشعر العربي أحياناً والمختلفة عنه في الوقت نفسه، كالشعر الملحمي وشعر الغزل والمثنوي والرباعي والقصيدة. وفي النصف الثاني من القرن التالي برز الشعر الملحمي بهدف تسجيل تاريخ الملوك وأعمالهم منذ القدم. وقد تمثل هذا الشعر في كتب حملت عنوان «شاه نامه» كما لدى المسعودي والدقيقي والفردوسي[ر: إيران] الذي وصلت ملحمته إلى 60000 بيت مزدوج في وزن البحر المتقارب.
تتصف بنية القصيدة في الشعر الفارسي بكونها محددة مسبقاً، أما المتغير فهو الموضوعات والأغراض والوزن والقافية والطول، إذ يراوح طولـها غالباً بيـن (15و50) بيتاً مزدوجاً. وقد استخدمت في المقام الأول بغرض المديح، إلى جانب أغراض أخرى كالرثاء والخمريات والوصف. ومن أبرز شعرائها القآني والعنصري والفروجي والرودكي ومنوشهري وأنوري والحقاني. وفي المرحلة نفسها برز أيضاً شكل الرباعيات بغرض التعبير عن الأفكار والحِكَم، ومن أبرز شعرائه عمر الخيام.
لم يصل شعر الغزل الفارسي إلى ذروته إلا في القرن الثالث عشر. ولا يقل عدد الأبيات في الغزليات عن خمسة، ولا يزيد على خمسة عشر بيتاً، ويراوح الموضوع بين العشق الديني والعشق الدنيوي بجميع أشكاله. وقد برع في هذا النوع من الشعر كل من سعدي والرومي وحافظ.
يمتاز الشعر المثنوي بأن شطري البيت ينتهيان بالقافية نفسها، وهو يلائم السرد الحكائي كما في «كليلة ودمنة» للرودكي، وكذلك أغراض الفلسفة والتصوف والأخلاق، كما لدى الرومي في مثنوياته التي بلغت 26000 شطر، في حين أن مثنويات نظامي ذات طابع قصصي عاطفي. استمرت تقاليد الشعر الفارسي مهيمنة حتى القرن التاسع عشر، حين ظهرت القصائد ذات الموضوعات الوطنية، كما لدى الشاعرين عارف وعشقي. وفي المرحلة نفسها ظهر شكل شعري جديد دعي بـ «التصنيف»، وهو يقارب الموشح الأندلسي. ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية دخلت الحداثة الشعرية إلى إيران، فظهرت موضوعات جديدة في قوالب تقليدية، إلى جانب شعر التفعيلة غير المقفى وقصيدة النثر.
ـ الشعر الهندي:
ثمة في الأدب الهندي القديم عرف يقارب القاعدة، يقول إن مِحَك جودة الأديب هو النثر الفني، لا الشعر، وثمة عرف ثان يقول إن مضمون العمل الأدبي أمر مفروغ منه، بل بدهي. أما الشكل الذي يقدَّم به المضمون للمستمع أو القارئ، فهو الجهد الفني الذي يدل على مدى براعة الأديب وتمكنه من موضوعه وقدراته اللغوية وأدواته الفنية، إذ ترتكز مهمة الأديب الفنان في رسم موضوعه وترصيعه وزخرفته وتزيينه بالمحسنات البديعية والألفاظ المختارة، بحيث يولِّد في نفس المستمع أو القارئ نشوة ممتعة، وهذا منتهى الأرب، وهنا تكمن خصوصية الأدب الهندي القديم حتى القرن الثامن عشر، لا في اللغات الرئيسة المدونة، السنسكريتية والبراكريتية والباليِّة فحسب، بل حتى في الأُردو ومجموعة من اللهجات/اللغات المحلية التي تمتلك تراثاً أدبياً قيماً. وهذه الخصوصية جعلت من العسير على الترجمة أن تعطي الأصل حقه على صعيد الجماليات اللغوية، ولاسيما إذا كان الأصل نصاً شعرياً. وعلى الرغم من العرف الأول حظي الشعر الهندي بانتشار واسع، شمل مختلف أجناس القول، من النصوص الدينية المقدسة ذات المكانة المتجذرة في بنية المجتمع الهندي، إلى النصوص الأدبية بمختلف أجناسها وأنواعها، حتى العلمية منها. وعبر مسيرته الطويلة التي تعود إلى منتصف الألف الثانية ق.م، ثم في ذروته الأولى، أي في المرحلة الفيدية[ر: فيدا Veda] في الألف الأولى، طور الشعراء عدداً وافراً ومتنوعاً من الأوزان الشعرية، في الأناشيد والقصائد الدينية والدنيوية، وفي الملاحم والمسرحيات، يمكن حصر أهمها وأكثرها استمرارية عبر العصور بما يأتي:
ـ «آريا» Arya، الذي تبنته السنسكريتية من لغات أواسط الهند.
ـ «أنوشْتوبه» Anushtubh الذي برز في أشعار الفيدا.
ـ «غاياتري» Gayatri الذي استخدم بشكل خاص في الأناشيد الإلهية من كتاب «رغفيدا» Rigveda.
ـ «إندرافيرا» Indravajra و«إندرافمْشا»Indravamsha، وهما وزنان قديمان مشتقان من الأوزان الفيدية، صارا يستخدمان في شعر البلاط.
ـ «شلوكا» Sloka الذي يعد أبرز الأوزان وأهمها، وبه كُتبت الملحمتان «مهابهاراتا»Mahabharata و«رامايانا» Ramayanaويتطلب دقة في مراعاة القواعد العروضية.
ـ «تريشتوبه» Trishtubh وقد استخدم خصيصاً في أناشيد الإله إندرا Indra.
ـ «فايتاليَّا» Vaitailiya وهو منتشر بوجه خاص في القصائد الفنية ذات الموضوعات الفكرية.
أما الحضارة العربية الإسلامية فقد أَدخلت إلى الهند عن طريق الفرس، في مرحلة الحكم المغولي، بحور الشعر العربية التي ازدهرت في لغة الأُردو تحديداً، وكان لها تأثيرها التجديدي في فن الشعر الهندي الكلاسيكي.
ـ الشعر الصيني
لم يتعرض الأدب الصيني حتى القرن التاسع عشر لأية مؤثرات أجنبية ملموسة، فحافظ على خصوصيته. وعلى الرغم من تطور الموضوعات بقيت الأشكال التقليدية مواكبة لها حتى الانفتاح على الغرب. ولكن مع تكاثر الترجمات عن الشعراء الأوربيين والأمريكيين كان التأثير الغربي من العمق بحيث لم يتبق من الأشكال الشعرية الصينية التقليدية سوى آثارها المحفوظة في الكتب.
ثمة سمة رئيسة تحكم جميع الأشكال الشعرية الصينية تتلخص في توليد تواز إيقاعي ينتهي بمعارضته صوتياً، وذلك بربط الطبقات الصوتية للحروف الملفوظة ثم معارضتها بصوت القافية. ولما كانت غالبية الكلمات الصينية أحادية المقطع، فإن البيت المتشكل من 5-7 علامات كتابية، يتضمن العدد نفسه من الكلمات، وكل علامة يمكن أن تلفظ بأربعة أصوات مختلفة، مما يؤدي إلى تغيير المعنى والاستخدام، ومن ثم فإن ما يولِّد الجرس الموسيقي في الشعر الصيني هو تعامل الشاعر مع هذه الإيقاعات الصوتية المتباينة.
إن شكل «شعر الأسلوب القديم» ما قبل عصر تانغ Tang ت(618-907) لم يخضع لقواعد صارمة، فطول القصيدة وعدد علامات البيت والقافية لم يكن ثابتاً. ويعد «كتاب الأغاني» Shijing ت(6-11ق.م) نموذجاً جامعاً لهذا الشكل. وظهر شكل شعري جديد سمي بـ «شعر تشو» Chuci في (ق4 ق.م) تميز بتقسيم البيت شطرين، وبأن لكل أربعة أبيات قافية واحدة. وفي القرنين الأخيرين ق.م اكتسب «شعر فو» Fuci شعبية واسعة، ولاسيما أنه يلائم السرد الحكائي. وعند منعطف القرن الأخير قبل الميلاد جُمعت قصائد فو في ديوان ضخم بعنوان «يويفو»Yuefu. وفي القرن الثالث الميلادي ظهر شكل «قصيدة الأسلوب القديم» الذي أحيا «شعر الأسلوب القديم» مع تنويعات جديدة. وقد وصلت «قصيدة الأسلوب الجديد» إلى ذروتها في (8ق.م) في أشعار لي باي Li Bai، ودوفو Du Fu، وباي جويي Bai Juyi، وهي تتصف بخضوعها لقواعد صارمة من حيث الوزن والقافية والطول. أما الشكل الشعري «سي» Ci ت(8-13ق.م) الذي كان تأثيره جلياً فقد التزم بموسيقى مرافقة، ثم انفصل عنها مع بقاء الوزن مرتبطاً بهذا اللحن أو ذاك ، بغض النظر عن الموضوع. وقد انفتح شعر «سي» على اللغة الشعبية وعلى حقل واسع من الموضوعات، ولاسيما في قصائد سو دونغبو Su Dongpo وكسين قيجي Xin Qiji. وفي عصر يوان Yuan ت(1279- 1368م) برز شكل «سانقو» Sanqu المستمد من ألحان المسرحيات الغنائية والأغاني الشعبية، وهو تطوير نوعي لشعر «سي» من حيث تقبله غير المتحفظ للغة الشعبية. أما آخر تطورات الأشكال الشعرية الصينية في القرن العشرين فهو الشعر الحر المكتوب باللغة الشعبية.
ـ الشعر الياباني:
لا يعرف الشعر الياباني القافية، ولا حتى التجانس الصوتي، ولهذا نتج وزنه الأساسي وإيقاعه من تناوب عدد مقاطع البيت في القصيدة؛ ففي القصيدة القصيرة «تنكا» Tanka الخماسية الأبيات تتوزع المقاطع بالتناوب الآتي: (5-7-5-7-7)، وهذا الشكل هو النموذج الرئيس للشعر الياباني القديم الذي حفظته «مجموعة قصائد الأجيال المتعاقبة» Manyoshu ت(8ق.م)، وهي تضم (5000) قصيدة، بعضها من نوع القصيدة الطويلة «نغاوتا» Nagauta التي قد تزيد على المئة بيت. وعلى الرغم من التنويعات الكثيرة التي طرأت على شكل «تنكا» بقي مهيمناً حتى القرن العاشر الميلادي، واكتسب اسم «واكا» Waka أي القصيدة اليابانية، في مواجهة القصيدة الصينية «كانشي» Kanshi، وصار الشكل المفضل لدى أرستقراطية بلاط العاصمة كيوتو Kyoto، بحيث صار الامبراطور يأمر بجمع القصائد وإصدارها في كتب بلغ عددها واحداً وعشرين حتى عام 1438م. وفي تطور مواز ظهر منذ القرن التاسع الميلادي شكل «قصيدة الأسلوب الجديد» Imayo- utaذات الطابع الشعبي التي قامت بدور مهم في مسرح «نو» No الغنائي. برز شكل «القصيدة المسلسلة» Renga (ق14) التي يشترك في صوغها ثلاثة شعراء معاً حول موضوع واحد، كما في بعض الزجل العربي، بحيث يحتمل أن يبلغ طول القصيدة المسلسلة 3000 بيت متناوب بين الخماسي والسباعي.
استمرت تقاليد «القصيدة المسلسلة» أو «الرِنغا» حية حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي. وتفرع عنها شكل قصيدة «هايكو»Haiku بمقاطعها السبعة عشر الثابتة، التي تعتمد على درجات الاختزال في التعبير عن فكرة أو عاطفة أو انطباع، بحيث لابد للقارئ أو المستمع من المشاركة في ملء تفاصيل النص. وقد بلغ هذا الشكل الشعري ذروته في قصائد بوسون Buson ت(1716-1784)، وإيسا Issa ت(1763-1828) الذي أغني الشعر الياباني بموضوعات ريفية مهمة. وكان قد ظهر قبل ذلك شكلان شعريان جديدان، هما«سنريو» Senryu الذي يشبه الهايكو، و«كيوكا» Kyoka الذي يشبه التنكا، وكلاهما هجائيان ساخران لاقيا شعبية واسعة في إيدو Edo (طوكيو حالياً). وبعيد عام 1880، وتحت تأثير الآداب الأوربية المترجمة تبلور شكل «قصيدة الأسلوب الجديد» Shimtaishi، أي قصيدة الشعر الحر التي صارت الأوسع انتشاراً في القرن العشرين، ولاسيما في قصائد توسون شيمازاكي[ر] T.Shimazakiوهاغيوارا ساكوتارو H.Sakutaro ت(1886-1942). وفي المرحلة نفسها قادت الشاعرة موساوكا شيكي Mosaoka Shiki ت(1867-1902) حملةً لإحياء شكلي «تنكا» و«هايكو»، فاستعادا مكانتهما وفاعليتهما، واكتسبا شعبية واسعة، ولاسيما «هايكو» الذي انتشر عالمياً منذ الحرب العالمية الأولى وامتد إلى فرنسا ويوغسلافيا والمكسيك والولايات المتحدة، حيث تأسست عام 1963 أول مجلة خاصة به. ويلاحظ تأثير هذا الشكل الشعري في قصائد بول إيلوار الفرنسي وسِفريس Seferis اليوناني وباوند الأمريكي.
رضوان القضمانين نبيل الحفار، طارق علوش
الشعر Poésie, Poetry هو أحد أشكال فن القول، إلى جانب النثر والمسرح. ولا يمكن وضع تعريف جامع مانع له، لأنه يختلف باختلاف الحضارات واللغات والمراحل، بل وحتى بين شاعر وآخر أحياناً في المرحلة عينها، إلا أنه بصورة عامة تاريخياً قول منظوم بليغ يدل على معنى، ولعل تعريف كولردج S.T.Coleridge، الذي أخذه عن جوناثان سويفت J.Swift في سياق حديثه عن الأسلوب في الكتابة، هو الأبلغ حين قال «النثر هو الكلمات في أفضل ترتيب والشعر هو أفضل الكلمات في أفضل ترتيب». أما التزام القافية فيرتبط ببعض الشعر. والشعر هو أقدم الآثار الأدبية في جميع الحضارات لارتباطه بالشعائر الدينية، وعنه تفرع النثر الفني، وهو حسب الناقد الإنكليزي رتشاردزI.A.Richards «أكمل وسيلة للخطاب». ويعيد كثيرون في الغرب اصطلاح «شعر» إلى اللغة الإغريقية، من كلمة Poiesis = صنعة ـ إبداع. أما في الحضارات الشرقية فتختلف المصادر والاشتقاقات، فمصدره عند العرب مثلاً فعل شَعَرَ، وهم يعدّونه صنعة، كما الإغريق والهنود والصينيين القدامى. وشعر هوميروس Homeros كان ينشد قبل أن يدوَّن في أيّ كتاب، وكذلك الأمر في الحضارات الأخرى. ويعد كتاب أرسطو «فن الشعر» Peri poietikes أول كتاب في نظرية الشعر وأنواعه، وسار على منواله كثيرون حتى اليوم في مختلف اللغات.
يتميز الشعر شكلاً ببنيته الإيقاعية الناشئة من تقسيم دقيق لوحدات مقيسة، لا تتطابق مبدئياً مع تقسيمه إلى وحدات نحوية، في حين ينقسم النثر إلى مقاطع وجمل وفقرات. كما يتميز الخطاب الشعري بالعبارة الشعرية poetic diction أو بنية اللغة الشعرية، التي كانت تعني قديماً انتقاء الكلمات وتنسيقها لتكون لغة رفيعة لفن سام. وهذا الفهم يُخرج من دائرة الشعر أشكالاً حديثة صارت شائعة، مثل الشعر الحر free verse و قصيدة النثر poème en prose. كما أن دلالة المصطلح لا تشمل الشعر كله بمفهومه المعاصر، لأن الشعر سيحدُّ نفسه تاريخياً وأسلوبياً، ولن يوجِد في لغته إلا تقاليد محدِّدة حكمت استعمال اللغة في الأدب، أي منظومة خاصة من أدوات التعبير مغلقة على نفسها. وظل هذا الفهم للشعر قائماً حتى نهاية عصر النهضة الأوربية، وحتى بداية عصر النهضة العربية.
يقوم الشعر عامة على بنية لغوية (لغة الشعر) وبنية جمالية (جيد الشعر ورديئه) وبنية المعنى (المقاصد والأغراض) وبنية صوتية (العَروض prosody والوزن metreوالقافية rhyme والمقطع stanza). وتعارف النقاد على دراسة التجانس الصوتيassonance ضمن البنية الصوتية، وهو تكرار صوت أو أكثر في كلمات متوالية، أو في مجموعات إيقاعية rhythm متتالية. وهو أيضاً مظهر من مظاهر موسيقى الكلام، يولِّد إيقاعاً ونغماً يتجلى في الوزن، أي في مجموع القوانين الناظمة لبنية الشعر الإيقاعية، التي تختلف من منظومة شعرية إلى أخرى، ومن لغة إلى أخرى. وهو كذلك مجموعة من الأنماط الإيقاعية التي تتألف من تتابع معين في النبر، أو من تتابع محدد لمقاطع الكلمات، أو مما تشمله من مقاطع لغوية. أما علم العروض فهو مصطلح يطلق على مجموعة الوسائل التي يمكن بها تحليل الكلام إلى عناصره الصوتية الإيقاعية، أي ضبط القوالب الموسيقية الشعرية وحصرها وتبيان ما يطرأ عليها من تحوير بزيادة أو نقص لا يختل به النغم. كما ترتبط بنية الشعر العروضية بالقافية أحياناً، وهي تكرار أصوات متشابهة أو متماثلة بانتظام، تكون في نهاية البيت أو الشطر، وقد تكون استهلالية. ويلاحظ أن القافية لم تستعمل دائماً في الشعر، لا غربيّه ولا شرقيّه، لكنها لازمت الشعر العربي والفارسي والعثماني. ومن أجل دراسة مستفيضة للشعر العربي[ر: الأدب العربي، القصيدة].
يمكن تقسيم أنواع الشعر إلى ثلاثة أقسام:
ـ الشعر السردي: narrative ويأخذ أشكالاً مختلفة، قصيرة أو طويلة، بسيطة أو معقدة، أهمها الملحمة[ر] Epic والبالادة[ر] Balladوالرومانس Romanz (أي ما كتب بلغة الشعب أو بالعامية).
ـ الشعر الدرامي: dramatic ويعتمد الأسلوب السامي والشخصيات النبيلة من الكتب المقدسة، مروراً بنصوص المسرح الإغريقي والروماني ومسرح عصر النهضة ومسرح القرن الثامن عشر. وقد طوَّر الإنكليزي روبرت براوننغ R.Browning أحد أشكاله الحديثة وهو المنولوغ الدراميDramatic Monologue.
ـ الشعر الغنائي lyric: وهو الشعر المنظوم للغناء بمصاحبة آلة موسيقية، ويركز على عاطفة الشاعر الذاتية. ومن أنواعه الترنيمة Hymn والأود[ر] Ode والسونيته[ر]Sonnet والمرثية Elegy، والرعوية Pastoral. وتختلف هذه الأنواع كلها من حيث الطول والوزن وعدد المقاطع والقافية.
الشعر في الغرب:
تعود بداية الشعر الأوربي إلى القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد مع ظهور ملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة»، ثم كتَبَت سافو Sappho في الشعر الغنائي والغزلي. وفي القرن الخامس قبل الميلاد ازدهر الشعر الدرامي في مآسي أسخيلوسAeschylus وسوفوكليس Sophoclesوأوربيديس Euripides وملاهي أريستوفانسAristophanes. أما في العصر الهلنستي (338-30ق.م) فقد ابتكر ثيوقريطس Theokritosالشعر الرعوي في أغانيه idylls، كما جمع السوري ملياغروسMeleagros ت(140-70ق.م) في «الإكليل» The Garlandمختارات من الحِكَم، ضُمت لاحقاً في ما عُرف بـ«المختارات الإغريقية» Greek Anthology التي مهدت الطريق لهذا النوع من الكتب. وفي العصر البيزنطي ومع انتشار المسيحية نشأت أشكال جديدة في الشعر الديني اليوناني، مثل الترانيم الطويلة Kanonالتي كان القديس يوحنا الدمشقي من أفضل كتّابها، وما زالت ترانيمه تنشد في الشعائر الكنسية liturgy حتى الوقت الحاضر.
في بدايات الشعر اللاتيني ظهرت عدة ترجمات لأعمال هوميروس، وفي القرن الثاني قبل الميلاد كتب إنيوس Ennius، مؤسس الشعر اللاتيني، «الحوليات»Annales، وأسهم بلوتس Plautus وتيرنسTerence في الشعر الدرامي، كما كتب لوكريتيوس Lucretius «في طبيعة الأشياء»De rerum natura وهو عمل فلسفي شعري. وفي العصر الذهبي كتب فرجيل Virgil ملحمة «الإنيادة»، وفي الرعويات[ر]، كما كتب أوفيدOvid «مسخ الكائنات» أو «التحولات»Metamorphoseon و«فن الحب» Ars amatoria، وتلاهما في العصر الفضي كل من برسيوس Persius ويوفينال Juvenal.
تميزت العصور الوسطى بظهور اللهجات المحلية المنبثقة من اللاتينية وصارت لغات قومية، وبظهور الشعر الغنائي الدنيوي، مثل «كارمينا بورانا» Carmina Burana ت(13ق.م)، وبظهور مؤلفات آذنت ببداية الآداب المحلية، مثل «حياة القديس ألكسيس» La vie de Saint Alexis (نحو 1040م) في فرنسا، وملحمة «السيد» El Cid (نحو 1140م) في إسبانيا، والأغاني الدينية على يد فرنسيس الأسيسي Francis of Assisi ودانتي في إيطاليا، الذي كتب «الكوميديا الإلهية» التي تُعد أكبر عمل أدبي في اللغات الأوربية. كما نشأ ما أُطلق عليه تسمية «مادة فرنسا»Matière de France و«مادة روما» و«مادة بريطانيا» في رومانسات مثل «أغنية رولان»Chanson de Roland في فرنسا، و«قصة الإسكندر» Le Roman d’Alexandre حول شخصيات من الأدب الكلاسيكي، و«قصة بروتوس» Roman de Brut و«موت أرثر»Morte Arthure و«سير غاوين والفارس الأخضر» Sir Gawain and the Green Knightحول شخصيات أسطورية بريطانية. أما في شمالي أوربا فقد كان لملاحم «بيوولف»Beowulf ت(9ق.م) و«أغنية هيلدبراند»Hildebrandslied ت(8ق.م) وقصائـد الـ «إدا»Edda ت(9-11ق.م) و«أغنية نيبلونغن»Nibelungenlied ت(12ق.م) والساغا الإيسلندية مثل «ساغانيال» Njalssagaت(13-14ق.م) دور رئيسي في تطور الشعر.
يرتبط الشعر الغنائي في لغات الرومانس ارتباطاً عضوياً بتطور الشعر العربي في الأندلس، ولاسيما بالزجل والموشحات والخرجات التي انتشرت بين المستعربين من الأقوام الإيبيرية بعد بداية الألف الثانية للميلاد. فقد انتقلت تقاليد هذا الشعر إلى منطقة البروفانس في جنوبي فرنسا مع أول شعراء التروبادور[ر]troubadours وليم الأكيتيني William of Aquitaine الذي غنى بلغة الأوك langue d’oc، ومع شعراء التروفير trouvères في الشمال الذين غنوا بلغة الأويل langue d’oïl، وشعراء مينزينغَر minnesinger الألمان، فاقتبس هؤلاء جميعاً موضوعات الغزل والوقوف على الأطلال أو «أين هم؟» ubi sunt، والحب العذري amour courtois. وكان لابتكار السونيته الذي يعزى إلى الإيطالي جاكوبو دا لنتينو Jacopo da Lentino، الدور الأساسي في هذا الانتشار الواسع للشعر الغنائي، وقد استخدمها كل من دانتي وبتراركا Petrarcaوبوكاتشو Boccacio وتشوسر Chaucerوشكسبير.
عادت الملحمة في عصر النهضة إلى الصدارة في أعمال الشاعرين الإيطاليين أريوستو Ariosto وتاسو Tasso، وكان موريس سيف M.Scève في فرنسا، مع جماعة «الثريا أو البلياد»، من أبرز الشعراء إلى جانب رونسار Ronsard وسينيور دو بارتاسSeigneur du Bartas. أما السونيته فقد وصلت إنكلترا في أشعار وايات Wyatt وسبنسرSpenser، وسيدني Sidney، الذي ألَّف «دفاع عن الشعر»The Defence of Poesie ت(1595)، وأيضاً في أشعار مارلو Marloweوملتون Milton. وكان دي بيغا de Vega ودي لاباركا de la Barca من أبرز شعراء إسبانيا في عصرها الذهبي. وفي ألمانيا كتب مارتن لوتر (لوثر) Luther أهم ترانيم الكنيسة البروتستنتية، كما وضع مارتن أوبيتسM.Opitz أهم الأعمال النظرية في الشعر (1624). وظل الشعر الميتافيزيقي يسود بريطانيا في أشعار جون دَن J.Donne وأندرو مارفِل A.Marvell، في حين كان شعر عصر الباروك Baroque ت(1580-1680) يسود بقية أوربا.
حدد فرانسوا دي مالِرب F.de Malherbeسمات الاتباعية الجديدة Neoclassicism في القرن السابع عشر، ثم بلورها بوالو Boileauفي كتابه «فن الشعر» L’Art poétiqueت(1674). وكان بوالو من أبرز شعراء تلك المرحلة إلى جانب لافونتين وكورنيCorneille وراسين Racine. وفي القرن الثامن عشر وصل فولتير Voltaire بالشعر إلى ذروته. أما في إنكلترا فقد كان النفوذ لدرايدنDryden في «مقالة حول الشعر الدرامي» An Essay on Dramatic Poesy ت(1668)، وبوبPope في «مقالة حول النقد» An Essay on Criticism، كما بشَّر شعراء مثل غراي Grayوبرنز Burns وبليك Blake وآخرون بالحركة الإبداعية (الرومنسية). كان لكلوبشتوك Klopstock كبير الأثر في إحياء الشعر في ألمانيا، إلا أن غوته Goethe وشيلر Schillerوهولدرلين Hölderlin هم عمالقة الشعر الألماني، ولعب لومونوسوف Lomonosovالدور ذاته في الشعر الروسي، وكرويتسCreutz في السويد، وغونزاغا Gonzaga في البرازيل. وبانتشار الإبداعية في الشعر الإنكليزي على أيدي وردزورث Wordsworthوكولردج برزت أسماء كبيرة أخرى، مثل شليShelley الذي كتب «دفاع عن الشعر»A Defence of Poetry ت(1840)، وبايرونByron وكيتس Keats، إلى جانب هاينه Heineفي ألمانيا، ومانزوني Manzoni وليوبارديLeopardi في إيطاليا، وليرمنتوف Lermontovوبوشكين Pushkin في روسيا، ولامارتينLamartine وهوغو Hugo ونرفال Nerval في فرنسا، وثوريللا Zorilla في إسبانيا، وبو Poeفي الولايات المتحدة، وستاغنيليوسStagnelius في السويد، ولُنْروت Lönnrot، الذي جمع الملحمة الوطنية الفنلندية «كالفالا» Kalevala ت(1849)، في فنلندا.
قصيدة أبولينير "اليمامة المتألمة ونافورة الماء" | قصيدة من مخطوطات بول فاليري |
الشعر في الشرق
ـ الشعر الإيراني:
بسبب التقلبات البشرية واللغوية والسياسية المتعاقبة في إيران، ونتيجة لضعف التدوين، لم يتبق من تراث إيران الفكري ما قبل الإسلام إلا القليل. ومع دخول إيران الإسلام في القرن السابع الميلادي تبنى الفرس الخط العربي لكتابة لغتهم، وصاروا بالتدريج جزءاً من الحضارة العربية الإسلامية، وأنتجوا أدباً غنياً. وعلى صعيد الشعر تبنى الفرس بحور الشعر العربي، وبدأ الازدهار منذ القرن التاسع الميلادي، فتطورت مجموعة من الأشكال الشعرية المشابهة للشعر العربي أحياناً والمختلفة عنه في الوقت نفسه، كالشعر الملحمي وشعر الغزل والمثنوي والرباعي والقصيدة. وفي النصف الثاني من القرن التالي برز الشعر الملحمي بهدف تسجيل تاريخ الملوك وأعمالهم منذ القدم. وقد تمثل هذا الشعر في كتب حملت عنوان «شاه نامه» كما لدى المسعودي والدقيقي والفردوسي[ر: إيران] الذي وصلت ملحمته إلى 60000 بيت مزدوج في وزن البحر المتقارب.
تتصف بنية القصيدة في الشعر الفارسي بكونها محددة مسبقاً، أما المتغير فهو الموضوعات والأغراض والوزن والقافية والطول، إذ يراوح طولـها غالباً بيـن (15و50) بيتاً مزدوجاً. وقد استخدمت في المقام الأول بغرض المديح، إلى جانب أغراض أخرى كالرثاء والخمريات والوصف. ومن أبرز شعرائها القآني والعنصري والفروجي والرودكي ومنوشهري وأنوري والحقاني. وفي المرحلة نفسها برز أيضاً شكل الرباعيات بغرض التعبير عن الأفكار والحِكَم، ومن أبرز شعرائه عمر الخيام.
لم يصل شعر الغزل الفارسي إلى ذروته إلا في القرن الثالث عشر. ولا يقل عدد الأبيات في الغزليات عن خمسة، ولا يزيد على خمسة عشر بيتاً، ويراوح الموضوع بين العشق الديني والعشق الدنيوي بجميع أشكاله. وقد برع في هذا النوع من الشعر كل من سعدي والرومي وحافظ.
يمتاز الشعر المثنوي بأن شطري البيت ينتهيان بالقافية نفسها، وهو يلائم السرد الحكائي كما في «كليلة ودمنة» للرودكي، وكذلك أغراض الفلسفة والتصوف والأخلاق، كما لدى الرومي في مثنوياته التي بلغت 26000 شطر، في حين أن مثنويات نظامي ذات طابع قصصي عاطفي. استمرت تقاليد الشعر الفارسي مهيمنة حتى القرن التاسع عشر، حين ظهرت القصائد ذات الموضوعات الوطنية، كما لدى الشاعرين عارف وعشقي. وفي المرحلة نفسها ظهر شكل شعري جديد دعي بـ «التصنيف»، وهو يقارب الموشح الأندلسي. ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية دخلت الحداثة الشعرية إلى إيران، فظهرت موضوعات جديدة في قوالب تقليدية، إلى جانب شعر التفعيلة غير المقفى وقصيدة النثر.
ـ الشعر الهندي:
ثمة في الأدب الهندي القديم عرف يقارب القاعدة، يقول إن مِحَك جودة الأديب هو النثر الفني، لا الشعر، وثمة عرف ثان يقول إن مضمون العمل الأدبي أمر مفروغ منه، بل بدهي. أما الشكل الذي يقدَّم به المضمون للمستمع أو القارئ، فهو الجهد الفني الذي يدل على مدى براعة الأديب وتمكنه من موضوعه وقدراته اللغوية وأدواته الفنية، إذ ترتكز مهمة الأديب الفنان في رسم موضوعه وترصيعه وزخرفته وتزيينه بالمحسنات البديعية والألفاظ المختارة، بحيث يولِّد في نفس المستمع أو القارئ نشوة ممتعة، وهذا منتهى الأرب، وهنا تكمن خصوصية الأدب الهندي القديم حتى القرن الثامن عشر، لا في اللغات الرئيسة المدونة، السنسكريتية والبراكريتية والباليِّة فحسب، بل حتى في الأُردو ومجموعة من اللهجات/اللغات المحلية التي تمتلك تراثاً أدبياً قيماً. وهذه الخصوصية جعلت من العسير على الترجمة أن تعطي الأصل حقه على صعيد الجماليات اللغوية، ولاسيما إذا كان الأصل نصاً شعرياً. وعلى الرغم من العرف الأول حظي الشعر الهندي بانتشار واسع، شمل مختلف أجناس القول، من النصوص الدينية المقدسة ذات المكانة المتجذرة في بنية المجتمع الهندي، إلى النصوص الأدبية بمختلف أجناسها وأنواعها، حتى العلمية منها. وعبر مسيرته الطويلة التي تعود إلى منتصف الألف الثانية ق.م، ثم في ذروته الأولى، أي في المرحلة الفيدية[ر: فيدا Veda] في الألف الأولى، طور الشعراء عدداً وافراً ومتنوعاً من الأوزان الشعرية، في الأناشيد والقصائد الدينية والدنيوية، وفي الملاحم والمسرحيات، يمكن حصر أهمها وأكثرها استمرارية عبر العصور بما يأتي:
ـ «آريا» Arya، الذي تبنته السنسكريتية من لغات أواسط الهند.
ـ «أنوشْتوبه» Anushtubh الذي برز في أشعار الفيدا.
ـ «غاياتري» Gayatri الذي استخدم بشكل خاص في الأناشيد الإلهية من كتاب «رغفيدا» Rigveda.
ـ «إندرافيرا» Indravajra و«إندرافمْشا»Indravamsha، وهما وزنان قديمان مشتقان من الأوزان الفيدية، صارا يستخدمان في شعر البلاط.
ـ «شلوكا» Sloka الذي يعد أبرز الأوزان وأهمها، وبه كُتبت الملحمتان «مهابهاراتا»Mahabharata و«رامايانا» Ramayanaويتطلب دقة في مراعاة القواعد العروضية.
ـ «تريشتوبه» Trishtubh وقد استخدم خصيصاً في أناشيد الإله إندرا Indra.
ـ «فايتاليَّا» Vaitailiya وهو منتشر بوجه خاص في القصائد الفنية ذات الموضوعات الفكرية.
أما الحضارة العربية الإسلامية فقد أَدخلت إلى الهند عن طريق الفرس، في مرحلة الحكم المغولي، بحور الشعر العربية التي ازدهرت في لغة الأُردو تحديداً، وكان لها تأثيرها التجديدي في فن الشعر الهندي الكلاسيكي.
ـ الشعر الصيني
لم يتعرض الأدب الصيني حتى القرن التاسع عشر لأية مؤثرات أجنبية ملموسة، فحافظ على خصوصيته. وعلى الرغم من تطور الموضوعات بقيت الأشكال التقليدية مواكبة لها حتى الانفتاح على الغرب. ولكن مع تكاثر الترجمات عن الشعراء الأوربيين والأمريكيين كان التأثير الغربي من العمق بحيث لم يتبق من الأشكال الشعرية الصينية التقليدية سوى آثارها المحفوظة في الكتب.
ثمة سمة رئيسة تحكم جميع الأشكال الشعرية الصينية تتلخص في توليد تواز إيقاعي ينتهي بمعارضته صوتياً، وذلك بربط الطبقات الصوتية للحروف الملفوظة ثم معارضتها بصوت القافية. ولما كانت غالبية الكلمات الصينية أحادية المقطع، فإن البيت المتشكل من 5-7 علامات كتابية، يتضمن العدد نفسه من الكلمات، وكل علامة يمكن أن تلفظ بأربعة أصوات مختلفة، مما يؤدي إلى تغيير المعنى والاستخدام، ومن ثم فإن ما يولِّد الجرس الموسيقي في الشعر الصيني هو تعامل الشاعر مع هذه الإيقاعات الصوتية المتباينة.
إن شكل «شعر الأسلوب القديم» ما قبل عصر تانغ Tang ت(618-907) لم يخضع لقواعد صارمة، فطول القصيدة وعدد علامات البيت والقافية لم يكن ثابتاً. ويعد «كتاب الأغاني» Shijing ت(6-11ق.م) نموذجاً جامعاً لهذا الشكل. وظهر شكل شعري جديد سمي بـ «شعر تشو» Chuci في (ق4 ق.م) تميز بتقسيم البيت شطرين، وبأن لكل أربعة أبيات قافية واحدة. وفي القرنين الأخيرين ق.م اكتسب «شعر فو» Fuci شعبية واسعة، ولاسيما أنه يلائم السرد الحكائي. وعند منعطف القرن الأخير قبل الميلاد جُمعت قصائد فو في ديوان ضخم بعنوان «يويفو»Yuefu. وفي القرن الثالث الميلادي ظهر شكل «قصيدة الأسلوب القديم» الذي أحيا «شعر الأسلوب القديم» مع تنويعات جديدة. وقد وصلت «قصيدة الأسلوب الجديد» إلى ذروتها في (8ق.م) في أشعار لي باي Li Bai، ودوفو Du Fu، وباي جويي Bai Juyi، وهي تتصف بخضوعها لقواعد صارمة من حيث الوزن والقافية والطول. أما الشكل الشعري «سي» Ci ت(8-13ق.م) الذي كان تأثيره جلياً فقد التزم بموسيقى مرافقة، ثم انفصل عنها مع بقاء الوزن مرتبطاً بهذا اللحن أو ذاك ، بغض النظر عن الموضوع. وقد انفتح شعر «سي» على اللغة الشعبية وعلى حقل واسع من الموضوعات، ولاسيما في قصائد سو دونغبو Su Dongpo وكسين قيجي Xin Qiji. وفي عصر يوان Yuan ت(1279- 1368م) برز شكل «سانقو» Sanqu المستمد من ألحان المسرحيات الغنائية والأغاني الشعبية، وهو تطوير نوعي لشعر «سي» من حيث تقبله غير المتحفظ للغة الشعبية. أما آخر تطورات الأشكال الشعرية الصينية في القرن العشرين فهو الشعر الحر المكتوب باللغة الشعبية.
ـ الشعر الياباني:
لا يعرف الشعر الياباني القافية، ولا حتى التجانس الصوتي، ولهذا نتج وزنه الأساسي وإيقاعه من تناوب عدد مقاطع البيت في القصيدة؛ ففي القصيدة القصيرة «تنكا» Tanka الخماسية الأبيات تتوزع المقاطع بالتناوب الآتي: (5-7-5-7-7)، وهذا الشكل هو النموذج الرئيس للشعر الياباني القديم الذي حفظته «مجموعة قصائد الأجيال المتعاقبة» Manyoshu ت(8ق.م)، وهي تضم (5000) قصيدة، بعضها من نوع القصيدة الطويلة «نغاوتا» Nagauta التي قد تزيد على المئة بيت. وعلى الرغم من التنويعات الكثيرة التي طرأت على شكل «تنكا» بقي مهيمناً حتى القرن العاشر الميلادي، واكتسب اسم «واكا» Waka أي القصيدة اليابانية، في مواجهة القصيدة الصينية «كانشي» Kanshi، وصار الشكل المفضل لدى أرستقراطية بلاط العاصمة كيوتو Kyoto، بحيث صار الامبراطور يأمر بجمع القصائد وإصدارها في كتب بلغ عددها واحداً وعشرين حتى عام 1438م. وفي تطور مواز ظهر منذ القرن التاسع الميلادي شكل «قصيدة الأسلوب الجديد» Imayo- utaذات الطابع الشعبي التي قامت بدور مهم في مسرح «نو» No الغنائي. برز شكل «القصيدة المسلسلة» Renga (ق14) التي يشترك في صوغها ثلاثة شعراء معاً حول موضوع واحد، كما في بعض الزجل العربي، بحيث يحتمل أن يبلغ طول القصيدة المسلسلة 3000 بيت متناوب بين الخماسي والسباعي.
استمرت تقاليد «القصيدة المسلسلة» أو «الرِنغا» حية حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي. وتفرع عنها شكل قصيدة «هايكو»Haiku بمقاطعها السبعة عشر الثابتة، التي تعتمد على درجات الاختزال في التعبير عن فكرة أو عاطفة أو انطباع، بحيث لابد للقارئ أو المستمع من المشاركة في ملء تفاصيل النص. وقد بلغ هذا الشكل الشعري ذروته في قصائد بوسون Buson ت(1716-1784)، وإيسا Issa ت(1763-1828) الذي أغني الشعر الياباني بموضوعات ريفية مهمة. وكان قد ظهر قبل ذلك شكلان شعريان جديدان، هما«سنريو» Senryu الذي يشبه الهايكو، و«كيوكا» Kyoka الذي يشبه التنكا، وكلاهما هجائيان ساخران لاقيا شعبية واسعة في إيدو Edo (طوكيو حالياً). وبعيد عام 1880، وتحت تأثير الآداب الأوربية المترجمة تبلور شكل «قصيدة الأسلوب الجديد» Shimtaishi، أي قصيدة الشعر الحر التي صارت الأوسع انتشاراً في القرن العشرين، ولاسيما في قصائد توسون شيمازاكي[ر] T.Shimazakiوهاغيوارا ساكوتارو H.Sakutaro ت(1886-1942). وفي المرحلة نفسها قادت الشاعرة موساوكا شيكي Mosaoka Shiki ت(1867-1902) حملةً لإحياء شكلي «تنكا» و«هايكو»، فاستعادا مكانتهما وفاعليتهما، واكتسبا شعبية واسعة، ولاسيما «هايكو» الذي انتشر عالمياً منذ الحرب العالمية الأولى وامتد إلى فرنسا ويوغسلافيا والمكسيك والولايات المتحدة، حيث تأسست عام 1963 أول مجلة خاصة به. ويلاحظ تأثير هذا الشكل الشعري في قصائد بول إيلوار الفرنسي وسِفريس Seferis اليوناني وباوند الأمريكي.
رضوان القضمانين نبيل الحفار، طارق علوش