أعلام الاستشراق وأهم إسهاماتهم مؤلفاتهم
حسب المرء أن يتذكر أن الطبعة الرابعة من كتاب «المستشرقون» لنجيب العقيقي قد تجاوزت صفحاتها السبعمئة وألف؛ وأن «موسوعة المستشرقين» للدكتور عبد الرحمن بدوي قد بلغت في طبعتها الثانية ستاً وأربعين وأربعمئة صفحة من القطع الكبير؛ وأن مجموع ما ألفه المستشرقون بين عامي 1800و 1950، مما يتعلق بالشرق الأدنى، فيما يذكره إدوارد سعيد، يتجاوز ستين ألفاً من المجلدات ـ حتى يتبين استحالة الحديث عن أعلام الاستشراق وأهم مؤلفاتهم وإسهاماتهم في حيز ضيق كهذا. ومع ذلك فربما كانت إشارة مختزلة جداً إلى بعض هؤلاء الأعلام ممّن يتردد ذكرهم كثيراً في المؤلفات العربية الحديثة كافية للدلالة على نوع المهمة التي نهضوا بها في مجتمعهم، والإسهام الذي قدموه وكان من لوازم هذه المهمة. ومن هؤلاء المستشرقين:
آرثر جون آربري [ر] (1905-1968) A.J.Arberry:
وهو مستشرق إنكليزي معروف في الأوساط العربية بتدريسه في الجامعة المصرية، وتسنمه كرسي العربية في جامعتي لندن وكمبردج وترجماته للنِّفَّري والقرآن ودراساته عن الاستشراق الإنكليزي التي تؤلف مراجع لاغنى عنها لأي باحث في تاريخ الاستشراق.
كارل بروكلمان[ر] (Carl Brockelmann (1956-1868
وهو ألماني صاحب «تاريخ الأدب العربي» الذي يكاد لا يستغني عنه أي باحث في الأدب العربي، و«تاريخ الشعوب والدول الإسلامية»، و«موجز النحو المقارن للغات السامية»، و«المعجم السرياني». وكان يتقن إحدى عشرة لغة شرقية فضلاً عن اللاتينية واليونانية واللغات الأوربية الحديثة.
ميغويل آسين بلاثيوس[ر] (1871-1944) M.A.Palacios
وهو مستشرق إسباني معروف ببحوثه عن «الغزالي؛ العقائد والأخلاق والزهد»، و«ابن مسرة ومدرسته»، و«الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية»، الذي كان قنبلة هزت أوساط دارسي دانتي والمعجبين به، ودراساته عن الأسماء العربية للبلاد الإسبانية. تسلم في أخريات حياته رئاسة «الأكاديمية الإسبانية».
أغنتسيو غويدي[ر] (Ignazio Guidi (1935-1844
وهو مستشرق إيطالي معروف بتدريسه في الجامعة المصرية للأدب العربي وفقه اللغات العربية الجنوبية، وفهرسته للمخطوطات العربية ونشرها محققة تحقيقاً علمياً رفيعاً (تاريخ الطبري)، ودراساته عن الآداب المسيحية في الشرق، واللغة الحبشية وآدابها، ولغات جنوب الجزيرة العربية. وكان طه حسين من أبرز تلامذته.
رينهارت دوزي[ر] (Reinhart Dozy (1883-1820
وهو مستشرق هولندي معروف على نحو خاص بأبحاثه حول تاريخ العرب في إسبانية، ولاسيما كتابه «أخبار بني عباد عند الكتاب العرب» بأجزائه الثلاثة، و«تاريخ المسلمين في إسبانية»، و«ملحق المعاجم العربية» الذي لا يستغنى عنه في فهم النصوص التاريخية والجغرافية الأندلسية والمغربية.
أغناتي يوليانوفتش كراتشكوفسكي[ر] (1883-1951) I.J.Krackovskij
مستشرق روسي وهو معروف بصلاته الوثيقة بعدد من الكتاب العرب من أمثال أمين الريحاني، ولويس شيخو، ومحمد كرد علي، وأحمد تيمور باشا، الذين التقاهم في أثناء رحلته التي قام بها إلى المنطقة بين عامي 1907 و .1908 من أهم آثاره ترجمته للقرآن الكريم إلى الروسية، وترجمته لكتاب «الاعتبار» لابن منقذ التي نشرت في مجموعة الأدب العالمي التي كان يشرف عليها مكسيم غوركي، وكتاباه اللذان حققا له شهرة واسعة داخل الوطن العربي وخارجه وهما «بين المخطوطات العربية» و«تاريخ التأليف في الجغرافية عند العرب».
بول كرواس (1904-1944) Paul E.Kraus
مستشرق تشيكي عرف باهتمامه برسائل جابر بن حيان ومؤلفات محمد بن زكريا الرازي، فضلاً عن تدريسه للغات السامية في الجامعة المصرية بين عامي 1936 و1944 عندما انتحر لأسباب غامضة. من أهم أعماله كتابه «جابر بن حيان إسهام في تاريخ الأفكار العلمية في الإسلام» المنشور بالفرنسية في مجلدين.
إدوارد ويليم لين (1801-1876) E.W.Lane
إنكليزي معروف بمعجمه العربي الإنكليزي «مدّ القاموس» An Arabic- English Lexicon، وعنايته بترجمة ألف ليلة وليلة، وحياته في مصر التي امتدت أكثر من عشر سنوات وكان حصيلتها كتابه المشهور الذي مازال يقرأ على نحو واسع حتى هذا اليوم «طباع المصريين المحدثين وعاداتهم».
لوي ماسينيون (Louis Massignon (1962-1883
مستشرق فرنسي معروف بخبرته المباشرة بالوطن العربي (زار الجزائر والمغرب والعراق ومصر أكثر من مرة) ومن أهم مكتشفاته في العراق «قصر الأخيضر». دَرَس في الأزهر، ودرّس في الجامعة المصرية حول تاريخ المذاهب الفلسفية في الإسلام. تعد رسالته عن الحلاّج وبحوثه عنه وعنايته بنصوصه) مجهوداً متميزاً جداً لا نظير له، وقد ناقشها في 22 أيار من عام 1922 بمناسبة مرور ألف عام على صلب الحلاّج. حاضر مايقرب من خمسة وثلاثين عاماً عن الفكر الإسلامي وتاريخ العلوم عند العرب والأنظمة والأحوال الاجتماعية في العالم الإسلامي في «الكوليج دوفرانس».
كارلو ألفونسو نَلّينو (1872-1938) C.A.Nallino
إيطالي معروف باهتمامه بعلم الفلك عند العرب الذي يعد بحق حجة فيه، حاضر في الجامعة المصرية لسنوات عن تاريخ هذا العلم قبل أن يخرج كتابه «علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى» عام 1911 في رومة. كما حاضر في تاريخ الأدب العربي وأخرج كتاباً فيه، وتاريخ اليمن. عيّن عضواً في المجمع اللغوي عام 1933 وكان آخر نتاجه كتابه عن المملكة العربية السعودية الذي ظهر في أقسام ثلاثة كتب أولها، وكتبت ابنته ماريا الثاني والثالث منها ونشرت جميعها بعد وفاته... وكان طه حسين ممن تتلمذ له.
أثر الاستشراق في الدراسات العربية والإسلامية
لعل من المفارقة حقاً أن تترك هذه المعرفة آثاراً إيجابية واضحة في موضوعها وهو العرب والمسلمون والشرقيون عامة.
ولكن هذا الأمر سيبدو طبيعياً إذا ما تذكر المرء أن المواجهة التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر كانت مواجهة شاملة تبوأت فيها هذه المعرفة مكاناً مرموقاً، وأن بعض هذه المعرفة كان نصوصاً عربية محققة وفق الطرائق الغربية المعهودة في تحقيق النصوص القديمة، ومطبوعة على نحو لم يتيسر لأصحابها من العرب والشرقيين معرفته من قبل إلا في عهد متأخر، ومتاحة لهم بيسر ما كان ممكناً لولا هذه الطباعة. يضاف إلى ذلك أن أوربة وأمريكة وسواهما من بيئات احتضنت عدداً لا بأس به من المثقفين والدارسين العرب الذين وفدوا عليها لأسباب مختلفة، لا تعني المرء بمقدار ما تعنيه نتيجتها وهي اطلاع هؤلاء على هذه المعرفة بلغاتها الأصلية، بل إن بعضهم قد أسهم فيها في مختلف المراكز الثقافية الغربية (بدءاً بالعلماء الموارنة خريجي الكلية المارونية في رومة التي أسست عام 1584 مروراً بآل السمعاني في القرن الثامن عشر وانتهاء بالدارسين العرب المعاصرين الموزعين على مختلف الجامعات ومؤسسات البحث والنشر الغربية) إسهاماً يؤذن بتحولات إيجابية في طبيعة هذه المعرفة ووظيفتها. ولا يُنسى أنه بدءاً من نهاية القرن الثامن عشر غدت أوربة الغربية وأمريكة الشمالية فيما بعد محجة للبعثات العلمية المختلفة، ترسلها الدول والمؤسسات حتى اليوم، بعد أن صار الأنموذجُ الغربي أنموذجَ الحضارة العالمي الذي يطمح إليه الشرق والجنوب معاً. والدارسون العرب الذين توافرت لهم فرصة الدراسة في الغرب والاحتكاك بهذا الأنموذج ولاسيما أولئك الذين درسوا الثقافة والتاريخ والأدب واللغة وسوى ذلك من المعارف المتصلة بالعرب والإسلام، عادوا لينشروا كل ذلك بسبل مختلفة في المجتمع العربي ومؤسساته المختلفة. وواقع الحال أن طريق الاحتكاك الأخير كان باتجاهين أحياناً وخاصة عندما كانت بعض الجامعات العربية (كالجامعة المصرية في بداية عهدها، والجامعات العربية اليوم في أقسام الدراسات العليا أحياناً) تستقدم المستشرقين للتدريس والإشراف على البحوث والرسائل أو مناقشتها. بل إن ثمة الكثير من المراكز العلمية الاستشراقية في معظم العواصم العربية مثل دمشق وبيروت وعمان والقاهرة والجزائر وسواها تيسر فرص احتكاك للعرب بالمستشرقين من جهة، وسبل انتشار المعرفة الاستشراقية الحقَّة بين صفوف العرب من جهة ثانية. ولو أضاف المرء إلى هذا كله المؤتمرات والزيارات الخاصة والروابط والتجمعات المشتركة وطرق الاتصال الحديثة، الميسرة للعرب بالمعرفة التي ينتجها المستشرقون، والتي تشمل الكتاب (بلغته الأصلية أو مترجماً) والدورية، والصحيفة، وسبل الاتصال الجماهيري وغير ذلك، لخرج مما تقدم بمؤشر واضح على ضرورة وجود تأثير ما للمعرفة الاستشراقية بين صفوف الدارسين العرب المحدثين الذين تطلعوا باستمرار إلى الأنموذج الاستشراقي ليحاكوه إن كانوا من المعجبين به، وليتجاوزوا أسْواءه إن كانوا من الناقدين له، وليخلقوا البديل الصالح عنه إن كانوا من الذين لايؤمنون بجدواه.
والناظر في هذا التأثير يمكن أن يقع على الوجوه التالية التي تبرزه.
تحقيق المخطوطات: فمع أن المحققين العرب المحدثين قد بلغوا شأواً بعيداً في ميدان تحقيق المخطوطات، فإن المرء لا يستطيع أن ينكر فضل المستشرقين في التمهيد لهذا الإنجاز. فقد كانت تحقيقاتهم المبكرة للمخطوطات العربية ـ بما انطوت عليه من جمع لنسخ المخطوطة المحققة ودراسة لكل منها، ومقارناتهم النصية لها، وإحالتها على مصادرها المخطوطة والمطبوعة، والتعليق عليها، والشرح لغوامضها، وإلحاق النص المحقق بالكثير من الفهارس والمؤشرات المساعدة على الإفادة منها، وغير ذلك ـ كانت هذه كلها النماذج الأولى التي حاكاها المحققون العرب الأوائل، وتتلمذوا لها وربما لا يزالون. وإذا ما تذكر المرء ما تيسر اليوم للمستشرقين المحققين من تسهيلات للعمل أقلها الحاسوب، فإنه ربما مال إلى الاعتقاد بأن باب الإفادة من جهودهم مازال مفتوحاً على مصراعيه. وحسب العربي أن يتذكر أن عشرات الآلاف، بل المئات من الآلاف، من المخطوطات العربية موجودة في المكتبات الأجنبية العامة والخاصة، وأن ما يقوم به المعنيون بالدراسات الشرقية من غير الشرقيين من فهرسة وحفظ وترميم وعناية وتحقيق لهذه المخطوطات يدخل في باب ما يتمناه العربي لها في وطنه، لأنها لا تظفر عادة بما تستحقه من عناية واهتمام، والعرب في نهاية المطاف أولى بها من غيرهم.
التأريخ للأدب العربي: إن للعرب باعاً طويلاً في علم التاريخ عامة، والتاريخ الأدبي خاصة. ومع ذلك فقد أفادوا من جهود المستشرقين المنهجية، وتأثروا بطرائقهم في البحث لتأريخ الأدب العربي اعتماداً على الجهود الجماعية والتعاون العلمي بين الشرقيين والمستشرقين. والحقيقة أن هؤلاء المستشرقين قد خطوا بعملية التأريخ للأدب العربي في السنوات الأخيرة خطوات مهمة عندما عمدوا إلى تأليف تاريخ للأدب العربي يقوم على جهد جماعي ينهض به الشرقيون والمستشرقون فكان بين ما أخرجوه «تاريخ كمبردج للأدب العربي» The Cambridge History of Arabic Literature، الذي صدر منه أربعة مجلدات حتى اليوم، وقد تعاون على الكتابة فيه باحثون أجانب وعرب من أهل الاختصاص في مختلف الجامعات والمؤسسات العلمية في أربع قارات هي أمريكة وأوربة وآسيا وأفريقية.
مناهج الدراسة الأدبية: كان المستشرقون سبيلاً مهماً من سبل نقل مناهج الدراسة الأدبية السائدة في مجتمعاتهم إلى الباحثين العرب، عندما طبقوا هذه المناهج في دراستهم للأدب العربي قديمه وحديثه.
ويذكر هنا أن مناهج المستشرقين في دراستهم للأدب العربي قد نالها اليوم حظ كبير من التطور، بالقياس إلى ماكانت عليه، نتيجة انفتاحها على التطورات الهائلة التي حققتها مختلف العلوم الإنسانية في مجتمعاتها من جهة وبسبب استجابتها لطبيعة الأدب العربي المميزة له من جهة أخرى. فالأدب العربي اليوم بات ينظر إليه على أنه أدب حي له مكانته المرموقة بين آداب العالم مثلما هو أدب عريق ينهض للمقارنة مع أي من الآداب العريقة الأخرى.
الفهرسة والأعمال البيبليوغرافية: إن البحث في أي حقل معرفي إنما يقوم على الانطلاق من النقطة التي انتهى إليها الآخرون ممن سبقوا إلى دراسة جوانبه المختلفة. وما قام به الآخرون لا يشمل الكتاب والمؤلفات الشبيهة فحسب، بل يتعداه إلى البحوث الراهنة والحديثة التي تنشرها الدوريات المختلفة، والتي هي في حقيقة الأمر أحدث ما وصل إليه العلماء والباحثون في أي حقل معرفي. وقد تنبه المستشرقون إلى هذا الحقل وأولوه عناية خاصة في دراساتهم ولا سيما الحديثة منها، وأفاد الباحثون العرب المعاصرون الكثير من هذه العناية.
القراءات المثيرة الحافزة: تقدم كتب المستشرقين رؤية باحث «خارجي» للموضوع المدروس، وتكون، من هذه الزاوية حافزاً يحث الباحثين العرب على تناول بعض الموضوعات التي كانت مهملة، أو على مناقشة بعض المسائل والقضايا الشائكة، أو على التفكير في دراسة وجوه وجوانب من الثقافة العربية والإسلامية ذات صلة بغيرها من الثقافات الأخرى، سواء أجاء ذلك من باب المحاكاة، أم من باب الاستلهام، أم من باب الرد، أم من باب الشعور بالحاجة إلى سد الثغرات والنواقص، أم غير ذلك. وقد تعددت الدوافع لدى الباحثين العرب وكانت النتيجة واحدة وهي دراسات للأدب العربي، أو الثقافة العربية أو وجوه منهما، محفوزة بقراءات للمعرفة التي ينتجها المستشرقون عنها.
مآخذ على الاستشراق والمستشرقين
الاستشراق معرفة ينتجها «الآخرون» عن الشرق الذي هو موضوعها، وينضر إلى تراث الشرق كله عن طريق افتراضات خارجية عنه، هي افتراضات أنتجتها وتنتجها ثقافات «الآخرين». وهذه المعرفة توظف في نهاية المطاف لمصلحة هؤلاء في مواجهتهم للشرق، وكثيراً ما تستخدم لإخضاعه والسيطرة على مقدراته. وفضلاً عن كل ما تقدم فإن الشرقي يجد نفسه في موضع «تغريب» مستمر أمام هذه المعرفة لأنها لا تحاول أن تقيم أي جسور معه: فهي منتجة بلغة غير لغته، وتقوم على أسس ومعايير وقيم وأعراف جلّها غريب عنه، وتتخذ لنفسها أنماطاً من الإنشاءات غير مألوفة في ثقافته، وكثيراً ما تنتهي عملية التواصل معها إلى الإحباط بدل نشوة الكشف التي تنتهي بها عادة عملية الاحتكاك بأية معرفة.
من هنا كانت علاقة الشرقي بالاستشراق «إشكالية» في جوهرها، الأمر الذي ولّد مظاهر من النقد «الداخلي» الذي مارسه المستشرقون ضمن تقليدهم المعرفي الخاص بهم، مثلما ولّد الكثير من النقد «الخارجي» الذي حاول به الشرقيون تقويم الاستشراق. وبدل استعراض تفاصيل من هذا النقد الذي وجهه العرب والمسلمون إلى الاستشراق، فإنه يمكن الإشارة إلى أهم جوانبه. كما تبدو في الأمور التالية:
ـ تطبيق معايير وقيم ومبادئ ونظم وأسس ونظريات مستمدة من تقاليد الثقافة الغربية التي لا تتفق وتقاليد ثقافة الشرق وتطورها على مدى العصور.
ـ الاعتماد في الكثير من الدراسات الاستشراقية على مواد ومعطيات محدودة وهامشية ثم الانطلاق منها إلى تعميمات شاملة لا تملك مصداقية بحثية كافية.
ـ تقصير مناهج الدراسات الاستشراقية، ولاسيما القديمة منها عن بلوغ مرتبة الإجادة والإتقان بالقياس إلى ما تحققه الحقول المعرفية الأخرى في الثقافات المختلفة. فجل الدراسات الاستشراقية حتى عهد قريب ظل متأثراً بنظرة فقه اللغة (الفيلولوجية) في تناوله للكثير من الظواهر الشرقية وهو أمر أحس به المستشرقون أنفسهم وحاولوا تجاوزه في العقود الأخيرة.
ـ ضعف الأخذ بالاختصاص لدى المستشرق التقليدي الذي يكاد يقحم نفسه ومعرفته، القائمة على اللغة والدين أساساً، في كل شأن من شؤون الشرق. وهذا التوسع في مجال عمل المستشرق بات ينظر إليه اليوم على أنه عائق كبير وخطير ينبغي تجاوزه، وهو ما حاولت، وتحاول، الأجيال الجديدة من المستشرقين فعله منذ عقود، ويبدو أنها نجحت في ذلك نجاحاً ملموساً.
ـ عدم النظر بعين التقدير الملائم إلى معتقدات الشرق ومقدساته، وتناولها أحياناً بشيء من الاستخفاف المقنّع بادعاء الموضوعية، والحيادية، وغير ذلك من المزاعم التي لا تقنع الشرقيين الذين يغلب على تعاملهم مع مقدسات غيرهم ومعتقداتهم الاحترام والتبجيل، مع عدم إيمانهم بها أحياناً.
ـ عدم التمكن الكافي من اللغات الشرقية ولاسيما في مجال تحقيق النصوص والدراسات الأدبية والنقدية للآداب الشرقية والوقوع نتيجة ذلك في أخطاء فاحشة تكاد لا تغتفر. والواقع أن هذه الظاهرة تكاد تختفي لدى الأجيال الجديدة من المستشرقين المعاصرين الذين لا يعرفون اللغة العربية أو غيرها من اللغات الشرقية معرفة جيدة وحسب، بل غالباً ما يحسنون كتابتها والتأليف فيها والتحدث بها على نحو لافت للنظر.
ـ فقدان النزاهة العلمية في حالات غير قليلة تجاه المادة المدروسة والانطلاق من مسلمات مسبقة تمليها غالباً أهواء سياسية أو دينية متطرفة، وتحفزها أغراض يتصل أغلبها بمصالح دنيوية لا تليق بالعلماء والباحثين.
ـ عدم التعامل المباشر مع الواقع الشرقي، في الكثير من الحالات، والاكتفاء بمراقبته من بعد عن طريق الكتب والرسائل العلمية والتقارير والبحوث وما شابهها، والصدور عنها في معرفة الشرق ثم الاكتفاء بذلك ولو كان مخالفاً للواقع.
ـ الانغلاق الغالب على الذات والإيمان بعصمتها وقدرتها على تدبر إنتاج المعرفة الاستشراقية من دون الاستعانة بالشرقيين وما ينتجونه من معرفة ينظر إليها على أنها بوجه عام معرفة لا تتسم بقدر كاف من المنهجية والموضوعية، أو أنها متخلفة ومن الأفضل تجاهلها.
ـ توظيف المعرفة الاستشراقية في حالات كثيرة لأغراض غير إنسانية، ووضعها بتصرف الدوائر السياسية والاقتصادية والعسكرية، وربما العمل أساساً لديها لتعزيز هدف السيطرة على الشرق والتحكم به وبثرواته الطبيعية والبشرية.
والحقيقة أن أكثر ما تقدم ذكره من مآخذ على الاستشراق والمستشرقين آخذ بالانحسار، نتيجة جملة من التحولات الإيجابية التي يخضع لها هذا التقليد، ولا شك في أن هذه التحولات تملي بدورها تغيراً في المواقف تجاه الاستشراق ورجاله، وهو ما يشهده الباحث بوضوح في العقود الأخيرة.
عبد النبي اصطيف