الشدياق (أحمد فارس ـ)
(1219 ـ 1304هـ/1804 ـ 1887م)
أحمد فارس بن يوسف بن منصور ابن جعفر الشدياق، من سلالة المقدم رعد بن المقدم خاطر الحصروني الماروني الذي تولَّى جبل كسروان سبعاً وثلاثين سنة، في أوائل القرن السابع عشر الميلادي. ولد في قرية (عشقوت) في لبنان لأبوين نصرانيين مارونيين.
وأمَّا أسرته فله أربعة أخوة هم: طنوس ومنصور وأسعد وغالب، وفي حياة أخيه أسعد بعض المواقف التي أثّرت في توجهه شطر الإسلام، ذلك أن الكنيسة حبست أخاه وعذبته في سجنه، فأصيب بالاستسقاء، فمات سنة1830م، مما دفع أحمد إلى الابتعاد عن الكنيسة وسلطانها، فأعلن إسلامه بتونس سنة 1860م، وقيل لم يكن ذلك وحده سبباً لاعتناقه الإسلام، بل كانت رغبته في طلاق زوجه سبباً آخر. ولعل هناك أسباباً أخرى حملته على ذلك، إضافة إلى أن حب العربية ومراجعتها في أصولها المشتبكة بالقرآن والحديث قد أسهم في منظومة العوامل التي أدت إلى إسلامه.
وأما حياته فقد كانت غنية بالأمراض والرحلات، والعلم تحقيقاً وتأليفاً وإبداعاً، فهي سلسلة من الحركة وأطوار من الارتقاء والعمل والبناء، في حياته البدنية أصيب بالعديد من الأمراض التي تعكس مقدار الألم والحزن بمقدار ما تظهر قوة بأس الرجل وقدرته على مواجهة الحياة بآلامها وأوجاعها. وربما رأى في الرحلات إلى بلاد الفرنجة كمالطا، وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وتركيا، وإلى بلاد العرب كتونس ومصر، وسيلة للخلاص من هذه الأمراض، إضافة إلى ما فيها من معاني الثقافة وسعة العقل بأنوار المعارف الحسية والنظرية التي يراها، وتلاقح العقول بمواجهة العلماء والمعالم الحضارية في تلك البلدان، وما فيها من محرضات الإبداع الشعري، كقصيدته التي مدح بها لويس نابليون قبل أن يصبح امبراطوراً:
مِنْ شَأْنِ أهلِ الهوى أن يفرطوا الغزلا
قبلَ المديحِ وإلا غازلوا الطللا
وفي هذا المطلع جانب علمي يشير إلى تفسير العلاقة بين الغزل والوقوف على الأطلال، ليؤكد جانب الحب للأرض (المنزل) والإنسان (المرأة) مما يناسب التفكير العقلي، ويرعى مقتضى الحال للملك الفرنسي في بعده الإنساني وتكوينه الغربي في الاعتماد على العقل في عصر النهضة والتنوير، وبلغت القصيدة ستين بيتاً.
ونبت على حاشية تلك الرحلة إلى فرنسا قصيدة مديح أخرى خص بها نابليون الثالث وبلغت واحداً وثلاثين بيتاً، مطلعها:
للويسَ نابليون حَقُّ السؤددِ
الملكُ إذْ هو في المعالي أوحدُ
فكان مدحه ملكاً من ملوك الفرنجة يسير على خطى الأعشى، ميمون بن قيس، الذي مدح ملك فارس في الجاهلية.
تنقسم مؤلفات الشدياق إلى أعمال مترجمة، وأخرى محققة، وثالثة مصنفة، ورابعة مبدعة كالشعر.
أمَّا ترجمته فقد كان مترجماً في صحيفة الوقائع بالقاهرة والجوائب بالآستانة، وعَرَّبَ مجلة الأحكام العدلية من اللغة التركية، وأسهم في ترجمة الكتاب المقدس ببريطانيا، وله ترجمة التوراة وتنقيحها في نحو سبعمئة صفحة وهي مفقودة، وترجم أسرار طبائع الحيوان لأرسطو.
وأما الكتب التي حققها فهي: «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار»، لابن بطوطة، و«الموازنة بين أبي تمام والبحتري»، و«رسائل الخوارزمي»، و«رسائل بديع الزمان الهمذاني»، و«ديوان البحتري»، و«رسالتا الصداقة والصديق»، و«العلوم» لأبي حيان التوحيدي، وجلها طبع في الآستانة.
أما ما ألَّفه من كتب فأهمها: «الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، و«كشف المخبا عن فنون أوربا»، وهما كتابان يشتبك فيهما العلم بالإبداع كما يشتبك الواقع بالحلم والخيال.
«سر الليال في القلب والإبدال»، و«الجاسوس على القاموس»، و«اللفيف في كل معنى طريف»، و« نحو اللغة الإنكليزية»، و«الصرف الفرنساوي»، و«منتهى العجب في خصائص لغة العرب»، و«النفائس في إنشاء أحمد بن فارس».
وأما تصنيفه الإبداعي فله كتاب في السيرة الذاتية اسمه «الساق على الساق فيما هو الفارياق»، وله ديوان شعر، ورسائل ومحررات أدبية،إضافة إلى مقالاته: كنز الرغائب في منتخبات الجوائب ـ سبع مجلدات، تخيرها ولده سليم، ومحاوراته أعلام عصره من أمثال إبراهيم اليازجي وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وسواهم.
هذا الغنى وهذا التنوع في العطاء العلمي والأدبي يثبت قول الشدياق: «إني كنت في زمن الصبا مولعاً بأربعة أشياء: أحدها فن الموسيقى.. والثاني تجويد الخط.. والثالث النظر في الكلام، فكنت إذا قرأت شعراً ـ مثلاً ـ حاولت أن أبدل لفظاً منه بلفظ آخر. والرابع النظم مع أن سني لم تزد إذ ذاك على ثلاث عشرة سنة، ولم أكن أعرف شيئاً من النحو..».
كانت حياة الشدياق رحلة من مرض إلى مرض، ومن بلد إلى آخر، ومن مذهب إلى آخر، ومن دين إلى دين، ومن حضارة إلى حضارة، ومن كتاب إلى كتاب، حتى توفي في الآستانة، ونقل جثمانه إلى الحازمية في لبنان حيث دفن فيها.
عبد الكريم حسين
(1219 ـ 1304هـ/1804 ـ 1887م)
أحمد فارس بن يوسف بن منصور ابن جعفر الشدياق، من سلالة المقدم رعد بن المقدم خاطر الحصروني الماروني الذي تولَّى جبل كسروان سبعاً وثلاثين سنة، في أوائل القرن السابع عشر الميلادي. ولد في قرية (عشقوت) في لبنان لأبوين نصرانيين مارونيين.
وأمَّا أسرته فله أربعة أخوة هم: طنوس ومنصور وأسعد وغالب، وفي حياة أخيه أسعد بعض المواقف التي أثّرت في توجهه شطر الإسلام، ذلك أن الكنيسة حبست أخاه وعذبته في سجنه، فأصيب بالاستسقاء، فمات سنة1830م، مما دفع أحمد إلى الابتعاد عن الكنيسة وسلطانها، فأعلن إسلامه بتونس سنة 1860م، وقيل لم يكن ذلك وحده سبباً لاعتناقه الإسلام، بل كانت رغبته في طلاق زوجه سبباً آخر. ولعل هناك أسباباً أخرى حملته على ذلك، إضافة إلى أن حب العربية ومراجعتها في أصولها المشتبكة بالقرآن والحديث قد أسهم في منظومة العوامل التي أدت إلى إسلامه.
وأما حياته فقد كانت غنية بالأمراض والرحلات، والعلم تحقيقاً وتأليفاً وإبداعاً، فهي سلسلة من الحركة وأطوار من الارتقاء والعمل والبناء، في حياته البدنية أصيب بالعديد من الأمراض التي تعكس مقدار الألم والحزن بمقدار ما تظهر قوة بأس الرجل وقدرته على مواجهة الحياة بآلامها وأوجاعها. وربما رأى في الرحلات إلى بلاد الفرنجة كمالطا، وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وتركيا، وإلى بلاد العرب كتونس ومصر، وسيلة للخلاص من هذه الأمراض، إضافة إلى ما فيها من معاني الثقافة وسعة العقل بأنوار المعارف الحسية والنظرية التي يراها، وتلاقح العقول بمواجهة العلماء والمعالم الحضارية في تلك البلدان، وما فيها من محرضات الإبداع الشعري، كقصيدته التي مدح بها لويس نابليون قبل أن يصبح امبراطوراً:
مِنْ شَأْنِ أهلِ الهوى أن يفرطوا الغزلا
قبلَ المديحِ وإلا غازلوا الطللا
وفي هذا المطلع جانب علمي يشير إلى تفسير العلاقة بين الغزل والوقوف على الأطلال، ليؤكد جانب الحب للأرض (المنزل) والإنسان (المرأة) مما يناسب التفكير العقلي، ويرعى مقتضى الحال للملك الفرنسي في بعده الإنساني وتكوينه الغربي في الاعتماد على العقل في عصر النهضة والتنوير، وبلغت القصيدة ستين بيتاً.
ونبت على حاشية تلك الرحلة إلى فرنسا قصيدة مديح أخرى خص بها نابليون الثالث وبلغت واحداً وثلاثين بيتاً، مطلعها:
للويسَ نابليون حَقُّ السؤددِ
الملكُ إذْ هو في المعالي أوحدُ
فكان مدحه ملكاً من ملوك الفرنجة يسير على خطى الأعشى، ميمون بن قيس، الذي مدح ملك فارس في الجاهلية.
تنقسم مؤلفات الشدياق إلى أعمال مترجمة، وأخرى محققة، وثالثة مصنفة، ورابعة مبدعة كالشعر.
أمَّا ترجمته فقد كان مترجماً في صحيفة الوقائع بالقاهرة والجوائب بالآستانة، وعَرَّبَ مجلة الأحكام العدلية من اللغة التركية، وأسهم في ترجمة الكتاب المقدس ببريطانيا، وله ترجمة التوراة وتنقيحها في نحو سبعمئة صفحة وهي مفقودة، وترجم أسرار طبائع الحيوان لأرسطو.
وأما الكتب التي حققها فهي: «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار»، لابن بطوطة، و«الموازنة بين أبي تمام والبحتري»، و«رسائل الخوارزمي»، و«رسائل بديع الزمان الهمذاني»، و«ديوان البحتري»، و«رسالتا الصداقة والصديق»، و«العلوم» لأبي حيان التوحيدي، وجلها طبع في الآستانة.
أما ما ألَّفه من كتب فأهمها: «الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، و«كشف المخبا عن فنون أوربا»، وهما كتابان يشتبك فيهما العلم بالإبداع كما يشتبك الواقع بالحلم والخيال.
«سر الليال في القلب والإبدال»، و«الجاسوس على القاموس»، و«اللفيف في كل معنى طريف»، و« نحو اللغة الإنكليزية»، و«الصرف الفرنساوي»، و«منتهى العجب في خصائص لغة العرب»، و«النفائس في إنشاء أحمد بن فارس».
وأما تصنيفه الإبداعي فله كتاب في السيرة الذاتية اسمه «الساق على الساق فيما هو الفارياق»، وله ديوان شعر، ورسائل ومحررات أدبية،إضافة إلى مقالاته: كنز الرغائب في منتخبات الجوائب ـ سبع مجلدات، تخيرها ولده سليم، ومحاوراته أعلام عصره من أمثال إبراهيم اليازجي وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وسواهم.
هذا الغنى وهذا التنوع في العطاء العلمي والأدبي يثبت قول الشدياق: «إني كنت في زمن الصبا مولعاً بأربعة أشياء: أحدها فن الموسيقى.. والثاني تجويد الخط.. والثالث النظر في الكلام، فكنت إذا قرأت شعراً ـ مثلاً ـ حاولت أن أبدل لفظاً منه بلفظ آخر. والرابع النظم مع أن سني لم تزد إذ ذاك على ثلاث عشرة سنة، ولم أكن أعرف شيئاً من النحو..».
كانت حياة الشدياق رحلة من مرض إلى مرض، ومن بلد إلى آخر، ومن مذهب إلى آخر، ومن دين إلى دين، ومن حضارة إلى حضارة، ومن كتاب إلى كتاب، حتى توفي في الآستانة، ونقل جثمانه إلى الحازمية في لبنان حيث دفن فيها.
عبد الكريم حسين