الشيباني (محمد بن الحسن ـ)
(132ـ 189هـ/748 ـ 804م)
ولد محمد بن الحسن الشيباني في واسط، في الوقت الذي زالت فيه الدولة الأموية وبدأ أمر العباسين. كان أبوه الحسن بن فرقد جَزَرياً، من ديار ربيعة في شمال الشام. صار في جند الشام أيام الأمويين وسكن حرستا في غوطة دمشق، وأوتي بسطةً في الغنى ثم انتقل إلى واسط.
انتقل محمد بن الحسن الشيباني إلى الكوفة فنشأ بها. وكانت الكوفة آنئذ مركزاً من مراكز الفقه واللغة والنحو، كما كانت البصرة مركز الأدب واللغة والنحو، وكانت ملتقى كبار الفقهاء والنحاة واللغويين كأبي حنيفة[ر]، وأبي يوسف والثوري والكسائي والفراء وسَلَمة وثَعلْب.. فأثرت هذه البيئة في تكوين ثقافة محمد بن الحسن وجعلته ينصرف إلى اللغة والشعر والفقه والحديث. وساعده على ذلك أن أباه خلف له حين توفي ثلاثين ألف دينار أنفقها على ذلك. وقد اتصل بشيوخ كثيرين أخذ عنهم. فلازم أبا حنيفة أربع سنوات، فلما توفي هذا سنة 150هـ، أتم الفقه على أبي يوسف ثم رحل إلى الأوزاعي عالم أهل الشام وسفيان بن عُيَينة في مكة وعبد الله بن المبارك في خراسان وآخرين في البصرة أخذ عنهم الكثير. على أن أهم رحلاته كانت إلى مالك في المدينة. فقد لازمه هناك ثلاث سنوات وسمع منه «الموطأ» مرات، فجمع بذلك طريقة أهل الاستنباط في الكوفة وهم أهل الرأي إلى طريقة مالك وطريقة الأوزاعي. فلما عاد أشتُهر علمه فأقبل عليه الطلبة من كل مكان. وهناك اثنان كانا من أكثر من قصده شأناً هما أسد بن فرات فاتح صقلية والشافعي[ر] الذي قصده ولازمه واستنسخ مصنفاته، وأغدق محمد بن الحسن عليه من علمه ومن ماله. ثم عاد إلى مصر وأخرج مذهبه. وهذان الاثنان كان يفرد لهما مجالس خاصة يأخذان بها عنه. وثمة آخرون ممن لازموا الشيباني وكان لهم شأن كأبي حفص الكبير الذي أخذ عنه البخاري فقه أهل الرأي وأبي سليمان الجوخرجاني التي انتشرت به الكتب الستة، وأبي عُبيد القاسم بن سّلام ويحيى بن أكثم وإسماعيل بن توبة وغيرهم.
وقد أتيح لمحمد بن الحسن أن يتصل بالخليفة الرشيد فولاه قضاء الرقة، ثم عزله بعد فتواه في مسألة أمان الطالبي وغضب عليه حتى أصلحت بينهما زبيدة زوجة الرشيد فعاد إلى مكانته عنده وولاه قضاء القضاة قبل وفاته بمدة بعد أبي يوسف. كذلك أسهم الشيباني فيما ثار في عصره من مشكلات فأبدى رأيه في خلق القرآن والتجسيم وتفضيل الخلفاء الأربعة وغير ذلك حتى إذا كانت سنة 189هـ خرج الرشيد إلى الريّ ومعه محمد بن الحسن الشيباني والكسائي. فمات محمد بن الحسن هناك وقد قارب الستين من عمره ومات الكسائي فقال الرشيد: دفن الفقه واللغة في يوم واحد.
ظهرت ثقافة الشيباني كل الظهور في مؤلفاته فقد انعكست فيها براعته في العربية وفهمه أسرارها وعلمه في الفقه وبروزه فيه، ويظهر شأن محمد بن الحسن في الفقه في ناحيتين: الأولى أنه أكبر أصحاب أبي حنيفة الذين أثروا في نشر هذا المذهب بكل تواليفه، فقد كان من أكثر فقهاء القرن الثاني إنتاجاً وأصالةً وتداولاً، والثانية أن الكتب التي ألفت في الفقه كالمدّونة والأسدية والأم والحجة قد تأثر أصحابها به فأُلفت على ضوء كتبه كما يذهب المحققون.
وأوسع كتبه الأصل، «المعروف بالمبسوط»، وقد سرد فيه الفروع على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف مظهراً رأيه في كل مسألة و«الجامع الكبير»، الذي قيل أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، و«الزيادات» و«زيادة الزيادات» و«الجامع الصغير» و«السّير الصغير» وفيه يروي عن أبي حنيفة وفي «أمور السّير» و«الحجج» وهو أول مثال لما أُلف في اختلاف المذاهب و«كتاب الآثار» و«المخارج والحيل» و«الرّقيات» نسبة إلى الرقة وفيه يفرع على المسائل التي حكم فيها حين ولي القضاء وغير ذلك ولأكثر هذه المؤلفات شروح كثيرة.
أما آخر الكتب التي ألفها الشيباني وذاع صيتها في عالم الإسلام وعالم الآخرين فكان «السِّير الكبير» ويقصدون بالسير المغازي.
يقول المحقق الدكتور صلاح الدين المنجد، وعنه صدر آخر تحقيق للسير الكبير، إن سبب تأليفه كان ضرباً من المنافسة بين علماء العراق وعلماء الشام ويدور موضوع الكتاب حول جميع الأمور المتعلقة بالحرب وعلاقتها بالمشركين وأحكامها فهو في الحقيقة أهم أدبيات القانون الدولي للمسلمين في أمور الحرب. وعلى هذا تكلم محمد بن الحسن عن أهل الإسلام وأهل الحرب المشركين وبين أحكام الأسارى من الفريقين سواء أكانوا رجالاً أم نساءً أم أطفالاً، وإسلام المشركين، والأمان[ر] على اختلاف ضروبه والغاطة والمستأمنين، والرُسُل الذين يفدون إلى دار الإسلام من دار الحرب والحصانات التي يتمتعون بها، وغنائم الحرب، والصلح والتحكيم، والفداء، وأحكام السلاح والرقيق، والأراضي التي يستولي عليها أهل الحرب، في الحرب، وأهل الإسلام في دار الحرب، ونقض المعاهدات، وجرائم الحرب. هذا إلى مئات من المسائل المتعلقة بأهل الحرب وصلاتهم بالمسلمين في أيام السلم والحرب معاً.
وقد اعتمد الشيباني في ذلك كله على القرآن والأحاديث التي قيلت في مغازي الرسولr على إثر حوادث معينة وعلى الأحكام التي وقعت أثناء حروب المسلمين وفتوحهم. كما أعمل القياس في أحايين كثيرة. وجعل لذلك كله أحكاماً جيدة.
ومن هنا يبدو شأن هذا الكتاب في ناحية القانون الدولي من وجهة نظر الإسلام. وقد أعجب هارون الرشيد «بالسّير الكبير» وعدّه من مفاخر أيامه وأرسل ابنيه الأمين والمأمون يستمعانه على مؤلفه. وزاد الاهتمام «بالسّير الكبير» في أيام الدولة العثمانية فترجم إلى التركية أيام السلطان محمود خان واتخذ أساساً لأحكام المجاهدين في حروبهم مع الدول الأوربية. كما عني به الكثيرون فشرحوه وترجموه إلى اللغات العالمية الكبرى كالإنكليزية. وأهم شرح له بالإنكليزية هو شرح السرخسيّ والجمال الحصري. وقد كان الشيباني بتأليفه في أمور تتعلق بالقانون الدولي أسبق من غروشيوسGrotius الهولندي الذي عاش بين 1583 و1645م، وسمي أبا القانون الدولي لأنه بحث في بعض الأمور الخاصة بالقانون الدولي كما سبق من سبق غروشيوس أو عاصروه مثل فاسكويز Vasquez وفيتورياVitoria وسواريز Suarey، من فقهاء أوربا. لذلك فإنه من العدل تسمية محمد بن الحسن الشيباني أبا القانون الدولي العام[ر] وفرعه المتنامي في الأهمية القانون الدولي الإنساني[ر]. وقد أسست في غوتنجن بألمانيا أول جمعية علمية سميت جمعية الشيباني للقانون الدولي وضمت علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف بلاد العالم. وقد انتخب رئيساً لها الفقيه المصري الكبير وعضو محكمة العدل الدولية بين عامي 1946 و1964 عبد الحميد بهجت بدوي[ر]. كما انتخب الدكتور صلاح الدين المنجد نائباً للرئيس وترمي الجمعية إلى التعريف بالشيباني وإظهار آرائه ونشر مؤلفاته المتعلقة بالعلاقات الدولية. وصار في العالم اليوم أكثر من جمعية مماثلة وخاصة في أوربا وأمريكا.
إن محمد بن الحسن الشيباني واحد من أعلام القانون الدولي في التاريخ وهو من هدايا الأمة العربية للعالم في الفقه واللغة والنحو والدين.
محمد عزيز شكري
(132ـ 189هـ/748 ـ 804م)
ولد محمد بن الحسن الشيباني في واسط، في الوقت الذي زالت فيه الدولة الأموية وبدأ أمر العباسين. كان أبوه الحسن بن فرقد جَزَرياً، من ديار ربيعة في شمال الشام. صار في جند الشام أيام الأمويين وسكن حرستا في غوطة دمشق، وأوتي بسطةً في الغنى ثم انتقل إلى واسط.
انتقل محمد بن الحسن الشيباني إلى الكوفة فنشأ بها. وكانت الكوفة آنئذ مركزاً من مراكز الفقه واللغة والنحو، كما كانت البصرة مركز الأدب واللغة والنحو، وكانت ملتقى كبار الفقهاء والنحاة واللغويين كأبي حنيفة[ر]، وأبي يوسف والثوري والكسائي والفراء وسَلَمة وثَعلْب.. فأثرت هذه البيئة في تكوين ثقافة محمد بن الحسن وجعلته ينصرف إلى اللغة والشعر والفقه والحديث. وساعده على ذلك أن أباه خلف له حين توفي ثلاثين ألف دينار أنفقها على ذلك. وقد اتصل بشيوخ كثيرين أخذ عنهم. فلازم أبا حنيفة أربع سنوات، فلما توفي هذا سنة 150هـ، أتم الفقه على أبي يوسف ثم رحل إلى الأوزاعي عالم أهل الشام وسفيان بن عُيَينة في مكة وعبد الله بن المبارك في خراسان وآخرين في البصرة أخذ عنهم الكثير. على أن أهم رحلاته كانت إلى مالك في المدينة. فقد لازمه هناك ثلاث سنوات وسمع منه «الموطأ» مرات، فجمع بذلك طريقة أهل الاستنباط في الكوفة وهم أهل الرأي إلى طريقة مالك وطريقة الأوزاعي. فلما عاد أشتُهر علمه فأقبل عليه الطلبة من كل مكان. وهناك اثنان كانا من أكثر من قصده شأناً هما أسد بن فرات فاتح صقلية والشافعي[ر] الذي قصده ولازمه واستنسخ مصنفاته، وأغدق محمد بن الحسن عليه من علمه ومن ماله. ثم عاد إلى مصر وأخرج مذهبه. وهذان الاثنان كان يفرد لهما مجالس خاصة يأخذان بها عنه. وثمة آخرون ممن لازموا الشيباني وكان لهم شأن كأبي حفص الكبير الذي أخذ عنه البخاري فقه أهل الرأي وأبي سليمان الجوخرجاني التي انتشرت به الكتب الستة، وأبي عُبيد القاسم بن سّلام ويحيى بن أكثم وإسماعيل بن توبة وغيرهم.
وقد أتيح لمحمد بن الحسن أن يتصل بالخليفة الرشيد فولاه قضاء الرقة، ثم عزله بعد فتواه في مسألة أمان الطالبي وغضب عليه حتى أصلحت بينهما زبيدة زوجة الرشيد فعاد إلى مكانته عنده وولاه قضاء القضاة قبل وفاته بمدة بعد أبي يوسف. كذلك أسهم الشيباني فيما ثار في عصره من مشكلات فأبدى رأيه في خلق القرآن والتجسيم وتفضيل الخلفاء الأربعة وغير ذلك حتى إذا كانت سنة 189هـ خرج الرشيد إلى الريّ ومعه محمد بن الحسن الشيباني والكسائي. فمات محمد بن الحسن هناك وقد قارب الستين من عمره ومات الكسائي فقال الرشيد: دفن الفقه واللغة في يوم واحد.
ظهرت ثقافة الشيباني كل الظهور في مؤلفاته فقد انعكست فيها براعته في العربية وفهمه أسرارها وعلمه في الفقه وبروزه فيه، ويظهر شأن محمد بن الحسن في الفقه في ناحيتين: الأولى أنه أكبر أصحاب أبي حنيفة الذين أثروا في نشر هذا المذهب بكل تواليفه، فقد كان من أكثر فقهاء القرن الثاني إنتاجاً وأصالةً وتداولاً، والثانية أن الكتب التي ألفت في الفقه كالمدّونة والأسدية والأم والحجة قد تأثر أصحابها به فأُلفت على ضوء كتبه كما يذهب المحققون.
وأوسع كتبه الأصل، «المعروف بالمبسوط»، وقد سرد فيه الفروع على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف مظهراً رأيه في كل مسألة و«الجامع الكبير»، الذي قيل أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، و«الزيادات» و«زيادة الزيادات» و«الجامع الصغير» و«السّير الصغير» وفيه يروي عن أبي حنيفة وفي «أمور السّير» و«الحجج» وهو أول مثال لما أُلف في اختلاف المذاهب و«كتاب الآثار» و«المخارج والحيل» و«الرّقيات» نسبة إلى الرقة وفيه يفرع على المسائل التي حكم فيها حين ولي القضاء وغير ذلك ولأكثر هذه المؤلفات شروح كثيرة.
أما آخر الكتب التي ألفها الشيباني وذاع صيتها في عالم الإسلام وعالم الآخرين فكان «السِّير الكبير» ويقصدون بالسير المغازي.
يقول المحقق الدكتور صلاح الدين المنجد، وعنه صدر آخر تحقيق للسير الكبير، إن سبب تأليفه كان ضرباً من المنافسة بين علماء العراق وعلماء الشام ويدور موضوع الكتاب حول جميع الأمور المتعلقة بالحرب وعلاقتها بالمشركين وأحكامها فهو في الحقيقة أهم أدبيات القانون الدولي للمسلمين في أمور الحرب. وعلى هذا تكلم محمد بن الحسن عن أهل الإسلام وأهل الحرب المشركين وبين أحكام الأسارى من الفريقين سواء أكانوا رجالاً أم نساءً أم أطفالاً، وإسلام المشركين، والأمان[ر] على اختلاف ضروبه والغاطة والمستأمنين، والرُسُل الذين يفدون إلى دار الإسلام من دار الحرب والحصانات التي يتمتعون بها، وغنائم الحرب، والصلح والتحكيم، والفداء، وأحكام السلاح والرقيق، والأراضي التي يستولي عليها أهل الحرب، في الحرب، وأهل الإسلام في دار الحرب، ونقض المعاهدات، وجرائم الحرب. هذا إلى مئات من المسائل المتعلقة بأهل الحرب وصلاتهم بالمسلمين في أيام السلم والحرب معاً.
وقد اعتمد الشيباني في ذلك كله على القرآن والأحاديث التي قيلت في مغازي الرسولr على إثر حوادث معينة وعلى الأحكام التي وقعت أثناء حروب المسلمين وفتوحهم. كما أعمل القياس في أحايين كثيرة. وجعل لذلك كله أحكاماً جيدة.
ومن هنا يبدو شأن هذا الكتاب في ناحية القانون الدولي من وجهة نظر الإسلام. وقد أعجب هارون الرشيد «بالسّير الكبير» وعدّه من مفاخر أيامه وأرسل ابنيه الأمين والمأمون يستمعانه على مؤلفه. وزاد الاهتمام «بالسّير الكبير» في أيام الدولة العثمانية فترجم إلى التركية أيام السلطان محمود خان واتخذ أساساً لأحكام المجاهدين في حروبهم مع الدول الأوربية. كما عني به الكثيرون فشرحوه وترجموه إلى اللغات العالمية الكبرى كالإنكليزية. وأهم شرح له بالإنكليزية هو شرح السرخسيّ والجمال الحصري. وقد كان الشيباني بتأليفه في أمور تتعلق بالقانون الدولي أسبق من غروشيوسGrotius الهولندي الذي عاش بين 1583 و1645م، وسمي أبا القانون الدولي لأنه بحث في بعض الأمور الخاصة بالقانون الدولي كما سبق من سبق غروشيوس أو عاصروه مثل فاسكويز Vasquez وفيتورياVitoria وسواريز Suarey، من فقهاء أوربا. لذلك فإنه من العدل تسمية محمد بن الحسن الشيباني أبا القانون الدولي العام[ر] وفرعه المتنامي في الأهمية القانون الدولي الإنساني[ر]. وقد أسست في غوتنجن بألمانيا أول جمعية علمية سميت جمعية الشيباني للقانون الدولي وضمت علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف بلاد العالم. وقد انتخب رئيساً لها الفقيه المصري الكبير وعضو محكمة العدل الدولية بين عامي 1946 و1964 عبد الحميد بهجت بدوي[ر]. كما انتخب الدكتور صلاح الدين المنجد نائباً للرئيس وترمي الجمعية إلى التعريف بالشيباني وإظهار آرائه ونشر مؤلفاته المتعلقة بالعلاقات الدولية. وصار في العالم اليوم أكثر من جمعية مماثلة وخاصة في أوربا وأمريكا.
إن محمد بن الحسن الشيباني واحد من أعلام القانون الدولي في التاريخ وهو من هدايا الأمة العربية للعالم في الفقه واللغة والنحو والدين.
محمد عزيز شكري