سوسور (فردينان دي ـ)
(1857ـ1913)
فردينان دي سوسور Ferdinand de Saussure عالم لسانيات سويسري ولد في جنيف في أسرة أرستقراطية تعاقب فيها العلماء والباحثون، فكان منهم الفيزيائيون والكيميائيون وعلماء الطبيعة، كان أبوه هنري دي سوسور عالم طبيعة ذائع الصيت في عصره. بدأ سوسور عام 1875 بدراسة الفيزياء والكيمياء، لكنه أظهر في سن مبكرة ميلاً واضحاً للدراسات اللسانية فكتب «مقالة في اللغات» Essai sur les langues وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره متأثراً بلسانيات القرن الثامن عشر النظرية. توجه عام 1876 إلى مدينة لايبزغ حيث درس طوال أربعة أعوام اللغات السنسكريتية والإيرانية واللتوانية، والإيرلندية والسلافية القديمتين، إلى جانب معرفته باللغات اليونانية واللاتينية والفرنسية والإنكليزية والألمانية. نال في لايبزغ شهادة الدكتوراه عام 1880 ثم أقام في باريس بين عامي 1880ـ1891 حيث درّس في مدرسة الدراسات العليا، وأصبح عام 1882 نائباً لرئيس تحرير مجلة «بحوث جمعية اللسانيات» Mémoires de la société de linguistique، التي نشر فيها مقالات وملاحظات عدة كان لها الفضل، إضافة لمحاضراته الأكاديمية، في بلورة آرائه حول «نظام» اللغة. عاد سوسور إلى جنيف عام 1891 ليدرّس في جامعتها اللغة السنسكريتية ونحو اللغات الهندية الأوربية المقارن. ألقى بين عام 1907 و1910 محاضراته في اللسانيات العامة التي كانت أساس شهرته. لكنه أحجم منذ ذاك الحين وحتى وفاته عن إعلان أفكاره على الملأ، فقد انغلق تدريجياً على نفسه إلى حد التزام الصمت التام، حتى أن مراسلاته تنم عن شعور بالإحباط واليأس الفكري. يُجمع كل من بينفينيست ودومورو ومارتينيه على أن سبب حالته النفسية هو وسواس الكمال الذي سيطر عليه وإدراكه أن المرء مهما أوتي من العلم والعبقرية فإنه عاجز وحده عن تأسيس علم اللسانيات العام. وتوفي سوسور بسرطان الحنجرة.
كتب سوسور «بحث في النظام البدائي للأحرف الصوتية في اللغات الهندية الأوربية» (1879) وتقدم به للحصول على درجة الماجستير، وغدا بفضله وهو في الحادية والعشرين من عمره أحد الأسماء اللامعة في عالم اللسانيات، تناول فيه مسألة شمولية ظلت عصية على المنهج التقليدي المقارن، وهي مسألة النظام الصوتي في اللغات الهندية ـ الأوربية (مجموعة اللغات الأوربية والآسيوية المتحدّرة من أصل مشترك). افترضت نظريته وجود حرف صوتي A عرّفه على أنه عامل شبه صائت (أي أنه يتمتع بخصائص صائتة وصامتة على حد سواء)، تماماً كما هو حال الأحرف شبه الصوتية /w/ و/y/. أتاح افتراض وجود هذا العنصر إعطاء تفسير بسيط نسبياً لظاهرة التعاقب الصوتي في اللغات الهندية الأوربية. وقد ثبت وجود هذا العنصر الافتراضي حين اكتشف جيري كوريكوفيتش عام 1927 وجود ما يقابله في اللغة الحثية، وهو الحرف الحنجري A، لكن أهمية هذا البحث تكمن في أنه اعتمد منهجاً مبنياً على دراسة العلاقات الداخلية الوظيفية البحتة بين عناصر النظام، من دون اللجوء إلى وصف صوتي لها، مبشراً بالمفاهيم النظرية التي صيغت فيما بعد بعنوان «محاضرات في اللسانيات العامة».
لم يقم سوسور بتأليف أي كتاب ضمّنه نظريته في اللسانيات، فقام طلابه بعد وفاته بتجميع المحاضرات التي ألقاها في جامعة جنيف بين عامي 1907 و1910 ونشروها بعنوان «محاضرات في اللسانيات العامة»، وهذا الكتاب هو الذي خلد ذكراه. تحتوي هذه المحاضرات على نقد شديد لفقه اللغة وعلم اللغة التاريخي المقارن، وتقدم مجموعة من المقترحات النظرية والمنهجية التي تهدف إلى التعريف بمادة علم اللسانيات وموقعها بين سائر العلوم الاجتماعية الأخرى والمفاهيم الأساسية التي تتيح تحديد المادة اللغوية موضوع البحث وتحليلها تحليلاً دقيقاً.
عرّف سوسور اللغة على أنها نظام مجرد ورفض المفاهيم السائدة التي اعتمدت في تفسير الظواهر اللغوية على عوامل ومعايير خارجية تاريخية وجغرافية وعرقية وغيرها، وأسس ما يسمى بـ اللسانيات الداخلية linguistique interne التي تقوم على اعتماد اللغة نفسها كنظام قائم بذاته وكأساس ومعيار في دراسة سائر المظاهر اللغوية، فدعا للبدء أولاً بتعريف اللغة وفق منهج يسمح بالتعرف على مكوناتها الأساسية، ومن ثم الانتقال إلى إعادة دمج دراسة المظاهر الخارجية المرتبطة باللغة بمختلف أشكالها ومظاهرها.
ميّز سوسور نظرياً بين اللغة langueوالكلام parole؛ وبين العلامة signe والدالsignifiant والمدلول signifié، وبين الآنيsynchronique والتطوري diachronique، بين النظام التركيبي والنظام الصرفي، وقد سمح هذا التمييز باستخلاص أولى النتائج المنهجية لنظريته في اللغة.
لم يتوصل سوسور لتعريف محدد للصوتم phonème (أصغر وحدة صوتية في الكلام) أو الكليمة morphème (أصغر وحدة معنى في الكلام)، لكنه استخلص المفاهيم النظرية الأساسية التي سمحت فيما بعد بالتوصل إلى تعاريف محددة لهذين المصطلحين وأسست للسانيات البنيوية. كما أسس لمنهج علمي في اللسانيات التي باتت تتناول الظواهر اللغوية المحددة بالشرح والتحليل والتعليل ولا تكتفي بالجانب الوصفي، وثار على المنهج التقليدي المقارن الذي كان سائداً في الدراسات اللغوية والذي اقتصر على تناول الظواهر اللغوية في سياق تاريخي.
تجاوز فكر سوسور اليوم إلى أبعد الحدود نطاق اللسانيات، فقد بدأ تلامذته في باريس وجنيف بنشر هذا الفكر على نطاق ضيق وبأشكال متعددة، ثم ما لبث أن سيطر شيئاً فشيئاً على المدارس البنيوية في أوربا، وعلى نحو غير مباشر على المدرسة الأمريكية في بداياتها. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، اجتاحت المنهجية السوسورية في التفكير ميدان العلوم الإنسانية، وعلى الأخص علم الإنسان والنقد الأدبي والتحليل النفسي والفلسفة.
لبانة مشوّح
(1857ـ1913)
كتب سوسور «بحث في النظام البدائي للأحرف الصوتية في اللغات الهندية الأوربية» (1879) وتقدم به للحصول على درجة الماجستير، وغدا بفضله وهو في الحادية والعشرين من عمره أحد الأسماء اللامعة في عالم اللسانيات، تناول فيه مسألة شمولية ظلت عصية على المنهج التقليدي المقارن، وهي مسألة النظام الصوتي في اللغات الهندية ـ الأوربية (مجموعة اللغات الأوربية والآسيوية المتحدّرة من أصل مشترك). افترضت نظريته وجود حرف صوتي A عرّفه على أنه عامل شبه صائت (أي أنه يتمتع بخصائص صائتة وصامتة على حد سواء)، تماماً كما هو حال الأحرف شبه الصوتية /w/ و/y/. أتاح افتراض وجود هذا العنصر إعطاء تفسير بسيط نسبياً لظاهرة التعاقب الصوتي في اللغات الهندية الأوربية. وقد ثبت وجود هذا العنصر الافتراضي حين اكتشف جيري كوريكوفيتش عام 1927 وجود ما يقابله في اللغة الحثية، وهو الحرف الحنجري A، لكن أهمية هذا البحث تكمن في أنه اعتمد منهجاً مبنياً على دراسة العلاقات الداخلية الوظيفية البحتة بين عناصر النظام، من دون اللجوء إلى وصف صوتي لها، مبشراً بالمفاهيم النظرية التي صيغت فيما بعد بعنوان «محاضرات في اللسانيات العامة».
لم يقم سوسور بتأليف أي كتاب ضمّنه نظريته في اللسانيات، فقام طلابه بعد وفاته بتجميع المحاضرات التي ألقاها في جامعة جنيف بين عامي 1907 و1910 ونشروها بعنوان «محاضرات في اللسانيات العامة»، وهذا الكتاب هو الذي خلد ذكراه. تحتوي هذه المحاضرات على نقد شديد لفقه اللغة وعلم اللغة التاريخي المقارن، وتقدم مجموعة من المقترحات النظرية والمنهجية التي تهدف إلى التعريف بمادة علم اللسانيات وموقعها بين سائر العلوم الاجتماعية الأخرى والمفاهيم الأساسية التي تتيح تحديد المادة اللغوية موضوع البحث وتحليلها تحليلاً دقيقاً.
عرّف سوسور اللغة على أنها نظام مجرد ورفض المفاهيم السائدة التي اعتمدت في تفسير الظواهر اللغوية على عوامل ومعايير خارجية تاريخية وجغرافية وعرقية وغيرها، وأسس ما يسمى بـ اللسانيات الداخلية linguistique interne التي تقوم على اعتماد اللغة نفسها كنظام قائم بذاته وكأساس ومعيار في دراسة سائر المظاهر اللغوية، فدعا للبدء أولاً بتعريف اللغة وفق منهج يسمح بالتعرف على مكوناتها الأساسية، ومن ثم الانتقال إلى إعادة دمج دراسة المظاهر الخارجية المرتبطة باللغة بمختلف أشكالها ومظاهرها.
ميّز سوسور نظرياً بين اللغة langueوالكلام parole؛ وبين العلامة signe والدالsignifiant والمدلول signifié، وبين الآنيsynchronique والتطوري diachronique، بين النظام التركيبي والنظام الصرفي، وقد سمح هذا التمييز باستخلاص أولى النتائج المنهجية لنظريته في اللغة.
لم يتوصل سوسور لتعريف محدد للصوتم phonème (أصغر وحدة صوتية في الكلام) أو الكليمة morphème (أصغر وحدة معنى في الكلام)، لكنه استخلص المفاهيم النظرية الأساسية التي سمحت فيما بعد بالتوصل إلى تعاريف محددة لهذين المصطلحين وأسست للسانيات البنيوية. كما أسس لمنهج علمي في اللسانيات التي باتت تتناول الظواهر اللغوية المحددة بالشرح والتحليل والتعليل ولا تكتفي بالجانب الوصفي، وثار على المنهج التقليدي المقارن الذي كان سائداً في الدراسات اللغوية والذي اقتصر على تناول الظواهر اللغوية في سياق تاريخي.
تجاوز فكر سوسور اليوم إلى أبعد الحدود نطاق اللسانيات، فقد بدأ تلامذته في باريس وجنيف بنشر هذا الفكر على نطاق ضيق وبأشكال متعددة، ثم ما لبث أن سيطر شيئاً فشيئاً على المدارس البنيوية في أوربا، وعلى نحو غير مباشر على المدرسة الأمريكية في بداياتها. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، اجتاحت المنهجية السوسورية في التفكير ميدان العلوم الإنسانية، وعلى الأخص علم الإنسان والنقد الأدبي والتحليل النفسي والفلسفة.
لبانة مشوّح