"السد": هل نحتاج للتحرر من بعض الأحلام تمسكًا بالنجاة؟
أريج جمال
سينما
"السد" يُذكرنا إلى حد ما بالفيلم الشهير "المومياء"
شارك هذا المقال
حجم الخط
عندما عُرض فيلم "السد" غير مرة العام الماضي، وفي أمكنة عدة، كحين عرضه في مهرجان كان في فرنسا، أو حين مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي، كان يُمكن مشاهدته، بلا شك، على ضوء التغييرات السياسية التي أعقبت ثورة العام 2019، وكذلك على ضوء التهديد الذي يتعرض له اليوم نهر النيل إثر بناء سد النهضة الإثيوبي. الفيلم الذي تدور أحداثه في السودان، بالقرب من سد مروى، ويمزج أسلوبه بين الدرامي والتسجيلي، تعاشر فيه الكاميرا عمال الطوب الحقيقيين قرب السد، وتتلصص على الطريقة التي يؤدون بهم أعمالهم التي لا تنتهي، كما يؤدي دور البطولة فيه عامل من بينهم، وليس مجرد ممثل سينمائي يُحاكيهم، هو ماهر الخير، وقد فاز عن هذا الدور بجائزة أحسن ممثل في الدورة الماضية من مهرجان القاهرة السينمائي. اليوم، ربما تُملي علينا الحرب الدائرة بين طرفي الصراع في الخرطوم قراءة أخرى إضافية للعمل، كما تُثير في أذهاننا مزيدًا من الأسئلة عن جدوى الثورات إن لم تستطع تغيير حيوات أشخاص مثل هذا العامل، إن لم تستطع أن تسحبهم من الهامش إلى المتن. عُرض الفيلم مؤخرًا ضمن فعالية "أيام القاهرة السينمائية" في سينما زاوية بوسط البلد، وهو إنتاج مشترك بين فرنسا والسودان ولبنان، من إخراج اللبناني علي شرّي، والسيناريو كتبه المخرج بالاشتراك مع جو فروا جريزون، وبيرتران بونيلو.
في هذا الفيلم، على الأقل، مثَّل ماهر، هو وزملاؤه ممن يعيشون ظروفًا مشابهة، مثّلوا جميعًا المتن، على الرغم من التأثير الواضح لأسلوب التغريب السينمائي، إذ يبدو من العسير على المُشاهِد، حتى نهاية الفيلم تقريبًا، أن يفهم دوافع ماهر، أو يستوعب تمامًا أهدافه. يبدأ السد، بهذه الكلمات: "في مكان ما، على طول ضفاف النيل العظيم، في ظل سد هائل، هناك رجل شكَّل الطين حياته..."، والطين بدلالته المباشرة كأساس لفعل البناء كله تقريبًا، ودلالته غير المباشرة على أصل العنصر الإنساني، هو رفيق حياة ماهر، وهو مع الطبيعة، ممثلة في النهر والصحراء والمطر وغيرها من عناصر، هُم كل كينونة هذا الرجل، وأقصى حدوده. نحن في الحياة العامة نحتاج إلى عمل ماهر، لكننا لا نراه حين يعيش متربصًا بأوانات فتح وإغلاق أبواب سد مروى، أو حين يتعامل مع سقوط المطر، ومزاجات أصحاب الأعمال. ماهر فعلًا يعيش، مع رفاقه من عمال الطوب الآخرين، في عزلة لا يؤنسه فيها إلا صوت الراديو الذي يُذيع الأخبار عن مظاهرات يخرج فيها "الشعب الغاضب لارتفاع أسعار الخبز". ويتفاعل ماهر مع الأخبار، على الرغم من بُعده المكاني عن العاصمة الخرطوم التي تصل منها هذه الأخبار. إنه أيضًا غاضب، سعيد بالثورة، يشي بذلك تفاعل عناصر الكادر مع صوت الهتافات، كالقِدر الذي يغلي على النار، وأضواء الكهرباء الثلاثية وهي ترقص مع إيقاع المظاهرات. وكيف يُمكن ألا ينضم ماهر للثورة وجدانيًا، من قلب هذه الحياة القاسية؟
تلك الثورة المذكورة قد لا يكون لها محل إلا في الصوت المُنبعث من الراديو، الذي يحرص ماهر على رفقته. وهذا الذِكر يعده بالحياة، حياة أخرى غير التي يعيشها، ربما تكون حلمًا من بين أحلام أخرى تظل محجوبة عنّا، لكننا نستطيع أن نتخيّل شيئًا منها، ونحن نرى ماهر راقدًا مثلًا فوق التراب في الصحراء يستمع إلى أغنية عاطفية، أو ونحن نسمع صوت مُذيعة الراديو الأنثوي الرقيق وهي تتحدث وتؤنسنا (يكاد مُحيط ماهر، ومعظم المشاهد في الفيلم، تخلو تقريبًا من النساء)، أو في مكالمة قصيرة جدًا مع المحبوبة، ولن نراه يُكلمها مرة أخرى.
جرح ماهر!
مُبكرًا في الفيلم، الذي تتخذ فيه الكاميرا طابعًا تأمليًا، تظهر لازمتان سترافقان ماهر حتى نهاية رحلته. الأولى هي جرح ظهره، الذي لا يكشف عنه في البداية، فقط يحاول أن يداويه بمياه صنبور يتفرع من النهر. لا يتكلم عنه، ولا يسعى إلى علاجه إلا تقريبًا في النصف الثاني من رحلته، عندما يصل إلى أسوأ درجات التقيُّح. يستدعي هذا الجرح، الذي لا نعرف مُسببه مباشرة، لكننا نستطيع مثلًا أن نتخيّله كإصابة عمل، أو لحادثة وقعت من التعامل مع النهر، تستدعي رائحته، ذلك الحيوان بين الكلب والذئب، الذي يراقب ماهر، ويتربص به طوال الفيلم. وينسجم تمامًا مع صوت النسور الجارحة، عندما يسافر ماهر في منطقة أبعد من الصحراء عبر الدراجة النارية. باختصار، هذا الجرح، يجتذب تلقائيًا الموت إلى ماهر، وهو موت يلوّح لنا به صُناع الفيلم مرتين، مرة عندما يختفي فجأة صاحب الدراجة النارية، الذي كان يرفض أحيانًا، أو يقبل بعد طول إلحاح، إعارة "العجلة" لماهر، ومرة ثانية بالموت المُفجع لخميس، أحد العمال الآخرين، ويعثرون على جثته في النهر.
في طبيعة قاسية مثل هذه، وبعمل بلا ضمانات، ومن دون حتى أجر مُنصف، فالموت قد يكون على بُعد خطوة واحدة لا أكثر من الحياة.
اللازمة الثانية لماهر هي ذلك البناء الطيني الذي يعكف عليه، والذي يخترق ماهر الصحراءَ لمسافة طويلة بعيدة من النهر كي يصل إليه. ما هو هذا البناء؟ أهو أثر، كالهرم مثلًا، يُريد ماهر أن يتركه ليدل على حياته الكادحة والماهرِة، على طريقته؟ أهو بيت صغير يريد ماهر أن يرتاح فيه لاحقًا؟ لا يُجيبنا الفيلم. لكنه على أي حال، يختزل أحلام ماهر جميعها، إذ يتجه ماهر كل مرة إليه بخشوع وشغف، لا حد لهما. هكذا أيضًا، سوف تتشكل مأساة ماهر، من ضياع هذا الأثر، بيد الطبيعة الباطشة، فالطين يُدمره بكل سهولة أول سقوط غزير لمياه الأمطار.
أكانت محجوبة عن ماهر هذه المعرفة، أم أنه تجاهلها؟
ماهر الغريب!
لن نتمكن من رؤية وجه ماهر إلا بعد ثلث ساعة تقريبًا من الفيلم. من جانب آخر، سوف نتعرّف على ذلك البناء الطيني، وارتباط ماهر النفسي به للمرة الأولى عبر مشهد طويل تُتابع فيه الكاميرا ظل ماهر، وظل هذ الأثر، وظل حركة التشييد. لنُضف إلى ذلك التأثير الغامض للموسيقى التي صممها روب، وقلة عدد الجمل الحوارية عمومًا، والمشاهد الصامتة أغلب الوقت، حتى إنه في أحلك أحلام ماهر، أو هل نقول كوابيسه، نستمع إلى صوت هذا الأثر، أو البناء، الصوت الذي يُشبه مزيجًا من الوحوش المُفترسة إن صار لها لسان ونطقت، وهو يسائله: "لماذا تهيم مثل مسكين تائه؟ أنت تطارد حلمًا مستحيلًا..."، ولا نسمع صوتًا لماهر. ماهر الذي يبدو بلا تاريخ، يملك فقط الحاضر، وحتى المُستقبل محل شك. إنه غريب كُليًا، علينا كمُشاهدين، وربما حتى على نفسه.
على الرغم من أن "السد" قد يُذكرنا إلى حد ما بالفيلم الشهير "المومياء"، فإن ماهر هنا لا يملك طلاقة لسان بطل شادي عبد السلام الحائر، الذي يبحث عن جواب لأسئلته. ليست مشكلة ماهر في الكلام، ولا في الأسئلة. وحتى الثورة التي تبدو مثل يوم لا ينزل فيه ماهر إلى النهر من شدة اضطرابه، فلا تبدو قِبلته. سواء نجحت، أو فشلت، لن تتغير أحواله. هذا الوعي الحاد والغريزي عند ماهر يجعلنا أيضًا نتساءل عن جدوى الثورات، أو على الأقل، لنُفكر كيف يمكنها أن تنتشل أمثال ماهر من هذا الهامش المعزول؟
يُمكننا اعتبار "السد" فيلمًا نضاليًا، لا سيما في قصة العامل خميس، الذي لا يحصل على حقه المادي من مُشغله، وهو تعيس الحظ إلى حد أن يخطفه تيار النهر، أو يُرديه قتيلًا، هذا إن استبعدنا احتمال انتحاره. يزيد مشهد تغسيل خميس قبل تكفينه، مُحاطًا بزملائه، من الشعور العام وغير المحتمل بالظلم. ويُمكن القول أيضًا إن "السد"، برغم طابعه التجريدي، وتركه كثيرًا من الأسئلة مفتوحة بلا جواب، يتحلى بنوع من البصيرة في قراءة المُستقبل، ونُشاهد بعد أن يكون الراديو قد أعلن انتصار الثورة ماهرَ يترقب حركة ضابط البوليس المكلف بالحراسة، وهو نعسان لا يلاحظ حضوره، ولا يفيق الضابط إلا حين يشعر بالبندقية تنزلق من بين يديه، فيهب لاستعادتها. كأنما كان هذا المشهد يستقرئ الوضع الحالي في السودان.
على أن المشهد الأخير في هذا الفيلم، ويتبع انهيار حُلم البطل متمثلًا في تحطُّم بنائه الطيني، وما تلا ذلك من اشتعال غضب ماهر ضد كل مفردات بيئته، وتواصل هذا الغضب لفترة من الزمن؛ يأتي ليتوِّج هذا الفيلم، ورحلة ماهر. هناك نرى الشمس، جلية في السماء، وماهر كأنه يسبح في اتجاهها. ولا تبدو السباحة كانتحار. على العكس تبدو الشمس نفسها وكأنها هدفه الجديد. يبقى المشهد مفتوحًا على التأويل، ومُحررًا لماهر... ألا يكون المرء أحيانًا في حاجة للتحرر من بعض أحلامه، في سبيل تمسكه بالنجاة؟
أريج جمال
سينما
"السد" يُذكرنا إلى حد ما بالفيلم الشهير "المومياء"
شارك هذا المقال
حجم الخط
عندما عُرض فيلم "السد" غير مرة العام الماضي، وفي أمكنة عدة، كحين عرضه في مهرجان كان في فرنسا، أو حين مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي، كان يُمكن مشاهدته، بلا شك، على ضوء التغييرات السياسية التي أعقبت ثورة العام 2019، وكذلك على ضوء التهديد الذي يتعرض له اليوم نهر النيل إثر بناء سد النهضة الإثيوبي. الفيلم الذي تدور أحداثه في السودان، بالقرب من سد مروى، ويمزج أسلوبه بين الدرامي والتسجيلي، تعاشر فيه الكاميرا عمال الطوب الحقيقيين قرب السد، وتتلصص على الطريقة التي يؤدون بهم أعمالهم التي لا تنتهي، كما يؤدي دور البطولة فيه عامل من بينهم، وليس مجرد ممثل سينمائي يُحاكيهم، هو ماهر الخير، وقد فاز عن هذا الدور بجائزة أحسن ممثل في الدورة الماضية من مهرجان القاهرة السينمائي. اليوم، ربما تُملي علينا الحرب الدائرة بين طرفي الصراع في الخرطوم قراءة أخرى إضافية للعمل، كما تُثير في أذهاننا مزيدًا من الأسئلة عن جدوى الثورات إن لم تستطع تغيير حيوات أشخاص مثل هذا العامل، إن لم تستطع أن تسحبهم من الهامش إلى المتن. عُرض الفيلم مؤخرًا ضمن فعالية "أيام القاهرة السينمائية" في سينما زاوية بوسط البلد، وهو إنتاج مشترك بين فرنسا والسودان ولبنان، من إخراج اللبناني علي شرّي، والسيناريو كتبه المخرج بالاشتراك مع جو فروا جريزون، وبيرتران بونيلو.
في هذا الفيلم، على الأقل، مثَّل ماهر، هو وزملاؤه ممن يعيشون ظروفًا مشابهة، مثّلوا جميعًا المتن، على الرغم من التأثير الواضح لأسلوب التغريب السينمائي، إذ يبدو من العسير على المُشاهِد، حتى نهاية الفيلم تقريبًا، أن يفهم دوافع ماهر، أو يستوعب تمامًا أهدافه. يبدأ السد، بهذه الكلمات: "في مكان ما، على طول ضفاف النيل العظيم، في ظل سد هائل، هناك رجل شكَّل الطين حياته..."، والطين بدلالته المباشرة كأساس لفعل البناء كله تقريبًا، ودلالته غير المباشرة على أصل العنصر الإنساني، هو رفيق حياة ماهر، وهو مع الطبيعة، ممثلة في النهر والصحراء والمطر وغيرها من عناصر، هُم كل كينونة هذا الرجل، وأقصى حدوده. نحن في الحياة العامة نحتاج إلى عمل ماهر، لكننا لا نراه حين يعيش متربصًا بأوانات فتح وإغلاق أبواب سد مروى، أو حين يتعامل مع سقوط المطر، ومزاجات أصحاب الأعمال. ماهر فعلًا يعيش، مع رفاقه من عمال الطوب الآخرين، في عزلة لا يؤنسه فيها إلا صوت الراديو الذي يُذيع الأخبار عن مظاهرات يخرج فيها "الشعب الغاضب لارتفاع أسعار الخبز". ويتفاعل ماهر مع الأخبار، على الرغم من بُعده المكاني عن العاصمة الخرطوم التي تصل منها هذه الأخبار. إنه أيضًا غاضب، سعيد بالثورة، يشي بذلك تفاعل عناصر الكادر مع صوت الهتافات، كالقِدر الذي يغلي على النار، وأضواء الكهرباء الثلاثية وهي ترقص مع إيقاع المظاهرات. وكيف يُمكن ألا ينضم ماهر للثورة وجدانيًا، من قلب هذه الحياة القاسية؟
تلك الثورة المذكورة قد لا يكون لها محل إلا في الصوت المُنبعث من الراديو، الذي يحرص ماهر على رفقته. وهذا الذِكر يعده بالحياة، حياة أخرى غير التي يعيشها، ربما تكون حلمًا من بين أحلام أخرى تظل محجوبة عنّا، لكننا نستطيع أن نتخيّل شيئًا منها، ونحن نرى ماهر راقدًا مثلًا فوق التراب في الصحراء يستمع إلى أغنية عاطفية، أو ونحن نسمع صوت مُذيعة الراديو الأنثوي الرقيق وهي تتحدث وتؤنسنا (يكاد مُحيط ماهر، ومعظم المشاهد في الفيلم، تخلو تقريبًا من النساء)، أو في مكالمة قصيرة جدًا مع المحبوبة، ولن نراه يُكلمها مرة أخرى.
جرح ماهر!
مُبكرًا في الفيلم، الذي تتخذ فيه الكاميرا طابعًا تأمليًا، تظهر لازمتان سترافقان ماهر حتى نهاية رحلته. الأولى هي جرح ظهره، الذي لا يكشف عنه في البداية، فقط يحاول أن يداويه بمياه صنبور يتفرع من النهر. لا يتكلم عنه، ولا يسعى إلى علاجه إلا تقريبًا في النصف الثاني من رحلته، عندما يصل إلى أسوأ درجات التقيُّح. يستدعي هذا الجرح، الذي لا نعرف مُسببه مباشرة، لكننا نستطيع مثلًا أن نتخيّله كإصابة عمل، أو لحادثة وقعت من التعامل مع النهر، تستدعي رائحته، ذلك الحيوان بين الكلب والذئب، الذي يراقب ماهر، ويتربص به طوال الفيلم. وينسجم تمامًا مع صوت النسور الجارحة، عندما يسافر ماهر في منطقة أبعد من الصحراء عبر الدراجة النارية. باختصار، هذا الجرح، يجتذب تلقائيًا الموت إلى ماهر، وهو موت يلوّح لنا به صُناع الفيلم مرتين، مرة عندما يختفي فجأة صاحب الدراجة النارية، الذي كان يرفض أحيانًا، أو يقبل بعد طول إلحاح، إعارة "العجلة" لماهر، ومرة ثانية بالموت المُفجع لخميس، أحد العمال الآخرين، ويعثرون على جثته في النهر.
"يبدأ الفيلم بهذه الكلمات: "في مكان ما، على طول ضفاف النيل العظيم، في ظل سد هائل، هناك رجل شكَّل الطين حياته"" |
في طبيعة قاسية مثل هذه، وبعمل بلا ضمانات، ومن دون حتى أجر مُنصف، فالموت قد يكون على بُعد خطوة واحدة لا أكثر من الحياة.
اللازمة الثانية لماهر هي ذلك البناء الطيني الذي يعكف عليه، والذي يخترق ماهر الصحراءَ لمسافة طويلة بعيدة من النهر كي يصل إليه. ما هو هذا البناء؟ أهو أثر، كالهرم مثلًا، يُريد ماهر أن يتركه ليدل على حياته الكادحة والماهرِة، على طريقته؟ أهو بيت صغير يريد ماهر أن يرتاح فيه لاحقًا؟ لا يُجيبنا الفيلم. لكنه على أي حال، يختزل أحلام ماهر جميعها، إذ يتجه ماهر كل مرة إليه بخشوع وشغف، لا حد لهما. هكذا أيضًا، سوف تتشكل مأساة ماهر، من ضياع هذا الأثر، بيد الطبيعة الباطشة، فالطين يُدمره بكل سهولة أول سقوط غزير لمياه الأمطار.
أكانت محجوبة عن ماهر هذه المعرفة، أم أنه تجاهلها؟
ماهر الغريب!
لن نتمكن من رؤية وجه ماهر إلا بعد ثلث ساعة تقريبًا من الفيلم. من جانب آخر، سوف نتعرّف على ذلك البناء الطيني، وارتباط ماهر النفسي به للمرة الأولى عبر مشهد طويل تُتابع فيه الكاميرا ظل ماهر، وظل هذ الأثر، وظل حركة التشييد. لنُضف إلى ذلك التأثير الغامض للموسيقى التي صممها روب، وقلة عدد الجمل الحوارية عمومًا، والمشاهد الصامتة أغلب الوقت، حتى إنه في أحلك أحلام ماهر، أو هل نقول كوابيسه، نستمع إلى صوت هذا الأثر، أو البناء، الصوت الذي يُشبه مزيجًا من الوحوش المُفترسة إن صار لها لسان ونطقت، وهو يسائله: "لماذا تهيم مثل مسكين تائه؟ أنت تطارد حلمًا مستحيلًا..."، ولا نسمع صوتًا لماهر. ماهر الذي يبدو بلا تاريخ، يملك فقط الحاضر، وحتى المُستقبل محل شك. إنه غريب كُليًا، علينا كمُشاهدين، وربما حتى على نفسه.
على الرغم من أن "السد" قد يُذكرنا إلى حد ما بالفيلم الشهير "المومياء"، فإن ماهر هنا لا يملك طلاقة لسان بطل شادي عبد السلام الحائر، الذي يبحث عن جواب لأسئلته. ليست مشكلة ماهر في الكلام، ولا في الأسئلة. وحتى الثورة التي تبدو مثل يوم لا ينزل فيه ماهر إلى النهر من شدة اضطرابه، فلا تبدو قِبلته. سواء نجحت، أو فشلت، لن تتغير أحواله. هذا الوعي الحاد والغريزي عند ماهر يجعلنا أيضًا نتساءل عن جدوى الثورات، أو على الأقل، لنُفكر كيف يمكنها أن تنتشل أمثال ماهر من هذا الهامش المعزول؟
"فاز الممثل ماهر الخير عن دوره في "السد" بجائزة أحسن ممثل في الدورة الماضية من مهرجان القاهرة السينمائي" |
يُمكننا اعتبار "السد" فيلمًا نضاليًا، لا سيما في قصة العامل خميس، الذي لا يحصل على حقه المادي من مُشغله، وهو تعيس الحظ إلى حد أن يخطفه تيار النهر، أو يُرديه قتيلًا، هذا إن استبعدنا احتمال انتحاره. يزيد مشهد تغسيل خميس قبل تكفينه، مُحاطًا بزملائه، من الشعور العام وغير المحتمل بالظلم. ويُمكن القول أيضًا إن "السد"، برغم طابعه التجريدي، وتركه كثيرًا من الأسئلة مفتوحة بلا جواب، يتحلى بنوع من البصيرة في قراءة المُستقبل، ونُشاهد بعد أن يكون الراديو قد أعلن انتصار الثورة ماهرَ يترقب حركة ضابط البوليس المكلف بالحراسة، وهو نعسان لا يلاحظ حضوره، ولا يفيق الضابط إلا حين يشعر بالبندقية تنزلق من بين يديه، فيهب لاستعادتها. كأنما كان هذا المشهد يستقرئ الوضع الحالي في السودان.
على أن المشهد الأخير في هذا الفيلم، ويتبع انهيار حُلم البطل متمثلًا في تحطُّم بنائه الطيني، وما تلا ذلك من اشتعال غضب ماهر ضد كل مفردات بيئته، وتواصل هذا الغضب لفترة من الزمن؛ يأتي ليتوِّج هذا الفيلم، ورحلة ماهر. هناك نرى الشمس، جلية في السماء، وماهر كأنه يسبح في اتجاهها. ولا تبدو السباحة كانتحار. على العكس تبدو الشمس نفسها وكأنها هدفه الجديد. يبقى المشهد مفتوحًا على التأويل، ومُحررًا لماهر... ألا يكون المرء أحيانًا في حاجة للتحرر من بعض أحلامه، في سبيل تمسكه بالنجاة؟