ابن السِّكِّيت (يعقوب بن إسحاق)
(… ـ 243هـ/… ـ 857م)
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، إمام في اللغة والأدب، لقب بابن السِّكِّيت لأن أباه كان كثير السكوت وهو من بلاد فارس، ولد في بغداد.
كان ابن السكيت مقداماً جسوراً على العلماء، يعترض عليهم ويناقشهم ويجادلهم، وكان يطمح إلى أن تكون له مكانة مرموقة بين علماء وقته، فرحل إلى سامراء مركز الخلافة العباسية، وهناك وجد غايته وذاع صيته، ومما يشير إلى اعتداده بنفسه وتشوُّفه إلى منزلة العلماء أنه أنشأ حلقة للتدريس وهو في مقتبل شبابه، وشارك والده في تعليم الصبيان في بغداد، ثم اختص بقوم في إحدى محلاتها، فكان يذهب إليهم ليعلمهم ويعلم أبناءهم ويتقاضى أجراً يتقوَّى به على العيش.
عرف ابن السكيت بصدقه وأمانته العلمية إذ كان ينسب الآراء إلى أصحابها، وكان مؤمناً إيماناً قوياً.
وهو واحد من علماء اللغة بل من أشهرهم، وكان عالماً بلغات العرب وأشعارها وأمثالها وكلامها، وعدَّه أحمد ابن يحيى ثعلب أمير المؤمنين في اللغة أو قريباً من ذلك، وكان والده يفضله على نفسه في الشعر واللغة، ولم يكن ابن السكيت يعَدُّ في عداد النحويين المشهورين، ولم يَسْعَ إلى أن يكون عالماً في النحو، لأنه كان ينظر إلى هذا العلم على أنه وسيلة للنطق بكلام خالٍ من اللحن والخطأ، ودعا إلى طرح الغامض من مسائل النحو وإبعاده، على أنه لم يكن جاهلاً بمسائل هذا العلم، بل كان يضع يده عليها وعلى مصطلحاتها، وآثر أن تكون ثقافته ثقافة أدبية، قال: «خذ من الأدب ما يعلق بالقلوب وتشتهيه الآذان، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام ودع الغوامض».
وشارك في الدراسات الصوتية التي نشأت في وقت مبكر وحظيت باهتمام علماء العربية لما لها من أهمية كبرى في قراءة القرآن الكريم، وتعرض لأهم ظاهرتين من الظواهر الصوتية، وهما القلب والإبدال، وألف كتاباً سماه «القلب والإبدال».
وتظهر ثقافته اللغوية أيضاً في درس الظواهر الدلالية في اللغة العربية من مثل المشترك والترادف والأضداد.
وكان على علم بلغات القبائل ولهجاتها من حيث درجة فصاحتها، وعني بالإشارة إلى أفصح اللهجات العربية وسمَّاها.
كان من دأب علماء العربية أن يرحلوا إلى البادية ليسمعوا من أهلها اللغة الخالصة السليمة من الخطأ واللحن، كالخليل والكسائي، إلا أن ابن السكيت التقى الأعراب في الحواضر من مثل بغداد والكوفة، ولم يرحل إلى البادية.
وعرف عنه أنه كان يتسلَّى بأبيات من الشعر يقولها حين تضيق الدنيا في وجهه، وهو معدود في علماء أهل الكوفة عند القدماء، غير أن هذا لم يمنعه من اصطفاء الرواية عن أهل الكوفة وأهل البصرة جميعاً، وآية هذا أنه أخذ عن مشاهير علماء البصرة من مثل أبي زيد الأنصاري سعيد بن أوس، والأصمعي عبد الملك بن قريب وأبي عمرو الشيباني، إضافة إلى الفراء من الكوفيين.
وعاصر ابن السكيت ثلة من علماء العربية كأبي عبيد الله القاسم بن سلام، وأبي بكر المازني، ومحمد بن يزيد المبرد، وأحمد بن يحيى ثعلب.
تتلمذ له كثيرون أشهرهم: أبو حنيفة الدينوري وأحمد بن داود وأبو سعيد السكري والحسن بن الحسين والمفضل بن سلمة بن عاصم.
اصطبغت مصنفات ابن السكيت بالصبغة اللغوية، فجاءت كلها مختصة باللغة، ولم يؤلف في النحو والصرف لأنه ـ كما سلف ـ يرى أنهما وسيلة لفهم الكلام والنطق القويم، وبلغت عدة مصنفاته أكثر من ثمانين كتاباً.
وتبدو أهمية مصنفاته في أنها تحتوي علم من سبقه من اللغويين من مثل الفراء والأصمعي وأبي عمرو الشيباني وأبي عبيدة معمر بن المثنى.
وكان لكتبه أثر بالغ في مؤلفات من جاء بعده، فقد استفادوا منها وضمنوها مؤلفاتهم، ولاسيما معاجم اللغة نحو «تهذيب اللغة» لأبي منصور الأزهري، و«لسان العرب» لابن منظور الإفريقي.
وكما اهتم ابن السكيت بجمع اللغة أولى جمع الشعر عنايته، لأن الشعر مصدر اللغة ومعينها، وقد جمع بعض دواوين لشعراء جاهليين ومخضرمين وأمويين وعباسيين وشرح بعضها الآخر، ومن أشهر الشعراء الذين جمع شعرهم أبو داود الإيادي وامرؤ القيس والأعشى.
ومن أشهر الكتب اللغوية التي صنفها: «إصلاح المنطق» و«المقصور والممدود» و«الإبدال» و«كنز الحفاظ في تهذيب الألفاظ» و«الأضداد» و«القلب والإبدال».
وأكثر هذه الكتب أهمية هو «إصلاح المنطق»، إذ تظهر فيه رغبة ابن السكيت في وضع قوانين تضبط اللغة، ويمكن أن نسميها «قواعد لغوية» أو «كليات لغوية»، وكان يبدأ هذه القواعد بقوله: «كل ما كان…» أو بقوله: «ما جاء على…»، ثم يشير إلى ما ندَّ عن هذه القواعد أو الكليات بقوله: «لم أسمع…» أو بقوله: «ولم يجئ».
ويعد هذا الكتاب أول كتاب لغوي تصدَّى للتغيُّر الذي طرأ على العربية من حيث الأصوات والبناء والدلالة، فقد توخى منه ابن السكيت معالجة ما تسرب إلى العربية من الخطأ واللحن في الأبنية والدلالة والألفاظ، وذلك بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب وانتشار الإسلام.
إبراهيم عبد الله
(… ـ 243هـ/… ـ 857م)
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، إمام في اللغة والأدب، لقب بابن السِّكِّيت لأن أباه كان كثير السكوت وهو من بلاد فارس، ولد في بغداد.
كان ابن السكيت مقداماً جسوراً على العلماء، يعترض عليهم ويناقشهم ويجادلهم، وكان يطمح إلى أن تكون له مكانة مرموقة بين علماء وقته، فرحل إلى سامراء مركز الخلافة العباسية، وهناك وجد غايته وذاع صيته، ومما يشير إلى اعتداده بنفسه وتشوُّفه إلى منزلة العلماء أنه أنشأ حلقة للتدريس وهو في مقتبل شبابه، وشارك والده في تعليم الصبيان في بغداد، ثم اختص بقوم في إحدى محلاتها، فكان يذهب إليهم ليعلمهم ويعلم أبناءهم ويتقاضى أجراً يتقوَّى به على العيش.
عرف ابن السكيت بصدقه وأمانته العلمية إذ كان ينسب الآراء إلى أصحابها، وكان مؤمناً إيماناً قوياً.
وهو واحد من علماء اللغة بل من أشهرهم، وكان عالماً بلغات العرب وأشعارها وأمثالها وكلامها، وعدَّه أحمد ابن يحيى ثعلب أمير المؤمنين في اللغة أو قريباً من ذلك، وكان والده يفضله على نفسه في الشعر واللغة، ولم يكن ابن السكيت يعَدُّ في عداد النحويين المشهورين، ولم يَسْعَ إلى أن يكون عالماً في النحو، لأنه كان ينظر إلى هذا العلم على أنه وسيلة للنطق بكلام خالٍ من اللحن والخطأ، ودعا إلى طرح الغامض من مسائل النحو وإبعاده، على أنه لم يكن جاهلاً بمسائل هذا العلم، بل كان يضع يده عليها وعلى مصطلحاتها، وآثر أن تكون ثقافته ثقافة أدبية، قال: «خذ من الأدب ما يعلق بالقلوب وتشتهيه الآذان، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام ودع الغوامض».
وشارك في الدراسات الصوتية التي نشأت في وقت مبكر وحظيت باهتمام علماء العربية لما لها من أهمية كبرى في قراءة القرآن الكريم، وتعرض لأهم ظاهرتين من الظواهر الصوتية، وهما القلب والإبدال، وألف كتاباً سماه «القلب والإبدال».
وتظهر ثقافته اللغوية أيضاً في درس الظواهر الدلالية في اللغة العربية من مثل المشترك والترادف والأضداد.
وكان على علم بلغات القبائل ولهجاتها من حيث درجة فصاحتها، وعني بالإشارة إلى أفصح اللهجات العربية وسمَّاها.
كان من دأب علماء العربية أن يرحلوا إلى البادية ليسمعوا من أهلها اللغة الخالصة السليمة من الخطأ واللحن، كالخليل والكسائي، إلا أن ابن السكيت التقى الأعراب في الحواضر من مثل بغداد والكوفة، ولم يرحل إلى البادية.
وعرف عنه أنه كان يتسلَّى بأبيات من الشعر يقولها حين تضيق الدنيا في وجهه، وهو معدود في علماء أهل الكوفة عند القدماء، غير أن هذا لم يمنعه من اصطفاء الرواية عن أهل الكوفة وأهل البصرة جميعاً، وآية هذا أنه أخذ عن مشاهير علماء البصرة من مثل أبي زيد الأنصاري سعيد بن أوس، والأصمعي عبد الملك بن قريب وأبي عمرو الشيباني، إضافة إلى الفراء من الكوفيين.
وعاصر ابن السكيت ثلة من علماء العربية كأبي عبيد الله القاسم بن سلام، وأبي بكر المازني، ومحمد بن يزيد المبرد، وأحمد بن يحيى ثعلب.
تتلمذ له كثيرون أشهرهم: أبو حنيفة الدينوري وأحمد بن داود وأبو سعيد السكري والحسن بن الحسين والمفضل بن سلمة بن عاصم.
اصطبغت مصنفات ابن السكيت بالصبغة اللغوية، فجاءت كلها مختصة باللغة، ولم يؤلف في النحو والصرف لأنه ـ كما سلف ـ يرى أنهما وسيلة لفهم الكلام والنطق القويم، وبلغت عدة مصنفاته أكثر من ثمانين كتاباً.
وتبدو أهمية مصنفاته في أنها تحتوي علم من سبقه من اللغويين من مثل الفراء والأصمعي وأبي عمرو الشيباني وأبي عبيدة معمر بن المثنى.
وكان لكتبه أثر بالغ في مؤلفات من جاء بعده، فقد استفادوا منها وضمنوها مؤلفاتهم، ولاسيما معاجم اللغة نحو «تهذيب اللغة» لأبي منصور الأزهري، و«لسان العرب» لابن منظور الإفريقي.
وكما اهتم ابن السكيت بجمع اللغة أولى جمع الشعر عنايته، لأن الشعر مصدر اللغة ومعينها، وقد جمع بعض دواوين لشعراء جاهليين ومخضرمين وأمويين وعباسيين وشرح بعضها الآخر، ومن أشهر الشعراء الذين جمع شعرهم أبو داود الإيادي وامرؤ القيس والأعشى.
ومن أشهر الكتب اللغوية التي صنفها: «إصلاح المنطق» و«المقصور والممدود» و«الإبدال» و«كنز الحفاظ في تهذيب الألفاظ» و«الأضداد» و«القلب والإبدال».
وأكثر هذه الكتب أهمية هو «إصلاح المنطق»، إذ تظهر فيه رغبة ابن السكيت في وضع قوانين تضبط اللغة، ويمكن أن نسميها «قواعد لغوية» أو «كليات لغوية»، وكان يبدأ هذه القواعد بقوله: «كل ما كان…» أو بقوله: «ما جاء على…»، ثم يشير إلى ما ندَّ عن هذه القواعد أو الكليات بقوله: «لم أسمع…» أو بقوله: «ولم يجئ».
ويعد هذا الكتاب أول كتاب لغوي تصدَّى للتغيُّر الذي طرأ على العربية من حيث الأصوات والبناء والدلالة، فقد توخى منه ابن السكيت معالجة ما تسرب إلى العربية من الخطأ واللحن في الأبنية والدلالة والألفاظ، وذلك بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب وانتشار الإسلام.
إبراهيم عبد الله