السومريون
عُرفت مناطق جنوبي العراق في عصور فجر السلالات (نحو 2900 ـ2335ق.م) بالاسم السومري: «كي إن جي» أي الأرض الزراعية، ثم سماها البابليون بلاد شومر (سومر) فغلب هذا الاسم وشاع وشمل الشعب واللغة أيضاً.
يختلف الباحثون في تحديد أصول السومريين Sumerians وموطنهم الأم، وصلتهم بالشعوب الأخرى، وعلاقة لغتهم بغيرها من اللغات. وظهرت في ذلك آراء مختلفة، منها أنهم هاجروا من شمالي الهند، أو من وادي السند، أو من غربي القفقاس، أو من مناطق جبال زغروس الشمالية، أو أنهم كانوا من السكان الأوائل في مناطق جنوبي العراق نفسها. كما رأى باحثون وجود صلات بين اللغة السومرية[ر] ولغات إقليم الباسك في إسبانيا، ولغات القفقاس الغربية والتيبت، بل أورد باحثون مئات من الكلمات السومرية والهنغارية (المجرية) المتماثلة، ولذلك فإن الأمر مازال يشكل معضلة في البحث العلمي، ولكنه لم يعد يلقى اهتماماً خاصاً.
إن مصادر كتابة تاريخ السومريين وفيرة، تتمثل في وثائق كتابية متنوعة الموضوعات وشواهد أثرية مادية كثيرة، وهي تساعد على تتبع تاريخهم خلال الألف الثالث قبل الميلاد.
اتسم عصرهم بتعدد السلالات الحاكمة في بقعة جغرافية محدودة انقسمت إلى دويلات تقتصر الواحدة منها على مدينة أساسية وما يجاورها، لذا عرف بعصر فجر السلالات أو عصر دويلات المدن. وأبرز تلك المدن:
ـ كيش Kish (تل الأحيمر، شرقي بابل). وقد حكمت فيها أربع سلالات، وتمكنت من السيادة في البلاد عامة خلال عهد ملكها إتانـا الذي أضحى شخصية أسطورية في الأدب. كما تميز حاكمها ميبارا جيزي (نحو 2675 ق.م) الذي دخل في صراع طويل مع مملكة عيلام (إقليم خوزستان الإيراني)، ثم ابنه أجا الذي اشتهر بحربه مع الملك الأسطوري غلغامش Gilgamesh ملك أوروك.كما حقق ملكها ميسالم سيادة واسعة النطاق وشهرة وصلت حتى مملكة إبلا، وكان له دور مهم في حل الخلاف الحدودي بين دويلتي لغش وأوما ـ أوروك Uruk (الوركاء، شرقي السماوة)، تذكر قائمة الملوك السومرية والنصوص الأدبية أسماء عدد من ملوكها وأعمالهم، وأبرزهم إنمركار الذي غزا بلاد أَرتّـا في الهضاب الإيرانية للحصول على النفائس، وابنه لوغال بندا الذي تابع حرب أبيه وحقق طموحه، ودموزي Dumuzi الذي أُلِّّه بعد وفاته، وعدّلت الشعوب السامية صيغة اسمه إلى تموز، واتخذته اسماً لأحد شهورها، وكذلك غلغامش الذي ما يزال من أشهر شخصيات التراث الشرقي القديم، بسبب الملحمة التي تروي حكاية بحثه عن الخلود البشري.
ـ أور Ur (تل المقيّر، جنوب غربي الناصرية)، تميزت مكانتها ونشطت فيها التجارة مع ديلمون (جزيرة البحرين) وماجان (عُمان) عبر الخليج العربي، وكذلك مع المدن الداخلية عبر نهر الفرات، ومن أبرز ملوكها ميسكلام دوج الذي كشف عن قبره وقبر زوجته «بوآبي» وقبور أخرى كثيرة في مقبرة المدينة الملكية المتميزة بغنى مكتشفاتها، وبأسلوب تنظيمها وعمارتها. حافظت المدينة على أهميتها خلال الفترات التالية، وظلت المركز الرئيس لعبادة إله القمر، وقد تسلمت أور قيادة السومريين في عهد ملكها أورنامو الذي أسس سلالة أور الثالثة (2050-1950ق.م) والتي بلغت فيها إنجازات الحضارة ذروتها قبل أن يختفي السومريون من الساحة السياسية في بلاد الرافدين.
ـ لغش Lagash (تل الهبة، شرقي الشطرة)، تميزت في عهد ملكها أورنانشه (نحو 2520 ق.م) الذي استقل عن أور، ووطد حكمه، واهتم بمدينته الثانية المجاورة غيرسو (تلّو)، ثم واجه دولتي أور وأومّـا.
استمر الخلاف مع أومّـا، وخاض حفيده إأنّـاتوم (نحو 2470 ق.م) حروباً مع عدد من المدن السومرية، وفي الهضاب الإيرانية وبلاد سوبرتو، وتذكر نقوشه أنه احتل عيلام. حقق النصر على أومّـا ودوّن هذا الخبر كتابياً وتصويرياً على «نصب العُقبان»، ويعد النص المدون أقدم معاهدة من نوع معاهدات التبعية التي يفرض فيها أحد الطرفين شروطه على الآخر. وتجددت الحرب في عهد ابنه إنتيمينا (نحو 2430ق.م) فانتصر مرة أخرى وتدخل ميسالم ملك كيش، وحل الخلاف، وهدأت الأوضاع، وازدهرت لغش اقتصادياً.
ضعفت لغش بعد مدة، وشهد القرن التالي أزمات اجتماعية واقتصادية في مناطقها. حاول آخر ملوكها أورو إنمجينا أو أوروكاجينا Urukagina (نحو 2355ق.م) إصلاح الأوضاع، وأصدر مراسيم إصلاحية اقتصادية وإدارية واجتماعية تعد الأقدم تاريخياً، ورمت إلى تخفيف حدة التفاوت الطبقي وتحقيق العدالة، ولكنها لم تنفذ تماماً في سنوات حكمه العشرة، واستغل ذلك حاكم أومّـا الجديد لوغال زاغيزي Lugal- Zagizi، فاحتل لغش ونهبها وأحرق معابدها.
ـ أومّـا Umma (تل جوخه، في قضاء قلعة سكر، غربي نهر الغرّاف)، برز شأنها مع بداية صراعها الحدودي مع لغش، وانهمك حكامها بذلك، حتى سنحت فرصة تاريخية تمثلت في ضعف لغش، وصعود ملك قوي إلى عرش أومّا وهو لوغال زاغيزي (نحو 2350ق.م) الذي غزا لغش وتابع حملاته، فاستولى على نيبور وأوروك وإريدو، وبات السيد الأقوى في المناطق السومرية. وأسهمت الظروف الجديدة في بزوغ فكر سياسي إداري جديد لديه يتمثل في ضرورة إنهاء حكم دويلات المدن وإقامة حكم موحد مركزي، ولكنه لم يهنأ طويلاً ببدايات هذا المنعطف التاريخي الذي حققه، لأن القبائل الساميّة التي تجمعت شمال غربي بلاده كانت ترقب التطورات، وتزعمها شروكين (صرغون) Sargon في عام 2334ق.م تقريباً، وقضى على حكمه، واحتل بلاد سومر، وأسس مملكة الأكّديين[ر].
تلقب الحكام السومريون بألقاب إدارية عدة، مثل: إنْ «السيد الكاهن»، إنْ ـ زي «حاكم المدينة»، لو ـ غال «الملك». ووصف بعضهم بـ «ابن الإله» تعبيراً عن الأصل الإلهي له، وعن قدسيته وشرعيته الدينية، كما رُفع بعضهم إلى مصاف الآلهة بعد موتهم. وكان ادعاء نزول المَلَكية من السماء والاختيار الإلهي وسيلة مهمة لإضفاء الشرعية على الحكم.
كان الحكام يقنعون الشعب بأنهم وسطاء الآلهة وممثلوها في المعابد التي شكلت مراكز الحكم، وبذلك اكتسبت قراراتهم قدسية لا يمكن الاعتراض عليها. ولكنهم فسحوا مجالاً للشورى من خلال إنشاء مجالس للشيوخ ومجالس للشباب للتشاور في الأمور الكبرى.
انقسم المجتمع السومري ثلاث فئات، هي:
ـ الأسرة الحاكمة والحاشية المقربة منها.
ـ ضباط الجيش والنبلاء وكبار الكهنة والموظفين، وقد وصفوا بالأحرار (لو).
ـ الرعيّة أي المواطنون العاملون في خدمة الفئتين السابقتين، وهم في صنفين:
آ ـ أحرار فقراء (مش إن جاج).
ب ـ عبيد وإماء (إر، جيمي). وكان هؤلاء يشترون ويباعون، ومن الأسرى، والأرقاء وراثة، وأحرار فقراء أنزلتهم الحاجة إلى مرتبة العبيد.
ويتضح من القوانين والتشريعات القديمة إن لكل فئة وصنف معاملة قانونية خاصة بهما.
كان المجتمع أبوياً ذكورياً يتمتع فيه الأب بالسلطة المطلقة. وقد أدى ازدياد عدد السكان وتنوع العلاقات إلى ظهور أعراف وتقاليد اجتماعية ونظم قانونية لتحديد الحقوق والواجبات.
أثرت الظروف الجغرافية الطبيعية والمعتقدات الدينية الشائعة في الحياة الاقتصادية لدى السومريين، فقد شكلت مياه نهري دجلة والفرات الدعامة الاقتصادية الأساسية، ووجد الإنسان السومري نفسه في حالة تحد تقلبات النهرين، وبرع في تكييف حياته معها، إذ شق القنوات وبنى السدود وأقام شبكات الري واحتاط للفيضانات والزوابع الرملية واستصلح الأراضي، كما ربى أنواعاً من المواشي، وبهذه الجهود حقق كفاية غذائية ووفراً في المحاصيل، وبدأ يمارس تجارة المقايضة مع مناطق أخرى.
ودفعته المعتقدات الدينية إلى تسخير طاقاته لخدمة الآلهة، وممثليها الحكام الذين يسهرون على رعايته وتأمين مستلزماته، فنشأت علاقة توافقية بين الحاكم والمحكوم، أدت إلى شيوع الراحة النفسية لدى أفراد الشعب المنتجين المؤمنين بالقيادة الإدارية والاقتصادية العادلة للمعبد الديني.
امتلك المعبد قطعان المواشي والأراضي الزراعية التي يعمل فيها الناس، ويسلمون المنتجات والمحاصيل للمعبد، الذي يقوم بتوزيع جزء منها عليهم بشكل يحقق حاجاتهم، ولكن ذلك لم يمنع وجود مُلكيات خاصة ضمن إطار محدود.
ومع تزايد الانتاج اتسع نطاق الحرف اليدوية والتجارة الداخلية، ووجد كهان المعابد أنفسهم عاجزين عن ضبط عمليات الوارد والصادر والضرائب اعتماداً على الذاكرة، وبرزت الحاجة إلى وسيلة ضبط أنسب، فكان إبداع نظام الكتابة المسمارية ضمن المعابد، وبمرور الزمن تطورت الكتابة وتنوعت وسائلها التعبيرية، وانتقلت من التصويرية المحضة إلى الرمزية، ثم ظهرت الكتابة المسمارية المقطعية التي أبدعها الأكّديون[ر].
عبد السومريون عشرات الآلهة التي كانت ترتبط بقوى الطبيعة وعناصرها ومظاهرها التي تؤثر في الظروف الاقتصادية، وألفوا أساطير عنها تشكل مادة أساسية للفكر الديني، وشكلوا تماثيل لها وضعوها في المعابد، واحتفلوا بها ضمن شعائر محددة، وقدموا لها النذور، وسعوا دائماً إلى إرضائها وتجنب غضبها.
ارتبط كل إله بوظيفة معينة ومركز عبادة محدد، وكانت له صفات وألقاب خاصة. وأسبغت عليها مظاهر وصفات بشرية، وصنفت في طبقتين ؛ آلهة كبرى وآلهة صغرى، وكانت الآلهة الكبرى تشكل مجمعاً دينياً رسمياً يضم الآلهة الثلاثة:
1ـ آنُ An: إله السماء، ومركزه مدينة أوروك.
2ـ إنليل Enlil: إله الهواء والرياح والفضاء، ومركزه مدينة نيبور (نُفَّر، شمالي عفك).
3ـ إنكي Enki: سيد الأرض وإله المياه العذبة (أَبْـزو)، ومركزه مدينة إريدو (أبو شهرين ـ جنوب غربي الناصرية).
كما عبد السومريون آلهة ترتبط بالكواكب، أبرزها:
1ـ إنانّا Inanna: «سيدة السماء» وإلهة الحب والحرب، وكوكب الزُّهرة، وهي قرينة الإله دوموزي الذي انتقل إلى العالم السفلي، فحل القحط، ولكنها استبسلت في إنقاذه وإعادته إلى وجه الأرض، فعاد الخصب وانتشرت الخضرة.
2ـ أوتو إله الشمس والعدالة، ومركزه مدينتا سيبار ولارسا.
3ـ نانّا Nanna: إله القمر، ومركزه مدينة أور.
وثمة آلهة أخرى كثيرة للخَلْق والعالم السفلي والنار والحبوب والكتابة والحرب... وكان للسومريين تصورخاص عن خلق الكون والإنسان وعالم الآخرة صاغوه في أعمال أدبية عدة، كما آمنوا بقوة غيبية دعوها «مي» وتعني »«الوجود، الكينونة» يمتلكها الآلهة، وعدد من الملوك والكهان، والحرفيون، كما تكون مبثوثة في الآلات الموسيقية.
أبدع السومريون إنجازات حضارية رائدة في مجال العمارة والفنون التشكيلية، أهمها:
ـ معابد دينية مبنية من الآجر الطيني، وفق تصاميم معمارية وأساليب تقنية متنوعة، وكانت تضم ساحات وقاعات للشعائر الدينية والعبادة، ووضع المتعبدون تماثيل ونذوراً للآلهة فيها، وكشف عن نماذج منها في معظم المدن السومرية الأساسية.
ـ قصور معدودة مسورة مفصولة عن أجزاء المدينة، ولها أغراض إدارية واقتصادية، وأبرزها المكتشفة في كيش وإريدو وماري.
ـ مدافن الطبقة الحاكمة، وأهمها المقبرة الملكية في أور.
ـ تماثيل مجسمة مشكلة من الحجر أو المعدن، يظهر فيها التطور من الأسلوب الهندسي الجامد إلى النزعة الواقعية الطبيعية والملامح الحيوية.
ـ أعمال من فن النحت النافر، كاللوحات النذرية المربعة التي صورت عليها مشاهد دينية وحربية، وكانت تثقب وتعلق على الجدران.
ـ أعمال من فن تطعيم الأحجار الملونة، أبرزها لوحة «علم أور» التي صورت على وجهيها حالة الحرب وحالة الاحتفال والسلام.
ـ حجارة التأسيس المشكلة من المعادن أو الحجر أو الخشب أو الطين، وكانت توضع في أسس المعابد والمباني المهمة، على شكل مسامير أو تماثيل بشرية في وضع العبادة.
ـ الأختام الأسطوانية التي أبدعت وانتشر استخدامها توافقاً مع ازدياد النشاط التجاري، وكانت وسيلة للتوثيق وتحديد الملكية وبمنزلة الهوية الشخصية. صنعت من الحجر غالباً، وصورت عليها مشاهد منوعة (أشكال حيوانات، أبطال، كائنات خرافية، مشاهد الصراع، مشاهد دينية، مشاهد مستقاة من الأساطير).
ـ تطورت لديهم صناعة الأواني الفخارية، وظهرت نماذج «الأواني القرمزية» الملونة والمزينة برسوم تمثل مشاهد احتفالية وولائم مقدسة وصراع الأبطال مع الحيوانات الكاسرة.
بشكل عام؛ يلاحظ أن الإنسان أصبح محور الفن السومري، وأن الفن أدى وظيفة توثيقية تأريخية، ولذلك تعد نماذجه مادة مهمة لدراسة الإنجازات الحضارية السومرية.
أبدع السومريون في مجالات أخرى شملت الزراعة، وتربية الحيوان، والحرف اليدوية، والقانون، والعلوم البشرية والفلكية والرياضية، وبرز لديهم اهتمام واسع بالموسيقى وآلاتها. وتعد نصوص الأدب السومري أقدم الآداب البشرية المعروفة، وتعكس خيالاً واسعاً وتصورات فكرية عميقة الدلالات. ومن ذلك كله يمكن القول إن السومريين يتمتعون بمكانة متميزة في التاريخ السياسي والحضاري للشرق القديم.
فاروق إسماعيل
يختلف الباحثون في تحديد أصول السومريين Sumerians وموطنهم الأم، وصلتهم بالشعوب الأخرى، وعلاقة لغتهم بغيرها من اللغات. وظهرت في ذلك آراء مختلفة، منها أنهم هاجروا من شمالي الهند، أو من وادي السند، أو من غربي القفقاس، أو من مناطق جبال زغروس الشمالية، أو أنهم كانوا من السكان الأوائل في مناطق جنوبي العراق نفسها. كما رأى باحثون وجود صلات بين اللغة السومرية[ر] ولغات إقليم الباسك في إسبانيا، ولغات القفقاس الغربية والتيبت، بل أورد باحثون مئات من الكلمات السومرية والهنغارية (المجرية) المتماثلة، ولذلك فإن الأمر مازال يشكل معضلة في البحث العلمي، ولكنه لم يعد يلقى اهتماماً خاصاً.
إن مصادر كتابة تاريخ السومريين وفيرة، تتمثل في وثائق كتابية متنوعة الموضوعات وشواهد أثرية مادية كثيرة، وهي تساعد على تتبع تاريخهم خلال الألف الثالث قبل الميلاد.
اتسم عصرهم بتعدد السلالات الحاكمة في بقعة جغرافية محدودة انقسمت إلى دويلات تقتصر الواحدة منها على مدينة أساسية وما يجاورها، لذا عرف بعصر فجر السلالات أو عصر دويلات المدن. وأبرز تلك المدن:
ـ كيش Kish (تل الأحيمر، شرقي بابل). وقد حكمت فيها أربع سلالات، وتمكنت من السيادة في البلاد عامة خلال عهد ملكها إتانـا الذي أضحى شخصية أسطورية في الأدب. كما تميز حاكمها ميبارا جيزي (نحو 2675 ق.م) الذي دخل في صراع طويل مع مملكة عيلام (إقليم خوزستان الإيراني)، ثم ابنه أجا الذي اشتهر بحربه مع الملك الأسطوري غلغامش Gilgamesh ملك أوروك.كما حقق ملكها ميسالم سيادة واسعة النطاق وشهرة وصلت حتى مملكة إبلا، وكان له دور مهم في حل الخلاف الحدودي بين دويلتي لغش وأوما ـ أوروك Uruk (الوركاء، شرقي السماوة)، تذكر قائمة الملوك السومرية والنصوص الأدبية أسماء عدد من ملوكها وأعمالهم، وأبرزهم إنمركار الذي غزا بلاد أَرتّـا في الهضاب الإيرانية للحصول على النفائس، وابنه لوغال بندا الذي تابع حرب أبيه وحقق طموحه، ودموزي Dumuzi الذي أُلِّّه بعد وفاته، وعدّلت الشعوب السامية صيغة اسمه إلى تموز، واتخذته اسماً لأحد شهورها، وكذلك غلغامش الذي ما يزال من أشهر شخصيات التراث الشرقي القديم، بسبب الملحمة التي تروي حكاية بحثه عن الخلود البشري.
ـ أور Ur (تل المقيّر، جنوب غربي الناصرية)، تميزت مكانتها ونشطت فيها التجارة مع ديلمون (جزيرة البحرين) وماجان (عُمان) عبر الخليج العربي، وكذلك مع المدن الداخلية عبر نهر الفرات، ومن أبرز ملوكها ميسكلام دوج الذي كشف عن قبره وقبر زوجته «بوآبي» وقبور أخرى كثيرة في مقبرة المدينة الملكية المتميزة بغنى مكتشفاتها، وبأسلوب تنظيمها وعمارتها. حافظت المدينة على أهميتها خلال الفترات التالية، وظلت المركز الرئيس لعبادة إله القمر، وقد تسلمت أور قيادة السومريين في عهد ملكها أورنامو الذي أسس سلالة أور الثالثة (2050-1950ق.م) والتي بلغت فيها إنجازات الحضارة ذروتها قبل أن يختفي السومريون من الساحة السياسية في بلاد الرافدين.
ـ لغش Lagash (تل الهبة، شرقي الشطرة)، تميزت في عهد ملكها أورنانشه (نحو 2520 ق.م) الذي استقل عن أور، ووطد حكمه، واهتم بمدينته الثانية المجاورة غيرسو (تلّو)، ثم واجه دولتي أور وأومّـا.
سومر: تمثال حفيد ملك أوروك، لوغال كيسالكي (منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد) |
ضعفت لغش بعد مدة، وشهد القرن التالي أزمات اجتماعية واقتصادية في مناطقها. حاول آخر ملوكها أورو إنمجينا أو أوروكاجينا Urukagina (نحو 2355ق.م) إصلاح الأوضاع، وأصدر مراسيم إصلاحية اقتصادية وإدارية واجتماعية تعد الأقدم تاريخياً، ورمت إلى تخفيف حدة التفاوت الطبقي وتحقيق العدالة، ولكنها لم تنفذ تماماً في سنوات حكمه العشرة، واستغل ذلك حاكم أومّـا الجديد لوغال زاغيزي Lugal- Zagizi، فاحتل لغش ونهبها وأحرق معابدها.
ـ أومّـا Umma (تل جوخه، في قضاء قلعة سكر، غربي نهر الغرّاف)، برز شأنها مع بداية صراعها الحدودي مع لغش، وانهمك حكامها بذلك، حتى سنحت فرصة تاريخية تمثلت في ضعف لغش، وصعود ملك قوي إلى عرش أومّا وهو لوغال زاغيزي (نحو 2350ق.م) الذي غزا لغش وتابع حملاته، فاستولى على نيبور وأوروك وإريدو، وبات السيد الأقوى في المناطق السومرية. وأسهمت الظروف الجديدة في بزوغ فكر سياسي إداري جديد لديه يتمثل في ضرورة إنهاء حكم دويلات المدن وإقامة حكم موحد مركزي، ولكنه لم يهنأ طويلاً ببدايات هذا المنعطف التاريخي الذي حققه، لأن القبائل الساميّة التي تجمعت شمال غربي بلاده كانت ترقب التطورات، وتزعمها شروكين (صرغون) Sargon في عام 2334ق.م تقريباً، وقضى على حكمه، واحتل بلاد سومر، وأسس مملكة الأكّديين[ر].
تلقب الحكام السومريون بألقاب إدارية عدة، مثل: إنْ «السيد الكاهن»، إنْ ـ زي «حاكم المدينة»، لو ـ غال «الملك». ووصف بعضهم بـ «ابن الإله» تعبيراً عن الأصل الإلهي له، وعن قدسيته وشرعيته الدينية، كما رُفع بعضهم إلى مصاف الآلهة بعد موتهم. وكان ادعاء نزول المَلَكية من السماء والاختيار الإلهي وسيلة مهمة لإضفاء الشرعية على الحكم.
كان الحكام يقنعون الشعب بأنهم وسطاء الآلهة وممثلوها في المعابد التي شكلت مراكز الحكم، وبذلك اكتسبت قراراتهم قدسية لا يمكن الاعتراض عليها. ولكنهم فسحوا مجالاً للشورى من خلال إنشاء مجالس للشيوخ ومجالس للشباب للتشاور في الأمور الكبرى.
انقسم المجتمع السومري ثلاث فئات، هي:
ـ الأسرة الحاكمة والحاشية المقربة منها.
ـ ضباط الجيش والنبلاء وكبار الكهنة والموظفين، وقد وصفوا بالأحرار (لو).
ـ الرعيّة أي المواطنون العاملون في خدمة الفئتين السابقتين، وهم في صنفين:
آ ـ أحرار فقراء (مش إن جاج).
ب ـ عبيد وإماء (إر، جيمي). وكان هؤلاء يشترون ويباعون، ومن الأسرى، والأرقاء وراثة، وأحرار فقراء أنزلتهم الحاجة إلى مرتبة العبيد.
ويتضح من القوانين والتشريعات القديمة إن لكل فئة وصنف معاملة قانونية خاصة بهما.
كان المجتمع أبوياً ذكورياً يتمتع فيه الأب بالسلطة المطلقة. وقد أدى ازدياد عدد السكان وتنوع العلاقات إلى ظهور أعراف وتقاليد اجتماعية ونظم قانونية لتحديد الحقوق والواجبات.
أثرت الظروف الجغرافية الطبيعية والمعتقدات الدينية الشائعة في الحياة الاقتصادية لدى السومريين، فقد شكلت مياه نهري دجلة والفرات الدعامة الاقتصادية الأساسية، ووجد الإنسان السومري نفسه في حالة تحد تقلبات النهرين، وبرع في تكييف حياته معها، إذ شق القنوات وبنى السدود وأقام شبكات الري واحتاط للفيضانات والزوابع الرملية واستصلح الأراضي، كما ربى أنواعاً من المواشي، وبهذه الجهود حقق كفاية غذائية ووفراً في المحاصيل، وبدأ يمارس تجارة المقايضة مع مناطق أخرى.
ودفعته المعتقدات الدينية إلى تسخير طاقاته لخدمة الآلهة، وممثليها الحكام الذين يسهرون على رعايته وتأمين مستلزماته، فنشأت علاقة توافقية بين الحاكم والمحكوم، أدت إلى شيوع الراحة النفسية لدى أفراد الشعب المنتجين المؤمنين بالقيادة الإدارية والاقتصادية العادلة للمعبد الديني.
امتلك المعبد قطعان المواشي والأراضي الزراعية التي يعمل فيها الناس، ويسلمون المنتجات والمحاصيل للمعبد، الذي يقوم بتوزيع جزء منها عليهم بشكل يحقق حاجاتهم، ولكن ذلك لم يمنع وجود مُلكيات خاصة ضمن إطار محدود.
ومع تزايد الانتاج اتسع نطاق الحرف اليدوية والتجارة الداخلية، ووجد كهان المعابد أنفسهم عاجزين عن ضبط عمليات الوارد والصادر والضرائب اعتماداً على الذاكرة، وبرزت الحاجة إلى وسيلة ضبط أنسب، فكان إبداع نظام الكتابة المسمارية ضمن المعابد، وبمرور الزمن تطورت الكتابة وتنوعت وسائلها التعبيرية، وانتقلت من التصويرية المحضة إلى الرمزية، ثم ظهرت الكتابة المسمارية المقطعية التي أبدعها الأكّديون[ر].
عبد السومريون عشرات الآلهة التي كانت ترتبط بقوى الطبيعة وعناصرها ومظاهرها التي تؤثر في الظروف الاقتصادية، وألفوا أساطير عنها تشكل مادة أساسية للفكر الديني، وشكلوا تماثيل لها وضعوها في المعابد، واحتفلوا بها ضمن شعائر محددة، وقدموا لها النذور، وسعوا دائماً إلى إرضائها وتجنب غضبها.
ارتبط كل إله بوظيفة معينة ومركز عبادة محدد، وكانت له صفات وألقاب خاصة. وأسبغت عليها مظاهر وصفات بشرية، وصنفت في طبقتين ؛ آلهة كبرى وآلهة صغرى، وكانت الآلهة الكبرى تشكل مجمعاً دينياً رسمياً يضم الآلهة الثلاثة:
1ـ آنُ An: إله السماء، ومركزه مدينة أوروك.
2ـ إنليل Enlil: إله الهواء والرياح والفضاء، ومركزه مدينة نيبور (نُفَّر، شمالي عفك).
3ـ إنكي Enki: سيد الأرض وإله المياه العذبة (أَبْـزو)، ومركزه مدينة إريدو (أبو شهرين ـ جنوب غربي الناصرية).
كما عبد السومريون آلهة ترتبط بالكواكب، أبرزها:
1ـ إنانّا Inanna: «سيدة السماء» وإلهة الحب والحرب، وكوكب الزُّهرة، وهي قرينة الإله دوموزي الذي انتقل إلى العالم السفلي، فحل القحط، ولكنها استبسلت في إنقاذه وإعادته إلى وجه الأرض، فعاد الخصب وانتشرت الخضرة.
2ـ أوتو إله الشمس والعدالة، ومركزه مدينتا سيبار ولارسا.
3ـ نانّا Nanna: إله القمر، ومركزه مدينة أور.
وثمة آلهة أخرى كثيرة للخَلْق والعالم السفلي والنار والحبوب والكتابة والحرب... وكان للسومريين تصورخاص عن خلق الكون والإنسان وعالم الآخرة صاغوه في أعمال أدبية عدة، كما آمنوا بقوة غيبية دعوها «مي» وتعني »«الوجود، الكينونة» يمتلكها الآلهة، وعدد من الملوك والكهان، والحرفيون، كما تكون مبثوثة في الآلات الموسيقية.
أبدع السومريون إنجازات حضارية رائدة في مجال العمارة والفنون التشكيلية، أهمها:
ـ معابد دينية مبنية من الآجر الطيني، وفق تصاميم معمارية وأساليب تقنية متنوعة، وكانت تضم ساحات وقاعات للشعائر الدينية والعبادة، ووضع المتعبدون تماثيل ونذوراً للآلهة فيها، وكشف عن نماذج منها في معظم المدن السومرية الأساسية.
ـ قصور معدودة مسورة مفصولة عن أجزاء المدينة، ولها أغراض إدارية واقتصادية، وأبرزها المكتشفة في كيش وإريدو وماري.
ـ مدافن الطبقة الحاكمة، وأهمها المقبرة الملكية في أور.
ـ تماثيل مجسمة مشكلة من الحجر أو المعدن، يظهر فيها التطور من الأسلوب الهندسي الجامد إلى النزعة الواقعية الطبيعية والملامح الحيوية.
ـ أعمال من فن النحت النافر، كاللوحات النذرية المربعة التي صورت عليها مشاهد دينية وحربية، وكانت تثقب وتعلق على الجدران.
ـ أعمال من فن تطعيم الأحجار الملونة، أبرزها لوحة «علم أور» التي صورت على وجهيها حالة الحرب وحالة الاحتفال والسلام.
ـ حجارة التأسيس المشكلة من المعادن أو الحجر أو الخشب أو الطين، وكانت توضع في أسس المعابد والمباني المهمة، على شكل مسامير أو تماثيل بشرية في وضع العبادة.
ـ الأختام الأسطوانية التي أبدعت وانتشر استخدامها توافقاً مع ازدياد النشاط التجاري، وكانت وسيلة للتوثيق وتحديد الملكية وبمنزلة الهوية الشخصية. صنعت من الحجر غالباً، وصورت عليها مشاهد منوعة (أشكال حيوانات، أبطال، كائنات خرافية، مشاهد الصراع، مشاهد دينية، مشاهد مستقاة من الأساطير).
ـ تطورت لديهم صناعة الأواني الفخارية، وظهرت نماذج «الأواني القرمزية» الملونة والمزينة برسوم تمثل مشاهد احتفالية وولائم مقدسة وصراع الأبطال مع الحيوانات الكاسرة.
بشكل عام؛ يلاحظ أن الإنسان أصبح محور الفن السومري، وأن الفن أدى وظيفة توثيقية تأريخية، ولذلك تعد نماذجه مادة مهمة لدراسة الإنجازات الحضارية السومرية.
أبدع السومريون في مجالات أخرى شملت الزراعة، وتربية الحيوان، والحرف اليدوية، والقانون، والعلوم البشرية والفلكية والرياضية، وبرز لديهم اهتمام واسع بالموسيقى وآلاتها. وتعد نصوص الأدب السومري أقدم الآداب البشرية المعروفة، وتعكس خيالاً واسعاً وتصورات فكرية عميقة الدلالات. ومن ذلك كله يمكن القول إن السومريين يتمتعون بمكانة متميزة في التاريخ السياسي والحضاري للشرق القديم.
فاروق إسماعيل