سيزان (بول ـ)
(1839 ـ 1906)
ولد المصور الفرنسي بول سيزان Paul Cézanne في إكس ـ آن ـ بروفانس Aix-en- Provence لأب صاحب مصرف ضمِِن لابنه مستقبلاً خالياً من المشاغل المالية وهمومها. التحق سيزان في عام 1852 بكلية بوربون حيث تلقَّى تعليماً كلاسيكياً متديناً وصارماً، والتقى بالكاتب المشهور إميل زولا [ر] Émile Zola والمصور المعروف فريدريك بازيلF.Bazille، ليمضي الأصدقاء الثلاثة أوقاتهم في التجوال والسباحة وتسلق الجبال وقراءة الشعر. يتحدث زولا عن هذه المرحلة قائلاً: «كنا ثلاثة، وكنا نشعر بمدى ثرائنا الذاتي، والوعود التي كنا نتطلع إلى تحقيقها... كنا متماثلين في الشباب والأحلام» ويصرح في مناسبة أخرى بقوله: «لقد بكينا حين قرأنا ألفرد دي موسيه[ر] Alfred de Musset» وهذا ما يؤكد هيمنة الروح الرومانسية على حياة الشباب في ذلك العصر، والتي تجلت عند سيزان وزميليه حباً للشعر والطبيعة والتقلب السريع بين الأمل واليأس والحب النبيل والأحلام الكبيرة بالمستقبل، فالطفولة الرومانسية والنشأة الثرية (البرجوازية) والبعد عن النساء، كونت شخصية سيزان ووسمته بطباع لم تفارقه طوال حياته. كان سيزان حساساً ومنعزلاً وعنيداً لدرجة لا تصدق، حتى إن زولا قال عنه: «إن إقناع سيزان أشبه ما يكون بجعل كنيسة نوتردامNotre-Dame de Paris ترقص».
انكفأ سيزان على نفسه بسبب سفر زولا إلى باريس، وانزوى في عزلته يستبد به القلق على مستقبله، ويساوره الشك في مقدرته على أن يكون رساماً، وتلك كانت حاله طوال مرحلة حياته الأولى التي قضاها متنقلاً بين إكس وباريس. وبحلول عام 1860 انصرف عن دراسة الحقوق ليتفرغ للرسم، وفي عام 1861 غادر سيزان إكس إلى باريس، وراح يتردد إلى الأكاديمية السويسرية استعداداً لدخول امتحان «كلية الفنون»، يحمل معه ضجره ورغبة في العزلة وخوفاً من الناس، وكان من أهم أعماله إبان تلك المرحلة لوحة رسمها لنفسه تعبر عن سوداويته، ولوحة لزولا مزقها تعبيراً عن شعوره بالفشل وانعدام الثقة بإمكاناته وخيبة أمله في المدينة وما فيها.
لا شك في أن طفولة سيزان الحالمة وشعوره باليأس المتشكك، وحبه للعزلة قد دفعته إلى الرومانسية[ر] Romantisme التي اكتشف فيها شقيقة روحه، فلجأ إلى أعمال روادها ولاسيما دولاكروا [ر] Delacroix وإلى فناني البندقية Venise وخصوصاً فيرونيز[ر]Véronèse يستقي من معينهم ويرسم تحت وطأة تأثيرهم لوحات كثيرة، منها لوحة «الأورجي» Orgies (أي طقوس العربدة) معبراً فيها عن عواطفه المكبوتة بحركات شخوصه العنيفة وحفلاتهم الراقصة والصاخبة المعربدة التي تفصح عن مشاعر سيزان الجنسية الدفينة.
لم يقف سيزان عند حدود الحركة المستمرة والمتسقة المستقاة من الإبداعية (الرومانسية) والباروك[ر] Baroque بل انتقل شيئاً فشيئاً باتجاه الانطباعية[ر] متأثراً بمانيه[ر] E.Manet وبالواقعية الجديدة منطلق الفنانين الجدد، ولاسيما بيسارو[ر] C.Pissarroالذي دعاه للخروج معه إلى الطبيعة، وشجعه على الرسم في الهواء الطلق. ولكن سيزان لم يصبح انطباعياً إلا في عام 1873 أي بعد مرور عشر سنوات على معرض المرفوضين. وفي عام 1874 اشترك في معرض الانطباعيين الأول، وعرض لوحات كثيرة منها «أولمبيا الحديثة» (متحف اللوفر) و«منظر في أوفر»، وعندما عرض أعماله في معرض الانطباعيين الثالث لقي من الهجوم ما لم يلقه غيره من المشاركين، قال جورج رينييه G.Régnier معلقاً: «هوجم سيزان أكثر مما هوجم أي فنان آخر، وأسيئت معاملته من الجمهور والصحافة طوال خمسة عشر عاماً، إذ لم توجد تهمة لم يلطخ اسمه بها، ولكن أعماله، مع ذلك، بدأت تلاقي نجاحاً». ما كان من سيزان، حيال ذلك، إلا أن يزداد بعداً عن الناس، فتفاقمت سوداويته وغرابة أطواره، وأغرق في عمله، مطوراً أسلوبه دون ضجيج، وازداد إلحاحاً وعناداً ومواظبة كلما رفضت المعارض الرسمية عرض أعماله.
عارض سيزان بمزيد من الحزم أسلوب الانطباعيين ولا سيما مونيه وطريقته في تقليصه للعالم إلى تألق غير ملموس. استخدم سيزان، مثل مونيه، الألوان المشرقة والمضيئة الحية، وكان يشعر بالفكرة القائلة: «إن ثمة دقيقة من عمر الكون تمر» و«يريد رسمها في واقعها»، ولكن سيزان لم يعر اهتماماً إلا لما هو دائم وثابت، فبدلاً من تسجيل انطباعات وليدة اللحظة، عمل على فرزها وتوضيحها، وأخضع مظاهر الكون لنظام صارم، فنزع عنها كل ما هو غامض وحفظ لها نضارتها وقوتها النابضة، فالفن في رأيه «تعبير عن اللامرئي بإشارات طبيعية متجلية»، ألم يقل هيغل[ر] Hegel: «إن الجمال تجل محسوس للفكرة» وأكد بودلير[ر] CH. Baudelaire الصلة بين المرئي واللامرئي، وبين الظواهر المحسوسة كلها، أوليس هو القائل: «أريد حقولاً بالأحمر، وأشجاراً بالأزرق، فليس للطبيعة مخيلة».
اتُّهمت الانطباعية بتمويهها للشكل وإغفالها للموضوع ولكل ما يتعلق بالحياة الإنسانية ومشكلاتها. وكان سيزان من أبرز المؤمنين بهذه الآراء والحاملين لواءها، وراح يوصي بمعالجة الطبيعة بوساطة «الأسطوانة والكرة والمخروط»، واتبع هذه النصيحة تلاميذه التكعيبيون الذين رأوا فيها إنجيلاً يحتذى، وهاهو ذا لو كوربوزييه Le Corbusierالمعمار الذائع الصيت يقول في كتابه «نحو عمارة جديدة» الصادر عام 1927 «... والأشكال المكعبة والمخروطية والدائرية والحلزونية والهرمية هي الأشكال الأولية العظيمة التي يكشفها لنا الضوء بأفضل صورة، لذا فصورة هذه الأشكال واضحة ومحسوسة داخل كل منا، وهي لهذا تعد دون سواها الأشكال الجميلة حقاً، بل أجمل الأشكال قاطبة». وراح سيزان يُبسِّط أشكال الطبيعة عمداً، فصب جل اهتمامه على الأسلوب دونما اكتراث كبير بالموضوع، الأسلوب الذي تتجاوب فيه المستقيمات والزوايا مع المنحنيات، والألوان الحمراء مع الخضراء، والبرتقالية مع الزرقاء. ومع ذلك فمن الخطأ أن يقال إن «سيزان» هو أول من أعطى أهمية كبيرة إلى ما يسمى بالوسائل، إذ عرف كبار المصورين على الدوام، أن الشكل، بمعناه الأوسع، يؤدي دوراً أساسياً في اللوحة مهما كان موضوعها. وعليه يكون سيزان قد أسهم في نشر فكرة عزيزة جداً على فناني القرن العشرين تتلخص في أن اللوحة وحدة مستقلة يمكن أن تستوحى من الطبيعة، ولكنها بالمقابل يجب أن تخضع أولاً وأخيراً إلى قوانينها الخاصة، وأن تكتفي بذاتها، لذلك آلى سيزان على نفسه أن يعيد نيقولا بوسان[ر] N.Poussin للطبيعة بعد دراسة متعمقة، وأن يعيد للأجسام صلابتها التي امتازت بها أعمال أساتذة الفن القدامى، انطلاقاً من إيمانه بأن الطبيعة جوهر بذاته يرتكز على أسس معمارية هندسية، ووفقاً لمنظور يقوده العقل ويتحكم به، باستخدام المستويات المتداخلة بدلاً من اللجوء إلى المنظور التقليدي حيث تلتقي الخطوط في نقطة النظر، واستخدام منظور «عين الطائر» وفيه تُرى الأشياء من عل، و«التداخل المكاني الزماني» لتأكيد موضوعية الواقع.
يرتبط فهم أسلوب سيزان في معالجة اللون بعبارة مهمة أطلقها ذات مرة: «لا تشكيل بلا تنغيم» وهذا يعني أن للون مهمتين: التشكيل والتنغيم، ولتأكيد ذلك اضطر سيزان إلى إجراء تعديل على طرق الاتباعيين والإبداعيين والانطباعيين، فألغى ارتباط اللون بالتبدل الآني للأحاسيس، ولجأ إلى تنظيمه على نحو يظهر متانة الأشياء واستدارتها وفق بناء اللوحة الكلي المتماسك، ومن العلاقة الجدلية بين التنغيم في درجات الإضاءة وتنظيم الألوان حسب شدتها، استطاع سيزان أن يجمع في لوحاته ظاهر الطبيعة المتحرك وصلابتها الدائمة، وأن يعبر عن موضوعية الواقع واستقلاله عنا، وعن الحركة الجدلية بين الثابت والمتحرك، وقد تجلت التجديدات هذه في معظم الأعمال التي أنتجها في مرحلة النضج مثل: «قصر ميدان» Médan، و«قرية بين الأشجار»، و«كأس وكمثرى»، و«السيدة سيزان»، و«الفتى ذو الصدار الأحمر»، و«الغابة»، و«جبل سانت فيكتوار» Sainte Victoire، و«صخور وأشجار»، ففي لوحة «لاعبو الورق» توحي خطوط الأرابيسك[ر] المحدِّدة لللاعبين وأيديهم المتماسكة، وانتقال هذه الخطوط من لاعب إلى آخر، بحركة لا انقطاع فيها، ومع ذلك فإن كل ما في اللوحة يرتكز على طاولة راسخة بشكلها الهندسي المعماري الثابت.
كان أول المتأثرين به جماعة الأنبياء[ر]les Nabis وعلى رأسهم فويار[ر] Vuillard، أما التأثير المباشر الثاني فكان في الوحشيين[ر]les Fauves، ومع ذلك لم تنطلق التأثيرات المباشرة هذه من فهم عميق لسيزان، لأن ما آمن به وما مهد له لم يبلغ غايته إلا في مطلع القرن العشرين مع تكعيبية براك[ر] Braqueوبيكاسو[ر] Picasso، ومع ما استجد على الفن بعمومه في النصف الأول من القرن العشرين، فليس غريباً والحال هذه أن يكون سيزان وبحق أبا الفن الحديث وإمامه.
في يوم الجمعة الموافق 15 تشرين الأول، وفي أثناء عمله في الحقول، داهمته عاصفة ماطرة وباردة، ولكنه ظل يرسم تحت الأمطار ساعات عدة حتى أغمي عليه، فحُمل على عربة وأعيد إلى منزله ليقاوم سكرات الموت سبعة أيام، وفارق الحياة في الثاني والعشرين من تشرين الأول تاركاً للإنسانية ما ينوف على 900 لوحة زيتية و400 لوحة مائية.
فائق دحدوح
(1839 ـ 1906)
ولد المصور الفرنسي بول سيزان Paul Cézanne في إكس ـ آن ـ بروفانس Aix-en- Provence لأب صاحب مصرف ضمِِن لابنه مستقبلاً خالياً من المشاغل المالية وهمومها. التحق سيزان في عام 1852 بكلية بوربون حيث تلقَّى تعليماً كلاسيكياً متديناً وصارماً، والتقى بالكاتب المشهور إميل زولا [ر] Émile Zola والمصور المعروف فريدريك بازيلF.Bazille، ليمضي الأصدقاء الثلاثة أوقاتهم في التجوال والسباحة وتسلق الجبال وقراءة الشعر. يتحدث زولا عن هذه المرحلة قائلاً: «كنا ثلاثة، وكنا نشعر بمدى ثرائنا الذاتي، والوعود التي كنا نتطلع إلى تحقيقها... كنا متماثلين في الشباب والأحلام» ويصرح في مناسبة أخرى بقوله: «لقد بكينا حين قرأنا ألفرد دي موسيه[ر] Alfred de Musset» وهذا ما يؤكد هيمنة الروح الرومانسية على حياة الشباب في ذلك العصر، والتي تجلت عند سيزان وزميليه حباً للشعر والطبيعة والتقلب السريع بين الأمل واليأس والحب النبيل والأحلام الكبيرة بالمستقبل، فالطفولة الرومانسية والنشأة الثرية (البرجوازية) والبعد عن النساء، كونت شخصية سيزان ووسمته بطباع لم تفارقه طوال حياته. كان سيزان حساساً ومنعزلاً وعنيداً لدرجة لا تصدق، حتى إن زولا قال عنه: «إن إقناع سيزان أشبه ما يكون بجعل كنيسة نوتردامNotre-Dame de Paris ترقص».
انكفأ سيزان على نفسه بسبب سفر زولا إلى باريس، وانزوى في عزلته يستبد به القلق على مستقبله، ويساوره الشك في مقدرته على أن يكون رساماً، وتلك كانت حاله طوال مرحلة حياته الأولى التي قضاها متنقلاً بين إكس وباريس. وبحلول عام 1860 انصرف عن دراسة الحقوق ليتفرغ للرسم، وفي عام 1861 غادر سيزان إكس إلى باريس، وراح يتردد إلى الأكاديمية السويسرية استعداداً لدخول امتحان «كلية الفنون»، يحمل معه ضجره ورغبة في العزلة وخوفاً من الناس، وكان من أهم أعماله إبان تلك المرحلة لوحة رسمها لنفسه تعبر عن سوداويته، ولوحة لزولا مزقها تعبيراً عن شعوره بالفشل وانعدام الثقة بإمكاناته وخيبة أمله في المدينة وما فيها.
لا شك في أن طفولة سيزان الحالمة وشعوره باليأس المتشكك، وحبه للعزلة قد دفعته إلى الرومانسية[ر] Romantisme التي اكتشف فيها شقيقة روحه، فلجأ إلى أعمال روادها ولاسيما دولاكروا [ر] Delacroix وإلى فناني البندقية Venise وخصوصاً فيرونيز[ر]Véronèse يستقي من معينهم ويرسم تحت وطأة تأثيرهم لوحات كثيرة، منها لوحة «الأورجي» Orgies (أي طقوس العربدة) معبراً فيها عن عواطفه المكبوتة بحركات شخوصه العنيفة وحفلاتهم الراقصة والصاخبة المعربدة التي تفصح عن مشاعر سيزان الجنسية الدفينة.
لم يقف سيزان عند حدود الحركة المستمرة والمتسقة المستقاة من الإبداعية (الرومانسية) والباروك[ر] Baroque بل انتقل شيئاً فشيئاً باتجاه الانطباعية[ر] متأثراً بمانيه[ر] E.Manet وبالواقعية الجديدة منطلق الفنانين الجدد، ولاسيما بيسارو[ر] C.Pissarroالذي دعاه للخروج معه إلى الطبيعة، وشجعه على الرسم في الهواء الطلق. ولكن سيزان لم يصبح انطباعياً إلا في عام 1873 أي بعد مرور عشر سنوات على معرض المرفوضين. وفي عام 1874 اشترك في معرض الانطباعيين الأول، وعرض لوحات كثيرة منها «أولمبيا الحديثة» (متحف اللوفر) و«منظر في أوفر»، وعندما عرض أعماله في معرض الانطباعيين الثالث لقي من الهجوم ما لم يلقه غيره من المشاركين، قال جورج رينييه G.Régnier معلقاً: «هوجم سيزان أكثر مما هوجم أي فنان آخر، وأسيئت معاملته من الجمهور والصحافة طوال خمسة عشر عاماً، إذ لم توجد تهمة لم يلطخ اسمه بها، ولكن أعماله، مع ذلك، بدأت تلاقي نجاحاً». ما كان من سيزان، حيال ذلك، إلا أن يزداد بعداً عن الناس، فتفاقمت سوداويته وغرابة أطواره، وأغرق في عمله، مطوراً أسلوبه دون ضجيج، وازداد إلحاحاً وعناداً ومواظبة كلما رفضت المعارض الرسمية عرض أعماله.
بول سيزان "لاعبو الورق، 1885-1890" (متحف الانطباعية، باريس) |
اتُّهمت الانطباعية بتمويهها للشكل وإغفالها للموضوع ولكل ما يتعلق بالحياة الإنسانية ومشكلاتها. وكان سيزان من أبرز المؤمنين بهذه الآراء والحاملين لواءها، وراح يوصي بمعالجة الطبيعة بوساطة «الأسطوانة والكرة والمخروط»، واتبع هذه النصيحة تلاميذه التكعيبيون الذين رأوا فيها إنجيلاً يحتذى، وهاهو ذا لو كوربوزييه Le Corbusierالمعمار الذائع الصيت يقول في كتابه «نحو عمارة جديدة» الصادر عام 1927 «... والأشكال المكعبة والمخروطية والدائرية والحلزونية والهرمية هي الأشكال الأولية العظيمة التي يكشفها لنا الضوء بأفضل صورة، لذا فصورة هذه الأشكال واضحة ومحسوسة داخل كل منا، وهي لهذا تعد دون سواها الأشكال الجميلة حقاً، بل أجمل الأشكال قاطبة». وراح سيزان يُبسِّط أشكال الطبيعة عمداً، فصب جل اهتمامه على الأسلوب دونما اكتراث كبير بالموضوع، الأسلوب الذي تتجاوب فيه المستقيمات والزوايا مع المنحنيات، والألوان الحمراء مع الخضراء، والبرتقالية مع الزرقاء. ومع ذلك فمن الخطأ أن يقال إن «سيزان» هو أول من أعطى أهمية كبيرة إلى ما يسمى بالوسائل، إذ عرف كبار المصورين على الدوام، أن الشكل، بمعناه الأوسع، يؤدي دوراً أساسياً في اللوحة مهما كان موضوعها. وعليه يكون سيزان قد أسهم في نشر فكرة عزيزة جداً على فناني القرن العشرين تتلخص في أن اللوحة وحدة مستقلة يمكن أن تستوحى من الطبيعة، ولكنها بالمقابل يجب أن تخضع أولاً وأخيراً إلى قوانينها الخاصة، وأن تكتفي بذاتها، لذلك آلى سيزان على نفسه أن يعيد نيقولا بوسان[ر] N.Poussin للطبيعة بعد دراسة متعمقة، وأن يعيد للأجسام صلابتها التي امتازت بها أعمال أساتذة الفن القدامى، انطلاقاً من إيمانه بأن الطبيعة جوهر بذاته يرتكز على أسس معمارية هندسية، ووفقاً لمنظور يقوده العقل ويتحكم به، باستخدام المستويات المتداخلة بدلاً من اللجوء إلى المنظور التقليدي حيث تلتقي الخطوط في نقطة النظر، واستخدام منظور «عين الطائر» وفيه تُرى الأشياء من عل، و«التداخل المكاني الزماني» لتأكيد موضوعية الواقع.
بول سيزان "جبل سانت - فيكتوار، 1898-1900" (متحف الأرميتاج) |
كان أول المتأثرين به جماعة الأنبياء[ر]les Nabis وعلى رأسهم فويار[ر] Vuillard، أما التأثير المباشر الثاني فكان في الوحشيين[ر]les Fauves، ومع ذلك لم تنطلق التأثيرات المباشرة هذه من فهم عميق لسيزان، لأن ما آمن به وما مهد له لم يبلغ غايته إلا في مطلع القرن العشرين مع تكعيبية براك[ر] Braqueوبيكاسو[ر] Picasso، ومع ما استجد على الفن بعمومه في النصف الأول من القرن العشرين، فليس غريباً والحال هذه أن يكون سيزان وبحق أبا الفن الحديث وإمامه.
في يوم الجمعة الموافق 15 تشرين الأول، وفي أثناء عمله في الحقول، داهمته عاصفة ماطرة وباردة، ولكنه ظل يرسم تحت الأمطار ساعات عدة حتى أغمي عليه، فحُمل على عربة وأعيد إلى منزله ليقاوم سكرات الموت سبعة أيام، وفارق الحياة في الثاني والعشرين من تشرين الأول تاركاً للإنسانية ما ينوف على 900 لوحة زيتية و400 لوحة مائية.
فائق دحدوح