أورليان في تدمر
كتب الباحث محمد قجة من سورية
كان ذلك في خريف عام 272 م والجيوش الرومانية الغازية تحاصر (تدمُر) عروس الصحراء العربية.
تعود حضارة تدمُر إلى مطلع الألف الثاني ق.م، وقد سكنها الكنعانيون، ثم امتزجت مع البابليين والآشورين، ثم سكنها الآراميون والعرب، وازدهرت كمملكةٍ عربية في فترة ازدهار البتراء لدى الأنباط، وكان سكانها من القبائل العربية يتحدثون العربية، ويكتبونها بالأبجدية الآرامية.
ولعب موقع (تدمر) دوراً هاماً في الحركة التجارية بين الفرات وشط العرب من جهة وبين البحر المتوسط من جهة ثانية. وعلى الرغم من أن الرومان احتلوا بلاد الشام عام 64 ق.م فإن تدمر بقيت مستقلة حتى أواخر القرن الأول الميلادي حينما تمكنت حامية رومانية من دخولها، وكانت قد تعرضت لعملية نهب وسطو رومانية عام 41 ق.م على يد بعض جنود "أنطونيو"، إلا أن سكان تدمر طردوا هؤلاء الدخلاء في حينها.
ومنذ مطلع القرن الثاني للميلاد غدت تدمر مدينة التجارة العالمية وبخاصة طريق الحرير، وذلك بعد سقوط البتراء في يد الرومان وتحول الطريق التجاري العالمي إلى تدمر: تجارة الحرير والتوابل والعطور والعاج والزجاج والتماثيل والأقمشة.
وفي عام 228 م قامت في فارس السلالة الساسانية التي بدأت التوسع لإعادة مجد الإمبراطورية الفارسية، وكان طبيعياً أن تمتد أنظار هذه الأسرة إلى المراكز التجارية القريبة، فاحتلت شط العرب وموانىء الخليج وحرمت تدمر منها. وهكذا أصبحت تدمر بين فكيّ كمّاشة طرفاها الفرس الساسانيون شرقاً والرومان الأوروبيون غرباً.
واستطاعت أسرة عربية عريقة أن تتولى حكم تدمر، وأن تلعب دوراً ذكياً في التوازن بين القوتين العالميتين، وبرز من هذه الأسرة الملك "أذينة"، الذي وسع مملكته، ولكنه أخطأ الحسابات الاستراتيجية بتعاونه مع الرومان ضد الفرس، والرومان لم يكونوا ممن يحفظ العهد، فهم أبناء حضارة متغطرسة تنزع إلى الهيمنة وترفض الآخر وتقمع من يخالفها، ولا ترى غير مصالحها الذاتية.
وبعد مقتل "أذينة" وابنه "هرود" في حمص، تولّت الحكم زوجته "زينب" المعروفة باسم "زنوبيا" وصيّةً على ابنها "وهب اللات"، ووسعت "زينب" مملكتها فطردت الرومان من آسيا الصغرى، ووصلت جيوشها العربية حتى البوسفور، وطردت الرومان من مصر ودخلت الإسكندرية في موكب ظافر وذلك عام 271 م.
كانت روما قد أصبحت تحت حكم الإمبراطور "أورليان" وهو ينحدر من أسرة عديمة الثقافة وكان يمتاز بالبطش والطيش حتى لقبه رجاله بعبارة (يد على سيف) بمعنى أن ضربته كانت قبل كلمته، فهو بذلك يشبه الكاوبوي الذي يطلق النار لأتفه الأسباب.
سار "أورليان" بجيوشه، ويبدو أن "زينب" ملكة تدمر لم تكن قد أتمت استعدادها الحربي، واستطاع "أورليان" أن ينتزع مصر من يد "وهب اللات ابن زينب"، ثم أن ينتزع آسيا الصغرى ويهزم جيش تدمر في أنطاكية ثم في حمص. انكفأت "زينب" إلى تدمر وأغلقت عليها أسوارها، ووصلت جيوش الغزاة الأوروبيين الرومان فأحاطت بتدمر وأرسل الإمبراطور "أورليان" إلى "زينب" يطلب منها الاستسلام والخروج من بلدها وتسليم مقاليد الحكم لرجال رومان يختارهم هو..
كان لدى "زينب" حكيم تدمري هو "لونجين" وكان مستشارها ووزيرها الأول، وقد حاور "لونجين" الإمبراطور الروماني وحاول أن يفهمه أن تدمر بلد مستقل وأن سكانها لم يتعدوا على روما وأنهم لا يشكلون خطراً على أحدهم ولا يمتلكون أسلحة مدمرة تستطيع الوصول إلى روما. ولكن "أورليان" أفهم "لونجين" بوضوح أن الذي يهمه هو موقع تدمر التجاري وثروتها الكبيرة ولا يهمه من يموت ومن يبقى من سكانها، إنه يريد العالم كله بمن فيه وبما فيه، يريد السيطرة الرومانية الكاملة على مقاليد الأمور لدى سائر الشعوب.
وحينما أعجزه الحوار مع "لونجين" الفيلسوف أمر جنوده بقتله والخلاص منه، وقد قال له أحد ضباطه: (إن "لونجين" رجل علم وفلسفة فلماذا تقتله؟!). فأجاب "أورليان": (إنني أقتله لأنه رجل علم وفلسفة، فأنا لا أريد لتدمر أن تتعلم ولا أن تتقدم، أريدها مدمّرة جاهلة).
حاولت "زينب" التسلّل ليلاً للوصول إلى الفرات وطلب النجدة من الفرس الساسانيين، ولكن خائناً من تدمر دلّ الرومان عليها فأسروها وأحضروها إلى الإمبراطور، ومرة ثانية طلب منها توقيع الاستسلام فرفضت بكل إباء..
دخلت جيوش "أورليان" تدمر فدمرتها وسوتها بالأرض وأباحها الإمبراطور لجنوده سلباً ونهباً واغتصاباً وهو يرى ذلك ويقهقه مسروراً، دمر كل شيء فيها: أسوارها معابدها، أسواقها منازلها، وقتل السكان جميعاً، وكأنه يكرر ما فعله أسلافه بمدينة قرطاجة عام 146 ق.م. أما "زينب" فتختلف الروايات حول مصيرها، فمن قائل أنها أضربت عن الطعام حتى الموت، ومن قائل أن "أورليان" وضعها في قفص وأدخلها سجينة إلى روما.
بعد ثلاثة أعوام أي عام 275 قُتل "أورليان"، وبعد عدة عقود انهارت روما من الداخل وتفكّكت وتحطمت غطرستها اللا إنسانية.
أورليان في تدمر
كتب الباحث محمد قجة من سورية
كان ذلك في خريف عام 272 م والجيوش الرومانية الغازية تحاصر (تدمُر) عروس الصحراء العربية.
تعود حضارة تدمُر إلى مطلع الألف الثاني ق.م، وقد سكنها الكنعانيون، ثم امتزجت مع البابليين والآشورين، ثم سكنها الآراميون والعرب، وازدهرت كمملكةٍ عربية في فترة ازدهار البتراء لدى الأنباط، وكان سكانها من القبائل العربية يتحدثون العربية، ويكتبونها بالأبجدية الآرامية.
ولعب موقع (تدمر) دوراً هاماً في الحركة التجارية بين الفرات وشط العرب من جهة وبين البحر المتوسط من جهة ثانية. وعلى الرغم من أن الرومان احتلوا بلاد الشام عام 64 ق.م فإن تدمر بقيت مستقلة حتى أواخر القرن الأول الميلادي حينما تمكنت حامية رومانية من دخولها، وكانت قد تعرضت لعملية نهب وسطو رومانية عام 41 ق.م على يد بعض جنود "أنطونيو"، إلا أن سكان تدمر طردوا هؤلاء الدخلاء في حينها.
ومنذ مطلع القرن الثاني للميلاد غدت تدمر مدينة التجارة العالمية وبخاصة طريق الحرير، وذلك بعد سقوط البتراء في يد الرومان وتحول الطريق التجاري العالمي إلى تدمر: تجارة الحرير والتوابل والعطور والعاج والزجاج والتماثيل والأقمشة.
وفي عام 228 م قامت في فارس السلالة الساسانية التي بدأت التوسع لإعادة مجد الإمبراطورية الفارسية، وكان طبيعياً أن تمتد أنظار هذه الأسرة إلى المراكز التجارية القريبة، فاحتلت شط العرب وموانىء الخليج وحرمت تدمر منها. وهكذا أصبحت تدمر بين فكيّ كمّاشة طرفاها الفرس الساسانيون شرقاً والرومان الأوروبيون غرباً.
واستطاعت أسرة عربية عريقة أن تتولى حكم تدمر، وأن تلعب دوراً ذكياً في التوازن بين القوتين العالميتين، وبرز من هذه الأسرة الملك "أذينة"، الذي وسع مملكته، ولكنه أخطأ الحسابات الاستراتيجية بتعاونه مع الرومان ضد الفرس، والرومان لم يكونوا ممن يحفظ العهد، فهم أبناء حضارة متغطرسة تنزع إلى الهيمنة وترفض الآخر وتقمع من يخالفها، ولا ترى غير مصالحها الذاتية.
وبعد مقتل "أذينة" وابنه "هرود" في حمص، تولّت الحكم زوجته "زينب" المعروفة باسم "زنوبيا" وصيّةً على ابنها "وهب اللات"، ووسعت "زينب" مملكتها فطردت الرومان من آسيا الصغرى، ووصلت جيوشها العربية حتى البوسفور، وطردت الرومان من مصر ودخلت الإسكندرية في موكب ظافر وذلك عام 271 م.
كانت روما قد أصبحت تحت حكم الإمبراطور "أورليان" وهو ينحدر من أسرة عديمة الثقافة وكان يمتاز بالبطش والطيش حتى لقبه رجاله بعبارة (يد على سيف) بمعنى أن ضربته كانت قبل كلمته، فهو بذلك يشبه الكاوبوي الذي يطلق النار لأتفه الأسباب.
سار "أورليان" بجيوشه، ويبدو أن "زينب" ملكة تدمر لم تكن قد أتمت استعدادها الحربي، واستطاع "أورليان" أن ينتزع مصر من يد "وهب اللات ابن زينب"، ثم أن ينتزع آسيا الصغرى ويهزم جيش تدمر في أنطاكية ثم في حمص. انكفأت "زينب" إلى تدمر وأغلقت عليها أسوارها، ووصلت جيوش الغزاة الأوروبيين الرومان فأحاطت بتدمر وأرسل الإمبراطور "أورليان" إلى "زينب" يطلب منها الاستسلام والخروج من بلدها وتسليم مقاليد الحكم لرجال رومان يختارهم هو..
كان لدى "زينب" حكيم تدمري هو "لونجين" وكان مستشارها ووزيرها الأول، وقد حاور "لونجين" الإمبراطور الروماني وحاول أن يفهمه أن تدمر بلد مستقل وأن سكانها لم يتعدوا على روما وأنهم لا يشكلون خطراً على أحدهم ولا يمتلكون أسلحة مدمرة تستطيع الوصول إلى روما. ولكن "أورليان" أفهم "لونجين" بوضوح أن الذي يهمه هو موقع تدمر التجاري وثروتها الكبيرة ولا يهمه من يموت ومن يبقى من سكانها، إنه يريد العالم كله بمن فيه وبما فيه، يريد السيطرة الرومانية الكاملة على مقاليد الأمور لدى سائر الشعوب.
وحينما أعجزه الحوار مع "لونجين" الفيلسوف أمر جنوده بقتله والخلاص منه، وقد قال له أحد ضباطه: (إن "لونجين" رجل علم وفلسفة فلماذا تقتله؟!). فأجاب "أورليان": (إنني أقتله لأنه رجل علم وفلسفة، فأنا لا أريد لتدمر أن تتعلم ولا أن تتقدم، أريدها مدمّرة جاهلة).
حاولت "زينب" التسلّل ليلاً للوصول إلى الفرات وطلب النجدة من الفرس الساسانيين، ولكن خائناً من تدمر دلّ الرومان عليها فأسروها وأحضروها إلى الإمبراطور، ومرة ثانية طلب منها توقيع الاستسلام فرفضت بكل إباء..
دخلت جيوش "أورليان" تدمر فدمرتها وسوتها بالأرض وأباحها الإمبراطور لجنوده سلباً ونهباً واغتصاباً وهو يرى ذلك ويقهقه مسروراً، دمر كل شيء فيها: أسوارها معابدها، أسواقها منازلها، وقتل السكان جميعاً، وكأنه يكرر ما فعله أسلافه بمدينة قرطاجة عام 146 ق.م. أما "زينب" فتختلف الروايات حول مصيرها، فمن قائل أنها أضربت عن الطعام حتى الموت، ومن قائل أن "أورليان" وضعها في قفص وأدخلها سجينة إلى روما.
بعد ثلاثة أعوام أي عام 275 قُتل "أورليان"، وبعد عدة عقود انهارت روما من الداخل وتفكّكت وتحطمت غطرستها اللا إنسانية.