الحكيمُ الفردوسيُّ.. شاهُ الشعراءِ وعميدُ صرحِ الملاحمِ
تشرين – ميسون شباني:
ربما يُمكن وصفه بأنه أكبرُ شاعرٍ ملحمي فارسي، وأحد ألمع وجوه الأدب في العالم، وأبرز شعراء الفارسية في نظم الملاحم الشعرية الحماسية والأساطير التراثية والتاريخية على المستوى العالمي، ويصفه العديد من الأدباء والباحثين في مجال الأدب، بأنه هوميروس إيران وشاعرها الملحمي الإغريقي الكبير الملقب بالحكيم الفردوسي فمن هو؟!.
تخلّص شعري فردوسي
حول هذا الموضوع تقول الدكتورة بثينة شموس عضو الهيئة التدريسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة طرطوس بأن أبو القاسم الفردوسيّ حُقَّ له أن يوصفَ بالحكيمِ، فلا شكَّ في حكمةِ من كان نتاجُ فكرِه صرحاً شامخاً لا يُوازى: «الشّاهنامة».
وتضيف شموس: إذا عدنا إلى اسمُه الحقيقي فهو منصورُ بنُ حسنِ بن شرف شاه، وكنُي بأبي القاسم، واختلفَ الباحثون على نسبِه، وُلدَ في طوسَ – من مدنِ خراسانَ- في النصفِ الأوّلِ من القرنِ الرّابعِ الهجريِّ، ولا يُعرفُ الكثيرُ عن حياتِه، واشتُهرَ بتخلّصِه الشّعريِّ: الفردوسيّ، إلا أن هناكَ خلافاً حولَ أصلِ تخلّصِهِ، فقد رأى د. فروزانفر أن ما وصلَ إلينا من دواعي نسبةِ هذا اللقبِ إليه ليسَ محطَّ ثقةٍ، ولكنَّ الأرجحَ أنه يعودُ لامتلاكِه لحديقةِ «الفردوس»، فيما زعمَ البعضُ الآخرُ أنه عندما أنشدَ الفردوسيُّ قصةَ «رستمَ وإسفنديار» على السلطانِ محمود الغزنويِّ قالَ له السّلطانُ: «لله درُّكَ يا فردوسيّ! لقد حوّلتَ مجلسَنا إلى فردوس» لكنّ هذا يشيرُ بدورِه إلى أنه كانَ يلقّبُ بذلك قبل مجيئِه إلى بلاطِ السّلطانِ.
بداية الشاهنامة ومعناها
وبخصوص بداية الشّاهنامة ومعناها تقول د. شموس بأن الفردوسيُّ كرّس ربيعَ عمرِه وعصارةَ أفكارِه للشّاهنامة، إذ امتدّ عملُه عليها أكثرَ من ثلاثين عاماً على اختلافِ المؤرخين في دقّةِ العددِ، فكان قد بدأَ بها بينَ عامي 365- 375هـ.ق، وأنهاها عام 400، ما كان ينفكُّ -خلالَها- عن البحثِ في قصصِ الملوكِ والأبطالِ ومطالعتِها، وقد كانت بدايةُ الشّاهنامة مع الشّاعرِ دقيقيّ، فنظمَ فيها ألفَ بيتٍ، ولكنَّ القدرَ لم يكتبْ له إتمامَها، فبدأ الفردوسيُّ بها بعد عامين من وفاةِ دقيقيّ الذي يقالُ بأنه أتاه في الحلمِ طالباً منه أن يتمَّ ما بدأه، و«الشّاهنامة» تعني «سِيَرَ الملوكِ أو ملحمةَ الملوكِ أو كتابَ الملوكِ»، وهي ملحمةٌ شعبيّةٌ في ستين ألفَ بيتٍ، تُعرفُ بملحمةِ الفرسِ الكبرى، نُظمت على البحرِ المتقاربِ، بقافيةٍ تُعرف في الفارسيّة بالمثنوي «القافية المزدوجة»، وهي تصوّرُ حياةَ ملوكِ إيرانَ وأبطالِها وقصصَهم بكلِّ ما فيها من حبٍّ وكراهيةٍ ووفاءٍ وخيانةٍ وشجاعةٍ، فضلاً عمّا تزوّدُنا به من معلوماتٍ عن تاريخِ إيرانَ وامتدادِها الجغرافيِّ، وتعكسُ الحياةَ الثّقافيّةَ والسّياسيّةَ والاجتماعيّةَ والاقتصاديّةَ التي كانت قبلَ الفتحِ الإسلاميِّ، فهي تمتدُّ في فترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ، تبدأُ منذ فجرِ الحضارةِ وتصوّرُ السّلالاتِ الإيرانيةَ المتعاقبةَ، وتنتهي بالفتحِ الإسلاميِّ، وتروي على هذا الامتدادِ النزاعَ الذي بقيَ متأجّجاً بين الفرسِ والأتراكِ «التّورانيين»، وهي تزيدُ عن الملاحمَ الأخرى مجتمعةً في حجمِها.
تنقسمُ شخصياتُها إلى أبطالٍ أسطوريين خارقين وأبطالٍ بشريين، ويشكّل «كيخسرو» الحدَّ الفاصلَ بينهما، فيمتزجُ فيها التاريخُ بالأسطورة، كما كانت مجمعاً لروافدِ المعرفةِ الإنسانيةِ كالفلسفةِ واللّغةِ والتّاريخِ والغزلِ وما طابَ للسامعِ من فنونِ الشّعرِ، وتعدُّ خاتمةَ الحماسةِ الإيرانيّةِ القديمةِ، وانعكاسَ الفنِّ الجامعِ لقصصِ إيرانَ القديمةِ وأساطيرِها، وقد كان الجزءُ الأوّلُ منها – من بدايتِها وحتى موتِ رستمَ- مليئاً بالمشاعرِ الوطنيةِ، واستمرَّ الجزءُ الثّاني من الإسكندرِ حتى انقراضِ السّاسانيين، وقد جمعتْ –بذلك- تاريخَ إيرانَ على امتدادِ أكثرَ من ثمانيةِ قرونٍ.
نهضة أدبية وشعرية
وتضيف د. شموس بأن الفردوسي بالغ في التأكيدِ على اللّغةِ الفارسيّةِ في ملحمتِه، نظراً لما شاهدَه في عصرِه من تحوّلٍ عنها، إذ وصلَ تغلغلُ العربيّةِ والتّركيّةِ فيها حدّاً كادَ يهدّدُ وجودَها، مما دعاه لمحاولةِ رتقِ الشّرخِ بين ما كانت عليه اللّغةُ، وما آلت إليه، فاستعملَ ألفاظاً جزلةً وتعابيرَ بليغةً، مشبعاً إياها بفنونِ الكلامِ والتّعبيرِ في شتّى المواضيعِ التي تناولها، لذا صارت ملحمتُه عقداً حفظَ كنوزَ اللّغةِ من الاندثارِ والضياعِ، وشرارةً خلقتْ نهضةً أدبيةً بما خلّفته من تأثير بما جاء بعدها، وهي تمثل نسقاً معرفياً شعرياً واقعياً قلّ نظيره في الأدب والشعر القصصي العالمي.
أيقونة متعددة المشارب
وتستكمل د. شموس حديثها بأن الفردوسيّ قدّم ثمرةَ عمرهِ ونتاجَ وجودِه للسّلطانِ محمود الغزنوي لكن لم تلقَ من اهتمامِ السّلطانِ ما كان الفردوسيُّ يرجوه، ولم ينقضِ الأمرُ بأن عاد خاليَ الوفاضِ وحسب، بل خرجَ بتهديدٍ جعلَه يتوارى عن الأنظارِ ويُلاحقُ بأمرٍ من السّلطانِ ذاتِه، ولكنّ ذلك لم يقف حائلاً أمام شهرةِ الشّاهنامة وانتشارها، إذ أثرتِ تأثيراً بليغاً في كلِّ من عقبَ الفردوسيّ من شعراءٍ وأدباءٍ وحتى عامّةِ النّاسِ حتى أيامِنا هذه، ويكفي الشّاهنامة فخراً أن يكونَ مطلعُها أيقونةً تُفتتحُ بها الآثارُ على اختلافِ مشاربِها، فقد بدأَ الفردوسيُّ ملحمتَه بحمدِ اللهِ؛ خالقِ الروحِ والعقلِ، أي خالقِ أسمى ما في الإنسان.
يوم تكريم اللغة والأدب الفارسي
واختتمت د. شموس حديثها بأن يوم الخامس عشر من أيار هو ذكرى تكريم الشاعر الإيراني الحكيم «أبو القاسم الفردوسي» ويوم تكريم اللغة والأدب الفارسي، ورغم وفاة الفردوسي إلا أن ذكرَه باقٍ ما بقي التّاريخُ، لا يمحو ما خطَّهُ قلمٌ، ولا يُذهِبُ وقعَ شعرِه أو يبدّدُ صداه كلامٌ.