محنةُ القصة القصيرة أمام هيمنة الرواية واختزال الـ(ق.ق.ج)!!
تشرين- علي الرّاعي:
كان لافتاً منذ بداية هذه السنة صدور مجموعات قصصية مختلفة ومتنوعة عن الهيئة العامة السورية للكتاب لكتّاب سوريين، وأخرى مترجمة عن لغات عالمية.. أقول كان لافتاً، لأنَّ (فن القصة القصيرة)، بقي وحده – تقريباً – الفن الضّال في حركة الإبداع السوري وربما العربي، وذلك منذ أكثر من تسعينيات القرن الماضي، إذ إنّ الناقد نضال الصالح يسجل صدور أكثر من خمسمئة وتسع وعشرين مجموعة قصصية خلال تلك المدة وبحساباته، فإن ثمة مجموعة تصدر كل سبعة أيام.
فالحديث النقديُّ يجري عن أزمة في الشعر، وتحديداً في الهوّة بين القصيدة والمتلقي، وذلك بعد أن عادت القصيدة لحجمها الطبيعي، ليست القصيدة التي كانت تنادي «بتغيير» العالم، فليس مهماً أن تعرفَ الشاعرَ الخيلُ والليل، ويملأ الدنيا، بل أقصى أمانيه اليوم أن تعرفه جارته ويملأ بال صديقته على حدِ بعض ما وصف به الشاعر محمد عضيمة نفسه… رغم ذلك ثمة حديث عن القصيدة لا ينتهي.
وهكذا الرواية «فالسوق» اليوم هو سوق الرواية، ولا حديث البتة عن القصة إلا على استحياء.. حتى إن هناك من جاهر أن القصة لم تكن لديه سوى أنها «تدريب» أو حجة لكتابة الرواية.. فأحد الروائيين الذين شغلوا الساحة الثقافية ذات حينٍ من الدهر؛ يذكرعلى سبيل المثال أن كتابته القصة لم تكن سوى «فشّة خلق» واستراحة، وكانت أشبه ب«كروكي» للرواية، حتى إن قصته تحمل نفساً روائياً أكثر منه قصصياً، بل هو يعترف بكثير من الخجل أنه كتب قصة، ويؤكد أيضاً أن معظم الروائيين الذين كتبوا القصة كانوا فاشلين فيها، ومثاله في ذلك نجيب محفوظ فيما كتب من قصة.. وفي مؤتمر العجيلي الأول للرواية في الرقة الذي كان يُقام قبل عقدين من الآن؛ يعدّ الأديب ياسين رفاعية أن القصة لدى عبد السلام العجيلي كانت تمريناً على الرواية، فقد كان يطور القصة من القصيرة إلى الأطول قليلاً إلى القصة الطويلة ثم أخيراً إلى الرواية.
في حين يذكر الروائي جمال الغيطاني في حوار أجريته معه ونشرته (تشرين) ذات حين أمسى بعيداً: لا أعدّ كتابة القصة حجة أو معبراً للرواية، بل هي لحن ثانوي، أو مجموعات ألحان ثانوية تبشر بلحن أساسي قادم، ويضيف شخصياً لم أكن أدّعي هذا الأمر، فمثلاً أنا مهووس بالكتابة عن موضوع السجن، وكتبت عنه قبل أن أدخله ولاسيما في قصص الستينيات كانت إرهاصات حقيقية للرواية، ورواية «الزيني بركات» على سبيل المثال سبقتها «ماكيت» من خمس قصص قصيرة كـ «هداية أهل الورق لبعض ما جرى في القشرة» وهذا اسم لسجن شنيع في العهد المملوكي، وقصص أخرى مثل «رسالة فتاة من الشمال» و«غريب الحديث والكلام عن علي بن الكسيح».. يفسر الغيطاني الأمر بالآتي: تلح عليك فكرة تُعبّر عنها بقصة قصيرة، غير أن التعبير هنا لا ينهي اهتمامك بها.. فيبدأ موضوع الرواية، ويضيف أعدّ نفسي روائياً في الأساس، واستعدادي لكتابة الرواية هو البداية، لكن نشر الرواية في ذلك الوقت كان صعباً، فكانت كتابة القصة القصيرة وسيلة للنشر.
وإذا كان الغيطاني يفعل الأمر عن غير وعي، كما يذكر، أو كوسيلة للنشر، فإن الكثير من الروائيين كانت كتابة القصة لديهم تمرينات للانتقال للرواية، ويتم ذلك عن وعي، وبالعودة للناقد نضال الصالح فهو يذكر في هذا المجال حول قص التسعينيات في سورية أنه من السمات العامة المميزة للأصوات النسوية الجديدة الكتابة في غير جنس أدبي، ولاسيما القصة والرواية أمثال: هيفاء بيطار، وأميمة الخش، ووصال سمير، وميّة الرحبي، ويمكن أن نضيف هنا أنيسة عبود، وفائزة الداؤد اللواتي سارعن جميعاً على عادة معظم كتّاب القصة القصيرة في سورية، إلى حقل الكتابة الروائية بعد مجموعة أو أكثر، فقدّمن عدداً مما هو جدير بانتمائه إلى فن الرواية، وبدا نتاج معظمهن تمرينات في الجنس الروائي أكثر منه فناً روائياً.
أي إن أحداً اليوم لم يكتب القصة الصرف –إلا قليلاً- فالذي لم ينتقل لكتابة الرواية هو بالتأكيد يكتب النقد، أو الشعر، بل حتى من ادّعى طويلاً، ونادى بالإخلاص للقصة القصيرة، فعلها هو الآخر «وخانها» بإصدار مجموعة شعرية، أو كتابٍ نقديٍّ، وكنت أظن فترة طويلة أن الكاتب علي صقر أحد المخلصين للقصة، غير أنه فاجأنا بإنتاجه العديد من النصوص المسرحية، ودائماً كانت القصة ـ على ما يبدو ـ تقبل «الضرّة» وأعتقد من هنا غاب عنها أقطابها اليوم، وليس ثمة حديث عن أجيال من كتّابِها على عكس الرواية التي أنتجت أقطابها اليوم، وإن كانوا قلة ليسوا بأكثر من عدد أصابع اليد الواحدة من يمكن عدّهم من النسق الأول، والشعر الذي يجري الحديث دائماً عن أجيال في كتابة القصيدة، تمثلت بالعقود.. وأما الحديث عن القصة فثمة «خواء» يملأ الفضاء الإبداعي اليوم، في حين الإصدارات اللافتة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، تبقى لافتة فحسب، لأن التجاهل لها بقي هو السائد من قبل دور النشر الخاصة، وبقيت من اهتمام كتّابٍ قلة هم في تناقص مستمر.. وأما بشأن القصة القصيرة جداً، أو الـ(ق ق ج) التي يبدو أنها تعيش في زمنها الذهبي اليوم، فلا يعدو الأمر أكثر من (وهم)، لأنَّ أصحابها وقعوا في متاهات التنظير لمن يدعي اليوم – وهم كثر – مُنظراً لها ومُقعداً – يضع قواعد وشروطاً – إذ يتم اختزالها بمجموعة مكثفة من الأفعال الماضية الجافة التي تضيّع النص ولشدة الاختزال في التلغيز والذهنية، ومن نافل القول إنه شتّان ما بين الاختزال والتكثيف، والطريف أن النص ذاته مرة يقرؤه صاحبه على أنه قصة قصيرة جداً، ومرةَ أخرى ينشده على أنه قصيدة ومضة.. والحديث يطول في هذا المجال!!