من “الجيوبوليتيك” إلى “الجيو-عولمة”
محجوب لطفي بلهادي
إن أردت أن تصاب بدوار شديد أو أن تختبر قدراتك الذهنية في تحقيق اختراق سريع للعبة “المتاهة” الشهيرة عليك بمحاولة المسك بالخيط الناظم بين “الجغرافية السياسية” و”الجيوبوليتيك” و”الجيوستراتيجيا”…
رحلة متاعب موفّقة !
“إنّ معرفة جغرافية الدولة تعنى معرفة سياستها الخارجية “
مقولة ” بونابرتية” شهيرة تنافست عدد من الدراسات ذات الطابع “الاستراتيجي” على استحضارها إلى حدّ الاجترار لتذكّرنا بأنّ الأرض التي يفترض أننا نسير عليها قد تسير بنا إلى ما لا ندرى، والتي نتبجّح ليلا نهارا أنها في صفّنا قد تخذلنا أحيانا …
ممّا لا ريب فيه أنّ السياقات غير السياقات، وأنّ الحتمية الجبرية “البونابارتية” القائمة على “إنّ …تعنى…” أصابها الكثير من الوهن ! فبعد انفراط عقد “الحرب الباردة” هل يمكن التسليم بوجود سياسة خارجية خاصة بكل دولة أم أنّ الخارطة الدولية تنطوي اليوم عن جغرافيات وسياسات متداخلة في طور الاندماج تحوم بشكل مكوكي سيّار حول مركز شديد التوهج؟؟..
تحاول الورقة البحثية في – قسمها الأول – التفاعل “كألكترون حرّ” مع مفاهيم “الجغرافيا السياسية” و”الجيوبوليتيك” و”الجيوستراتيجيا” لتخلص في – قسمها الثاني – إلى رصد الإحداثيات الجغراسياسية الجديدة وتداعياتها المحتملة على صعيد التفكير الاستراتيجي.
المطلب الأول : الالتباس المفاهيمى بين مطرقة الجغرافيا
وسندان السياسة
بالتأكيد لكل مرحلة تاريخية “ايقوناتها” اللغوية والاصطلاحية في عصر يتسم “بالتنويم الكوني” بمفردات السياسة وتقنيات الاتصال الحديثة، وفى مشهد دولي في طور إعادة التشكل بالكامل تحرّكه فسيفساء من مؤسسات مالية وإعلامية عملاقة توجّه السياسات الدولية بأدوات الاقتصاد والميديا الرهيبة تسندها بشكل مباشر أو بالتقاطع مجموعات تفكير Think Tanks دأبت منذ تأسيس أول “مخبر تفكير” لها سنة 1884 بلندن على الاضطلاع بمهام الهندسة والتسويق لسياسات مراكز الضغط والنفوذ المعلنة والخفية.
فان كانت مناهضة “مشروع التوسع الامبريالي الجديد ” و”التبشير بمجتمع ملائكي” إنجيل جيل الستينات والسبعينات، فلقد أمست “العولمة” المغمّسة بعبارات “الجيوبوليتيك” و”الجيوستراتيجيا” منذ سقوط “جدار برلين” والى الساعة المنظومة الخطابية الأكثر تداول في المنتديات والكواليس إلى حدّ الانتحال…
فالحاجة الملحة لعبارات/مفاتيح تستبق مرحلة تاريخية ما يدخل ضمن استراتيجيات علم النفس السياسي المعاصر في المغنطة والتأثير…
فاستقراء للأدبيات المتاحة والموسوعات السياسية المتصلة بالمنظومة المفاهيمية الإستراتيجية تؤشر بأنّ مضامينها يلفّها الكثير من الغموض والخلط حتى داخل الأوساط المتخصصة من جغرافيين وخبراء في الاستراتيجيات والاستشراف لتبلغ ذروتها بدخول الإعلام والسّاسة على الخط ونجاحهما المنقطع النظير في تحويل المنظومة برمتها لمادة تسويقية بامتياز تسيل اللعاب قبل الحبر.. تعقد من اجلها الندوات والمؤتمرات في افخر النزل ..تغدق عليها المليارات ..ليصبح الجميع وبقدرة “العولمة” خبراء في القضايا الإستراتيجية .
فعملية التشويش المفاهيمى داخل هذه المنظومة طالت العديد من المستويات منها من هو متّصل بكتابة التاريخ ومنها من هو بعلاقة بالسياقات والبعد الدلالي .
أ- في مستوى التأريخ :
تعود قصة العشق “التنظيرى” بين “الحيوان السياسي بطبعه” والجغرافيا إلى الحقبة “الهيلينية” حين كشف “أرسطو” 383-322 ق.م عن “أنّ قوة الدول مستمدة من توازن ثرواتها مع عدد ساكنيها”.. لتعرف فيما بعد المكتسبات الجغراسياسية نقلة نوعية على يد العلاّمة “ابن خلدون” الذي نظر للدولة وفق مقاربة انتروبولوجية شاملة أطلق عليها “علم العمران” .
فإن كان “لفريدريك راتزل” 1844/1904 الأحقية في نيل لقب أب الجغرافيا السياسية الحديثة من خلال كتابه “الجغرافيا السياسية” حين شدّد “بأنّ الدولة – ككائن حيّ – له أهداف يتطلّع إلى تحقيقها، وذلك من خلال توظيف الحتمية الجغرافية التي تحكم وجوده، فالدولة ليست حقيقة جغرافية، ثابتة، بل هي كائن حي يتحرك نحو مجالات حيوية تعد ضرورة لبقائه”.. وان كان “لرودولف كيلين”1864-1922 أيضا الأسبقية الاصطلاحية في استخدام عبارة “الجيوبوليتيك” التي عرّفها بأنها “البيئة الطبيعية للدولة…”، فانّ لمقدّمة “ابن خلدون” 1332-1406 الرّيادة كل الرّيادة في إرساء أوّل مقاربة شمولية متعددة الأبعاد لظاهرة الاجتماع البشرى يحتلّ الفكر الجغرافي موقعا محوريا داخلها.
فتوصيف الدولة “بالكائن الحيّ” كان قد تفطّن له “ابن خلدون” قبل أربع قرون من ظهور مؤلّف “راتزل” حين خصّص ثلث “المقدمة” في فهم سيرورة الدول التي تداولت على منطقة شمال إفريقيا وفق منهجية علمية استندت على التحليل والاستقصاء، واستخدام قانون المطابقة وانتهاج الأسلوب الوصفي والقياسات الكمية.
وفي تماهى مع الدورة الحياتية للكائنات الحيّة خلص ابن خلدون إلى أن الدولة تمرّ بمراحل ثلاث:
1) طور النشأة والنمو فيها تلعب العصبية دورا هاما في نشأة الدولة ونموها : »إن الدولة العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب«
2) طور العظمة والمجد فيها تعرف الدولة أوج مجدها ورخاءها: “ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنـيّاً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي”.
3) طور الهرم والاضمحلال فيها يعم الفساد ويصيب التحلّل الدولة : “يصيب الرئيس أولاً، ثم أهل عصبيته ثانياً، ثم مجموع الدولة حاكمين ومحكومين”
وبتقديمه للدولة “كامتداد مكاني وزماني لحكم عصبية ما” يكون “ابن خلدون” قد كشف قبل غيره عن الطبيعة الانسيابية للدولة مع مجالها الجغرافي.. فعبارة “امتداد” تنطوي على إمكانية التمدّد الدولة وتوسعها أو ما يعبر عنه اليوم في “الجيوسياسة” بالبحث عن “المجال الحيوي” أو “مناطق النفوذ” .
وبكشفه عن ماهية العلاقة القائمة بين العنصر البشرى والمحيط الجغرافي كان “ابن خلدون” أكثر تحرّرا من حتمية “الادريسى” و”مونتيسكيو” “وراتزل” ولعلّ في ما ذكره “ساطع الحصري” توضيحاً للفرق بين “ابن خلدون” و”مونتسكيو” حينما قال : “إن ابن خلدون قال أيضاً بتأثير الأقاليم والطبيعة في أخلاق الإنسان، ولكنه لم يغال في هذا المضمار كما غالى مونتسكيو؛ فلم يقع في الأخطاء التي وقع فيها هذا المفكر المشهور”.
بهذا المعنى تغدو الحتمية الخلدونية المخففة أكثر تناغما مع النظرية الجيوبوليتكية “لفيدال دى لابلانش” 1914-1845 المعروفة “بالبوسيبيليسم” أو “الممكن” التي ترى أن للتاريخ السياسي أفقان مكاني/جغرافي وزماني/تاريخي قد يتقمص فيهما (العامل البشرى أو المجال الجغرافي) في لحظة ما دور صاحب المبادرة …
وبحسّ علمي مدهش أدرك ابن خلدون أنّ “الاستشراف” الذي عبّر عنه في أكثر من موضع بلفظ “التشوّف” من الأهمية بمكان.. فجاءت “المقدمة” “نظرا وتحقيق” بمفردات الماضي والحاضر والمستقبل. فالاقتتال الداخلي الدّائر اليوم في ليبيا يضفى على “المقدّمة” صفة الراهنية بحكم أنّ المقاربة الانتروبولوجية التي تضمنتها فيها الكثير من التقاطعات مع البنية القبلية للمجتمع الليبي التي ستظل “العصبية الخلدونية” تتحكم في مخرجاته السياسية حتى بعد مرحلة بناء الدولة…
فإن تمكّن “ابن خلدون” من كسر “عزلته” في “قلعة سلامة” من خلال التّواصل مع السّابقين فانّ “النخب العربية” بألوانها القزحية المختلفة لم تستطع إلى اليوم التحرّر من معابدها الوثنية
ب- على المستوى السياقي والدلالي:
تعددت وجوه التداخل الاصطلاحي بتنوع البواعث والمسوّغات منها :
– الزيجة الغير متكافئة بين الجغرافيا والسياسة، فالأولى تعدّ علما قائم الذات بمنهجية واضحة وصارمة، والثانية تخصّص معرفي يبحث عن كينونة علمية مستقلة، لقد ظلّ (إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر) يتنفس ويعيش من حالة التزامل النفعي symbiose مع باقي العلوم الاجتماعية .
— تزامن ظهور “الجغرافيا السياسية” و”الجيوبوليتيك” بسياقات تاريخية شديدة الارتباط بالمشروع النازي (فاغلب منظري الجيوبوليتيك كانوا بالانتماء أو بالتقاطع قريبين من “مدرسة مونيخ الجيوبوليتكية ” التي كان على رأسها “كارل هوسهوفر” احد مستشاري هتلر في الشؤون الخارجية.)
– المصاهرة اللغوية السقيمة عند النقل والترجمة من الانجليزية إلى العربية ليكون الحاصل “البيتاغوري” الممعن في السذاجة يتمثّل في أن تصبح “الجغرافيا السياسية” رديفا لعبارة “الجيوبوليتيك” !
ج- المخارج الممكنة:
قد تساعد عملية رصد المشترك والمختلف بين جميع هذه المفاهيم على فك أحجية “الاختناق المروري” التي تعيشها “المنظومة المفاهيمية الإستراتيجية” .
– في خانة المشتركات :
تشترك جميع هذه المفاهيم في استخدام عبارة “جيو” اليونانية الأصل (التي تعنى في بعدها الدلالي المتحرك “أحوال الأرض”)، وفى نسجها لعلاقات “شراكة” فيما بينها، فلا يمكن الدخول إلى عالم “الجيوبوليتيك” دون إحالة إلى “الجغرافيا السياسية”، ولا الحديث عن تحقيق اختراق “جيواستراتيجي” دون تشخيص للوضع “الجيوبوليتيكى “.. فكأننا حيال “شركة مساهمة” تعمل على تحويل المادة الأولية (الجغرافيا السياسية) إلى مادة مصنّعة (الجيوبوليتيك) لترويجها فيما بعد باليات التسويق المتعددة (الجيوستراتيجيا) …
– في خانة الاختلاف :
تعالج “الجغرافيا السياسية” العلاقات المكانية المتصلة بالوحدة السياسية لدولة ما بمنظور الحاضر في حين أن “الجيوبوليتيك” تتشوّف المصالح المستقبلية للدولة لترسم سياستها القومية، وفي غياب بدائل سلمية تدخل “الجيوستراتيجيا” على الخط للحسم – يستثنى من ذلك النزاعات ذات الطابع الاقتصادي التي تدخل تحت طائلة “الجيواقتصاد” -.
ومن التعريفات الأكثر وضوح وتداول بين أوساط المتخصصين ما جاء به “رايمون أرون” 1905-1983 في بداية ستينات القرن الماضي عندما وصّف “الجغرافية السياسية” بالاطار -Cadre- والجيوبوليتيك بالرّهان -Enjeu- والجيوستراتيجيا بالمسرح Théâtre-. “فالجغرافيا السياسية” تشكّل الإطار العام منها تنطلق الرهانات الكبرى التي يضبطها “الجيوبوليتيك” لتجد فيما بعد في “الجيوستراتيجيا” مسرحا لتحققها .
المطلب الثانى: مدى تطابق الصورة بالأصل ؟
كنّا نستشعر بطرحنا لهذا السؤال/المطلب أنّ المشهد الدولي الراهن يستبطن صورة وأصل وانّ منظومة المفاهيم الإستراتيجية الموروثة عن الحرب العالمية الثانية قد لا تفي اليوم بالحاجة.
فالتّعريف “الأروني” على أهميته البيداغوجية يصطدم اليوم بجدار “نظام القطب الواحد” الذي لا يسمح بتعدد “المجالات الجغراسياسية”، ولا يعترف بحق الاختلاف عند وضع “الرهانات” إلا في حدود ما تسمح به مقتضيات العولمة المتعالية !
فعندما ناظر “مارشال ماكلوهان”عالم اليوم بالقرية الكونيةGlobal village لم يجانب إطلاقا الحقيقة، فالفضاء الافتراضي الذي يحيطنا بنا من كل جانب نجح إلى حدّ بعيد في تضييق نطاق الخارطة الجغرافية الكلاسيكية من حيّز “الدولة” إلى حيّز “القرية” بقواعد لعبة جديدة لا مكان فيها للصغار…
فالنسق السريع للثورة المعلوماتية الحديثة أوقع الجغرافيا والتفكير الاستراتيجي في عدد من الاحراجات والتحديات مما حدي بالعديد من الجغرافيين بالقول بان الجغرافيا تعيش حالة “موت سريري” بفعل امتداد العولمة …
بالفعل عندما أغمض عيني وافتحها على المواقع الاجتماعية وصفحات النات..وعندما تقودني سيارتي إلى الوجهة التي اقصدها بتوجيه برمجى جغرافي مثبّت..وعندما تنسج العلاقات حينيا بين أفراد ومجموعات وهيئات متواجدة في مناطق متباعدة جغرافيا.. وعندما تدار المعارك الأكثر ضراوة عن بعد بأنظمة الاستشعار ونظم جغرافية رقمية متطورة، فأنى حتما أقف على منصة جغرافية افتراضية البناء، حقيقية الوجود، عابرة للحدود بنقرة أو لمسة واحدة، لا تعترف بالوحدات الترابية السيادية …
فعلى غرار الجغرافيا الكلاسيكية التي تقوم على ديالكتيك الطبيعي/البشرى، تنطلق الجغرافيا الافتراضية من أرض متحركة بتضاريس متنوعة (برمجيات ومواقع ومحركات بحث متطورة…) تتحكم فيه مجموعات ولوبيات متعددة الأجندات تعمل ضمن مجال افتراضي واسع تدار داخله فعليا عمليات اجتماعية/ثقافية/تجارية…
فعبارة “الافتراضي” تحيلنا مباشرة إلى العالم التخيّلي illusoire الذي لا يمتّ بصلة بالواقع المادي في حين أن العكس هو الصحيح… ففي مفهومه الرقمي يعدّ “الافتراضى” تمثّل للعالم الواقعي بمجموعة من التدفقات والإشارات الكهربائية والبصرية Flux et Signaux électriques et optiques الموجودة فعلا…
فالتوأم “السّيامى” Jumeau Siamoisالعولمة/الثورة المعلوماتية تمكننا من تصيير Rendering جغرافيا/المكان إلى جغرافيا/الشبكة بمنسوب غير مسبوق من الدمقرطة في استخدام الشرائح الخلوية والهواتف الذكية وشبكة الانترنات ومواقع “الارث غوغل” و”اليوتيب” و”الفايس بوك” وغيرها من الوسائط الرقمية… بالنتيجة نشهد انتقال قسما من مكتسباتنا الجغرافية من نطاق الجغرافيا المدرسية Géographie d’école إلى جغرافيا تفاعلية Géographie interactiveومن جغرافيا الخريطة Géographie de la carte إلى جغرافيا الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية Géographie par télédétection التي يسّرت عمل المخططين إلى حد كبير في اتخاذ قرارات ذات البعد المكاني في العديد من المجالات الحياة من مواصلات ونظم اتصالات وزراعة و وتخطيط لمدن المستقبل وغيرها…
فاستعاضة “المادي” Matériel “بالّلامادى” Immatérielفي مقاربة مفهوم “المكان” أفقد الثالوث المقدّس الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك والجيوستراتيجيا( الكثير من بريقه لفائدة جغرافيا كونية توسعية تتوقف استدامتها على مدى قدرتها على استيعاب الآخر المختلف…
فالأفق “الجيوبوليتيكى” المقيد بأغلال “الأرض” و”الدولة” و”السيادة” لم يعد قادرا على مواجهة تسونامى الثورة المعلوماتية الراهنة ..فجميع السياسات الكبرى والسيناريوهات المستقبلية (شرقا وغربا) يتم رسمها شئنا أم أبينا وفق اكراهات الجيو-العولمة التي يتقاطع فيها المحسوس بالافتراضي…
بالنهاية، فان بدايات تشكّل سور افتراضي عملاق بهندسة معمارية واحدة على غرار – سور الصين العظيم – لا مكان فيه للكيانات المستقلة سيظل باستمرار مصدر احتقان واضطراب دولي شديدين.. داخله مولود وخارجه مفقود !
باحث تونسي متخصص في التفكير الاستراتيجي
محجوب لطفي بلهادي
إن أردت أن تصاب بدوار شديد أو أن تختبر قدراتك الذهنية في تحقيق اختراق سريع للعبة “المتاهة” الشهيرة عليك بمحاولة المسك بالخيط الناظم بين “الجغرافية السياسية” و”الجيوبوليتيك” و”الجيوستراتيجيا”…
رحلة متاعب موفّقة !
“إنّ معرفة جغرافية الدولة تعنى معرفة سياستها الخارجية “
مقولة ” بونابرتية” شهيرة تنافست عدد من الدراسات ذات الطابع “الاستراتيجي” على استحضارها إلى حدّ الاجترار لتذكّرنا بأنّ الأرض التي يفترض أننا نسير عليها قد تسير بنا إلى ما لا ندرى، والتي نتبجّح ليلا نهارا أنها في صفّنا قد تخذلنا أحيانا …
ممّا لا ريب فيه أنّ السياقات غير السياقات، وأنّ الحتمية الجبرية “البونابارتية” القائمة على “إنّ …تعنى…” أصابها الكثير من الوهن ! فبعد انفراط عقد “الحرب الباردة” هل يمكن التسليم بوجود سياسة خارجية خاصة بكل دولة أم أنّ الخارطة الدولية تنطوي اليوم عن جغرافيات وسياسات متداخلة في طور الاندماج تحوم بشكل مكوكي سيّار حول مركز شديد التوهج؟؟..
تحاول الورقة البحثية في – قسمها الأول – التفاعل “كألكترون حرّ” مع مفاهيم “الجغرافيا السياسية” و”الجيوبوليتيك” و”الجيوستراتيجيا” لتخلص في – قسمها الثاني – إلى رصد الإحداثيات الجغراسياسية الجديدة وتداعياتها المحتملة على صعيد التفكير الاستراتيجي.
المطلب الأول : الالتباس المفاهيمى بين مطرقة الجغرافيا
وسندان السياسة
بالتأكيد لكل مرحلة تاريخية “ايقوناتها” اللغوية والاصطلاحية في عصر يتسم “بالتنويم الكوني” بمفردات السياسة وتقنيات الاتصال الحديثة، وفى مشهد دولي في طور إعادة التشكل بالكامل تحرّكه فسيفساء من مؤسسات مالية وإعلامية عملاقة توجّه السياسات الدولية بأدوات الاقتصاد والميديا الرهيبة تسندها بشكل مباشر أو بالتقاطع مجموعات تفكير Think Tanks دأبت منذ تأسيس أول “مخبر تفكير” لها سنة 1884 بلندن على الاضطلاع بمهام الهندسة والتسويق لسياسات مراكز الضغط والنفوذ المعلنة والخفية.
فان كانت مناهضة “مشروع التوسع الامبريالي الجديد ” و”التبشير بمجتمع ملائكي” إنجيل جيل الستينات والسبعينات، فلقد أمست “العولمة” المغمّسة بعبارات “الجيوبوليتيك” و”الجيوستراتيجيا” منذ سقوط “جدار برلين” والى الساعة المنظومة الخطابية الأكثر تداول في المنتديات والكواليس إلى حدّ الانتحال…
فالحاجة الملحة لعبارات/مفاتيح تستبق مرحلة تاريخية ما يدخل ضمن استراتيجيات علم النفس السياسي المعاصر في المغنطة والتأثير…
فاستقراء للأدبيات المتاحة والموسوعات السياسية المتصلة بالمنظومة المفاهيمية الإستراتيجية تؤشر بأنّ مضامينها يلفّها الكثير من الغموض والخلط حتى داخل الأوساط المتخصصة من جغرافيين وخبراء في الاستراتيجيات والاستشراف لتبلغ ذروتها بدخول الإعلام والسّاسة على الخط ونجاحهما المنقطع النظير في تحويل المنظومة برمتها لمادة تسويقية بامتياز تسيل اللعاب قبل الحبر.. تعقد من اجلها الندوات والمؤتمرات في افخر النزل ..تغدق عليها المليارات ..ليصبح الجميع وبقدرة “العولمة” خبراء في القضايا الإستراتيجية .
فعملية التشويش المفاهيمى داخل هذه المنظومة طالت العديد من المستويات منها من هو متّصل بكتابة التاريخ ومنها من هو بعلاقة بالسياقات والبعد الدلالي .
أ- في مستوى التأريخ :
تعود قصة العشق “التنظيرى” بين “الحيوان السياسي بطبعه” والجغرافيا إلى الحقبة “الهيلينية” حين كشف “أرسطو” 383-322 ق.م عن “أنّ قوة الدول مستمدة من توازن ثرواتها مع عدد ساكنيها”.. لتعرف فيما بعد المكتسبات الجغراسياسية نقلة نوعية على يد العلاّمة “ابن خلدون” الذي نظر للدولة وفق مقاربة انتروبولوجية شاملة أطلق عليها “علم العمران” .
فإن كان “لفريدريك راتزل” 1844/1904 الأحقية في نيل لقب أب الجغرافيا السياسية الحديثة من خلال كتابه “الجغرافيا السياسية” حين شدّد “بأنّ الدولة – ككائن حيّ – له أهداف يتطلّع إلى تحقيقها، وذلك من خلال توظيف الحتمية الجغرافية التي تحكم وجوده، فالدولة ليست حقيقة جغرافية، ثابتة، بل هي كائن حي يتحرك نحو مجالات حيوية تعد ضرورة لبقائه”.. وان كان “لرودولف كيلين”1864-1922 أيضا الأسبقية الاصطلاحية في استخدام عبارة “الجيوبوليتيك” التي عرّفها بأنها “البيئة الطبيعية للدولة…”، فانّ لمقدّمة “ابن خلدون” 1332-1406 الرّيادة كل الرّيادة في إرساء أوّل مقاربة شمولية متعددة الأبعاد لظاهرة الاجتماع البشرى يحتلّ الفكر الجغرافي موقعا محوريا داخلها.
فتوصيف الدولة “بالكائن الحيّ” كان قد تفطّن له “ابن خلدون” قبل أربع قرون من ظهور مؤلّف “راتزل” حين خصّص ثلث “المقدمة” في فهم سيرورة الدول التي تداولت على منطقة شمال إفريقيا وفق منهجية علمية استندت على التحليل والاستقصاء، واستخدام قانون المطابقة وانتهاج الأسلوب الوصفي والقياسات الكمية.
وفي تماهى مع الدورة الحياتية للكائنات الحيّة خلص ابن خلدون إلى أن الدولة تمرّ بمراحل ثلاث:
1) طور النشأة والنمو فيها تلعب العصبية دورا هاما في نشأة الدولة ونموها : »إن الدولة العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب«
2) طور العظمة والمجد فيها تعرف الدولة أوج مجدها ورخاءها: “ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنـيّاً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي”.
3) طور الهرم والاضمحلال فيها يعم الفساد ويصيب التحلّل الدولة : “يصيب الرئيس أولاً، ثم أهل عصبيته ثانياً، ثم مجموع الدولة حاكمين ومحكومين”
وبتقديمه للدولة “كامتداد مكاني وزماني لحكم عصبية ما” يكون “ابن خلدون” قد كشف قبل غيره عن الطبيعة الانسيابية للدولة مع مجالها الجغرافي.. فعبارة “امتداد” تنطوي على إمكانية التمدّد الدولة وتوسعها أو ما يعبر عنه اليوم في “الجيوسياسة” بالبحث عن “المجال الحيوي” أو “مناطق النفوذ” .
وبكشفه عن ماهية العلاقة القائمة بين العنصر البشرى والمحيط الجغرافي كان “ابن خلدون” أكثر تحرّرا من حتمية “الادريسى” و”مونتيسكيو” “وراتزل” ولعلّ في ما ذكره “ساطع الحصري” توضيحاً للفرق بين “ابن خلدون” و”مونتسكيو” حينما قال : “إن ابن خلدون قال أيضاً بتأثير الأقاليم والطبيعة في أخلاق الإنسان، ولكنه لم يغال في هذا المضمار كما غالى مونتسكيو؛ فلم يقع في الأخطاء التي وقع فيها هذا المفكر المشهور”.
بهذا المعنى تغدو الحتمية الخلدونية المخففة أكثر تناغما مع النظرية الجيوبوليتكية “لفيدال دى لابلانش” 1914-1845 المعروفة “بالبوسيبيليسم” أو “الممكن” التي ترى أن للتاريخ السياسي أفقان مكاني/جغرافي وزماني/تاريخي قد يتقمص فيهما (العامل البشرى أو المجال الجغرافي) في لحظة ما دور صاحب المبادرة …
وبحسّ علمي مدهش أدرك ابن خلدون أنّ “الاستشراف” الذي عبّر عنه في أكثر من موضع بلفظ “التشوّف” من الأهمية بمكان.. فجاءت “المقدمة” “نظرا وتحقيق” بمفردات الماضي والحاضر والمستقبل. فالاقتتال الداخلي الدّائر اليوم في ليبيا يضفى على “المقدّمة” صفة الراهنية بحكم أنّ المقاربة الانتروبولوجية التي تضمنتها فيها الكثير من التقاطعات مع البنية القبلية للمجتمع الليبي التي ستظل “العصبية الخلدونية” تتحكم في مخرجاته السياسية حتى بعد مرحلة بناء الدولة…
فإن تمكّن “ابن خلدون” من كسر “عزلته” في “قلعة سلامة” من خلال التّواصل مع السّابقين فانّ “النخب العربية” بألوانها القزحية المختلفة لم تستطع إلى اليوم التحرّر من معابدها الوثنية
ب- على المستوى السياقي والدلالي:
تعددت وجوه التداخل الاصطلاحي بتنوع البواعث والمسوّغات منها :
– الزيجة الغير متكافئة بين الجغرافيا والسياسة، فالأولى تعدّ علما قائم الذات بمنهجية واضحة وصارمة، والثانية تخصّص معرفي يبحث عن كينونة علمية مستقلة، لقد ظلّ (إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر) يتنفس ويعيش من حالة التزامل النفعي symbiose مع باقي العلوم الاجتماعية .
— تزامن ظهور “الجغرافيا السياسية” و”الجيوبوليتيك” بسياقات تاريخية شديدة الارتباط بالمشروع النازي (فاغلب منظري الجيوبوليتيك كانوا بالانتماء أو بالتقاطع قريبين من “مدرسة مونيخ الجيوبوليتكية ” التي كان على رأسها “كارل هوسهوفر” احد مستشاري هتلر في الشؤون الخارجية.)
– المصاهرة اللغوية السقيمة عند النقل والترجمة من الانجليزية إلى العربية ليكون الحاصل “البيتاغوري” الممعن في السذاجة يتمثّل في أن تصبح “الجغرافيا السياسية” رديفا لعبارة “الجيوبوليتيك” !
ج- المخارج الممكنة:
قد تساعد عملية رصد المشترك والمختلف بين جميع هذه المفاهيم على فك أحجية “الاختناق المروري” التي تعيشها “المنظومة المفاهيمية الإستراتيجية” .
– في خانة المشتركات :
تشترك جميع هذه المفاهيم في استخدام عبارة “جيو” اليونانية الأصل (التي تعنى في بعدها الدلالي المتحرك “أحوال الأرض”)، وفى نسجها لعلاقات “شراكة” فيما بينها، فلا يمكن الدخول إلى عالم “الجيوبوليتيك” دون إحالة إلى “الجغرافيا السياسية”، ولا الحديث عن تحقيق اختراق “جيواستراتيجي” دون تشخيص للوضع “الجيوبوليتيكى “.. فكأننا حيال “شركة مساهمة” تعمل على تحويل المادة الأولية (الجغرافيا السياسية) إلى مادة مصنّعة (الجيوبوليتيك) لترويجها فيما بعد باليات التسويق المتعددة (الجيوستراتيجيا) …
– في خانة الاختلاف :
تعالج “الجغرافيا السياسية” العلاقات المكانية المتصلة بالوحدة السياسية لدولة ما بمنظور الحاضر في حين أن “الجيوبوليتيك” تتشوّف المصالح المستقبلية للدولة لترسم سياستها القومية، وفي غياب بدائل سلمية تدخل “الجيوستراتيجيا” على الخط للحسم – يستثنى من ذلك النزاعات ذات الطابع الاقتصادي التي تدخل تحت طائلة “الجيواقتصاد” -.
ومن التعريفات الأكثر وضوح وتداول بين أوساط المتخصصين ما جاء به “رايمون أرون” 1905-1983 في بداية ستينات القرن الماضي عندما وصّف “الجغرافية السياسية” بالاطار -Cadre- والجيوبوليتيك بالرّهان -Enjeu- والجيوستراتيجيا بالمسرح Théâtre-. “فالجغرافيا السياسية” تشكّل الإطار العام منها تنطلق الرهانات الكبرى التي يضبطها “الجيوبوليتيك” لتجد فيما بعد في “الجيوستراتيجيا” مسرحا لتحققها .
المطلب الثانى: مدى تطابق الصورة بالأصل ؟
كنّا نستشعر بطرحنا لهذا السؤال/المطلب أنّ المشهد الدولي الراهن يستبطن صورة وأصل وانّ منظومة المفاهيم الإستراتيجية الموروثة عن الحرب العالمية الثانية قد لا تفي اليوم بالحاجة.
فالتّعريف “الأروني” على أهميته البيداغوجية يصطدم اليوم بجدار “نظام القطب الواحد” الذي لا يسمح بتعدد “المجالات الجغراسياسية”، ولا يعترف بحق الاختلاف عند وضع “الرهانات” إلا في حدود ما تسمح به مقتضيات العولمة المتعالية !
فعندما ناظر “مارشال ماكلوهان”عالم اليوم بالقرية الكونيةGlobal village لم يجانب إطلاقا الحقيقة، فالفضاء الافتراضي الذي يحيطنا بنا من كل جانب نجح إلى حدّ بعيد في تضييق نطاق الخارطة الجغرافية الكلاسيكية من حيّز “الدولة” إلى حيّز “القرية” بقواعد لعبة جديدة لا مكان فيها للصغار…
فالنسق السريع للثورة المعلوماتية الحديثة أوقع الجغرافيا والتفكير الاستراتيجي في عدد من الاحراجات والتحديات مما حدي بالعديد من الجغرافيين بالقول بان الجغرافيا تعيش حالة “موت سريري” بفعل امتداد العولمة …
بالفعل عندما أغمض عيني وافتحها على المواقع الاجتماعية وصفحات النات..وعندما تقودني سيارتي إلى الوجهة التي اقصدها بتوجيه برمجى جغرافي مثبّت..وعندما تنسج العلاقات حينيا بين أفراد ومجموعات وهيئات متواجدة في مناطق متباعدة جغرافيا.. وعندما تدار المعارك الأكثر ضراوة عن بعد بأنظمة الاستشعار ونظم جغرافية رقمية متطورة، فأنى حتما أقف على منصة جغرافية افتراضية البناء، حقيقية الوجود، عابرة للحدود بنقرة أو لمسة واحدة، لا تعترف بالوحدات الترابية السيادية …
فعلى غرار الجغرافيا الكلاسيكية التي تقوم على ديالكتيك الطبيعي/البشرى، تنطلق الجغرافيا الافتراضية من أرض متحركة بتضاريس متنوعة (برمجيات ومواقع ومحركات بحث متطورة…) تتحكم فيه مجموعات ولوبيات متعددة الأجندات تعمل ضمن مجال افتراضي واسع تدار داخله فعليا عمليات اجتماعية/ثقافية/تجارية…
فعبارة “الافتراضي” تحيلنا مباشرة إلى العالم التخيّلي illusoire الذي لا يمتّ بصلة بالواقع المادي في حين أن العكس هو الصحيح… ففي مفهومه الرقمي يعدّ “الافتراضى” تمثّل للعالم الواقعي بمجموعة من التدفقات والإشارات الكهربائية والبصرية Flux et Signaux électriques et optiques الموجودة فعلا…
فالتوأم “السّيامى” Jumeau Siamoisالعولمة/الثورة المعلوماتية تمكننا من تصيير Rendering جغرافيا/المكان إلى جغرافيا/الشبكة بمنسوب غير مسبوق من الدمقرطة في استخدام الشرائح الخلوية والهواتف الذكية وشبكة الانترنات ومواقع “الارث غوغل” و”اليوتيب” و”الفايس بوك” وغيرها من الوسائط الرقمية… بالنتيجة نشهد انتقال قسما من مكتسباتنا الجغرافية من نطاق الجغرافيا المدرسية Géographie d’école إلى جغرافيا تفاعلية Géographie interactiveومن جغرافيا الخريطة Géographie de la carte إلى جغرافيا الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية Géographie par télédétection التي يسّرت عمل المخططين إلى حد كبير في اتخاذ قرارات ذات البعد المكاني في العديد من المجالات الحياة من مواصلات ونظم اتصالات وزراعة و وتخطيط لمدن المستقبل وغيرها…
فاستعاضة “المادي” Matériel “بالّلامادى” Immatérielفي مقاربة مفهوم “المكان” أفقد الثالوث المقدّس الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك والجيوستراتيجيا( الكثير من بريقه لفائدة جغرافيا كونية توسعية تتوقف استدامتها على مدى قدرتها على استيعاب الآخر المختلف…
فالأفق “الجيوبوليتيكى” المقيد بأغلال “الأرض” و”الدولة” و”السيادة” لم يعد قادرا على مواجهة تسونامى الثورة المعلوماتية الراهنة ..فجميع السياسات الكبرى والسيناريوهات المستقبلية (شرقا وغربا) يتم رسمها شئنا أم أبينا وفق اكراهات الجيو-العولمة التي يتقاطع فيها المحسوس بالافتراضي…
بالنهاية، فان بدايات تشكّل سور افتراضي عملاق بهندسة معمارية واحدة على غرار – سور الصين العظيم – لا مكان فيه للكيانات المستقلة سيظل باستمرار مصدر احتقان واضطراب دولي شديدين.. داخله مولود وخارجه مفقود !
باحث تونسي متخصص في التفكير الاستراتيجي