اضراب
Strike - Grève
الإضراب
الإضراب strike: لغةً هو الكف والإعراض والانصراف عن عمل أو أمر أو رأي. وفي أصله: الضرب بمعنى الشدة، تستعمل لصرف المضروب عن وجهته أو إجباره على العدول عنها، ولا يبعد معناه الاصطلاحي كثيراً عن هذا الأصل.
وفي المصطلح القانوني والسياسي هو توقف العاملين أو أرباب العمل، أو توقفهم مجتمعين عن أعمالهم، وكذلك امتناع الأفراد عن الطعام في حالات مخصوصة، احتجاجاً على إجراءات أو قوانين تمس مصالحهم الخاصة أو قيمهم أو تبخس حقوقهم المدنية أو السياسية أو الاقتصادية، أو تمس المصلحة العامة أو المصلحة الوطنية والقومية العليا. وهو، إلى ذلك، وسيلة من وسائل الضغط في سبيل الحصول على مطالب محددة، مادية أو معنوية أو قانونية. ويدخل فيه التباطؤ في العمل والتلكؤ فيه والمبالغة في مراعاة الشكليات بغية إرباكه أو عرقلته. ويسمى في هذه الحال إضراباً مقنَّعاً.
والأصل في الإضراب ألاّ يتعدى حدود التوقف عن العمل والامتناع عن مواصلته قبل التوصل إلى تسوية بالتفاوض أو بالتحكيم، إلا أنه قد يتجاوز هذا الحد فيرافقه التظاهر وأعمال العنف، أو يكون حلقة في سلسلة أعمال مختلفة ينظمها تصور استراتيجي لتغيير النظام الاجتماعي أو نظام الحكم، كالإضراب العام الذي قام به عمال بتروغراد في 25 شباط من عام 1917، وكان بداية سلسلة من الأعمال التي وجهها الحزب البلشفي بقيادة لينين، وانتهت بسقوط النظام القيصري. وفي مثل هذه الحال يتحول الإضراب إلى نوع من العصيان المدني تتسع دائرته حتى تشمل معظم فئات المجتمع، ويكون لمثل هذا الإضراب أهداف عامة يغلب أن تكون أهدافاً سياسية، وتدخل فيه مقاطعة السلع والبضائع الأجنبية كما حدث إبان حركة الاستقلال التي قادها المهاتما غاندي في وجه الاستعمار البريطاني في الهند. والإضراب في مثل هذه الحال صيغة من صيغ المقاومة الوطنية كالإضراب الستيني في دمشق عام 1936 في مواجهة الاستعمار الفرنسي، والإضرابات التي يقوم بها الفلسطينيون في مواجهة الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي.
وقد يتخذ الإضراب صيغة الانقطاع عن العمل والاعتصام في الأماكن العامة أو الجلوس في الشوارع والساحات العامة لعرقلة حركة المرور، وقد شاع هذا النمط من الإضراب في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين، ويلجأ إليه المزارعون الفرنسيون عند مطالبتهم بتعديل أسعار السلع أو زيادة الدعم الحكومي للإنتاج، إذ يسدون مداخل المدن بشاحناتهم.
ومع ارتباط الإضراب بالحركات العمالية والطلابية، فقد تلجأ إليه فئات أخرى مختلفة كالتجار وأرباب العمل والفئات المُهَمَشة، لاسيما تلك التي تعاني التمييز والظلم واهتضام الحقوق، وتكافح في سبيل الحصول على حقوقها وتوسيع دائرة التعاطف معها، كإضرابات الملونين في البلاد التي ما يزال فيها تمييز عنصري.
أنماط الإضراب
ليس ثمة ناظم واحد لتصنيف الإضرابات، بيد أنه يمكن تصنيفها بحسب أهدافها في الأنماط الآتية:
ـ الإضرابات المطلبية، وهي إضرابات غايتها تحسين أوضاع الفئة التي تقوم بالإضراب، كتحسين شروط العمل أو إنقاص ساعاته أو زيادة الأجور أو الحصول على ضمان اجتماعي أو ضمان صحي وما إلى ذلك، مما يتصل بالمصالح الخاصة للفئة المعنية. ويشمل هذا النوع الإضرابات التي تقوم بها فئات أو شرائح اجتماعية تطالب بالاعتراف بهويتها وقيمها وثقافتها، وتسعى إلى تغيير الإطار القانوني الذي يعاكس مصالحها أو يحرمها من حقوقها.
ـ الإضرابات السياسية، وتقوم هذه الإضرابات احتجاجاً على أعمال أو سياسات تلجأ إليها دولة مستعمِرة أو حكومة وطنية، ومن أهدافها تحقيق الاستقلال أو الحصول على الحكم الذاتي وتحسين الأحوال السياسية القائمة على النطاق الوطني أو القومي العام.
ـ الإضرابات التضامنية، وهي إضرابات يحركها احتجاج على انتهاك حق من حقوق طرف غير الطرف المضرب دعماً لمواقف ذلك الطرف، وتعزيزاً له. ومثالها إضراب النقابات العمالية في فرنسة في 11 أيار من عام 1968 تضامناً مع الحركة الطلابية واحتجاجاً على قمع الشرطة لها.
أما من حيث مدة الإضراب فيمكن تصنيفها في الأنماط الآتية:
ـ الإضراب التحذيري، وهو إضراب عن العمل لمدة محددة (لساعات أو يوم واحد) وغايته تنبيه الجهة المعنية إلى ضرورة الاستجابة للمطالب، وإلا فالإضراب المفتوح. وربما كان لهذا النوع من الإضراب طابع تكتيكي لاختبار مدى استجابة الجهة المعنية للإضراب المفتوح.
ـ الإضراب المفتوح، هو التوقف عن العمل والامتناع عن متابعته حتى تتم الاستجابة لمطالب المضربين أو التوصل إلى تسوية يقبلون بها.
ـ الإضراب الرمزي، هو التوقف عـن العمل لمدة قصيرة جـداً بهدف الإعراب عن مناصرة قضية أو الاحتجاج على موقف أو التضامن مع شعب أو صاحب حق، ومثاله توقف المحامين في سورية عن المرافعات إبان العدوان الأمريكي ـ البريطاني على العراق عام 1999.
وأما من حيث شمول الإضرابات فيمكن تصنيفها في الأنماط الآتية:
ـ الإضراب العام، وهو توقف جميع العاملين عن أعمالهم توقفاً جماعياً في سائر مجالات العمل، ويشمل هذا النوع فئات اجتماعية واسعة، ويهدف إلى الحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية عامة.
ـ الإضراب الخاص، وهو بعكس الإضراب العام، يقوم به سكان منطقة أو عمال شركة أو مؤسسة أو العاملون في صناعة معينة أو قطاع إنتاجي أو خدمي بعينه، ويمكن أن يتحول إلى إضراب عام.
ـ الإضراب المتناوب أو الشطرنجي، هو توقف العاملين عن أعمالهم في قطاع معين أو على مستوى البلاد بأسرها ولكن بالتناوب وفق خطة مدروسة، إذ يضرب العاملون في شركة أو مؤسسة أو في جزء منها، في حين يستمر بقية العاملين في مزاولة أعمالهم، ثم يعود هؤلاء إلى عملهم ويضرب آخرون وهكذا. ويكون هذا النوع من الإضرابات فاعلاً ومربكاً للجهات المعنية وللسلطات السياسية، ولاسيما حين تُعتمد السرية في تنفيذه، فلا تتمكن السلطات المعنية من تحديد الجهة التي يمكن أن تقوم بالإضراب.
وهناك إضراب يصاحبه اعتصام في مكان العمل، يسمى إضراب الأيدي المتصالبة. وهناك الإضراب الرسمي الذي تقرره النقابة المعنية، والإضراب غير الرسمي الذي يقوم بمبادرة من العاملين أنفسهم من دون أن تقرر نقابتهم ذلك.
ومع أن الإضراب عن العمل هو الغالب على معنى الإضراب، فـإن هناك نوعاً آخر من الإضراب هو الامتناع عن الطعام Strike-Hunger، يقوم به السجناء السياسيون، غالباً، إفرادياً أو جماعياً احتجاجاً على حكم جائر أو معاملة غير لائقة أو شروط غير إنسانية.
موقف القانون من الإضراب
لما كان في العمل مصلحة مشتركة بين العاملين وأرباب العمل، وفـي تقدم الإنتاج ونموه وزيادة إنتاجية العمل مصلحة وطنية/قومية عامة تهم المجتمع والدولة على السواء، فقد كان الإضراب موضع اهتمام النقابات والمنظمات الشعبية والأحزاب السياسية، وموضع اهتمام الدول والحكومات والمشرعين وفقهاء القانون. ففي الإضراب، سافراً كان أو مقنّعاً، إضرار بالمصالح الخاصة لأرباب العمل وبالمصلحة العامة أيضاً بما في ذلك مصلحة المضربين أنفسهم، لذلك فإن هؤلاء المضربين لا يقومون بالإضراب إلا مضطرين. كما أن الإضرابات تتعارض ومصلحة الدولة سواء بوصفها راعية الملكية الخاصة وحاميتها أم بوصفها راعية المصلحة العامة. لذلك تستعمل الحكومات عادة سلطة القانون في مواجهة المضربين. وكانت القوانين تميل إلى التشدد في منع الإضراب وحظره إذ حرم قانون لوشابليه (1791) الإضراب في فرنسة، كما حرّمه قانون بيت في بريطانية (1799)، وحذت حذوهما بلدان أخرى. إلا أن تزايد أعداد العمال وانتظامهم في نقابات وأحزاب سياسية، ونمو مؤسسات المجتمع المدني التي تحد من سلطة الدولة، أدت جميعها إلى الاعتراف بحق الإضراب بوصفه حقاً مدنياً وصيغةً من صيغ حرية التعبير، فوجدت الحكومات نفسها بين أمرين: ضرورة الاعتراف بحق القوى الاجتماعية في الإضراب والاحتجاج من جهة، والمحافظة على أمن المجتمع ومصلحته العامة وعلى هيبتها وشرعيتها من جهة أخرى.
وما تزال الحكومات تغلب أحد طرفي هذه الجدلية، فإما أن تميل إلى الترخص في منح هذا الحق لجميع القوى الاجتماعية، حتى تلك التي تتنافى مطالبها مع ثقافة المجتمع وقيمه (كالشاذين جنسياً)، أو تتشدد في ذلك تشدداً مبالغاً فيه، فلا تستخدم في مواجهة المضربين سلطة القانون فقط، بل تعمد إلى قمع الإضرابات وكسرها مستعينة بقوى الأمن والجيش وبفرق خاصة مهمتها «مكافحة الشغب» وبين هذين الحدين، الترخص والتشدد، تتدرج مواقف الحكومات وتتفاوت من بلد إلى آخر بحسب درجة تطور الوعي الاجتماعي بوجه عام والوعي السياسي بوجه خاص وبحسب قوة المجتمع المدني وفاعلية مؤسساته. لذلك تتنوع آليات مواجهة الإضراب ووسائلها فتتدرج من التفاوض والتحكيم والتقاضي أمام المحاكم المختصة إلى التقييد والمنع والقمع. وغالباً ما تحرم الحكومات الإضراب تحريماً مطلقاً على فئات معينة كالموظفين والمستخدمين الذين يقومون بخدمة عامة أو بالعمل في المرافق العامة، أو بعمل يلبي حاجة أساسية من حاجات المجتمع (كالعاملين في الأفران والمشافي)، كما تشترط في إعلانه الإعلام المسبق والحصول على موافقة السلطات المختصة.
وتجدر الإشارة إلـى ارتباط الإضراب بالمقاومة الوطنية وبنضالات الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية المهمشة، لذلك ساندت القوى الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية حق الإضراب في نطاق مساندتها الحقوق المدنية والحريات السياسية وحقوق الإنسان والمواطن. إلا أن الدول الشمولية والسلطات المستبدة حرّمت الإضراب تحريماً تاماً، وعدته خروجاً على القانون وتهديداً للنظام العام وتمرداً على سلطة الدولة.
ج.ت