محمد (نديم)
Mohammad (Nadim-) - Mohammad (Nadim-)
محمد (نديم ـ)
(1908 ـ 1994)
نديم محمد، شاعر الألم والكبرياء، ولد في قرية «عين الشقاق» في قضاء جبلة - محافظة اللاذقية.
تميز من أبناء جيله بطفولة قلقة مشاكسة، ولكنه كان في الوقت نفسه أليفاً صافياً صفاء الطبيعة التي احتضنته بأبوة وحنان.
تعلم القراءة والقرآن في القرية على يد شيخ الكتاب أولاً، ثم أُرسل إلى المدرسة في قرية «العنازة» في منطقة «بانياس» الساحل ليتعلم قواعد اللغة العربية، ومنها إلى مدرسة «الفرير» في اللاذقية، ثم إلى جبلة ونال منها الشهادة الابتدائية في عام 1925.
في عام 1926 أرسل إلى مدرسة اللاييك في بيروت، وبعد سنة ونيف سافر إلى فرنسا لإتمام الدراسة في جامعة مونبلييه حيث حصل على الإجازة في الأدب العربي، وانتقل إلى سويسرا لدراسة الحقوق ولكنه عاد عام 1930 لأسباب خاصة من دون أن يكمل دراسته.
شغل العديد من الوظائف بدءاً من عام 1933، وكان في جميعها مشاكساً لأنه كان يكره كل الوظائف إذ قال فيها:
دعوني فمالي في الوظائف حاجةٌ
ولا أنا من جور الليالي بخائف
فعيشي قرير العين في الكوخ آمناً
أحب وأشهى من جميع الوظائف
أصيب في عام 1949 بمرض التدرن الرئوي فعولج وشفي، ولكن المرض عاوده ثانية فأدخل إلى مصح «بحنّس» في جبل لبنان، وفي أواخر أيامه تعالج في مشفى المواساة في دمشق إلى أن توفاه الله عن عمر يناهز السادسة والثمانين. وفي حشرجة الاحتضار كتب آخر أبياته:
سيذكرني غداً أهلي كثيراً
ويسأل بعضهم عني طويلا
فلن يجدوا - وإن راحوا وجاؤوا-
ولن يَهدوا إلى عندي سبيلا
عاش قومياً وطنياً بعيداً عن الزيف والمتاجرة بالشعارات والمواقف، ويرفض كل أمر لا يقبل به عقله، ولا يقبل بأنصاف الحلول، وكان قليل الثقة بالناس لتلمسه النفاق في سلوكهم فقد قال:
لا يدخلنْ أحدٌ كوخي فلست أرى
في الداخلين سوى لصٍ ومغتابِ
جارٌ من الوحش أو طيرٌ أعلِّمها
أوفى وأخلصُ من جاري وأترابي
مدرسة نديم محمد الشعرية هي المدرسة الكلاسيكية الحديثة، إذ قدم بكل جدارة وثقة القصيدة العمودية التي حملت طابع العصر والتي كان من روادها الكبار بدوي الجبل وعمر أبو ريشة ونزار قباني في شعره العمودي وغيرهم.
ونديم محمد في عرف النقاد والأدباء شاعر ذو نسيج أوحد بين الشعراء المعاصرين، وحامل لواء الشعر الوجداني الذي اخترق محدودية الزمان والمكان، إلى آفاق المشاعر الإنسانية التي امتلك مفاتيحها بحسه الرهيف ومعاناته التأملية العميقة.
طرق نديم محمد هذا الشاعر الرومانسي المتميز صنوف الشعر وألوانه كلّها، من رثاء ومديح وهجاء وغزل ووصف وغير ذلك، ولم يقصّرْ في الخمريات.
ونظم في الأنثى الغزل بمستوياته الثلاثة، المادي، والعذري، والوجداني، حتى في القصيدة الغزلية الواحدة، يبدأ مادياً ثم يصبح عذرياً ثم يختمها وجدانياً.
والأهم من ذلك كله أنه شاعر الحزن والألم والانكسار، مملوءٌ بالأحاسيس الإنسانية والعواطف التي لا تقف عند حدود الشجب والاستنكار، بل يتعدى ذلك إلى حدود المواجهة ببيانٍ شعريٍ حادٍ قلَّما يمارسه غيره، ونُقل عن عميد الأدب العربي طه حسين أنه قال عن ديوانه «آلام» في مؤتمر الأدباء العرب في بلودان «لو لم يكن لهذا الشاعر إلاَّ هذا الديوان فحريٌّ بالشعر العربي أن يضمه إلى فحوله الكبار».
كذلك هو شاعر التمرد والثورة على العلاقات الاجتماعية والعقائدية غير المتوازنة، فهو يبحث عن الإنسان الحق الغني بالقيم الأخلاقية والفضائل السامية التي هي جوهر الإنسان ومعدنه الأصيل الذي خصَّه الله به من دون سائر مخلوقاته.
وفي تلافيف شعر محمد نديم ومضات فلسفية تحمل أفكاراً ودلالات في الحياة والوجود وفلسفتهما، ففي ديوانه «آلام» يقول في جانب فلسفي:
أين كأسي يا ليل هل حطَّم العُذَّال
دَنّي ونَفَّروا السُّمَّارا
ورفاقي أجرَّاس خطوي على الدرب
إذا سِرْتُ أنكروني جَهارا
مات أمسي ومات حبي وماتت
بيديه عواطفي أبكارا
قَدَرُ الخالدين أن يَطعَمُوا البُؤْسَِ
جزاءً، وأنْ يموتوا صغارا!
ومن بعض نصوصه الاجتماعية ونزعته الإنسانية التي جبل عليها وعلى معايشتها بحسه الإنساني المتوقد، قصيدته التي يحلِّق فيها في سماء الشعر الاجتماعي المغموس بالعاطفة الإنسانية السامية، فهو يتحدث عن فتاة صغيرة بريئة اقتادها والدها الفقير البائس ليضعها خادمةً عند إحدى الأسر الغنية، ومن قصيدته هذه الأبيات:
بنتٌ بعمر وريقة الريحان
أو في الحقِّ أصغرْ
تنجرُّ خلف أبٍ مريضٍ
أرمد العينين أغبرْ
متعثّر الخطواتِ كالسكران
في دربٍ محفَّرْ
تبكي فيمسحُ دمعها
ودموعُه أسخى وأغزرْ
بنتي خذي هذا…
وصبَّ بكفها حبّاتِ سكرْ
ومن الملامح البارزة في شعر نديم محمد على تعدد أغراضه، ارتباطه بالواقع الحياتي الذي عاشه بكل أبعاده الإنسانية والاجتماعية والوطنية والقومية، فقد رسم صورةً متكاملةَ الملامح لمعاناته التي كانت مثقلةً بالانكسارات والقلق النفسي من واقعه المضطرب.
جابر خير بك
Mohammad (Nadim-) - Mohammad (Nadim-)
محمد (نديم ـ)
(1908 ـ 1994)
تميز من أبناء جيله بطفولة قلقة مشاكسة، ولكنه كان في الوقت نفسه أليفاً صافياً صفاء الطبيعة التي احتضنته بأبوة وحنان.
تعلم القراءة والقرآن في القرية على يد شيخ الكتاب أولاً، ثم أُرسل إلى المدرسة في قرية «العنازة» في منطقة «بانياس» الساحل ليتعلم قواعد اللغة العربية، ومنها إلى مدرسة «الفرير» في اللاذقية، ثم إلى جبلة ونال منها الشهادة الابتدائية في عام 1925.
في عام 1926 أرسل إلى مدرسة اللاييك في بيروت، وبعد سنة ونيف سافر إلى فرنسا لإتمام الدراسة في جامعة مونبلييه حيث حصل على الإجازة في الأدب العربي، وانتقل إلى سويسرا لدراسة الحقوق ولكنه عاد عام 1930 لأسباب خاصة من دون أن يكمل دراسته.
شغل العديد من الوظائف بدءاً من عام 1933، وكان في جميعها مشاكساً لأنه كان يكره كل الوظائف إذ قال فيها:
دعوني فمالي في الوظائف حاجةٌ
ولا أنا من جور الليالي بخائف
فعيشي قرير العين في الكوخ آمناً
أحب وأشهى من جميع الوظائف
أصيب في عام 1949 بمرض التدرن الرئوي فعولج وشفي، ولكن المرض عاوده ثانية فأدخل إلى مصح «بحنّس» في جبل لبنان، وفي أواخر أيامه تعالج في مشفى المواساة في دمشق إلى أن توفاه الله عن عمر يناهز السادسة والثمانين. وفي حشرجة الاحتضار كتب آخر أبياته:
سيذكرني غداً أهلي كثيراً
ويسأل بعضهم عني طويلا
فلن يجدوا - وإن راحوا وجاؤوا-
ولن يَهدوا إلى عندي سبيلا
عاش قومياً وطنياً بعيداً عن الزيف والمتاجرة بالشعارات والمواقف، ويرفض كل أمر لا يقبل به عقله، ولا يقبل بأنصاف الحلول، وكان قليل الثقة بالناس لتلمسه النفاق في سلوكهم فقد قال:
لا يدخلنْ أحدٌ كوخي فلست أرى
في الداخلين سوى لصٍ ومغتابِ
جارٌ من الوحش أو طيرٌ أعلِّمها
أوفى وأخلصُ من جاري وأترابي
مدرسة نديم محمد الشعرية هي المدرسة الكلاسيكية الحديثة، إذ قدم بكل جدارة وثقة القصيدة العمودية التي حملت طابع العصر والتي كان من روادها الكبار بدوي الجبل وعمر أبو ريشة ونزار قباني في شعره العمودي وغيرهم.
ونديم محمد في عرف النقاد والأدباء شاعر ذو نسيج أوحد بين الشعراء المعاصرين، وحامل لواء الشعر الوجداني الذي اخترق محدودية الزمان والمكان، إلى آفاق المشاعر الإنسانية التي امتلك مفاتيحها بحسه الرهيف ومعاناته التأملية العميقة.
طرق نديم محمد هذا الشاعر الرومانسي المتميز صنوف الشعر وألوانه كلّها، من رثاء ومديح وهجاء وغزل ووصف وغير ذلك، ولم يقصّرْ في الخمريات.
ونظم في الأنثى الغزل بمستوياته الثلاثة، المادي، والعذري، والوجداني، حتى في القصيدة الغزلية الواحدة، يبدأ مادياً ثم يصبح عذرياً ثم يختمها وجدانياً.
والأهم من ذلك كله أنه شاعر الحزن والألم والانكسار، مملوءٌ بالأحاسيس الإنسانية والعواطف التي لا تقف عند حدود الشجب والاستنكار، بل يتعدى ذلك إلى حدود المواجهة ببيانٍ شعريٍ حادٍ قلَّما يمارسه غيره، ونُقل عن عميد الأدب العربي طه حسين أنه قال عن ديوانه «آلام» في مؤتمر الأدباء العرب في بلودان «لو لم يكن لهذا الشاعر إلاَّ هذا الديوان فحريٌّ بالشعر العربي أن يضمه إلى فحوله الكبار».
كذلك هو شاعر التمرد والثورة على العلاقات الاجتماعية والعقائدية غير المتوازنة، فهو يبحث عن الإنسان الحق الغني بالقيم الأخلاقية والفضائل السامية التي هي جوهر الإنسان ومعدنه الأصيل الذي خصَّه الله به من دون سائر مخلوقاته.
وفي تلافيف شعر محمد نديم ومضات فلسفية تحمل أفكاراً ودلالات في الحياة والوجود وفلسفتهما، ففي ديوانه «آلام» يقول في جانب فلسفي:
أين كأسي يا ليل هل حطَّم العُذَّال
دَنّي ونَفَّروا السُّمَّارا
ورفاقي أجرَّاس خطوي على الدرب
إذا سِرْتُ أنكروني جَهارا
مات أمسي ومات حبي وماتت
بيديه عواطفي أبكارا
قَدَرُ الخالدين أن يَطعَمُوا البُؤْسَِ
جزاءً، وأنْ يموتوا صغارا!
ومن بعض نصوصه الاجتماعية ونزعته الإنسانية التي جبل عليها وعلى معايشتها بحسه الإنساني المتوقد، قصيدته التي يحلِّق فيها في سماء الشعر الاجتماعي المغموس بالعاطفة الإنسانية السامية، فهو يتحدث عن فتاة صغيرة بريئة اقتادها والدها الفقير البائس ليضعها خادمةً عند إحدى الأسر الغنية، ومن قصيدته هذه الأبيات:
بنتٌ بعمر وريقة الريحان
أو في الحقِّ أصغرْ
تنجرُّ خلف أبٍ مريضٍ
أرمد العينين أغبرْ
متعثّر الخطواتِ كالسكران
في دربٍ محفَّرْ
تبكي فيمسحُ دمعها
ودموعُه أسخى وأغزرْ
بنتي خذي هذا…
وصبَّ بكفها حبّاتِ سكرْ
ومن الملامح البارزة في شعر نديم محمد على تعدد أغراضه، ارتباطه بالواقع الحياتي الذي عاشه بكل أبعاده الإنسانية والاجتماعية والوطنية والقومية، فقد رسم صورةً متكاملةَ الملامح لمعاناته التي كانت مثقلةً بالانكسارات والقلق النفسي من واقعه المضطرب.
جابر خير بك