الموسيقا السورية القديمة... إحياء النغمات الأصيلة
دمشق
تعتبر الموسيقا السورية لغة من ثقافة شعوبها وحضارتها عبر التاريخ، وإحياؤها وتجددها يعني العودة إلى أكثر من ألفي عام قبل الميلاد، وقد حاول كثير من الباحثين والمهتمين تدوين وإحياء الموسيقا السورية القديمة.
حول أهمية الموسيقا السورية بينت الباحثة التراثية "فريال الشويكي" لمدونة وطن eSyria بتاريخ "21/6/2012" قائلة: «إن الموسيقا السورية، قديمة قدم وجودها، ولها خصوصيتها في التأليف والأداء، وهي صدرت ثقافات موسيقية لكثير من دول العالم، ومن يعمل في الآثار والتوثيق الموسيقي التراثي لمناطق سورية يشعر بأهمية تراثها الغنائي، فعلى سبيل المثال عملت على تدوين وتوثيق الأغاني التراثية والشعبية في منطقة الساحل بكتاب بجزأين حاولت تقديم كم هي الموسيقا السورية غنية ملتصقة مع أوابدها التاريخية، ومن يتتبع إلى المواقع الأثرية يشعر بأن أول مدونة موسيقا كانت من سورية، وهذا ما عمل على تدوينه الدكتور "علي القيم" في كتبه ومؤلفاته، وهو يدعو اليوم لمشروع إحياء الموسيقا السورية القديمة وفق منهجية علمية توثيقية لإظهار المدونات الموسيقية الأقدم في العالم».
موقع eSyria التقى الباحث الدكتور "علي القيم" معاون وزير الثقافة بالحوار التالي:
الباحثة فريال الشويكي
** في عام 1988 صدر لي كتاب "الموسيقا، تاريخ وأثر" وكانت فرصة للقول من خلال الدراسة والبحث والتدقيق أن أرض سورية العربية، قد ظهر على ساحلها الجميل في مدينة أوغاريت "رأس الشمرا" أقدم مدونة موسيقية عرفتها البشرية، وبوساطتها يكون عالم الموسيقا قد عاد إلى الوراء1400 سنة قبل الميلاد، ويكون عالم الموسيقا الغربية قد عاد إلى ما يقارب 1000 سنة، ليجد جذوره في حضارات سومر وبابل وأشور وكنعان، معزوفة على قيثارة سومرية ليعود تاريخها إلى 2500 سنة قبل الميلاد، إذن، مع أول نغمة موسيقية جاءت من حضارتنا الموسيقية، تفتح باب السرور والدهشة، ودخلت البشرية في عوالم السحر والإثارة والتشويق، مع أول ترجيعة قوس سومري أصبح الناس في بلادنا مهيئين للانطلاق نحو آفاق بعيدة لا أحلى ولا أجمل، وبفضل آلاتنا الإيقاعية والهوائية والوترية، أصبح الصوت البشري اقدر على التعبير، وأصبح أداة لنقل العاطفة، وترجمة لغة القلب التي تفيض عذوبة ورقة وحناناً.
الدكتور علي القيم
** في دراستي أغلب الآلات الوترية والنفخية والإيقاعية التي عرفها العالم، وجدت وظهرت وانتشرت في حضارات بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ووادي النيل، ومنها انتشرت في بلاد العالم القديم، وبداية معرفة الإنسان للموسيقا، كانت من الإيقاع، فالإيقاع ضرب من النغم، وأصله وهو من الأصوات التي جاءت مع الطبيعة عند بدء التكوين، فأصوات الرعد والمطر، وتكسر الأشجار والأحجار، وهدير البحر، وصفير الريح وخرير الماء، إلى غير ذلك ثم نواح العندليب، وغناء الكروان، وهديل الحمام، وصياح الديك، وهي أصوات ناعمة، شجية أحياناً، ومحشرجة، مضطربة أحياناً أخرى، كل هذه الأصوات سمعها الإنسان منذ نشأته الأولى فوعاها وأدركها وحاول تقليدها، ثم آخى بين بعضها، وزاوج بين بعضها الآخر، فتكونت لديه موهبة جديدة مسلية، محزنة، مفرحة، ثم اخترع الإنسان الآلات الموسيقية والأدوات الصوتية، ليريح جسده من التربة، وعناء التقليد والتصويت، ثم مزج بين صوته وصوت الآلة فكان نتيجة ذلك انسجام جديد، وعمل طريف، استمر يتطور ويتقدم حتى تكونت الموسيقا.
** من خلال البحث والدراسة والتقصي، ثبت أن الموسيقا في حضاراتنا القديمة كانت تشكل جزءاً من الحياة، وعنصراً أساسياً في العبادة، فكان الإنسان، كما تذكر الوثائق الأثرية، من رقم مسمارية، ولوحات فنية مصورة على جدران الكهوف والمعابد، إذا فرغ من عمله اليومي، يقوم بالاستمتاع بأنغام الموسيقا الهادئة الشجية، وكان في المعابد جوقات موسيقية، ومغنيات للآلهة، كما كان في القصور الملكية بعض الفرق المؤلفة من العازفين والموسيقيين الذين يقومون بتقديم الوصلات والاحتفالات الخاصة، في المناسبات المختلفة.. وتبين الآثار المكتشفة في بلاد الرافدين والشام، أن ميلاد الموسيقا عاصر ميلاد الدين، فهي قديمة قدمه، شاركته في أداء طقوسه التي يمثل فيها الغناء ركناً أساسياً منها، ومن هذه الوثائق ما يعود تاريخه إلى 2500 سنة قبل الميلاد، وتخبرنا عن اختيار موسيقي يقود فرقة للإنشاد في المعبد "ننجرسو" الكبير في مدينة "لاغاش"، وآخر يتولى تدريب فرقة الغناء والعزف من الرجال والنساء، وتسجّل تلك الوثائق أن بعض المدارس قد ألحقت بالمعابد لتدريس النصوص الغنائية الدينية، وقد عثر المنقبون الأثريون على مجموعة من هذه النصوص الدينية، التي كانت تدرس في معبد الإله بل "إله الشمس ورب العدالة والعرافة" ومن خلال دراسة النصوص الكتابية والرسائل التي اكتشفت في موقع مملكة ماري "تل الحريري" الواقعة على الفرات الأوسط قرب بلدة "البوكمال" السورية، تبين أن الملكة "شيبتو" زوجة الملك "زمري ـ ليم" كانت تدير شؤون القصر الملكي، وتختار من الصبايا من تراها جديرة بتعلم العزف على الآلات الموسيقية، لأن الموسيقا في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد في بلادنا كانت من الضروريات الأساسية لاستكمال الثقافة العالية، وإنها لم تكن مقتصرة على الطقوس الدينية فقط بل كانت ركناً مهماً في الحياة الاجتماعية والمناسبات والطقوس المختلفة، وكان في كثير من الأحيان يرافقها الشعر والرقص، وكان الشعر يكتب لهذه المناسبات ويتكون من مقطع واحد تصاحبه "ميلودي صغيرة" محصورة في نطاق السلم الموسيقي المعروف آنذاك وهو السلم الخماسي المكون من خمسة أنغام فقط تلاه في المرحلة متأخرة نسبياً السلم السباعي وهو السلم الذي مازال متداولاً حتى الآن، وكانت "الميلودي" تصافي قوالب غنائية متعارف عليها، كما يصاغ الغناء الديني في قوالب خاصة "نشيد ـ بكائيات ـ صلاةـ ضراعة" وكثيراً ما اشتملت الأغنية على مقاطع عدة تصاغ لكل منها "ميلودي" خاصة ويتخللها فاصل موسيقي وفي مدينة "نيبور" الرافدية، كانت تنتظم ست ميلوديات مختلفة تسهم في أدائها الطبلة والكاسات وآلة الكنارة، وكان قالب الدعاء في الصلاة أكثر القوالب شيوعاً ويغلب عليه طابع الابتهال والتوسل والتضرع.
** لقد قدمت لنا مواقعنا الأثرية شواهد غنية ومتنوعة عن الآلات الموسيقية وأشكالها ومراحل تطورها وابتكارها وطرق عزفها، وهناك شواهد بعضها مقتنيات متاحفنا، وبعضها الآخر من مقتنيات متاحف عالمية، ومن خلال التصنيف العلمي لهذه الآلات نرى أنها قد لازمت الإنسان منذ فجر حياته حتى الوقت الحاضر، وظل الإنسان يطور ويبتكر ويحسن هذه الآلات "الإيقاعية والوترية والنفخية" طبقاً للحاجة ومتطلبات العصر والبيئة، ولم يقتصر مجهود الإنسان على صنع الآلات الموسيقية والعزف عليها، بل تعدى ذلك إلى المجال النظري، وصنع النظريات والدراسات عنها، وكان لأجدادنا في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد الدور الأكبر في ابتكار وتطور العلوم والآلات الموسيقية على اختلاف أشكالها وأنواعها وطرق العزف عليها، وأثبتت الدراسات أن الآلات الموسيقية التي عرفت في حضارتنا القديمة كانت الأساس للآلات الموسيقية الحالية، وأنها نتاج حضارة موسيقية سومرية- بابلية- كنعانية- آشورية- آرمية- فرعونية.
* كيف سيبدأ المشروع؟
** يبدأ المشروع بالتعاون مع علماء متخصصين في الموسيقا والآثار والتراث الشعبي لجمع كل ما له علاقة بالآلات الموسيقية القديمة وأنواعها وأشكالها وطرق صناعتها والعزف عليها، وأهمها آلات العود ذات الحجم الكبير والصغير، وآلات الكنارة والهارب الصغيرة وآلات الدف بأحجامها المختلفة وآلات النفخ المنفردة والمزدوجة "المزمار المزدوج" والدف الطبل المتعدد الأشكال والأحجام والقيثارة والبوق والمضارب الخشبية والمعدنية والصنوج ذات الأقماع المفلطحة والقانون والسنطور، والآلات الوترية ذات القوس.
لقد كان السوري القديم يصنع آلاته الموسيقية ويقوم بتطويرها من نفس الخامات الموجودة تقريباً في الآلات الحديثة، كما في استخدام الأخشاب لصناعة الصندوق الرنان في آلات العود والربابة والبزق والهارب، وكانت الأوتار تصنع من أمعاء الحيوانات.
** يهدف مشروع إحياء الموسيقا السورية القديمة إلى إعادة تصنيع الآلات السورية الموسيقية القديمة بالمواصفات والخامات والطرق والأنواع ذاتها، لإصدار نغمات ذات طابع مشابه للنغمات التي كانت تصدرها تلك الآلات منذ آلاف السنين، حتى يمكننا تشكيل فرقة موسيقية سورية على غرار الفرق الموسيقية القديمة التي كانت موجودة في القصر الملكي في ماري "تل الحريري" أو تلك التي كانت موجودة في القصر الملكي في إيبلا " تل مرديخ" أو في أوغاريت "رأس شمرا"، أو في موقع "زنجرلي"، "مملكة شمال" في شمال سورية ويكون مهمات هذه الفرقة أو الفرق تقديم المؤلفات الموسيقية للمؤلفين السوريين والعرب والأجانب، بما يعكس شخصية الموسيقا السورية القديمة وطابعها، وتقديم مؤلفات غنائية، تعكس طابع الإنشاد والتراتيل الدينية والأغاني الدنيوية في المناسبات المختلفة وإعادة إحياء الأعياد والطقوس القديمة التي كانت تقدم المحافظات السورية، الغنية بتراثها وعاداتها وطقوسها الفلكلورية والطقسية مثل اليوم الطيب في تدمر، وعيد الزهور والرابع في الساحل السوري، وقطف الزيتون في إدلب، واسقي العطاش في حلب، واستقبال الربيع في كثير من المناطق الريفية والساحلية، إضافة لأنشطة إعلامية وثقافية ومهرجانات سنوية بهدف التسويق لأن الفرق تقوم بجولات فنية في دول العالم وتفتح الأبواب لبيع نماذج من الآلات الموسيقية السورية القديمة التي تم تصنيعها للسائحين العرب والأجانب، ونماذج عن أنشودة العبادة الأوغاريتية التي تعد أقدم نوطه موسيقية في العالم، ولوحات الموزاييك الموسيقية التي اكتشفت في قرية "مريامين" وضربت الدف في أوغاريت واللوحة الفسيفسائية للشاعر الموسيقي "أورفه" الذي كانت معزوفاته تجذب الكائنات إليها والمحفوظة في متحف شهبا والتماثيل الفخارية العديدة لحالات موسيقية مختلفة وجدت في المواقع الأثرية السورية.
- معين حمد العماطوري
دمشق
تعتبر الموسيقا السورية لغة من ثقافة شعوبها وحضارتها عبر التاريخ، وإحياؤها وتجددها يعني العودة إلى أكثر من ألفي عام قبل الميلاد، وقد حاول كثير من الباحثين والمهتمين تدوين وإحياء الموسيقا السورية القديمة.
حول أهمية الموسيقا السورية بينت الباحثة التراثية "فريال الشويكي" لمدونة وطن eSyria بتاريخ "21/6/2012" قائلة: «إن الموسيقا السورية، قديمة قدم وجودها، ولها خصوصيتها في التأليف والأداء، وهي صدرت ثقافات موسيقية لكثير من دول العالم، ومن يعمل في الآثار والتوثيق الموسيقي التراثي لمناطق سورية يشعر بأهمية تراثها الغنائي، فعلى سبيل المثال عملت على تدوين وتوثيق الأغاني التراثية والشعبية في منطقة الساحل بكتاب بجزأين حاولت تقديم كم هي الموسيقا السورية غنية ملتصقة مع أوابدها التاريخية، ومن يتتبع إلى المواقع الأثرية يشعر بأن أول مدونة موسيقا كانت من سورية، وهذا ما عمل على تدوينه الدكتور "علي القيم" في كتبه ومؤلفاته، وهو يدعو اليوم لمشروع إحياء الموسيقا السورية القديمة وفق منهجية علمية توثيقية لإظهار المدونات الموسيقية الأقدم في العالم».
إن الموسيقا السورية، قديمة قدم وجودها، ولها خصوصيتها في التأليف والأداء، وهي صدرت ثقافات موسيقية لكثير من دول العالم، ومن يعمل في الآثار والتوثيق الموسيقي التراثي لمناطق سورية يشعر بأهمية تراثها الغنائي، فعلى سبيل المثال عملت على تدوين وتوثيق الأغاني التراثية والشعبية في منطقة الساحل بكتاب بجزأين حاولت تقديم كم هي الموسيقا السورية غنية ملتصقة مع أوابدها التاريخية، ومن يتتبع إلى المواقع الأثرية يشعر بأن أول مدونة موسيقا كانت من سورية، وهذا ما عمل على تدوينه الدكتور "علي القيم" في كتبه ومؤلفاته، وهو يدعو اليوم لمشروع إحياء الموسيقا السورية القديمة وفق منهجية علمية توثيقية لإظهار المدونات الموسيقية الأقدم في العالم
موقع eSyria التقى الباحث الدكتور "علي القيم" معاون وزير الثقافة بالحوار التالي:
الباحثة فريال الشويكي
- انك تعنى بشأن التوثيق الموسيقي القديم المرتبط مع الآثار كيف تنظر إلى الموسيقا السورية؟
** في عام 1988 صدر لي كتاب "الموسيقا، تاريخ وأثر" وكانت فرصة للقول من خلال الدراسة والبحث والتدقيق أن أرض سورية العربية، قد ظهر على ساحلها الجميل في مدينة أوغاريت "رأس الشمرا" أقدم مدونة موسيقية عرفتها البشرية، وبوساطتها يكون عالم الموسيقا قد عاد إلى الوراء1400 سنة قبل الميلاد، ويكون عالم الموسيقا الغربية قد عاد إلى ما يقارب 1000 سنة، ليجد جذوره في حضارات سومر وبابل وأشور وكنعان، معزوفة على قيثارة سومرية ليعود تاريخها إلى 2500 سنة قبل الميلاد، إذن، مع أول نغمة موسيقية جاءت من حضارتنا الموسيقية، تفتح باب السرور والدهشة، ودخلت البشرية في عوالم السحر والإثارة والتشويق، مع أول ترجيعة قوس سومري أصبح الناس في بلادنا مهيئين للانطلاق نحو آفاق بعيدة لا أحلى ولا أجمل، وبفضل آلاتنا الإيقاعية والهوائية والوترية، أصبح الصوت البشري اقدر على التعبير، وأصبح أداة لنقل العاطفة، وترجمة لغة القلب التي تفيض عذوبة ورقة وحناناً.
الدكتور علي القيم
- هل هناك آلات موسيقية خاصة ظهرت في سورية؟
** في دراستي أغلب الآلات الوترية والنفخية والإيقاعية التي عرفها العالم، وجدت وظهرت وانتشرت في حضارات بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ووادي النيل، ومنها انتشرت في بلاد العالم القديم، وبداية معرفة الإنسان للموسيقا، كانت من الإيقاع، فالإيقاع ضرب من النغم، وأصله وهو من الأصوات التي جاءت مع الطبيعة عند بدء التكوين، فأصوات الرعد والمطر، وتكسر الأشجار والأحجار، وهدير البحر، وصفير الريح وخرير الماء، إلى غير ذلك ثم نواح العندليب، وغناء الكروان، وهديل الحمام، وصياح الديك، وهي أصوات ناعمة، شجية أحياناً، ومحشرجة، مضطربة أحياناً أخرى، كل هذه الأصوات سمعها الإنسان منذ نشأته الأولى فوعاها وأدركها وحاول تقليدها، ثم آخى بين بعضها، وزاوج بين بعضها الآخر، فتكونت لديه موهبة جديدة مسلية، محزنة، مفرحة، ثم اخترع الإنسان الآلات الموسيقية والأدوات الصوتية، ليريح جسده من التربة، وعناء التقليد والتصويت، ثم مزج بين صوته وصوت الآلة فكان نتيجة ذلك انسجام جديد، وعمل طريف، استمر يتطور ويتقدم حتى تكونت الموسيقا.
- ألهذا تعتبر الموسيقا جزءاً من حياتنا الاجتماعية والثقافية والتاريخية؟
** من خلال البحث والدراسة والتقصي، ثبت أن الموسيقا في حضاراتنا القديمة كانت تشكل جزءاً من الحياة، وعنصراً أساسياً في العبادة، فكان الإنسان، كما تذكر الوثائق الأثرية، من رقم مسمارية، ولوحات فنية مصورة على جدران الكهوف والمعابد، إذا فرغ من عمله اليومي، يقوم بالاستمتاع بأنغام الموسيقا الهادئة الشجية، وكان في المعابد جوقات موسيقية، ومغنيات للآلهة، كما كان في القصور الملكية بعض الفرق المؤلفة من العازفين والموسيقيين الذين يقومون بتقديم الوصلات والاحتفالات الخاصة، في المناسبات المختلفة.. وتبين الآثار المكتشفة في بلاد الرافدين والشام، أن ميلاد الموسيقا عاصر ميلاد الدين، فهي قديمة قدمه، شاركته في أداء طقوسه التي يمثل فيها الغناء ركناً أساسياً منها، ومن هذه الوثائق ما يعود تاريخه إلى 2500 سنة قبل الميلاد، وتخبرنا عن اختيار موسيقي يقود فرقة للإنشاد في المعبد "ننجرسو" الكبير في مدينة "لاغاش"، وآخر يتولى تدريب فرقة الغناء والعزف من الرجال والنساء، وتسجّل تلك الوثائق أن بعض المدارس قد ألحقت بالمعابد لتدريس النصوص الغنائية الدينية، وقد عثر المنقبون الأثريون على مجموعة من هذه النصوص الدينية، التي كانت تدرس في معبد الإله بل "إله الشمس ورب العدالة والعرافة" ومن خلال دراسة النصوص الكتابية والرسائل التي اكتشفت في موقع مملكة ماري "تل الحريري" الواقعة على الفرات الأوسط قرب بلدة "البوكمال" السورية، تبين أن الملكة "شيبتو" زوجة الملك "زمري ـ ليم" كانت تدير شؤون القصر الملكي، وتختار من الصبايا من تراها جديرة بتعلم العزف على الآلات الموسيقية، لأن الموسيقا في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد في بلادنا كانت من الضروريات الأساسية لاستكمال الثقافة العالية، وإنها لم تكن مقتصرة على الطقوس الدينية فقط بل كانت ركناً مهماً في الحياة الاجتماعية والمناسبات والطقوس المختلفة، وكان في كثير من الأحيان يرافقها الشعر والرقص، وكان الشعر يكتب لهذه المناسبات ويتكون من مقطع واحد تصاحبه "ميلودي صغيرة" محصورة في نطاق السلم الموسيقي المعروف آنذاك وهو السلم الخماسي المكون من خمسة أنغام فقط تلاه في المرحلة متأخرة نسبياً السلم السباعي وهو السلم الذي مازال متداولاً حتى الآن، وكانت "الميلودي" تصافي قوالب غنائية متعارف عليها، كما يصاغ الغناء الديني في قوالب خاصة "نشيد ـ بكائيات ـ صلاةـ ضراعة" وكثيراً ما اشتملت الأغنية على مقاطع عدة تصاغ لكل منها "ميلودي" خاصة ويتخللها فاصل موسيقي وفي مدينة "نيبور" الرافدية، كانت تنتظم ست ميلوديات مختلفة تسهم في أدائها الطبلة والكاسات وآلة الكنارة، وكان قالب الدعاء في الصلاة أكثر القوالب شيوعاً ويغلب عليه طابع الابتهال والتوسل والتضرع.
- هل هناك رابط وجودي بين الآثار والآلات الموسيقية السورية؟
** لقد قدمت لنا مواقعنا الأثرية شواهد غنية ومتنوعة عن الآلات الموسيقية وأشكالها ومراحل تطورها وابتكارها وطرق عزفها، وهناك شواهد بعضها مقتنيات متاحفنا، وبعضها الآخر من مقتنيات متاحف عالمية، ومن خلال التصنيف العلمي لهذه الآلات نرى أنها قد لازمت الإنسان منذ فجر حياته حتى الوقت الحاضر، وظل الإنسان يطور ويبتكر ويحسن هذه الآلات "الإيقاعية والوترية والنفخية" طبقاً للحاجة ومتطلبات العصر والبيئة، ولم يقتصر مجهود الإنسان على صنع الآلات الموسيقية والعزف عليها، بل تعدى ذلك إلى المجال النظري، وصنع النظريات والدراسات عنها، وكان لأجدادنا في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد الدور الأكبر في ابتكار وتطور العلوم والآلات الموسيقية على اختلاف أشكالها وأنواعها وطرق العزف عليها، وأثبتت الدراسات أن الآلات الموسيقية التي عرفت في حضارتنا القديمة كانت الأساس للآلات الموسيقية الحالية، وأنها نتاج حضارة موسيقية سومرية- بابلية- كنعانية- آشورية- آرمية- فرعونية.
* كيف سيبدأ المشروع؟
** يبدأ المشروع بالتعاون مع علماء متخصصين في الموسيقا والآثار والتراث الشعبي لجمع كل ما له علاقة بالآلات الموسيقية القديمة وأنواعها وأشكالها وطرق صناعتها والعزف عليها، وأهمها آلات العود ذات الحجم الكبير والصغير، وآلات الكنارة والهارب الصغيرة وآلات الدف بأحجامها المختلفة وآلات النفخ المنفردة والمزدوجة "المزمار المزدوج" والدف الطبل المتعدد الأشكال والأحجام والقيثارة والبوق والمضارب الخشبية والمعدنية والصنوج ذات الأقماع المفلطحة والقانون والسنطور، والآلات الوترية ذات القوس.
لقد كان السوري القديم يصنع آلاته الموسيقية ويقوم بتطويرها من نفس الخامات الموجودة تقريباً في الآلات الحديثة، كما في استخدام الأخشاب لصناعة الصندوق الرنان في آلات العود والربابة والبزق والهارب، وكانت الأوتار تصنع من أمعاء الحيوانات.
- ما الهدف من هذا المشروع؟
** يهدف مشروع إحياء الموسيقا السورية القديمة إلى إعادة تصنيع الآلات السورية الموسيقية القديمة بالمواصفات والخامات والطرق والأنواع ذاتها، لإصدار نغمات ذات طابع مشابه للنغمات التي كانت تصدرها تلك الآلات منذ آلاف السنين، حتى يمكننا تشكيل فرقة موسيقية سورية على غرار الفرق الموسيقية القديمة التي كانت موجودة في القصر الملكي في ماري "تل الحريري" أو تلك التي كانت موجودة في القصر الملكي في إيبلا " تل مرديخ" أو في أوغاريت "رأس شمرا"، أو في موقع "زنجرلي"، "مملكة شمال" في شمال سورية ويكون مهمات هذه الفرقة أو الفرق تقديم المؤلفات الموسيقية للمؤلفين السوريين والعرب والأجانب، بما يعكس شخصية الموسيقا السورية القديمة وطابعها، وتقديم مؤلفات غنائية، تعكس طابع الإنشاد والتراتيل الدينية والأغاني الدنيوية في المناسبات المختلفة وإعادة إحياء الأعياد والطقوس القديمة التي كانت تقدم المحافظات السورية، الغنية بتراثها وعاداتها وطقوسها الفلكلورية والطقسية مثل اليوم الطيب في تدمر، وعيد الزهور والرابع في الساحل السوري، وقطف الزيتون في إدلب، واسقي العطاش في حلب، واستقبال الربيع في كثير من المناطق الريفية والساحلية، إضافة لأنشطة إعلامية وثقافية ومهرجانات سنوية بهدف التسويق لأن الفرق تقوم بجولات فنية في دول العالم وتفتح الأبواب لبيع نماذج من الآلات الموسيقية السورية القديمة التي تم تصنيعها للسائحين العرب والأجانب، ونماذج عن أنشودة العبادة الأوغاريتية التي تعد أقدم نوطه موسيقية في العالم، ولوحات الموزاييك الموسيقية التي اكتشفت في قرية "مريامين" وضربت الدف في أوغاريت واللوحة الفسيفسائية للشاعر الموسيقي "أورفه" الذي كانت معزوفاته تجذب الكائنات إليها والمحفوظة في متحف شهبا والتماثيل الفخارية العديدة لحالات موسيقية مختلفة وجدت في المواقع الأثرية السورية.