Fareed Zaffour
15 يونيو 2022 ·
Sabri Yousef مع Fatima Esber.
11 يونيو 2022 ·
ألف مبارك فوز الشَّاعر والمفكِّر الكبير أدونيس بجائزة هوميروس.
فيما يلي: كلمتا أدونيس في مهرجان هوميروس الدَّولي للفنون الأدبية، يتلوهما مقالاً كتبته من وحي قراءتي عوالم أدونيس وإبداعه الشّعري والفكري الرّصين!
كلمتا أدونيس في مهرجان هوميروس الدولي للفنون الأدبية
"تكاد الثقافة اليوم في صورتها اللغوية أو الأبجدية في العالم كله، بخاصة في العالم الإسلامي، أن تنشطر إلى فضاءين، فضاء الدين وفضاء الشعر.
لا نرى في فضاء الدين، بخاصة الأوروبي- الأميركي، إلا العنف والحروب تدميراً وإبادة، بطرق وأشكال مختلفة ومتنوعة وعلى جميع الصعد.
وفي حين تحيط بهذا كله، احتفاء ودعماً وتمجيداً، مختلف أشكال الإعلام، يقف الشعر وحيداً، مهمشاً، ومتهماً. هكذا يزداد إيغالاً في آفاقه الخاصة في التفات حميم إلى آبائه الأول سائلاً، ماذا على الشعر أن يفعل يا جلجامش؟ وأنت يا هوميروس، قل لنا إلى أين يسافر أحفاد عوليس، وهل سيعودون من هذا السفر، وكيف؟ وإلى أين يعودون؟ وقبل ذلك إلى أين يسافرون؟ ويا فيرجيل، أحببنا شعرك في المنفى، حتى كدنا أن نحب المنفى نفسه.
وما أخطر اللغة نفسها، هي المشتركة بين أهل الشعر وأهل الدين، فهي تقدر أن تكون أداة للطمس والتزوير والمحو، وبدلاً من أن تكون طاقة لطرح الأسئلة، تتحول إلى مستودع - مستنقع لمياه الأجوبة اليقينية الجاهزة.
هكذا، في الممارسة، تصبح الحقيقة كذباً، ويحل الكذب محل الصدق، ويصبح الإنسان هو نفسه، توهماً. وهكذا يحل الوهم محل الواقع، ويغيب المرئي، لكي يأخذ اللامرئي مكانه.
وها هو عالمنا الذي نعيش فيه يسيطر عليه فن الطمس والمحو والتهميش لكل ما هو إنساني، حقيقي، كوني، ولا مكان في هذا العالم للذاتية الحرة المستقلة.
بلى، العالم الذي نعيش فيه هو عالم حرب باطنها أشد هولاً من ظاهرها، لأن الباطن تدمير للإنسان من داخل في هويته العميقة ذاتها، أما الظاهر فيتصل بتدمير الحقيقة، وهو ما يعبر عنه الشاعر الإنجليزي كيبلينغ قائلاً، "الحقيقة هي الضحية الأولى في الحرب".
فالحرب في وجهها الحقيقي محو لمبدأ الحقيقة ومحو للشعر، وهي أولاً محو للإنسان. حقاً، ما أخطر اللغة اليوم يا هوميروس!
كل شيء يتحول إلى حرب ضد كل شيء، ولم يبق في السماء نجمة إلا أنزلت على خوذ المحاربين. كأنني في هذا الضوء أرى خلخال امرأة من الشرق يصبح قرطاً في أذن امرأة من الغرب، وأكاد أن أرى البقية آتية في موكب أحمر.
لكن، إذا كان إنسان الطبيعة يعيش شعرياً، على هذه الأرض، كما يقول هولدرلن، وهي نفسها الأرض التي يعيش عليها إنسان السماء حربياً، فإن الشعر يظل الضوء الأول الذي يتيح لنا أن ننظر إلى الكون، بوصفه واحداً لا يتجزأ، وبوصف الإنسان سره ومعناه، وسرته التي ينطوي فيها، هي الصغيرة "العالم الأكبر"، وفقاً لما يقوله محيي الدين بن عربي.
هكذا يظل الشعر الطاقة الإنسانية الخلاقة الأولى التي تعطي للعالم معناه الإنساني الأعمق، والتي تقدم له باستمرار صورة إنسانية جديدة، وتؤسس لعلاقات جديدة بين اللغة والأشياء وبين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والعالم".
كلمة الاحتفال بالجائزة
"اسمحوا لي أن أجدد شكري للسيد رئيس بلدية إزمير وللسيد مدير المهرجان، وأن أرى في هذه الجائزة، جائزة هوميروس، رمزين أساسين في العمل الثقافي اليوم، على المستوى الكوني.
يتمثل الرمز الأول في دور الشعر ومكانه في العالم الحديث، وهو دور خلاق بوصفه التعبير الأكمل عن الإنسان المبدع، كمثل ما هو الحب التعبير الأكمل عن الإنسان العاشق، ومهما بدا لبعضنا أن الشعر يزداد عزلة على المستوى الأفقي، مستوى الانتشار والقراءة، فإنه على المستوى العمودي يزداد تأصلاً، بحيث تبدو فرضية زوال الشعر شكلاً من فرضية زوال الحياة نفسها، فالشعر هو شمس الأبجدية التي هي شمس الإنسان.
ويتمثل الرمز الثاني في أن الجائزة تجسيد للانفتاح والحوار الخلاق بين الذات والآخر، وللسفر في مجهولات العالم والأشياء، ولوحدة الكائن البشري، فيما وراء اللغات والأعراق والبلدان.
وتجد هذه العلاقة الخلاقة بين الذات والآخر أعلى تعبير عنها في التجربة الصوفية، بخاصة في أفقها العربي، تقول هذه التجربة بلسان أحد كبارها،
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
وتقول بلسان كبير آخر،
فسمني وادعني في كل منزلة
بمسلم ويهودي ونصراني
وتقول بلسان كبير آخر،
الصديق آخر هو أنت.
وقد ترجمت الفلسفة العربية بلسان ابن رشد هذا القول الشعري إلى لغتها العقلية، فسمت فيلسوفاً لم يكن مسلماً ولا يهودياً ولا نصرانياً، المعلم الأول. هذا الفيلسوف هو أرسطو، فالإنسان حتى حين يقوم بالسفر داخل ذاته يرافقه الآخر المختلف في هذا السفر، فالآخر المختلف عنصر تكويني من العناصر التي تكون الذات.
في ضوء هذا كله، أرجو أن تكون هذه الجائزة التي شرفني مؤسسوها بأن أكون أول من تمنح له، رمزاً يتوج الإبداع في ذاته، في معزل كامل عن انتماءات المبدع، السياسية أو الأيديولوجية أو العرقية، بحيث تكون فريدة ومضيئة ثقافياً وإنسانياً، وهذا ما تفتقده الجوائز الشعرية في العالم كله من دون استثناء، فهي تمنح في ضوء الانتماءات، غالباً، أكثر مما تمنح للإبداع في ذاته وللرؤية الخلاقة المتفردة شعرياً وفكرياً وجمالياً".
************************************************** *********************
أدونيس قامة أدبيَّة نقديَّة فكريَّة تنويريَّة راقية
يحتكم إلى العقل والفكر النَّقدي والآراء الخلَّاقة
أدونيس
(29)
أدونيس ظاهرة إبداعيّة فريدة ونادرة من نوعها، ولن تتكرَّر في دنيا الشَّرق والعالم العربي بهذه الرُّؤية التّحليليّة الشّموليّة العميقة، وقد تشرَّبَ بثقافة أدبيّة وفكريّة تنويريّة عالية، وضعَ يدَهُ على الجراحِ الغائرة بدقّةٍ عالية، ووجدَ لها الحلول النَّاجعة مقارِنًا واقع الحال في الشَّرق العربي بواقع الحال الغربي والعالمي، فقد درسَ بتمعُّنٍ وتمحُّصٍ التّاريخ العربي على امتدادِ قرونٍ من الزَّمان، وحلَّلَ أسباب تخلُّفه وتقهقره، وأوجدَ من خلالِ دراساته وتحاليله الكثير من الأفكارِ والمقترحات الَّتي تساعدُ على التَّخلُّصِ من الواقعِ المزري الّذي يمرُّ فيه المجتمع العربي، مركّزًا على ضرورةِ فصل الدِّين عن الدَّولة؛ حيثُ أثبتَتْ كلّ التّجارب العالميّة في الشَّرقِ والغربِ وكل جهاتِ الأرضِ أنّ فصلَ الدِّين عن الدَّولة من أولى أولوياتِ بناءِ مجتمع مدني قائم على المؤسّساتِ الدِّيمقراطيّة الّتي تُسهم في ترسيخِ العدالةِ والمساواةِ وتُعمِّق الرُّؤية التّنويريّة إلى مساحاتٍ أرحب في شتّى المجالات، مؤكّدًا على أنَّ علاقةَ الإنسان المؤمن في أيِّ دينٍ من الأديانِ هي معَ الخالقِ؛ معَ اللهِ، معَ السَّماءِ، معَ عالمِ الغيبِ، بينما علاقته فيما يخصُّ الأرض والحياة الأرضيّة هي علاقةُ مواطن بقانون وأنظمة ودساتير ومؤسّسات تضمنُ حقوقَ جميع المواطنين، بعيدًا عن تدخُّلاتِ الأديانِ كلّ الأديان، وتصبحُ في هذه الحالة علاقةُ المواطن معَ المجتمعِ عبر دستور يحميه ويعطيه حقّه، بغضِّ النّظرِ عن دينِهِ ومذهبه وطائفته.
يُعَدُّ أدونيس ومَنْ يحملُ هكذا أفكار تنويريّة، طفرات إبداعيّة خلّاقة تُسهمُ إلى حدٍّ كبير في استنهاض البلاد من حالةِ الجمودِ والتّخلّفِ والتَّعصُّبِ الَّتي استشرت فيها، ولكن للأسفِ الشّديدِ، لا تستفيدُ المؤسّسات الثّقافيّة في العالم العربي من هكذا طفرات ورؤية فكريّة خلّاقة! فقد ظلَّتْ تتبنّى رؤية جامدة وأفكار متخلِّفة وهشّة؛ لا هي دينيّة في المطلق ولا هي ديمقراطيّة، رؤية ضبابيّة سرابيّة قلقة وغير دقيقة في تحقيق أهدافها؛ لأنَّ تطلّعاتها – رغم ضيق رؤيتها - على الورقِ شيء، وعلى أرضِ الواقع شيءٌ آخر، وكل هذا جعلَ هذه البلدان تسيرُ نحوَ المزيدِ من التّيهِ والضّياعِ والصّراعِ والاحترابِ معَ نفسِها كمَنْ يقتلُ نفسَهُ بنفسِهِ، لهذا نرى العالم العربي متخلِّفًا ومخلخلًا وغائصًا في حروبٍ ومتاهاتٍ وصراعاتٍ ووَهْمٍ كبير، وسيبقى متخلّفًا إلى أمدٍ طويل؛ ما دام لا يحملُ رؤية تنويريّة وحداثويّة ونقديّة تغييريّة في برامجِهِ الثّقافيّة والفكريّة والحياتيّة الّتي أكّدَ عليها أدونيس وغيره من المفكِّرين التّنويريِّين، وما دام لا يتبنّى العالم العربي فكرة التّحديث والتّطوير والتّنوير ولا يأخذ بعينِ الاعتبارِ آراء المبدعين والمفكِّرين الكبار، أمثال أدونيس وغيره من المفكِّرين الّذين يحملون رؤية نقديّة تحليليّة عميقة في تغيير البلاد والنّهوض بها إلى مصاف الدُّول الرَّاقية، لهذا ظلَّ وسيظلُّ الفكر السَّائد في العالمِ العربي لدى الأغلبيّة رؤية جامدة ومنغلقة وغير مستنيرة. والغريب بالأمر أَنَّهُ لم يتّعظ العالم العربي ممّا مرَّ به الغرب من حروبٍ عالميّة وصراعاتٍ كارثيّة مميتة، ولم يأخذ ما قاله أدونيس وما قاله المفكِّرون والمبدعون الكبار في دنيا الشَّرق ودنيا الغرب بجدّيّة ولا بأيِّ اهتمام، لهذا نرى كيفَ ينحدرُ العالم العربي عامًا بعدَ عامٍ نحوَ الدّرك الأسفل؛ لأنّهُ يعتمدُ على رؤيةٍ جامدة، تزدادُ انزلاقًا نحوَ أسفلِ السَّافلين، رؤيةٍ متخلّفةٍ وغير قادرة على تلمُّسِ وتبنِّي الأفكار الخلّاقة. وأرى أنَّ أدونيس ومَن يحملُ رؤية أدونيسيّة ويتبنّى الأفكار المجنّحة نحوَ التَّنويرِ والحداثةِ هم مَن ينقذون الشَّرق والعالم العربي ومَن يعيشُ في كنفِهم من كلِّ هذا السَّوادِ القاتم والتّخلُّف المريع الّذي بدأ يهمينُ على أغلبِ مفاصلِ الحياةِ، واستشرى فيه فتيل التّخلّفِ والصِّراعاتِ المريرةِ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، وكل هذا قادهم إلى طُرقٍ مسدودة نحوَ أعماقِ متاهاتِ الجحيم. هل وجدتم جحيمًا في العالمِ أكثر ممّا نراه الآن في دنيا الشَّرقِ الغائصِ في حروبٍ وصراعاتٍ مجنونة بلا نهاية؛ لما لديهم من مواقف هزيلة في صراعاتِهم المريرة، ويبتعدونَ عن تبنّي رؤية خلّاقة، وتنويريّة، وحداثويّة، رغم كل ما يمتلكُ الشَّرقُ من إمكانيّاتٍ نفطيّة وغازيّة وبشريّة وأرضٍ خصبةٍ وأنهارٍ ومياهٍ ومعادن وطاقات كبيرة من المواردِ والخيراتِ! ومن المؤلم والمؤسف جدًّا أن تتوفَّرَ كل هذه الإمكانيّات الكبيرة، ولا يستفيدَ منها المواطن ولا تستفيدَ منها البلاد العربيّة، بل تزِجُّ سياسات هذه البلاد الكثير من هذه الطّاقات والإمكانيّات في حروبٍ طائشة ومدمِّرة بشكلٍ مريع، وتحوِّل هذه النِّعمة إلى نقمةٍ وكابوسٍ فوقَ رقابِ البلاد!
أندهشُ جدًّا، كيفَ لا يستغلُّ المجتمع الشَّرقي والعربي فكر أدونيس وآفاق من يشبه أدونيس في الحداثةِ والتّنويرِ، ولا يتبنّى الفكر الخلّاق، لبناءِ مجتمع قائم على الحرّيّة والعدالة والمساواة، تتساوى فيه المرأة معَ الرّجل، ويبنيان معًا حضارة الشَّرق الّتي كانت مهدَ الحضارات ومهدَ الحرفِ الأوَّل؟! لقد جذبني فكر أدونيس منذ أن قرأتُ تحاليله النّقديّة في كتابِهِ الرَّصينِ الثَّابتِ والمتحوِّلِ، وقرأتُ أشعاره وأفكاره وآفاقه الرّحبة، واستمعتُ إلى أغلبِ اللِّقاءاتِ الّتي أُجريَتْ معَهُ عبرَ اللّقاءاتِ التِّلفزيونيّة والنَّدوات، وتمَّ بثّها عبر الفضائيّات ومحفوظة في الشّبكة، وأفادني كثيرًا ما يقدِّمه من آراء نقديّة تحليليّة راقية، وقد حرَّضني أدونيس على التّمرُّدِ حتَّى على ذاتي؛ ولهذا، وجدتني -وهذا من طبعي أصلًا- أجنح يومًا بعدَ يومٍ نحوَ تبنّي الفكر التّنويري والعلمي والحداثوي؛ لأنّه هو الفكر الخلّاق الّذي يجعلنا في حالة تطوُّر دائم، وقد اصْطَفْتُ رؤاي هذه منذُ أن تخصَّصْتُ في الفلسفة والعلوم الاجتماعيّة، ووجدْتُ أنَّ الفلسفة والعلوم الإنسانيّة هي الّتي تبني المجتمع الإنساني وليس الأديان والرُّوحانيّات؛ لأنَّ علاقة الإنسان عبر الأديان هي مع السَّماء والله والرّوحانيات، لهذا وجدتني متناغمًا معَ طروحاتِ أدونيس وكل المفكِّرين العلمانيِّين في الشَّرقِ والغربِ، وأستغربُ جدًّا عندما أرى بعض الكتّاب والنّقاد يقفون ضدّ طروحات أدونيس، ويعاتبونه أو يخالفونه في الرّأي بحدّيّة وسلبيّة ممجوجة وغير منطقيّة حولَ بعضِ أو أغلبِ طروحاتِهِ، ورأيتُهُ عبر الحوارات واللِّقاءات الّتي أُجْرِيَتْ معه، منفتحًا على الآخر، ويتقبّلُ النّقد برحابةِ صدر ويعتبرُ الاختلاف في الرَّأي ظاهرة صحّيّة وضروريّة، وينتظرُ مَنْ يختلفُ معَهُ في الرّأي؛ كي يتناقشَ معه ليصلا معًا إلى رؤية متقدّمة عن رؤيةِ أدونيس نفسه، فأنا أؤمن بأنَّ الحياةَ والفكرَ الإنساني في حالةِ تطوُّرٍ دائم، ولا يوجد فكرٌ ثابتٌ وغير متحوّل، دائمًا يكتشفُ الإنسانُ أفكارًا جديدة ومتطوّرة إلى ما لا نهاية، وحالما يتوقّفُ المرءُ عندَ خطٍّ معيَّنٍ وفكرٍ معيّنٍ؛ يصبحُ جامدًا وغير قابل للتطوير؛ لهذا، يتوجّب أن نُخضعَ كلّ الأفكار للنقاشِ والحوارِ والتّحليل؛ لأنَّ هذه التّحاليل والنّقاشات والحوارات الرّصينة المبنيّة على المنطقِ العلمي والعدالة والمساواة والدِّيمقراطيّة ستصبُّ في أرقى ما يمكنُ أن يصلَ إليه الفكر الإنساني الخلَّاق، لا أن يأتي ناقدٌ من هنا وكاتبٌ من هناك ويبقى ضدّ ما يطرحه أدونيس من دون أي وجه حق، ومن دون أي تعليل أو تبرير أو تحليل دقيق ومقنع، لمجرّد أنّ أفكار أدونيس لا تعجب هذا أو ذاك، ولستُ هنا في وارد أن يعجبنا أدونيس أو غيره من المبدعين والنّقاد والمفكِّرين، بقدر ما أنا بصددِ محاججة أفكار أدونيس نفسه؛ نناقشه الحجّة بالحجّة، بطريقة علميّة حضاريّة إقناعيَّة، بحيث يَخضعُ رأي أدونيس نفسه ورأي مَن يخالفه للتَّصويبِ الدّقيقِ والتّحليلِ العميقِ، على أن نطرح أنفسنا أمام حالة مَن يُقنعنا أنّه هو الَّذي على صواب، فما يطرحُهُ أدونيس هو رأي مفتوح للنقاش والنّقد والتّحليل، وهو في طروحاتِهِ يطالبُ مَن يستطيعُ إقناعه على أنّهُ على خطأ فليتفضّل بمقترحاته وتحاليله؛ لأنّ أدونيس نفسه لا يعتبرُ كلامه وطرحه وفكره نهائيًّا وقاطعًا، بل يعتبرُ نفسه أنّه يجتهد ويقدِّمُ وجهات نظر نقديّة وتحليليّة لما يراه، وأرى أنَّ آفاق رؤاه تصبُّ في استنهاض البلاد، وانتشال البلاد من الحالة المزرية الّتي يمرُّ بها عالمنا العربي الانغلاقي؛ لأنّه يمتلك فكرًا حرًّا ومستقلًّا ورؤيته ناجمة عن تحليل دقيق وتشخيص عميق لما مرَّ به العرب من حالة تخلّف وتقهقر، والواقع العربي يؤكّد دقّة تحاليله ورؤاه في كلّ ما قاله وحلّله، فيما يخصُّ نقد الفكر العربي، والحالة الرَّاهنة، ومنذ زمن بعيد وضع أدونيس يده على الجراح الّتي يعاني منها الواقع العربي والجمود الفكري الّذي نراه مسلَّطًا على السّاحة دون تحليلٍ عميق ودون إخضاعه للنقدِ الرّصين، وجاء أدونيس وغيره من المفكِّرين ووضعوا مشارطهم على التَّخلّفِ الّذي تعاني منه البلاد؛ كي يستأصلوا كل ما يعيق تقدُّم البلاد، سيرًا نحوَ مرافئ الحضارة؛ كي يعيدوا لهذهِ البلاد مجدها التّليد، بلاد الأبجديّة الأولى في العالم.
أدونيس قامة أدبيّة نقديّة فكريّة تحديثيّة راقية إلى أقصى منارات الرّقي، يحتكم إلى العقل والفكر النّقدي والآراء الخلّاقة، بعيدًا عن أيّة تعصُّبات دينيّة مذهبيّة قوميّة، مركّزًا على الإنسان بكلِّ ما يحملُ من آفاقٍ حضاريّة وتنويريّة راقية، وهو قامة إبداعيّة شاهقة كجبالِ الحبِّ والفرحِ والخيرِ والجمالِ، يتهاطلُ بأفكارهِ علينا مثلَ غيمةٍ حُبلى بالمطر، شاعر ومفكِّر راجح الذّهن وعميق الرُّؤية بتحاليله وآفاقِ رؤاه وحرفه ونقده؛ لما يمتلكُ من بصيرة نافذة وناقدة لقراءة التّراث العربي وتقويمه ورسم ملامح المستقبل بشكلٍ أفضل ممّا يعاني منه الواقع العربي من تناقضاتٍ في الرُّؤية ومن تشرذمٍ وتصارعٍ وانحدارٍ، ولا بدَّ من تجاوز مآسي وصراعات وخلافات العالم العربي من خلالِ إيجاد رؤية جديدة تناسب تطوّرات العصر؛ لأنَّ التّغيير والتّنوير هو أساس تقدُّم المجتمع البشري؛ لذا، نرى أدونيس يحلّق فوقَ منائر التَّطوير وأهازيج اللّيل الحنون، متناغمًا ومنسابًا مع هدهداتِ نسيم الصَّباح كأنّه صديق الطّبيعة والبحر والغربة والشّعر والمرأة والأعشاب البرّيّة والأهليّة. ينسجُ حرفه من بؤرةِ العقلِ والحكمةِ والنَّقدِ البنّاءِ، منطلقًا من منطقِ العلمِ المستندِ على تطويرِ كل مناحي الحياةِ، من خلالِ تطلُّعاتِ آفاقِهِ الخلّاقة. يُشبهُ أدونيس شجرة وارفة الاخضرار والظَّلال، يغدقُ عطاياه الطّيّبة فوقَ الجميعِ؛ كي تبقى رؤاه مرجعًا تنويريًّا لهذهِ الأجيال والأجيال اللّاحقة قبلَ أن يرحلَ عاليًا نحوَ قبّةِ السّماء!
أتساءَلُ بكلِّ آهاتِ السُّؤال: إلى متى سيتجاهل العالم العربي تطلُّعات وآفاق المفكِّرين والمفكِّرات والمبدعين والمبدعات، ويظلُّ الواقع العربي وما يجاوره وما فيه من إثنيات وقوميات في حالةِ تخلْخُلٍ وانحدارٍ كأنّنا نعيشُ خارجَ الزّمن أو نعيشُ في عصرٍ أشبهِ ما يكونُ بعصرِ الظّلمات، في عصرٍ أقرب من الخرافاتِ منه إلى أيِّ شيء آخر؟!
ستوكهولم: أيلول (سبتمبر) (2019).
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم