غزالي (حامد)
Al-Ghazali (Abu Hamid-) - Al-Ghazali (Abu Hamid-)
الغزالي (أبو حامد ـ)
(450ـ 505 هـ/1058ـ 1111م)
أبو حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، إمام جليل، وعالم فقيه، وفيلسوف ومرب، أحد أعظم أعلام الفكر في التاريخ العربي الإسلامي، فارسي الأصل. ولد في مدينة طوس بخراسان، وعرف بـ «حجة الإسلام» لتمكنه من العقيدة الإسلامية ودفاعه المستميت عنها. لقب بالغزالي نسبة إلى غزالة إحدى قرى طوس أو بالغّزالي نسبة إلى أبيه الذي كان يعيش من غزل الصوف وبيعه، وتوفي في مدينة طوس.
اتسم عصر الغزالي (النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس، وهو العصر العباسي المتأخر) من الناحية الفكرية، بازدهار المناهج الفلسفية في الإسلام، إذ سيطرت المدرسة المشائية الإسلامية التي تزعمها الفارابي وابن سينا، كما اكتملت في هذه الفترة معالم الطريق الصوفي، وعمقت مضامين الحياة الروحية في الإسلام. أما من الناحية السياسية فقد اتسم عصره بانحلال سياسي وعسكري وأخلاقي، حيث استولت فيه العناصر التركية على الحكم في بغداد، وأصبح السلاجقة أصحاب السلطة الفعلية فيها، كما هددت الإسماعيلية والباطنية الخلافة، واستشرى خطر القرامطة، وسقطت أنطاكية والقدس بأيدي الصليبيين، وبينما كان السلاجقة ينشئون المدارس النظامية للدفاع عن المذهب السني كان الفاطميون في مصر ينشطون في الدعوة للمذهب الشيعي، وبذلك اشتدت حدة الصراع المذهبي في الإسلام.
كان والده رجلاً فقيراً صالحاً، محباً للعلم والعلماء والفقهاء والمتصوفين. ألم به مرض عضال فأوصى قبيل وفاته بابنيه محمد وأحمد إلى صديق له صوفي، فرباهما ورعاهما فترة من الزمن، ثم أدخلهما إلى مدرسة خيرية، يعيشان منها ويتعلمان. قرأ أبو حامد الفقه في صباه على الإمام أحمد الراذكاني في طوس، ثم على الإمام أبي نصر الإسماعيلي في جرجان؛ قدم بعدها أبو حامد نيسابور (473هـ)، وتعلم التصوف على البرامدي، والفقه والكلام والمنطق على إمام الحرمين ضياء الدين الجويني، وتعمق في الفلسفة والحكمة، وتفوق في جميع هذه العلوم وألف وصنف فيها. استدعاه الوزير السلجوقي نظام الملك إلى بغداد وضمه إلى حاشيته ومجلسه سنة 478هـ، بعد أن التقاه وأجرى معه عدة مناظرات وأعجب بعلمه ومعرفته وسعة إطلاعه وتبحره في العلوم والمعارف، ثم عينه أستاذاً في المدرسة النظامية. استمر في عمله بالتدريس أربع سنوات، نال فيها شهرة عظيمة، وحظي بالقبول والاحترام، واكتسب لقب «حجة الإسلام». انصرف الغزالي في هذه الفترة إلى دراسة الفلسفة، وضع إثرها كتابه «مقاصد الفلاسفة» الذي يدل على سعة اطلاعه، والتزم فيه الحياد التام تجاه الفلسفة والفلاسفة، لكنه سرعان ما بدل رأيه، وألف كتاب «تهافت الفلاسفة» بين فيه ضلال الفلسفة، وشكك في قيمتها وبراهينها.
مر الغزالي، في أثناء إقامته في بغداد بأزمات نفسية عنيفة، وصفها في كتابه «المنقذ من الضلال»، وهي ترجع إلى الوضع المأساوي للمجتمع الإسلامي، الذي كان يعاني الكثير من التفتت السياسي والاجتماعي، والفكري والطائفي، وتفتت الخلافة الإسلامية إلى دويلات وممالك متناحرة، وصراع الطوائف الإسلامية فيما بينها. وأخذ يتجه من جديد نحو التصوف، الذي كانت بذرته موجودة فيه منذ طفولته. وقد دفعته الشكوك التي اعترت معتقداته وأفكاره، والتي كانت تدعوه إلى الاستزادة من العلم وقطع رحلته من الشك إلى اليقين، إلى تخليه النهائي عن التدريس، فترك المدرسة النظامية، بعد أن أناب أخاه أحمد، وغادر بغداد (488هـ/1095م)، متعللاً بأداء فريضة الحج، فرحل إلى مكة المكرمة، ثم تنقل طويلاً بين دمشق والحجاز وبيت المقدس ومصر وبغداد ونيسابور، مارس في أثنائها الزهد والتصوف، والنسك والتقشف. استدعاه الوزير السلجوقي فخر الملك، ابن نظام الملك، من قبل سنجر حاكم خراسان، للتدريس في المدرسة النظامية بنيسابور عام 499هـ، وكان الوزير قد سمع بالغزالي وتحقق من مكانته ودرجته وكمال فضائله، فرجاه وألح عليه كل الإلحاح كي يأتي إلى نيسابور، إلى أن قصد الغزالي نيسابور استجابة لدعوته، وبدأ التدريس في نظاميتها، لكنه لم يلبث طويلاً، لأنه عندما وصل نيسابور كان الوزير غائباً عن الوزارة، بعد أن قُتل غيلة على أيدي فرقة الحشاشين، فأشار إليه الولاة بالتدريس في المدرسة النظامية، ولم يجد بداً من الإذعان إلى حين، وغادرها بعد سنة، قاصداً طوس، حيث لازم الغزالي بيته، وانقطع للوعظ والعبادة والتدريس إلى أن وافته المنية، وهو في الخامسة والخمسين من عمره.
أطوار الغزالي الفكرية
إن دراسة أطوار الغزالي الفكرية ترتكز بالدرجة الأولى على ما تركه هذا المفكر والفيلسوف من كتب وأعمال. وقد ترك الغزالي كتاباً ـ اعترافاً هو «المنقذ من الضلال»، أودع بين طياته وصفاً مسهباً لحالته النفسية والمعاناة التي كابدها حتى انتقل من مرحلة الشك إلى مرحلة اليقين، الذي تمثل بالتصوف مذهباً وطريقة. ألف الغزالي هذا الكتاب بعد عزلة دامت عشر سنوات سلك فيها طريق الصوفية، وبعد أن أناف على الخمسين، فهو إذن من نتاج سن النضج، كتبه في أواخر أيامه، لذا يمكن عده مؤشراً صادقاً على ما انتهى إليه أبو حامد من قناعات فكرية ودينية.
ـ طور الشك: يقول الغزالي «كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني منذ أول أمري وريعان عمري… ورأيت صبيان من النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان من اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود وصبيان من المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام… فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية». يرى الغزالي أن التقليد لا يمكن أن يؤدي إلى اليقين. وقد اتبع منهجاً مناقضاً لمذهب فلاسفة العرب، فبدل أن يركز المعرفة على العقل ليظهر حدوده الضيقة، راح يركز المعرفة على الإيمان، مبيناً أن العقل لا يصلح أداة للمعرفة ما لم يقم على الإيمان، واتخذ من الإيمان نقطة الانطلاق ومبدأ المعرفة.
طور اليقين: يحدد الغزالي العلم اليقيني بأنه «العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً بديهياً لا يبقى معه ريب». وبعد وضعه الأسس والشروط، بدأ الغزالي بالبحث عن علم موصوف بهذه الصفة، لكنه لم يجد هذا العلم، لأن العلم إما أن يكون بالحسيات وإما أن يكون بالعقليات، والثقة معدومة بالمحسوسات، وهي معدومة في العقليات أيضاً. فالعقل يكّذب الإحساس والإحساس يكذّب العقل. دامت شكوك الغزالي وريبته وهو على مذهب السفسطة قرابة شهرين، ولم يرجع إلى الإيمان، بحكم الضروريات والبديهيات العقلية، إلا بمساعدة خارجية، بـ «نور قذفه الله تعالى في الصدر»، وهنا أدرك أن العقل لا يمكن أن يكون مصدراً للعقيدة الدينية، وهو لا يفسر الدين ولا يبرره، بل الدين هو الذي يعطي العقل مشروعيته، وإن الكشف مفتاح المعرفة.
ـ طور العلم اليقيني: بعد أن حدد شرط اليقين الذي أنقذه من دوامة الشك، ينتقل الغزالي للبحث في آراء الفرق والمذاهب، فيحصرها في أربع: فرقة المتكلمين، والباطنيين، والفلاسفة، والصوفية. ينتقد الغزالي الفرق الثلاث الأولى، ويرد على أصحابها، ويفند حجج مريديها والقائلين بها، ثم يخلص إلى أن طريق الصوفية أسلم الطرق، لأن الصوفي يهتدي بنور النبوة، بينما المتكلم مقلد، والفيلسوف مكتف بعقله، والباطني يقول بإمام معصوم.
مؤلفاته
كان الغزالي واسع المعرفة، غزير العلم، لم يتوقف عن التأليف والكتابة، حتى خلال السنوات العشر التي قضاها في التنقل والزهد والعبادة. وقد ذكر أحد الرواة أنه لو وزعت كتب الغزالي على سني عمره لكان له في كل يوم منها أربع كراريس. وقد اختلف الباحثون في عدد الكتب التي ألفها الغزالي، فقد قطع عبد الرحمن البدوي في كتابه عن الغزالي بصحة نسبة /69/كتاباً إليه، في حين وضع الباحثان جميل صليبا وكامل عيّاد قائمة بمؤلفات الغزالي ضمت/228/كتاباً ورسالة، ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود. وكتبه موزعة، بصورة رئيسة، بين التصوف والفقه، والأصول والمنطق، والفلسفة والأخلاق؛ غير أنه تطرق، وعالج بالتفصيل، في كتبه ورسائله، موضوعات أخرى كثيرة في علوم النفس والاجتماع والتربية والسياسة والطبيعيات. وأهم مؤلفاته في التصوف: «آداب الصوفية»، «الأدب في الدين»، «الأربعين في أصول الدين»، «الإملاء عن أشكال الأحياء»، «إحياء علوم الدين»، «أيها الولد»، «مشكاة الأنوار»، «معراج السالكين»، «ميزان العمل»؛ وفي العقائد: «الاقتصاد في الاعتقاد»، «عقيدة أهل السنة»، «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، «القسطاس المستقيم»، «كيمياء السعادة»، وفي الفلسفة والمنطق: «تهافت الفلاسفة»، «رسالة الطير»، «محك النظر في المنطق»، «مشكاة الأنوار»، «معارج القدس في مدارج معرفة النفس»، «معيار العلم في المنطق»، «المنقذ من الضلال»، و«مقاصد الفلاسفة»، وهو أحسن كتاب يلخص الفلسفة اليونانية والإسلامية. ويرى كثير من الباحثين أن أهم هذه الكتب التي تحدد شخصية الغزالي ومنهجه واتجاهه وأفكاره ثلاثة هي:
ـ «المنقذ من الضلال»: وهو مرجع ضروري في معرفة تطور أفكاره وانتقاله من الدراسة المستفيضة إلى الشك ومن ثم إلى اليقين، وفي معرفة موقفه من علم الكلام، ومن الفلسفة والفلاسفة، ومن التصوف. وفي هذا الكتاب تتضح قواعد المنهج عند الغزالي، ومساره العقلي في طلب اليقين، وذلك بـ: رفضه التقليد وإيثاره طريق النظر العقلي (الاستبصار)، وارتكازه على الفطرة الأصلية، وانتقاده العقائد والمذاهب، واعتماده العلم اليقيني، الذي يرقى في نظره إلى مستوى العلم الرياضي، وتشكيكه بالمحسوسات والمعقولات، ورجوعه إلى اليقين، ألا وهو النور الإلهي ـ سند المعرفة المباشرة ومضمونها ـ وهو التصوف، وأخيراً مناقشته مواقف الفرق المختلفة طلباً للحق في ضوء موقفه النظري (الصوفي).
ـ «تهافت الفلاسفة»: هذا الكتاب هو محاولة جريئة من الغزالي، وقد كان هدفه منه هدم المنهج العقلي الذي استندت إليه آراء الفلاسفة وليس تسفيه الفلاسفة. لقد أراد الغزالي أن يثبت في كتابه هذا أن العقل، إذا لم يتخذ الوحي هادياً ومرشداً، عجز كل العجز عن الوصول إلى الحقيقة فيما وراء الطبيعة.
ـ «إحياء علوم الدين»: وهو أهم كتبه على الإطلاق، وقد قال عنه الإمام النووي: «كاد الإحياء أن يكون قرآناً». ألفه الغزالي ـ حسب رواية ابن الجوزي ـ في بداية انصرافه إلى العزلة، فقد وجد أن الشيطان استحوذ على أكثر الناس، واستغواهم الطغيان، وأصبح الدين في نظر علمائه فتوى حكومة أو جدلاً للمباهاة والغلبة والإفحام؛ ألفه ليستعيد الإخلاص إلى القلوب، ليستعيد ما درج عليه السلف الصالح من اتخاذ الإخلاص أساساً وشعاراً، وإخلاص الدين لله وحده هو التوحيد، والتوحيد هو جوهر الدين الإسلامي. وقد رتب الغزالي كتابه هذا أقساماً، والأقسام كتباً، والكتب أبواباً، والأبواب فقرات، وحاول فيه وضع منظومة إيديولوجية لتنظيم المجتمع عن طريق الإصلاح والعودة إلى أصول العقيدة الإسلامية السمحة. وقد عالج في كتابه هذا، إلى جانب مسائل الدين والعقيدة، موضوعات أخرى مهمة، موضوعات نفسية واجتماعية، وأخلاقية وسياسية وتربوية: كالسلوك الإنساني ودوافعه، وكيفية تعديله؛ والعادات التي بحثها بالتفصيل، حتى أن «قسم العادات» يشغل ربع هذا الكتاب، حيث عرف العادة، وبين مراحل تكونها، وأشكال العادات والعوامل المؤثرة في اكتسابها؛ وتناول الجماعة، فبين أنواعها «أصناف الخلق» وعوامل تكونها؛ أما الأخلاق، فقد مال الغزالي إلى بحثها من الناحية العملية السلوكية التطبيقية، فاهتم بتحديد واجبات المرء نحو نفسه وقريبه، ووالديه وإخوانه في الدين، ورأى أن أصول الأخلاق أربعة هي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل. وتمتاز الأخلاق عند الغزالي بعمق التحليل النفسي الذي يصف فيه الفضائل الجزئية المختلفة، دون أن يرتقي إلى البحث في مبدأ الأخلاق وأساسها وغايتها، لذلك جاءت مباحثه في الأخلاق أقرب إلى المباحث النفسية منها إلى المباحث الفلسفية؛ وتطرق الغزالي في كتابه هذا إلى موضوع المرأة فبين حقوقها؛ وتحدث في السياسة، فربطها ربطاً محكماً بفلسفته الأخلاقية، وتناول بالبحث نشوءها، وضرورة اهتمام الدولة بمصالح الفرد ومصالح المجتمع على حد سواء؛ وتطرق إلى موضع القيادة والقائد، ورأى أن العدل أهم صفة من صفات الحاكم. وعالج الغزالي في هذا الكتاب ـ الموسوعة موضوعات تربوية مهمة، كالتنشئة الاجتماعية للأولاد، وضرورة مراعاة الفروق الفردية فيما بينهم، والجمع بين الدراسة واللعب في المدرسة، ودعا إلى ضرورة ربط التعليم والدراسة بالمجتمع والبيئة.
مكانته العلمية
حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي مفكر إسلامي كبير، وعالم جليل، ومتكلم بارع، ومربّ مقتدر؛ وهو رائد مذهب الشك، فطريق الشك التي اتبعها الغزالي ليصل إلى اليقين هي نفسها التي اتبعها فيما بعد الفيلسوف الفرنسي الكبير رونيه ديكارت Rene Descartes ت(1556 ـ1650م)، والنتيجة التي توصل إليها حول ضرورة وجود مسلمات عقلية أولية، ليست خاضعة للبرهان هي نفسها النتيجة التي توصل إليها ديكارت بعد شكه بالحسيات والعقليات. وقد بلغ في كتابه «تهافت الفلاسفة» أقصى حدود الشك، وسبق زعيم الفلاسفة الشكيين ديفيد هيوم David Hume ت(1711ـ 1776م). والغزالي هو متصوف عملاق، أسس منهجاً صوفياً أعاد به التصوف إلى حظيرة الإسلام بعد غربة طويلة، تخللتها شطحات صوفية. كما وضع الغزالي نظرية متكاملة في الأخلاق لا نجدها لدى مفكر آخر من سابقيه أو معاصريه. لقد ترك الغزالي تراثاً علمياً ضخماً يجعله في الخالدين، وهو كما قيل: مزاج من علوم شتى، أنضجها البحث الدقيق، وصقلها التفكير العميق، وهو لهذا يتمتع بمقام مرموق من علماء الشرق والغرب، وقد تُرجِم عديد من كتبه إلى جميع اللغات الحية، ويرى المستشرق الفرنسي دي بور De beure، أنه «أعجب شخصية في تاريخ الإسلام».
وقد كان لهذا الرجل العظيم تجربة عقلية رائعة ورائدة في طريقه إلى الحقيقة، ولعلها أول تجربة مسجلة في تاريخ الفكر الإنساني، وقد سجلها في كتابه الرائع «المنقذ من الضلال». ولعل أدق وصف يلخص حياة هذا الرجل العظيم وأمانيه هو «الباحث عن اليقين». كما كان الغزالي أولاً وقبل كل شيء كاتباً أخلاقياً، وقد نال شهرته في العالم الإسلامي عن طريق ما كتبه في الأخلاق، ويعد كتابه «إحياء علوم الدين»، الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية، أوسع كتب الأخلاق الإسلامية انتشاراً في العالم حتى اليوم.
نزار عيون السود
Al-Ghazali (Abu Hamid-) - Al-Ghazali (Abu Hamid-)
الغزالي (أبو حامد ـ)
(450ـ 505 هـ/1058ـ 1111م)
أبو حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، إمام جليل، وعالم فقيه، وفيلسوف ومرب، أحد أعظم أعلام الفكر في التاريخ العربي الإسلامي، فارسي الأصل. ولد في مدينة طوس بخراسان، وعرف بـ «حجة الإسلام» لتمكنه من العقيدة الإسلامية ودفاعه المستميت عنها. لقب بالغزالي نسبة إلى غزالة إحدى قرى طوس أو بالغّزالي نسبة إلى أبيه الذي كان يعيش من غزل الصوف وبيعه، وتوفي في مدينة طوس.
اتسم عصر الغزالي (النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس، وهو العصر العباسي المتأخر) من الناحية الفكرية، بازدهار المناهج الفلسفية في الإسلام، إذ سيطرت المدرسة المشائية الإسلامية التي تزعمها الفارابي وابن سينا، كما اكتملت في هذه الفترة معالم الطريق الصوفي، وعمقت مضامين الحياة الروحية في الإسلام. أما من الناحية السياسية فقد اتسم عصره بانحلال سياسي وعسكري وأخلاقي، حيث استولت فيه العناصر التركية على الحكم في بغداد، وأصبح السلاجقة أصحاب السلطة الفعلية فيها، كما هددت الإسماعيلية والباطنية الخلافة، واستشرى خطر القرامطة، وسقطت أنطاكية والقدس بأيدي الصليبيين، وبينما كان السلاجقة ينشئون المدارس النظامية للدفاع عن المذهب السني كان الفاطميون في مصر ينشطون في الدعوة للمذهب الشيعي، وبذلك اشتدت حدة الصراع المذهبي في الإسلام.
كان والده رجلاً فقيراً صالحاً، محباً للعلم والعلماء والفقهاء والمتصوفين. ألم به مرض عضال فأوصى قبيل وفاته بابنيه محمد وأحمد إلى صديق له صوفي، فرباهما ورعاهما فترة من الزمن، ثم أدخلهما إلى مدرسة خيرية، يعيشان منها ويتعلمان. قرأ أبو حامد الفقه في صباه على الإمام أحمد الراذكاني في طوس، ثم على الإمام أبي نصر الإسماعيلي في جرجان؛ قدم بعدها أبو حامد نيسابور (473هـ)، وتعلم التصوف على البرامدي، والفقه والكلام والمنطق على إمام الحرمين ضياء الدين الجويني، وتعمق في الفلسفة والحكمة، وتفوق في جميع هذه العلوم وألف وصنف فيها. استدعاه الوزير السلجوقي نظام الملك إلى بغداد وضمه إلى حاشيته ومجلسه سنة 478هـ، بعد أن التقاه وأجرى معه عدة مناظرات وأعجب بعلمه ومعرفته وسعة إطلاعه وتبحره في العلوم والمعارف، ثم عينه أستاذاً في المدرسة النظامية. استمر في عمله بالتدريس أربع سنوات، نال فيها شهرة عظيمة، وحظي بالقبول والاحترام، واكتسب لقب «حجة الإسلام». انصرف الغزالي في هذه الفترة إلى دراسة الفلسفة، وضع إثرها كتابه «مقاصد الفلاسفة» الذي يدل على سعة اطلاعه، والتزم فيه الحياد التام تجاه الفلسفة والفلاسفة، لكنه سرعان ما بدل رأيه، وألف كتاب «تهافت الفلاسفة» بين فيه ضلال الفلسفة، وشكك في قيمتها وبراهينها.
مر الغزالي، في أثناء إقامته في بغداد بأزمات نفسية عنيفة، وصفها في كتابه «المنقذ من الضلال»، وهي ترجع إلى الوضع المأساوي للمجتمع الإسلامي، الذي كان يعاني الكثير من التفتت السياسي والاجتماعي، والفكري والطائفي، وتفتت الخلافة الإسلامية إلى دويلات وممالك متناحرة، وصراع الطوائف الإسلامية فيما بينها. وأخذ يتجه من جديد نحو التصوف، الذي كانت بذرته موجودة فيه منذ طفولته. وقد دفعته الشكوك التي اعترت معتقداته وأفكاره، والتي كانت تدعوه إلى الاستزادة من العلم وقطع رحلته من الشك إلى اليقين، إلى تخليه النهائي عن التدريس، فترك المدرسة النظامية، بعد أن أناب أخاه أحمد، وغادر بغداد (488هـ/1095م)، متعللاً بأداء فريضة الحج، فرحل إلى مكة المكرمة، ثم تنقل طويلاً بين دمشق والحجاز وبيت المقدس ومصر وبغداد ونيسابور، مارس في أثنائها الزهد والتصوف، والنسك والتقشف. استدعاه الوزير السلجوقي فخر الملك، ابن نظام الملك، من قبل سنجر حاكم خراسان، للتدريس في المدرسة النظامية بنيسابور عام 499هـ، وكان الوزير قد سمع بالغزالي وتحقق من مكانته ودرجته وكمال فضائله، فرجاه وألح عليه كل الإلحاح كي يأتي إلى نيسابور، إلى أن قصد الغزالي نيسابور استجابة لدعوته، وبدأ التدريس في نظاميتها، لكنه لم يلبث طويلاً، لأنه عندما وصل نيسابور كان الوزير غائباً عن الوزارة، بعد أن قُتل غيلة على أيدي فرقة الحشاشين، فأشار إليه الولاة بالتدريس في المدرسة النظامية، ولم يجد بداً من الإذعان إلى حين، وغادرها بعد سنة، قاصداً طوس، حيث لازم الغزالي بيته، وانقطع للوعظ والعبادة والتدريس إلى أن وافته المنية، وهو في الخامسة والخمسين من عمره.
أطوار الغزالي الفكرية
إن دراسة أطوار الغزالي الفكرية ترتكز بالدرجة الأولى على ما تركه هذا المفكر والفيلسوف من كتب وأعمال. وقد ترك الغزالي كتاباً ـ اعترافاً هو «المنقذ من الضلال»، أودع بين طياته وصفاً مسهباً لحالته النفسية والمعاناة التي كابدها حتى انتقل من مرحلة الشك إلى مرحلة اليقين، الذي تمثل بالتصوف مذهباً وطريقة. ألف الغزالي هذا الكتاب بعد عزلة دامت عشر سنوات سلك فيها طريق الصوفية، وبعد أن أناف على الخمسين، فهو إذن من نتاج سن النضج، كتبه في أواخر أيامه، لذا يمكن عده مؤشراً صادقاً على ما انتهى إليه أبو حامد من قناعات فكرية ودينية.
ـ طور الشك: يقول الغزالي «كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني منذ أول أمري وريعان عمري… ورأيت صبيان من النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان من اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود وصبيان من المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام… فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية». يرى الغزالي أن التقليد لا يمكن أن يؤدي إلى اليقين. وقد اتبع منهجاً مناقضاً لمذهب فلاسفة العرب، فبدل أن يركز المعرفة على العقل ليظهر حدوده الضيقة، راح يركز المعرفة على الإيمان، مبيناً أن العقل لا يصلح أداة للمعرفة ما لم يقم على الإيمان، واتخذ من الإيمان نقطة الانطلاق ومبدأ المعرفة.
طور اليقين: يحدد الغزالي العلم اليقيني بأنه «العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً بديهياً لا يبقى معه ريب». وبعد وضعه الأسس والشروط، بدأ الغزالي بالبحث عن علم موصوف بهذه الصفة، لكنه لم يجد هذا العلم، لأن العلم إما أن يكون بالحسيات وإما أن يكون بالعقليات، والثقة معدومة بالمحسوسات، وهي معدومة في العقليات أيضاً. فالعقل يكّذب الإحساس والإحساس يكذّب العقل. دامت شكوك الغزالي وريبته وهو على مذهب السفسطة قرابة شهرين، ولم يرجع إلى الإيمان، بحكم الضروريات والبديهيات العقلية، إلا بمساعدة خارجية، بـ «نور قذفه الله تعالى في الصدر»، وهنا أدرك أن العقل لا يمكن أن يكون مصدراً للعقيدة الدينية، وهو لا يفسر الدين ولا يبرره، بل الدين هو الذي يعطي العقل مشروعيته، وإن الكشف مفتاح المعرفة.
ـ طور العلم اليقيني: بعد أن حدد شرط اليقين الذي أنقذه من دوامة الشك، ينتقل الغزالي للبحث في آراء الفرق والمذاهب، فيحصرها في أربع: فرقة المتكلمين، والباطنيين، والفلاسفة، والصوفية. ينتقد الغزالي الفرق الثلاث الأولى، ويرد على أصحابها، ويفند حجج مريديها والقائلين بها، ثم يخلص إلى أن طريق الصوفية أسلم الطرق، لأن الصوفي يهتدي بنور النبوة، بينما المتكلم مقلد، والفيلسوف مكتف بعقله، والباطني يقول بإمام معصوم.
مؤلفاته
كان الغزالي واسع المعرفة، غزير العلم، لم يتوقف عن التأليف والكتابة، حتى خلال السنوات العشر التي قضاها في التنقل والزهد والعبادة. وقد ذكر أحد الرواة أنه لو وزعت كتب الغزالي على سني عمره لكان له في كل يوم منها أربع كراريس. وقد اختلف الباحثون في عدد الكتب التي ألفها الغزالي، فقد قطع عبد الرحمن البدوي في كتابه عن الغزالي بصحة نسبة /69/كتاباً إليه، في حين وضع الباحثان جميل صليبا وكامل عيّاد قائمة بمؤلفات الغزالي ضمت/228/كتاباً ورسالة، ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود. وكتبه موزعة، بصورة رئيسة، بين التصوف والفقه، والأصول والمنطق، والفلسفة والأخلاق؛ غير أنه تطرق، وعالج بالتفصيل، في كتبه ورسائله، موضوعات أخرى كثيرة في علوم النفس والاجتماع والتربية والسياسة والطبيعيات. وأهم مؤلفاته في التصوف: «آداب الصوفية»، «الأدب في الدين»، «الأربعين في أصول الدين»، «الإملاء عن أشكال الأحياء»، «إحياء علوم الدين»، «أيها الولد»، «مشكاة الأنوار»، «معراج السالكين»، «ميزان العمل»؛ وفي العقائد: «الاقتصاد في الاعتقاد»، «عقيدة أهل السنة»، «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، «القسطاس المستقيم»، «كيمياء السعادة»، وفي الفلسفة والمنطق: «تهافت الفلاسفة»، «رسالة الطير»، «محك النظر في المنطق»، «مشكاة الأنوار»، «معارج القدس في مدارج معرفة النفس»، «معيار العلم في المنطق»، «المنقذ من الضلال»، و«مقاصد الفلاسفة»، وهو أحسن كتاب يلخص الفلسفة اليونانية والإسلامية. ويرى كثير من الباحثين أن أهم هذه الكتب التي تحدد شخصية الغزالي ومنهجه واتجاهه وأفكاره ثلاثة هي:
ـ «المنقذ من الضلال»: وهو مرجع ضروري في معرفة تطور أفكاره وانتقاله من الدراسة المستفيضة إلى الشك ومن ثم إلى اليقين، وفي معرفة موقفه من علم الكلام، ومن الفلسفة والفلاسفة، ومن التصوف. وفي هذا الكتاب تتضح قواعد المنهج عند الغزالي، ومساره العقلي في طلب اليقين، وذلك بـ: رفضه التقليد وإيثاره طريق النظر العقلي (الاستبصار)، وارتكازه على الفطرة الأصلية، وانتقاده العقائد والمذاهب، واعتماده العلم اليقيني، الذي يرقى في نظره إلى مستوى العلم الرياضي، وتشكيكه بالمحسوسات والمعقولات، ورجوعه إلى اليقين، ألا وهو النور الإلهي ـ سند المعرفة المباشرة ومضمونها ـ وهو التصوف، وأخيراً مناقشته مواقف الفرق المختلفة طلباً للحق في ضوء موقفه النظري (الصوفي).
ـ «تهافت الفلاسفة»: هذا الكتاب هو محاولة جريئة من الغزالي، وقد كان هدفه منه هدم المنهج العقلي الذي استندت إليه آراء الفلاسفة وليس تسفيه الفلاسفة. لقد أراد الغزالي أن يثبت في كتابه هذا أن العقل، إذا لم يتخذ الوحي هادياً ومرشداً، عجز كل العجز عن الوصول إلى الحقيقة فيما وراء الطبيعة.
ـ «إحياء علوم الدين»: وهو أهم كتبه على الإطلاق، وقد قال عنه الإمام النووي: «كاد الإحياء أن يكون قرآناً». ألفه الغزالي ـ حسب رواية ابن الجوزي ـ في بداية انصرافه إلى العزلة، فقد وجد أن الشيطان استحوذ على أكثر الناس، واستغواهم الطغيان، وأصبح الدين في نظر علمائه فتوى حكومة أو جدلاً للمباهاة والغلبة والإفحام؛ ألفه ليستعيد الإخلاص إلى القلوب، ليستعيد ما درج عليه السلف الصالح من اتخاذ الإخلاص أساساً وشعاراً، وإخلاص الدين لله وحده هو التوحيد، والتوحيد هو جوهر الدين الإسلامي. وقد رتب الغزالي كتابه هذا أقساماً، والأقسام كتباً، والكتب أبواباً، والأبواب فقرات، وحاول فيه وضع منظومة إيديولوجية لتنظيم المجتمع عن طريق الإصلاح والعودة إلى أصول العقيدة الإسلامية السمحة. وقد عالج في كتابه هذا، إلى جانب مسائل الدين والعقيدة، موضوعات أخرى مهمة، موضوعات نفسية واجتماعية، وأخلاقية وسياسية وتربوية: كالسلوك الإنساني ودوافعه، وكيفية تعديله؛ والعادات التي بحثها بالتفصيل، حتى أن «قسم العادات» يشغل ربع هذا الكتاب، حيث عرف العادة، وبين مراحل تكونها، وأشكال العادات والعوامل المؤثرة في اكتسابها؛ وتناول الجماعة، فبين أنواعها «أصناف الخلق» وعوامل تكونها؛ أما الأخلاق، فقد مال الغزالي إلى بحثها من الناحية العملية السلوكية التطبيقية، فاهتم بتحديد واجبات المرء نحو نفسه وقريبه، ووالديه وإخوانه في الدين، ورأى أن أصول الأخلاق أربعة هي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل. وتمتاز الأخلاق عند الغزالي بعمق التحليل النفسي الذي يصف فيه الفضائل الجزئية المختلفة، دون أن يرتقي إلى البحث في مبدأ الأخلاق وأساسها وغايتها، لذلك جاءت مباحثه في الأخلاق أقرب إلى المباحث النفسية منها إلى المباحث الفلسفية؛ وتطرق الغزالي في كتابه هذا إلى موضوع المرأة فبين حقوقها؛ وتحدث في السياسة، فربطها ربطاً محكماً بفلسفته الأخلاقية، وتناول بالبحث نشوءها، وضرورة اهتمام الدولة بمصالح الفرد ومصالح المجتمع على حد سواء؛ وتطرق إلى موضع القيادة والقائد، ورأى أن العدل أهم صفة من صفات الحاكم. وعالج الغزالي في هذا الكتاب ـ الموسوعة موضوعات تربوية مهمة، كالتنشئة الاجتماعية للأولاد، وضرورة مراعاة الفروق الفردية فيما بينهم، والجمع بين الدراسة واللعب في المدرسة، ودعا إلى ضرورة ربط التعليم والدراسة بالمجتمع والبيئة.
مكانته العلمية
حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي مفكر إسلامي كبير، وعالم جليل، ومتكلم بارع، ومربّ مقتدر؛ وهو رائد مذهب الشك، فطريق الشك التي اتبعها الغزالي ليصل إلى اليقين هي نفسها التي اتبعها فيما بعد الفيلسوف الفرنسي الكبير رونيه ديكارت Rene Descartes ت(1556 ـ1650م)، والنتيجة التي توصل إليها حول ضرورة وجود مسلمات عقلية أولية، ليست خاضعة للبرهان هي نفسها النتيجة التي توصل إليها ديكارت بعد شكه بالحسيات والعقليات. وقد بلغ في كتابه «تهافت الفلاسفة» أقصى حدود الشك، وسبق زعيم الفلاسفة الشكيين ديفيد هيوم David Hume ت(1711ـ 1776م). والغزالي هو متصوف عملاق، أسس منهجاً صوفياً أعاد به التصوف إلى حظيرة الإسلام بعد غربة طويلة، تخللتها شطحات صوفية. كما وضع الغزالي نظرية متكاملة في الأخلاق لا نجدها لدى مفكر آخر من سابقيه أو معاصريه. لقد ترك الغزالي تراثاً علمياً ضخماً يجعله في الخالدين، وهو كما قيل: مزاج من علوم شتى، أنضجها البحث الدقيق، وصقلها التفكير العميق، وهو لهذا يتمتع بمقام مرموق من علماء الشرق والغرب، وقد تُرجِم عديد من كتبه إلى جميع اللغات الحية، ويرى المستشرق الفرنسي دي بور De beure، أنه «أعجب شخصية في تاريخ الإسلام».
وقد كان لهذا الرجل العظيم تجربة عقلية رائعة ورائدة في طريقه إلى الحقيقة، ولعلها أول تجربة مسجلة في تاريخ الفكر الإنساني، وقد سجلها في كتابه الرائع «المنقذ من الضلال». ولعل أدق وصف يلخص حياة هذا الرجل العظيم وأمانيه هو «الباحث عن اليقين». كما كان الغزالي أولاً وقبل كل شيء كاتباً أخلاقياً، وقد نال شهرته في العالم الإسلامي عن طريق ما كتبه في الأخلاق، ويعد كتابه «إحياء علوم الدين»، الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية، أوسع كتب الأخلاق الإسلامية انتشاراً في العالم حتى اليوم.
نزار عيون السود