محرم
Taboo - Tabou
المحرَّم
كلمة محرم tabou بولينيزية الأصل تطلق على ما هو محظور من الأفعال والتصرفات لاعتقاد ديني، وأن مخالفته تجلب شراً، مثل المرض أو العمى أو الموت، ولا تزال شعوب كثيرة في أنحاء مختلفة من العالم تعتقد أن قتل بعض الحيوانات أو لمس بعض الأشياء تجلب بلاءً تماثل شدته شدة المخالفة، وفكرة المحرم مقرونة بفكرة التقديس، ذلك أن الذي ينتهك حرمة الشيء المقدس يعرض نفسه لغضب الآلهة.
وتمثل نظم المحرمات الدستور غير المكتوب والأقدم عهداً للبشرية، ومن المسلم به بصفة عامة أن أصلها يعود إلى زمن سابق على كل دين، وتضم المحرمات في تعييناتها مجموعة من العناصر أهمها الطابع المقدس (أو المدنس) للأشخاص والأشياء، ونوع التحريم الذي يترتب على هذا الطابع، والنتائج المقدسة (أو المدنسة) التي تنجم عن انتهاك هذا الحظر، وللتحريم أنواع هي: التحريم الطبيعي وهو من عمل قوة غامضة (سحرية) مرتبطة بشخص أو بشيء، والتحريم المنقول وهو مايصدر عن القوة نفسها، ولكنه إما أن يكون مكتسباً وإما مأخوذاً من كاهن أو زعيم.
وللتحريم أهداف متباينة في طبيعتها وخصائصها منها حماية الأشخاص ذوي المكانة الاجتماعية، أمثال الزعماء والكهنة، وحماية الأشياء ذات القيم التي يمكن أن تلحق ضرراً إذا ما تعرضت للتأثير، وحماية الضعفاء من النساء والأطفال والرجال بصفة عامة من المانا Mana (القدرة السحرية) التي يتصف بها بعض الأشخاص مثل الكهنة والزعماء، والوقاية من الأخطار الناجمة عن ملامسة الجثث وامتصاص بعض الأطعمة. إلخ، واتقاء الاضطرابات التي قد تقع في أثناء إنجاز بعض الأعمال الحياتية المهمة مثل الولادة والزواج وممارسة الوظائف الجنسية…إلخ، وحماية الكائنات البشرية من قوة الآلهة والجن أو من غضبها، وحماية الأطفال الذين سيولدون أو الرضع من مختلف الأخطار التي تتهددهم من جراء تبعيتهم الوجدانية لوالديهم في حال قيام هؤلاء الوالدين بأفعال أو تناولهم لأطعمة من شأنها أن تطبع أولادهم بطابع خاص، وحماية ملكية الشخص كأدواته وحقله…إلخ من السارقين.
كما أن للتحريم قواعد وأسساً لابد من احترامها والالتزام بها، منها ما يتصل بطرق التفاعل مع الأعداء في حالات الانتصار عليهم، ومنها ما يتصل بالزعماء، ومنها ما يتعلق بالأموات.
الموقف حيال الأعداء
يمكن توصيف العادات والتقاليد التي ينبغي ممارستها في حالات الانتصار على الأعداء بمراحل عديدة، أهمها التصالح مع العدو القتيل، والتقييدات التي تحدد مجموعة من أنماط السلوك الاجتماعي، وممارسة الأفعال التي تساعد على عملية التكفير والتطهير بعد إنجاز عملية القتل، وأخيراً ممارسة مجموعة من الشعائر الدينية ذات الصلة.
فعادات التصالح التي تراعى في جزيرة تيمور Timor مثيرة للاهتمام بدرجة كبيرة، فبعد رجوع الظافر من أرض المعركة تقدم الأضاحي لتهدئة روح المقتول الخصم، وإلا فإن مصائب شتى ستنـزل بالمنتصر نفسه، وتؤدى رقصة مصحوبة بغناء موجه نحو روحه بغية التماس غفرانه: «لا يأخذنك الغضب علينا، فلدينا الآن رأسك، ولو لم يحالفنا الحظ فأغلب الظن أن رؤوسنا هي التي ستعرض الآن في قريتك، ولقد قدمنا لك أضحية ليسكن روعك، والآن ينبغي أن ترضى روحك وتدعنا في سلام، لماذا كنت عدونا؟ أما كان خيراً لنا لو بقينا أصدقاء؟ فما كان دمك ليسفك ولا رأسك ليقطع».
وتأتي هذه العادات والأنماط السلوكية - التي تحرِّم على المنتصر أن يقدم على أفعال ليست أخلاقية بحق المهزومين - من الاعتقاد بأن الأرواح لا تموت، بل لها من القوة ما ليس للأحياء، وهي قادرة على أن تسبب الأذى والضرر للمنتصرين؛ ولهذا يجب التقرب إليهم واسترضاؤهم حتى لا تقع بهم المصائب التي لا يستطيعون التحرر منها إلا برضا الأرواح التي أزهقوها على أرض المعركة.
ولا يستطيع قائد الحملة أن يعود إلى بيته مباشرة، بل يخصص له كوخ يمضي فيه شهرين، يؤدي في أثنائهما أفعالاً غايتها تطهير ذاته، وفيهما يحرَّم عليه أن يرى زوجته، وينبغي أن يتولى شخص آخر تلقيمه الطعام في فمه.
حرمة السادة
يحكم موقفَ الأقوام البدائية من زعمائها وملوكها وكهنتها مبدآن متكاملان: وجوب التوقِّي منهم ووجوب وقايتهم، فالتوقِّي من السادة لزعمهم أن لديهم قوى سحرية غامضة وخطرة، تنتقل بالتماس، وتتسبب في موت من لا تتوفر له الحماية بشحنة متكافئة وفي هلاكه، من هنا كان وجوب تحاشي أي تماس مباشر أو غير مباشر مع القداسة الخطرة، وقد اخترع للحالات التي لا يمكن فيها تفادي هذا التماس طقس خاص، الغرض منه تفادي عواقبه الوخيمة.
ويأتي الخوف من قوة الملوك والكهنة والسادة من الاعتقاد أن لكل فرد مجموعة من الطاقات غير المرئية التي يتمتع بها، وهي قوى روحية تمد البشر بقدرات مختلفة، وما الملوك والكهنة والسادة إلا أشخاص عاديون شأنهم شأن غيرهم، ولكن القوى الروحية تمدهم بطاقات تزيد في قدرتها على الطاقات التي تمنح للأشخاص الآخرين، وما مظاهر التفوق والتملك والسيطرة التي يتصف بها هؤلاء إلا دليل على أن لديهم طاقات روحية لا توجد لدى غيرهم، وفي الوقت الذي يمكن أن يستخدم هؤلاء طاقاتهم لإيقاع الأذى بعامة الناس، يمكن لهم أيضاً أن يستخدموا هذه الطاقات لدفع الأذى عنهم؛ ولهذا يجب التقرب إليهم، وقبول رغباتهم، وعدم الامتناع أو الرفض لما قد يسببه ذلك من ضرر وأذى.
حرمة الأموات
تنطوي حرمة الأموات لدى معظم الأقوام البدائية على مظاهر عنف حاد، سواء من خلال العواقب التي تنجم عن الاحتكاك بالموتى أم من خلال الكيفية التي يتعامل بها أقاربه الذين تشملهم ممارسة الحداد عليه.
إن عادات التحريم التي تفرض عقب الاحتكاك بجسد الميت واحدة في كل من بولينيزيا Polynésie، وميلانيزيا Mélanésie، وشطر من إفريقيا، وأهم هذه العادات إطلاقاًً إذا ما حدث احتكاك بجسد الميت هي حظر لمس الطعام وإجبار الشخص الذي يلامسه - عن قصد أو عن خطأ- على عدم تناوله إلا بوساطة آخرين.
والرجل الذي يتلوث من جراء الاحتكاك بميت لا يستطيع أن يدخل بيتاً وأن يلمس شخصاً أو شيئاً لأنه مصدر تلوث، ولا يحل له حتى أن يلمس الطعام بيديه اللتين تغدوان غير صالحتين للاستعمال بسبب نجاستهما، فالطعام يوضع أمامه، وعليه أن يتدبر أمره بنفسه كيفما استطاع، كأن يأكل بشفتيه وأسنانه في حين يصلب يديه خلف ظهره، وقد يؤذن له في بعض الأحيان بأن يتولى إطعامه شخص آخر، ويتعين على هذا الأخير في هذه الحال أن يؤدي مهمته مع الحرص الشديد على عدم ملامسته، فإذا ما انتهت فترة العزل وصار في مقدور الرجل المدنس أن يشق طريقه من جديد إلى معشر أقرانه تتلف كل الآواني التي استخدمها في تلك الفترة، ومعها جميع الملابس التي ارتداها.
أما الأرامل لدى قبائل الشوسواب في كولومبيا البريطانية، فعليهم أن يعيشوا في عزلة في فترة الحداد ولا يجوز لهم أن يلمسوا أحداً أو شيئاً لا بأيديهم ولا برؤوسهم ولا بأجسامهم، وجميع الأدوات التي يستخدمونها لا تعود صالحة للاستعمال لدى الآخرين، ولا يقترب أي صياد من الكوخ الذي يقطنه أحد أولئك الأشخاص؛ لأن ذلك سيكون نحساً عليه، وإذا وقع عليه ظل شخص ممن هم في الحداد وقع مريضاً.
ولدى بعض القبائل في إحدى جزر الفيليبين، لا يجوز للأرملة أن تغادر كوخها على مدى الأيام السبعة أو الثمانية الأولى التي تعقب وفاة الزوج إلا ليلاً، حتى لا تصادف في طريقها أحداً، فمن يلمحها يحدق به خطر الموت المباغت؛ لذا تحذر جميع الناس باقترابها بأن تقرع مع كل خطوة من خطاها بعصا من خشب على شجرة، والأشجار التي تتلقى ضرباتها تجف وتموت.
إن واحدة من أغرب عادات حرمة الحداد لدى الشعوب البدائية، ومن أبلغها دلالة في الوقت نفسه تتمثل في حظر النطق باسم الميت، وهذه العادة واسعة الانتشار للغاية ولها روايات مختلفة، ونتائجها عظيمة الخطورة.
فعلاوة على الأستراليين والبولينيزيين الذين بقيت لديهم عادات التحريم مصانة على خير ما يمكن، تلاحظ عادات شبيهة له لدى أقوام متباعدة ومختلفة عن بعضها بعضاً، ومثال ذلك بعض القبائل المنتشرة في سيبيريا وجنوبي الهند، وطوارق الصحراء الكبرى، واليابان وإفريقيا الوسطى، والفيليبين وغيرها حيث تنتشر مجموعة من التصرفات والعادات المرتبطة بالموت، فبعد وفاة أحدهم يتخذ جميع الأشخاص الذين تشابه أسماؤهم اسم المتوفى أسماء جديدة لأنفسهم، وفي بعض الأحيان يغير جميع أقارب الميت أسماءهم، من دون أي اعتبار للتشابه، وفي أماكن أخرى يطلق الزعيم في تلك المناسبات الحزينة، على جميع أعضاء القبيلة أسماء جديدة يحتفظون بها ويعتزون، كما لو أنها أسماؤهم الأصلية.
ومن الملاحظ أن أغلب عادات التحريم المنتشرة لدى الشعوب بصورة عامة، والشعوب القديمة خاصة؛ إنما تنسجم مع العقائد والديانات السائدة فيها، فالاعتقاد بخلود الروح وعدم مغادرتها للمكان الذي عاشت فيه فترة من الزمن تطول وتقصر تبعاً لطبيعة العقائد السائدة تدفع الأشخاص إلى التفاعل مع الحدث في ظل اعتقاد بأن روح الميت مازالت موجودة في هذا المكان أو ذاك، ولا تقل درجة اليقين في ذلك عن درجتها بالنسبة إلى الأشياء المادية التي تحيط بهم، وبهذا فقوة تأثيرها في النفس البشرية لا تقل عن قوة الأشياء الملموسة.
جلال السناد
Taboo - Tabou
المحرَّم
كلمة محرم tabou بولينيزية الأصل تطلق على ما هو محظور من الأفعال والتصرفات لاعتقاد ديني، وأن مخالفته تجلب شراً، مثل المرض أو العمى أو الموت، ولا تزال شعوب كثيرة في أنحاء مختلفة من العالم تعتقد أن قتل بعض الحيوانات أو لمس بعض الأشياء تجلب بلاءً تماثل شدته شدة المخالفة، وفكرة المحرم مقرونة بفكرة التقديس، ذلك أن الذي ينتهك حرمة الشيء المقدس يعرض نفسه لغضب الآلهة.
وتمثل نظم المحرمات الدستور غير المكتوب والأقدم عهداً للبشرية، ومن المسلم به بصفة عامة أن أصلها يعود إلى زمن سابق على كل دين، وتضم المحرمات في تعييناتها مجموعة من العناصر أهمها الطابع المقدس (أو المدنس) للأشخاص والأشياء، ونوع التحريم الذي يترتب على هذا الطابع، والنتائج المقدسة (أو المدنسة) التي تنجم عن انتهاك هذا الحظر، وللتحريم أنواع هي: التحريم الطبيعي وهو من عمل قوة غامضة (سحرية) مرتبطة بشخص أو بشيء، والتحريم المنقول وهو مايصدر عن القوة نفسها، ولكنه إما أن يكون مكتسباً وإما مأخوذاً من كاهن أو زعيم.
وللتحريم أهداف متباينة في طبيعتها وخصائصها منها حماية الأشخاص ذوي المكانة الاجتماعية، أمثال الزعماء والكهنة، وحماية الأشياء ذات القيم التي يمكن أن تلحق ضرراً إذا ما تعرضت للتأثير، وحماية الضعفاء من النساء والأطفال والرجال بصفة عامة من المانا Mana (القدرة السحرية) التي يتصف بها بعض الأشخاص مثل الكهنة والزعماء، والوقاية من الأخطار الناجمة عن ملامسة الجثث وامتصاص بعض الأطعمة. إلخ، واتقاء الاضطرابات التي قد تقع في أثناء إنجاز بعض الأعمال الحياتية المهمة مثل الولادة والزواج وممارسة الوظائف الجنسية…إلخ، وحماية الكائنات البشرية من قوة الآلهة والجن أو من غضبها، وحماية الأطفال الذين سيولدون أو الرضع من مختلف الأخطار التي تتهددهم من جراء تبعيتهم الوجدانية لوالديهم في حال قيام هؤلاء الوالدين بأفعال أو تناولهم لأطعمة من شأنها أن تطبع أولادهم بطابع خاص، وحماية ملكية الشخص كأدواته وحقله…إلخ من السارقين.
كما أن للتحريم قواعد وأسساً لابد من احترامها والالتزام بها، منها ما يتصل بطرق التفاعل مع الأعداء في حالات الانتصار عليهم، ومنها ما يتصل بالزعماء، ومنها ما يتعلق بالأموات.
الموقف حيال الأعداء
يمكن توصيف العادات والتقاليد التي ينبغي ممارستها في حالات الانتصار على الأعداء بمراحل عديدة، أهمها التصالح مع العدو القتيل، والتقييدات التي تحدد مجموعة من أنماط السلوك الاجتماعي، وممارسة الأفعال التي تساعد على عملية التكفير والتطهير بعد إنجاز عملية القتل، وأخيراً ممارسة مجموعة من الشعائر الدينية ذات الصلة.
فعادات التصالح التي تراعى في جزيرة تيمور Timor مثيرة للاهتمام بدرجة كبيرة، فبعد رجوع الظافر من أرض المعركة تقدم الأضاحي لتهدئة روح المقتول الخصم، وإلا فإن مصائب شتى ستنـزل بالمنتصر نفسه، وتؤدى رقصة مصحوبة بغناء موجه نحو روحه بغية التماس غفرانه: «لا يأخذنك الغضب علينا، فلدينا الآن رأسك، ولو لم يحالفنا الحظ فأغلب الظن أن رؤوسنا هي التي ستعرض الآن في قريتك، ولقد قدمنا لك أضحية ليسكن روعك، والآن ينبغي أن ترضى روحك وتدعنا في سلام، لماذا كنت عدونا؟ أما كان خيراً لنا لو بقينا أصدقاء؟ فما كان دمك ليسفك ولا رأسك ليقطع».
وتأتي هذه العادات والأنماط السلوكية - التي تحرِّم على المنتصر أن يقدم على أفعال ليست أخلاقية بحق المهزومين - من الاعتقاد بأن الأرواح لا تموت، بل لها من القوة ما ليس للأحياء، وهي قادرة على أن تسبب الأذى والضرر للمنتصرين؛ ولهذا يجب التقرب إليهم واسترضاؤهم حتى لا تقع بهم المصائب التي لا يستطيعون التحرر منها إلا برضا الأرواح التي أزهقوها على أرض المعركة.
ولا يستطيع قائد الحملة أن يعود إلى بيته مباشرة، بل يخصص له كوخ يمضي فيه شهرين، يؤدي في أثنائهما أفعالاً غايتها تطهير ذاته، وفيهما يحرَّم عليه أن يرى زوجته، وينبغي أن يتولى شخص آخر تلقيمه الطعام في فمه.
حرمة السادة
يحكم موقفَ الأقوام البدائية من زعمائها وملوكها وكهنتها مبدآن متكاملان: وجوب التوقِّي منهم ووجوب وقايتهم، فالتوقِّي من السادة لزعمهم أن لديهم قوى سحرية غامضة وخطرة، تنتقل بالتماس، وتتسبب في موت من لا تتوفر له الحماية بشحنة متكافئة وفي هلاكه، من هنا كان وجوب تحاشي أي تماس مباشر أو غير مباشر مع القداسة الخطرة، وقد اخترع للحالات التي لا يمكن فيها تفادي هذا التماس طقس خاص، الغرض منه تفادي عواقبه الوخيمة.
ويأتي الخوف من قوة الملوك والكهنة والسادة من الاعتقاد أن لكل فرد مجموعة من الطاقات غير المرئية التي يتمتع بها، وهي قوى روحية تمد البشر بقدرات مختلفة، وما الملوك والكهنة والسادة إلا أشخاص عاديون شأنهم شأن غيرهم، ولكن القوى الروحية تمدهم بطاقات تزيد في قدرتها على الطاقات التي تمنح للأشخاص الآخرين، وما مظاهر التفوق والتملك والسيطرة التي يتصف بها هؤلاء إلا دليل على أن لديهم طاقات روحية لا توجد لدى غيرهم، وفي الوقت الذي يمكن أن يستخدم هؤلاء طاقاتهم لإيقاع الأذى بعامة الناس، يمكن لهم أيضاً أن يستخدموا هذه الطاقات لدفع الأذى عنهم؛ ولهذا يجب التقرب إليهم، وقبول رغباتهم، وعدم الامتناع أو الرفض لما قد يسببه ذلك من ضرر وأذى.
حرمة الأموات
تنطوي حرمة الأموات لدى معظم الأقوام البدائية على مظاهر عنف حاد، سواء من خلال العواقب التي تنجم عن الاحتكاك بالموتى أم من خلال الكيفية التي يتعامل بها أقاربه الذين تشملهم ممارسة الحداد عليه.
إن عادات التحريم التي تفرض عقب الاحتكاك بجسد الميت واحدة في كل من بولينيزيا Polynésie، وميلانيزيا Mélanésie، وشطر من إفريقيا، وأهم هذه العادات إطلاقاًً إذا ما حدث احتكاك بجسد الميت هي حظر لمس الطعام وإجبار الشخص الذي يلامسه - عن قصد أو عن خطأ- على عدم تناوله إلا بوساطة آخرين.
والرجل الذي يتلوث من جراء الاحتكاك بميت لا يستطيع أن يدخل بيتاً وأن يلمس شخصاً أو شيئاً لأنه مصدر تلوث، ولا يحل له حتى أن يلمس الطعام بيديه اللتين تغدوان غير صالحتين للاستعمال بسبب نجاستهما، فالطعام يوضع أمامه، وعليه أن يتدبر أمره بنفسه كيفما استطاع، كأن يأكل بشفتيه وأسنانه في حين يصلب يديه خلف ظهره، وقد يؤذن له في بعض الأحيان بأن يتولى إطعامه شخص آخر، ويتعين على هذا الأخير في هذه الحال أن يؤدي مهمته مع الحرص الشديد على عدم ملامسته، فإذا ما انتهت فترة العزل وصار في مقدور الرجل المدنس أن يشق طريقه من جديد إلى معشر أقرانه تتلف كل الآواني التي استخدمها في تلك الفترة، ومعها جميع الملابس التي ارتداها.
أما الأرامل لدى قبائل الشوسواب في كولومبيا البريطانية، فعليهم أن يعيشوا في عزلة في فترة الحداد ولا يجوز لهم أن يلمسوا أحداً أو شيئاً لا بأيديهم ولا برؤوسهم ولا بأجسامهم، وجميع الأدوات التي يستخدمونها لا تعود صالحة للاستعمال لدى الآخرين، ولا يقترب أي صياد من الكوخ الذي يقطنه أحد أولئك الأشخاص؛ لأن ذلك سيكون نحساً عليه، وإذا وقع عليه ظل شخص ممن هم في الحداد وقع مريضاً.
ولدى بعض القبائل في إحدى جزر الفيليبين، لا يجوز للأرملة أن تغادر كوخها على مدى الأيام السبعة أو الثمانية الأولى التي تعقب وفاة الزوج إلا ليلاً، حتى لا تصادف في طريقها أحداً، فمن يلمحها يحدق به خطر الموت المباغت؛ لذا تحذر جميع الناس باقترابها بأن تقرع مع كل خطوة من خطاها بعصا من خشب على شجرة، والأشجار التي تتلقى ضرباتها تجف وتموت.
إن واحدة من أغرب عادات حرمة الحداد لدى الشعوب البدائية، ومن أبلغها دلالة في الوقت نفسه تتمثل في حظر النطق باسم الميت، وهذه العادة واسعة الانتشار للغاية ولها روايات مختلفة، ونتائجها عظيمة الخطورة.
فعلاوة على الأستراليين والبولينيزيين الذين بقيت لديهم عادات التحريم مصانة على خير ما يمكن، تلاحظ عادات شبيهة له لدى أقوام متباعدة ومختلفة عن بعضها بعضاً، ومثال ذلك بعض القبائل المنتشرة في سيبيريا وجنوبي الهند، وطوارق الصحراء الكبرى، واليابان وإفريقيا الوسطى، والفيليبين وغيرها حيث تنتشر مجموعة من التصرفات والعادات المرتبطة بالموت، فبعد وفاة أحدهم يتخذ جميع الأشخاص الذين تشابه أسماؤهم اسم المتوفى أسماء جديدة لأنفسهم، وفي بعض الأحيان يغير جميع أقارب الميت أسماءهم، من دون أي اعتبار للتشابه، وفي أماكن أخرى يطلق الزعيم في تلك المناسبات الحزينة، على جميع أعضاء القبيلة أسماء جديدة يحتفظون بها ويعتزون، كما لو أنها أسماؤهم الأصلية.
ومن الملاحظ أن أغلب عادات التحريم المنتشرة لدى الشعوب بصورة عامة، والشعوب القديمة خاصة؛ إنما تنسجم مع العقائد والديانات السائدة فيها، فالاعتقاد بخلود الروح وعدم مغادرتها للمكان الذي عاشت فيه فترة من الزمن تطول وتقصر تبعاً لطبيعة العقائد السائدة تدفع الأشخاص إلى التفاعل مع الحدث في ظل اعتقاد بأن روح الميت مازالت موجودة في هذا المكان أو ذاك، ولا تقل درجة اليقين في ذلك عن درجتها بالنسبة إلى الأشياء المادية التي تحيط بهم، وبهذا فقوة تأثيرها في النفس البشرية لا تقل عن قوة الأشياء الملموسة.
جلال السناد