التشكيلي الأردني إبراهيم الخطيب: المنظر الطبيعي والمكان بين الواقع والإيجاز
بواسطة أسامة فتحى
بقلم:غـازي انـعـيـم
يعد الفنان التشكيلي (إبراهيم الخطيب) واحد من الفنانين الذين اتجهوا إلى إنتاج نصوص تشكيلية مستقاة من الطبيعة والمكان وكان له تجربة ثرية في تصوير المناظر الطبيعية وكذلك تصويره لمدينة عمان المشبعة بعبق التاريخ الأردني.
وهو أيضــًا واحد من الفنانين المجتهدين الذين يشاركون بإبداعاتهم على المستوى المحلي والخارجي وهذه المشاركة جاءت بعد أن بحث الفنان كثيرًا عن ذاته التي وجدها على سطح اللوحة لتخلق عالمه الخاص الذي يعبر عن رؤية فنية جديرة بالتأمل والاحترام.. ففي كل تجربة أو بحث من أبحاثه يحاول (الخطيب) تقديم تكنيك جديد ورؤية جديدة للطبيعة والمدينة.
ـ فمن هو فناننا؟
ولد (إبراهيم الخطيب) في مدينة إربد عام 1978 م، حيث الهدوء والسهول واتساع الأفق، والطبيعة الخلابة والفضاءات المفتوحة.. وتلك المدينة التي ولد فيها، ما زالت تحتفظ بأجواء الخصوصية من مباني وأزقة وشوارع… وهو ما جعل تلك الأجواء حاضرة في مخيلة فناننا منذ الطفولة، وكأنه كان يراها بعين الدهشة لأول مرة.
عرف (إبراهيم) موهبة الرسم منذ طفولته، حيث كان يرسم على جدران بيتهم بمواد كانت في متناول اليد مثل: ” الفحم، والطباشير وأغصان الأشجار… “. وفي المراحل الدراسية الأولى كان يرسم لوحات مدرسية كثيرة تمثل البيئة الأردنية وبعض جوانب المجتمع الشعبي الممزوجة بحسه وخياله وغير ذلك من الموضوعات المحلية التي لفتت الانتباه بسرعة، نتيجة امتلاكه لذاكرة بصرية ثاقبة.
استطاع (الخطيب) بفضل تشجيع المدرسين في المدرسة أن يواصل هوايته، وتنمية مواهبه.. والفوز بجائزة القصة المرسومة على مستوى المملكة.. هذا الفوز الذي حققه وهو في الصف الخامس، شجعه بأن يزيد من نشاطه ومشاركاته في المعارض والمسابقات المحلية التي تنظمها وزارة التربية.
كما شكلت الجائزة بالنسبة له نقطة تحول في حياته، وحافز دفعه للاهتمام أكثر بهذه الهواية لذلك تابع (إبراهيم الخطيب) نشاطه الفني في المرحلة الإعدادية، وأبدى تفوقــًا ملحوظــًا على زملائه في رسم الوسائل التعليمية والخرائط.. مما جعله يحظى باهتمام خاص من قبل المدرسين وبشكل خاص مدرس التربية الفنية، الذي كان يصغي إلى أسئلته المبكرة حول الفن وتقنياته ومذاهبه من ناحية ومن حيث متابعته وتشجيعه من ناحية أخرى.
وفي هذه المرحلة تطورت مهاراته بشكل لافت، وبدأ بإنتاج اللوحات، وعلى الرغم من صغر سنه في تلك المرحلة، إلا أنه رسم على طول جدار غرفته من الداخل لوحة تمثل منظرًا طبيعيــًا، ركز فيه على الظلال وتوزيع الألوان، وقد اظهر (الخطيب) من خلال هذه اللوحة قدرته وإحساسه بالأشياء التي يتناولها.. وما زالت اللوحة موجودة حتى الآن رغم طلاء الجدار عدة مرات.
وجد (إبراهيم) في هذه المرحلة الرعاية والتشجيع من قبل شقيقه الأكبر (محمد) الذي أتاح لموهبته أن تمضي محلقة في سماء الفن.
في المرحلة الثانوية تمكنت منه الهواية ولم يستطع الإقلاع عنها، وتوافرت له ظروف خاصة هيأت له بأن يرسم مجموعة كبيرة من الأعمال التي توزعت مضامينها بين المشاهد، والمناظر الطبيعية من أشجار وجبال… ولا يفوت (إبراهيم الخطيب) من تذكر أستاذ الرسم (بسام) الذي استطاع أن ينقل مشاعره لتلاميذه ويعلمهم المنظور الهندسي واللوني.. ويثقل مواهبهم بالقدر الذي يتيح لهم استكمال الطريق.
بعد الانتهاء من الثانوية عام 1996م، يختار (إبراهيم الخطيب) الفن لمواصلة دراسته، ويلتحق بكلية الفنون الجميلة في جامعة اليرموك، وفيها بدأت آفاقه تتوسع في هذا التخصص الذي أحبه، وأتاح له فضاء الجامعة أن يتعرف على المواد والأدوات عن قرب وإلى كافة التيارات الفنية، وأن يتابع المعارض الفنية.
أثناء الدراسة الجامعية بدأ (الخطيب) يهتم بأسلوب الفنان الأمريكي (جاكسون بولوك) ( 1912 ـ 1956 ) وهو من أصل ايرلندي، ويعتبر أول من حرر الفن الأمريكي من الهيمنة الأوروبية. وهذا الفنان لا يلتزم بالفرشاة والحامل وباليتة الألوان، بل أدوات غريبة كالسكاكين والعصي ومعاجين وألوان مختلفة غير معتادة في عالم الرسم والتلوين.. تسفر عن خليط من اللعب والصدفة.في السنة الأخيرة من عام 2000 قدم ( الخطيب) مشروع تخرجه، وكان بتأثير تجريدية ” بولوك “. والمشروع كان يتكون من ( 7 ) لوحات مزدوجة، أي ( 14 ) لوحة، وهو عبارة عن مقارنات ما بين الخير والشر، الايجابية والسلبية، الحي والميت، الألوان الباردة والحارة… وقد كانت كل لوحة تمثل الشيء ونقيضه.
ونلاحظ هنا أن ( الخطيب) لا يلتقي مع صديقه (بولوك) في المشاعر والانفعالات، والتعبير الحركي، والأدوات والخامات المستغربة.
وهنا لا ينسى (الخطيب) تشجيع والدته الحنونة، صاحبة الشخصية القوية، والعقل الذكي وهي تضرع لله تعالى وتدعو بأن يصبح ابنها فنانــًا مهمــًا ومعروفــًا..
بعد تخرجه في كلية الفنون عمل (الخطيب) مدرسًا لمادة التربية الفنية في مدرسة خاصة بمدينة المفرق من 2002 ـ 2003م، وهذا جعله قريب ” من كافة مراحل وأدوات العملية الفنية من تراكيب وألوان وغير ذلك بما يتوافق مع مستوى إعداد التلاميذ “.
ولأجل اكتساب المزيد من الخبرة، ترك التدريس والتحق في عام 2003 للعمل في كلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية، حيث عمل مساعداً للفنان (عزيز عمورة)، و(مهنا الدرة) و(نصر عبد العزيز)، مما زاد من خبرته النظرية والعملية في هذا المجال، وكانت المفاجأة الكبيرة بالنسبة له فوزه بجائزة تصميم شعار كلية الفنون والتصميم.
في هذه المرحلة تعرف الفنان (إبراهيم الخطيب) إلى الشاعر والناقد والفنان (محمد العامري) في مرسم شقيقه الفنان (جهاد )، ومن ذلك المرسم بدأت الخطوات الأولى للفنان (الخطيب) الذي وجد التشجيع والتوجيه من قبل الفنان (محمد العامري).
وبها الصدد يقول الفنان الخطيب: ” أول لوحة أنجزتها بشكل فعلي كانت في مرسم (العامري)، حيث كنت أمارس الرسم معه بشكل يومي، ولا أستطيع إنكار مدى الفائدة التي اكتسبتها بحكم احتكاكي بالأخوين (العامري)، حتى اللحظة “.
في هذه المرحلة لم ينسى أيام الطفولة.. لذلك بقيت أجواء اربد في ذاكرته، واتخذ من تلك الأجواء التي تتمتع بجمال رومانسي هادئ منهجا للتعبير عن ذاته، فرسم بتقنية الألوان المائية مجموعة من اللوحات.. كان الفضاء العام المسيطر على أجوائها هي ” المناظر الطبيعة “.
تلك المجموعة تنطوي على تكوين وحس لوني واحد، وربما أراد الفنان من وراء ذلك أن يعرض نموذجــًا موحدًا لما يستهدفه، ونعني بذلك العلاقة التجريدية بين أشكاله وفراغاته، التي يعيد بناءها وفق منطق تحطيم النسب الطبيعية، وبين الألوان المتآلفة كدرجة وكإيحاء فيزيائي وميتافيزيقي، هذا المسعى الجمالي الذي يبعث قدرًا من الأناقة والجمال، يعكس حالة وجدانية داخلية صادقة.
واعتمد (الخطيب) في لوحات هذه المرحلة على تدريجات الألوان وتناغمها من جانب، وعلى تحويرات لها طبيعة ديناميكبة، أو عضوية لها جانبها المرتبط بالطبيعة من جانب آخر، وذلك من أجل التوصل إلى إعادة مقنعة لمكونات الطبيعة: الحقول، الجبال، السهول، السماء، الامتداد الفسيح للأرض.. الخ، لذلك لجأ إلى التأليف والتركيب، ومزج الواقع مع التجريد، دون أن يطمس معالم الأشياء وخصائصها الظاهرة.
وتميزت أعمال هذه المرحلة باعتماد (الخطيب) على معادل فني جديد يعتمد على الرؤية التحليلية والإيقاع الخطي والاقتصاد اللوني والمزج بين التكوين البنائي والإيجاز الشكلي.. كما ساهمت التقاطعات اللونية والخطية المتعددة الزوايا والمتواليات الإيقاعية المتنوعة بين الألوان إلى إحالة الشكل إلى جماليات هندسية قائمة على التوافق بين مستوى سطح الأرض والفضاء.
في هذا السياق نستطيع أن نقول بأن (الخطيب) الذي أضاء لوحاته على هواه، قدّم في كل عمل من أعماله المدروسة والمفعمة بالحيوية والجاذبية من كل جوانبها الشكلية واللونية، لغة جديدة مبتكرة..وكان أسلوبه الذي يرتكز على تحوير مشاهد الطبيعة بنائيــًا، بمعنى أنه يضع اللون بعد اللون بلمسات عريضة، تلك الألوان تتسم بالدفء والشاعرية وتقيم توازنــًا بين الألوان الباردة والحارة في اللوحة، بحيث يتطابق اللون حسب مقتضى الموضوع المرسوم والذي لا حدود له؛ وكما يذكر (جورج سانتيانا ) في كتابه (الإحساس بالجمال): فـ ( المنظر الطبيعي غير محدود، فيه تقريبــًا ما يكفي من التنوع لإعطاء العين حرية كبرى في انتقاء عناصره وتأكيدها وتنسيقها في مجموعات معينة ).
والمتأمل لتجربة (الخطيب) يستطيع أن يلمح ذلك التطور في أعماله بعد أن اتجه في بحثه من الطبيعة إلى الأجواء التي تعتمد البناء والتركيب المعماري، أي عمارة مدينة عمان وكذلك مدينة القدس، وأماكنهما التي تشكل عوالمهما من: بيوت وأدراج ومساجد ومآذن وكنائس ونوافذ وأبواب…وهنا يستنطق الفنان عبر استعمال الخط والتنغيم في المساحات والملامس عوالم الذاكرة الجمعية للمدينتين ككيان يعيش وينمو وتتبدل سمته عبر توالي الأيام.
والخطيب عبر هذا البحث يحاول أن يعطي مضمونــًا تشكيليــًا فيه من الماضي وجهــًا، ومن الحاضر حوارًا لا ينقطع من ناحية، ويحاول إيجاد ( وحدة عضوية ) بين التكوين واللوحة من ناحية أخرى، إلى جانب ذلك يقوم بدمج الشكل بالأرضية والخلفية؛ والمدقق في لوحاته ( العمّانية والمقدسية )، يلاحظ أن بيوته تحولت إلى منظومات هندسية مركبة بعفوية فوق بعضها. وتلك المنظومات فسحت المجال أمام شتى احتمالات التناظر ما بين العناصر.. وذلك بحثـًا عن الاتزان والانسجام.
وما يميز لوحته الأخيرة إيقاعاتها الخطية الانسيابية والمائلة والهلالية الحية.. أما اللون فهو متقشف في استعماله إلى حد كبير، فمثلاً كثيرًا ما يستخدم لونين أو ثلاثة وبصورة تكاملية ( الأزرق، الأصفر والبني )، أو ( البرتقالي والأزرق ) ودرجاتهما، أو ( الأزرق والأحمر والأوكر )، أو ( الأحمر والأخضر والأزرق )، على سبيل المثال، وهنا استفاد الفنان من ألوان الأكريليك في تنمية العمل الفني، وهذه الخامة فرضت عليه طريقة عمل معينة.. استخدمها (الخطيب) بكثافة وشفافية حسب المعنى المراد التعبير عنه. والملفت للنظر في هذه التجربة وما سبقها خلو لوحاته من ( البشر والشجر.. ).
لقد منحت كل من مدينة عمان والقدس للفنان (إبراهيم) في تلك التجربة سعادة المبدع الذي أوجد لنفسه أسلوبًا خاصــًا مكنه من تحويل المعمار الجامد إلى حركية عبر الظل والضوء واللون.
لقد أصبحت اللوحة عند فناننا لها شخصية متفردة، وهذا جعله ينفرد بلمسة خاصة به، يعرفها المرء على الفور، ولوحته في نهاية الأمر تفصح عن رؤيتها للمكان، لا لكونه يمثل المدينة أو بعض الأماكن في الطبيعة فحسب، بل إشارة دائمة لحياة ديناميكية تتجدد عبر الفن.
كما أن أعماله يمكن أن تعطي المشاهد انطباعــًا معينــًا عن شخصيته، خصوصــًا أنها صادقة، متفائلة، محبة للحياة ومتصالحة مع ذاتها.
وفي عام 2016 وبمناسبة الثورة العربية الكبرى أنجز الفنان (الخطيب) جدارية بلغت أبعادها 20 مترًا طولاً × 2.5 ونصف المتر عرضــًا، والجدارية التي علقت مقابل مبنى مجلس الوزراء نفّذت بفسيفساء الزجاج الملون وتتضمن الجدارية ما جرى خلال 100 عام إلى اليوم حيث جيش الثورة العربية الكبرى بسلاحه وعلمه، وقصر الملك المؤسس في معان وسكة الحديد، قصر رغدان، البرلمان، ميزان القانون، العدل والدستور، مطار الملكة علياء، الجامعة الأردنية.. الجندي المجهول، مسجد الملك عبد الله الأول، علم المملكة الأردنية الهاشمية، هذه العناصر تمثل مسيرة الدولة وتطورها وتطلعها نحو المستقبل.
أخيرًا، (إبراهيم الخطيب) الذي يعمل محاضرًا متفرغــًا في كلية الفنون والتصميم بالجامعة الأردنية؛ عشق الإبداع وقدم سلسلة من اللوحات المقنعة في سياق رؤية تعبيرية تجريدية وذات جمال أخاذ، يملك من الطموح الشيء الكثير.. وهو فنان مخلص ومبدع، وصاحب رؤية ومنهج جمالي على صعيد الحياة التي توّجها في عام 2020 بشهادة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة الأردنية.