روبنز (بيير بول)
(Peter Paul-) - Rubens (Peter Paul-)
روبنز (بيير بول ـ)
(1577 ـ 1640)
بيير بول روبنز Pierre Paul Rubens من أعظم الفنانين الفلمنكيين في القرن السابع عشر، تجلى في أسلوبه طراز باروك[ر] الشمال في أبرز خصائصه، فجمع في بوتقة واحدة حرية الحركة في أعلى درجاتها، وألوان مدرسة البندقية بإشراقها وثراء ألوانها، والأشكال النصبية Monumentales الضخمة المستوحاة من ميكلانجلو، فجاء فنه تمجيداً للإنسانية وللحياة وللحركة، وترك آثاره البعيدة والبليغة، وعلى امتداد قرنين من الزمان، في كل من أنطوان واتو[ر] في مطلع القرن الثامن عشر، ودولاكروا[ر] ورينوار[ر] في القرن التاسع عشر.
ولد روبنز في بلدة سيغن Seigen في وستفالية Westphalia، لأب واسع النفوذ، حاصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة روما، وأم تزاول صناعة السجاد والتطريز بمهارة. ونشأ في جو مشحون بالتوتر صاحب بعث الكاثوليكية من جديد في أعقاب حركة الإصلاح الديني، مما دفع الأسرة للجوء إلى ألمانيا هرباً من الاضطرابات الدينية في الأراضي الواطئة (هولندا)، فعاش روبنز سنوات طوال في كولونيا Cologne. وعلى أثر وفاة رب الأسرة سنة 1587، عادت الأم بصحبة أبنائها إلى أنفرس (أنتورب) لتستقر بها بصورة نهائية.
ألحقته أمه في الخامسة عشرة من عمره بإحدى المدارس ليتعلم اللغة اللاتينية والآداب الكلاسيكية (الاتباعية) إلى جانب الألمانية والفرنسية والإيطالية والفلمنكية، حتى بلغ عدد اللغات التي يتحدث بها بطلاقة سبع لغات، ثم التحق بوظيفة وصيف شرف في بلاط إحدى الأميرات، ولكنه ما لبث أن غادر القصر بعد عام ليبدأ تعلم الرسم على يد رسام طبيعة مغمور، ثم على يد آدم فان نورت، وهو رسام ممتاز، لكنه كان متقلب الأطوار قاسياً على تلاميذه، فانصرف عنه بعد أربع سنوات ملتمساً العون في أوتو فينيوس Otto Voenius الذي كان دمث المعشر وسهل العيش. أحب الأستاذ تلميذه الموهوب فأشركه معه في تصوير لوحة زفاف إيزابيلا كلارا أوجيني، ابنة فيليب الثاني ملك إسبانيا. وهكذا سار الأستاذ بتلميذه حتى ملك الصنعة، ولم يغادر روبنز مرسم أستاذه إلا بعد أن أشعل الأستاذ في نفسه الرغبة في زيارة إيطاليا التي كانت قبلة الطامحين إلى المجد.
في عام 1598 قبل عضواً معلماً في رابطة الفنانين في سان ـ لوك، وفي عام 1600، سافر روبنز إلى إيطاليا لإتمام دراسته، وبعد أن طاف البلاد بطولها وعرضها، وزار مدناً كثيرة من بينها فلورنسة التي شهد فيها زواج ماريا ميديتشي من هنري الرابع، عرض أعماله الخاصة على دوق مانتوا، فألحقه الدوق بخدمته وأسكنه في قصره وعينه رساماً لبلاطه. كانت مدينة مانتوا في مستهل القرن السابع عشر كنزاً فنياً حفلت بأعمال كبار الفنانين، راح روبنز يتأملها ويدرسها وينسخها، وبعد أشهر قليلة نجح في أن يحمل الدوق على إرساله إلى روما لإتمام دراسته، فبدأ رحلته بتصوير ثلاث لوحات لمذبح كنيسة سانتا كروتشه: «القديسة هيلانة» و«التتويج بالشوك» و«رفع الصليب» وفي عام 1603 عهد إليه الدوق بمهمة دبلوماسية إلى إسبانيا وزوده ببدائع اللوحات لأساتذة الفن الإيطاليين والكثير من الهدايا إلى «فيليب الثالث» وإلى وزيره الأول «دوق ليرما». وفي المدة التي قضاها في إسبانيا استطاع أن يهدي الدوق صوراً عدة من صنعه، من بينها صورة تمثل الدوق على صهوة جواده، كما صور الكثير من الأمراء والنبلاء الإسبان، وعاد إلى مانتوا دبلوماسياً ناجحاً، ثم زار روما سنة 1606 للمرة الثانية وأتم صورة للعذراء، وبعد عام زار ميلانو حيث نسخ لوحة «العشاء الأخير» للفنان العالم ليوناردو دافنشي، ثم انتقل إلى مدينة جنوة حيث تعرف إلى الكثير من أثريائها.
في عام 1608 سمع بمرض أمه، فاستحث السير شمالاً إلى أنتورب، وتأثر أشد التأثر حين وجد أنها قد فارقت الحياة. ومهما يكن من أمر العودة إلى موطنه، فإن روبنز لم يغادر إيطاليا إلا بعد أن أخذ الشيء الكثير عن كبار فنانيها، فامتزج في دمه الفن الفلمنكي والفن الإيطالي معاً.
في تلك الأثناء أحب روبنز إيزابيلا براندت ابنة أحد المحامين، فتزوجها وأعد لها قصراً كبيراً بني على طراز عصر النهضة الإيطالي، وما يزال القصر قائماً إلى اليوم بالقرب من كاتدرائية المدينة، وفي ميدانها تمثال له من البرونز تمجيداً لأعظم فنان أنجبته بلجيكا. وفي واحدة من أجمل أعماله نرى روبنز وإيزابيلا تغمرهما سعادة الأيام الأولى من الزواج.
أمضى روبنز ثلاث سنوات للتخلص من تأثير الإيطاليين والكشف عن قدراته الإبداعية الذاتية، وعندما تجمعت لديه المعرفة الكاملة لأسرار الفن أنشأ مدرسة لفن التصوير. ولقد أحصى مؤرخ سيرته 1204 من اللوحات الزيتية و380 من الرسوم له، ولا يُستبعد أن كثيراً غير هذه وتلك لم يسجله التاريخ، فليس لهذا الخصب مثيل في تاريخ الفن، ويكاد يكون الأمر كذلك بالنسبة لتنوع الموضوعات وسرعة التنفيذ، والكثرة الكثيرة من العقود والطلبات، مما اضطره إلى ابتكار طريقة في الإنتاج تمثلت في إشراكه كوكبة من الفنانين الكبار للعمل في مرسمه، كلٌ بحسب ما مهر فيه وبرع: جان بروغل لتصوير الأزهار والثمار، وفرانس سنيدر وبول دي فوس لتصوير الحيوانات، وجان فيلدنز ولوكاس فان أودن لتصوير المناظر الطبيعية، وفان دايك لتصوير الوجوه.
ما انفكت مدينة أنفرس تغدق عليه العطايا، فأعفته من دفع الضرائب، ومن تسجيل تلاميذه الإلزامي في نقابة سانت لوك، وقد ساعده هذا وغيره على تطوير أسلوبه الاستثنائي والمميز لينسجم مع المفاهيم المناهضة للإصلاح الديني، التي كان ينادي بها مجمع ترانت الكنسي رداً على التزمت «الكالڤيني»، ورغبة في النهوض بالكاثوليكية وإظهارها بمظهر جذاب تغزو أفئدة المؤمنين وتعمر قلوبهم. استجاب روبنز لتلك الدعوة وطلع على الجمهور بطرازه الباروكي في حلة جديدة، فصيحة وبليغة، وقد تجلى هذا التحول عام 1610 في لوحتي: «رفع الصليب» و«إنزال الصليب» اللتين وطدتا شهرته بصورة نهائية وقاطعة، وأبرزتا أسلوبه الشخصي من جموح خطوطه وعنفوانها، وعضلات شخوصه المفتولة، وتعبيره عن نوازعه الذاتية.
كان روبنز، مع غزارة إنتاجه للوحات الدينية، ميالاً إلى المذهب الإنساني، باستعاراته الوثنية وآلهته المتعددة التي اتخذها ذريعة لتصوير موضوعه الأثير «المرأة» مثل: «فينوس وأدونيس» و«تبرج فينوس» و«وفينوس وأمور وباخوس ومارس» و«ديانا عائدة من الصيد» و«محاكمة باريس» و«أربعة أركان الدنيا» وكان في كل مرة يحن فيها إلى موضوعه الأثير، بعد أن يكون قد صرف وقتاً ليس بالقصير في تصوير الموضوعات الدينية، وكان يتحلى بسلوك قويم إلى حد غير قياسي، بالنسبة لفنان شديد التأثر والحساسية باللون والشكل، وقد عرف عنه أنه زوج فاضل ورب أسرة موثوق، لم تمسسه شائبة من التودد للنساء أو المخادعة. كان روبنز كاثوليكياً على النحو الذي كانت تعنيه الكثلكة في عصر النهضة، ومسيحياً بحكم الموطن. وعاشت وثنيته في ظل تقواه، ولم تكن مريماته سوى ربات بيوت فلمنكيات، يرتدين قبعات جديدة في نزهة يوم الأحد.
احتلت الصور الشخصية، إلى جانب الموضوعين الرئيسيين، الديني والأسطوري، مكاناً مرموقاً بين أعماله الفنية، ولكنها لم تحتل موطن التفوق والامتياز في فنه، ومثال ذلك الصور الشخصية لامرأتيه ولنفسه ولأبنائه ولأصدقائه ولكبار القوم مثل: فيليب الرابع وزوجه، وإليزابيت بوربون وسيغموند الثالث، والأرشيدوق ألبرت وإيزابيل، وآنا النمسا، والكاردينال فرديناند، ودوق بوكنغهام، والمركيز سبينولا، وشارل الجسور، والإمبراطور مكسيميليان، وفيليب الثاني وكثيرين غيرهم. أما لوحات الصيد فقد كانت أقرب إلى طبع الفنان وألوانه الحسية وخياله الجامح الخصيب، وزخرفته المنمقة المترفة، ففيها تسيطر الغرائز ويحتدم الصراع حيث الرجال والخيول في عراك مع الأسود والفهود والخنازير البرية.
رحل روبنز إلى باريس في عام 1622 ملبياً دعوة الملكة ماري دي ميديتشي أرملة هنري الرابع ملك فرنسا للقيام بزخارف قصر لوكسمبورغ، وعهد إليه الملك لويس الثالث عشر بإعداد مجموعة من الرسوم تمثل حياة الامبراطور قسطنطين الأكبر لغرض تنفيذها من نسيج السجاد الحائطي. ومكث روبنز شهرين في باريس ليعد الرسوم التحضيرية بالحجم الطبيعي، ونالت جميعها استحسان الخبراء.
سعى روبنز، بدافع حبه للشهرة والمجد، إلى نيل لقب نبيل، وتحققت أمنيته عام 1624. وفي عام 1621، بعيد وفاة الأرشيدوق، عين مستشاراً للأرشيدوقة إيزابيل التي عهدت إليه بكثير من المهام السرية، وفي عام 1628 شارك في مباحثات السلام بين إنكلترا وإسبانيا، كما عينه فيليب الرابع أميناً للسر في المجلس الخاص بالأراضي الواطئة. ولم يستقر به المقام في أنفرس عام 1930 إلا بعد أن أنعم عليه ملك بريطانيا بلقب فارس، وفي طريق العودة عرج على إسبانيا ليبلّغ فيليب الرابع قرار عدم الاعتداء الذي استطاع أن يغنمه بصورتين أهداهما إلى ملك بريطانيا، الأولى تمثل «بركات السلم» والثانية تمثل «ويلات الحرب» إلى جانب الكثير من الصور لأفراد العائلة المالكة.
عندما عاد روبنز من باريس إلى أنفرس شعر بوحدة قاسية وكان يبلغ من العمر الثالثة والخمسين، ولم يجد بداً من الزواج مرة أخرى ووقع اختياره على هيلين فورمت وكانت أجمل سبع شقيقات اشتهرن بروعة جمالهن، ولم تك قد جاوزت السادسة عشرة من عمرها.
شهد العقد الأخير من سني حياته نصراً مبيناً عكره انحطاط قواه الجسمية ومرض النقرس. لم يحلم أحد بأن ينازعه تفوقه في الرسم، وهرع إليه التلاميذ من كل الأنحاء، ووفدت عليه بعثات البلاط من ست ممالك. وفي صورته الشخصية في سن الستين، نرى رجلاً ما يزال مزهواً، يقبض بيده على سيف النبالة، ولكن التحول يعلو وجهه النحيل، ويتدلى جلده، وتحيط التجاعيد بعينيه، وهو رسم أنيق أمين، وفي عام 1635 ألزمه داء النقرس الفراش شهراً. وفي 1637 شلت يده فترة من الزمن، وفي 1639 عاقه هذا الداء عن التوقيع باسمه، وقضى نحبه متأثراً بالتهاب المفاصل وتصلب الشرايين.
فائق دحدوح
(Peter Paul-) - Rubens (Peter Paul-)
روبنز (بيير بول ـ)
(1577 ـ 1640)
بيير بول روبنز Pierre Paul Rubens من أعظم الفنانين الفلمنكيين في القرن السابع عشر، تجلى في أسلوبه طراز باروك[ر] الشمال في أبرز خصائصه، فجمع في بوتقة واحدة حرية الحركة في أعلى درجاتها، وألوان مدرسة البندقية بإشراقها وثراء ألوانها، والأشكال النصبية Monumentales الضخمة المستوحاة من ميكلانجلو، فجاء فنه تمجيداً للإنسانية وللحياة وللحركة، وترك آثاره البعيدة والبليغة، وعلى امتداد قرنين من الزمان، في كل من أنطوان واتو[ر] في مطلع القرن الثامن عشر، ودولاكروا[ر] ورينوار[ر] في القرن التاسع عشر.
ولد روبنز في بلدة سيغن Seigen في وستفالية Westphalia، لأب واسع النفوذ، حاصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة روما، وأم تزاول صناعة السجاد والتطريز بمهارة. ونشأ في جو مشحون بالتوتر صاحب بعث الكاثوليكية من جديد في أعقاب حركة الإصلاح الديني، مما دفع الأسرة للجوء إلى ألمانيا هرباً من الاضطرابات الدينية في الأراضي الواطئة (هولندا)، فعاش روبنز سنوات طوال في كولونيا Cologne. وعلى أثر وفاة رب الأسرة سنة 1587، عادت الأم بصحبة أبنائها إلى أنفرس (أنتورب) لتستقر بها بصورة نهائية.
ألحقته أمه في الخامسة عشرة من عمره بإحدى المدارس ليتعلم اللغة اللاتينية والآداب الكلاسيكية (الاتباعية) إلى جانب الألمانية والفرنسية والإيطالية والفلمنكية، حتى بلغ عدد اللغات التي يتحدث بها بطلاقة سبع لغات، ثم التحق بوظيفة وصيف شرف في بلاط إحدى الأميرات، ولكنه ما لبث أن غادر القصر بعد عام ليبدأ تعلم الرسم على يد رسام طبيعة مغمور، ثم على يد آدم فان نورت، وهو رسام ممتاز، لكنه كان متقلب الأطوار قاسياً على تلاميذه، فانصرف عنه بعد أربع سنوات ملتمساً العون في أوتو فينيوس Otto Voenius الذي كان دمث المعشر وسهل العيش. أحب الأستاذ تلميذه الموهوب فأشركه معه في تصوير لوحة زفاف إيزابيلا كلارا أوجيني، ابنة فيليب الثاني ملك إسبانيا. وهكذا سار الأستاذ بتلميذه حتى ملك الصنعة، ولم يغادر روبنز مرسم أستاذه إلا بعد أن أشعل الأستاذ في نفسه الرغبة في زيارة إيطاليا التي كانت قبلة الطامحين إلى المجد.
في عام 1598 قبل عضواً معلماً في رابطة الفنانين في سان ـ لوك، وفي عام 1600، سافر روبنز إلى إيطاليا لإتمام دراسته، وبعد أن طاف البلاد بطولها وعرضها، وزار مدناً كثيرة من بينها فلورنسة التي شهد فيها زواج ماريا ميديتشي من هنري الرابع، عرض أعماله الخاصة على دوق مانتوا، فألحقه الدوق بخدمته وأسكنه في قصره وعينه رساماً لبلاطه. كانت مدينة مانتوا في مستهل القرن السابع عشر كنزاً فنياً حفلت بأعمال كبار الفنانين، راح روبنز يتأملها ويدرسها وينسخها، وبعد أشهر قليلة نجح في أن يحمل الدوق على إرساله إلى روما لإتمام دراسته، فبدأ رحلته بتصوير ثلاث لوحات لمذبح كنيسة سانتا كروتشه: «القديسة هيلانة» و«التتويج بالشوك» و«رفع الصليب» وفي عام 1603 عهد إليه الدوق بمهمة دبلوماسية إلى إسبانيا وزوده ببدائع اللوحات لأساتذة الفن الإيطاليين والكثير من الهدايا إلى «فيليب الثالث» وإلى وزيره الأول «دوق ليرما». وفي المدة التي قضاها في إسبانيا استطاع أن يهدي الدوق صوراً عدة من صنعه، من بينها صورة تمثل الدوق على صهوة جواده، كما صور الكثير من الأمراء والنبلاء الإسبان، وعاد إلى مانتوا دبلوماسياً ناجحاً، ثم زار روما سنة 1606 للمرة الثانية وأتم صورة للعذراء، وبعد عام زار ميلانو حيث نسخ لوحة «العشاء الأخير» للفنان العالم ليوناردو دافنشي، ثم انتقل إلى مدينة جنوة حيث تعرف إلى الكثير من أثريائها.
بيير بول روبنز:«القديسة هيلانة وطفلاها» |
في تلك الأثناء أحب روبنز إيزابيلا براندت ابنة أحد المحامين، فتزوجها وأعد لها قصراً كبيراً بني على طراز عصر النهضة الإيطالي، وما يزال القصر قائماً إلى اليوم بالقرب من كاتدرائية المدينة، وفي ميدانها تمثال له من البرونز تمجيداً لأعظم فنان أنجبته بلجيكا. وفي واحدة من أجمل أعماله نرى روبنز وإيزابيلا تغمرهما سعادة الأيام الأولى من الزواج.
أمضى روبنز ثلاث سنوات للتخلص من تأثير الإيطاليين والكشف عن قدراته الإبداعية الذاتية، وعندما تجمعت لديه المعرفة الكاملة لأسرار الفن أنشأ مدرسة لفن التصوير. ولقد أحصى مؤرخ سيرته 1204 من اللوحات الزيتية و380 من الرسوم له، ولا يُستبعد أن كثيراً غير هذه وتلك لم يسجله التاريخ، فليس لهذا الخصب مثيل في تاريخ الفن، ويكاد يكون الأمر كذلك بالنسبة لتنوع الموضوعات وسرعة التنفيذ، والكثرة الكثيرة من العقود والطلبات، مما اضطره إلى ابتكار طريقة في الإنتاج تمثلت في إشراكه كوكبة من الفنانين الكبار للعمل في مرسمه، كلٌ بحسب ما مهر فيه وبرع: جان بروغل لتصوير الأزهار والثمار، وفرانس سنيدر وبول دي فوس لتصوير الحيوانات، وجان فيلدنز ولوكاس فان أودن لتصوير المناظر الطبيعية، وفان دايك لتصوير الوجوه.
ما انفكت مدينة أنفرس تغدق عليه العطايا، فأعفته من دفع الضرائب، ومن تسجيل تلاميذه الإلزامي في نقابة سانت لوك، وقد ساعده هذا وغيره على تطوير أسلوبه الاستثنائي والمميز لينسجم مع المفاهيم المناهضة للإصلاح الديني، التي كان ينادي بها مجمع ترانت الكنسي رداً على التزمت «الكالڤيني»، ورغبة في النهوض بالكاثوليكية وإظهارها بمظهر جذاب تغزو أفئدة المؤمنين وتعمر قلوبهم. استجاب روبنز لتلك الدعوة وطلع على الجمهور بطرازه الباروكي في حلة جديدة، فصيحة وبليغة، وقد تجلى هذا التحول عام 1610 في لوحتي: «رفع الصليب» و«إنزال الصليب» اللتين وطدتا شهرته بصورة نهائية وقاطعة، وأبرزتا أسلوبه الشخصي من جموح خطوطه وعنفوانها، وعضلات شخوصه المفتولة، وتعبيره عن نوازعه الذاتية.
كان روبنز، مع غزارة إنتاجه للوحات الدينية، ميالاً إلى المذهب الإنساني، باستعاراته الوثنية وآلهته المتعددة التي اتخذها ذريعة لتصوير موضوعه الأثير «المرأة» مثل: «فينوس وأدونيس» و«تبرج فينوس» و«وفينوس وأمور وباخوس ومارس» و«ديانا عائدة من الصيد» و«محاكمة باريس» و«أربعة أركان الدنيا» وكان في كل مرة يحن فيها إلى موضوعه الأثير، بعد أن يكون قد صرف وقتاً ليس بالقصير في تصوير الموضوعات الدينية، وكان يتحلى بسلوك قويم إلى حد غير قياسي، بالنسبة لفنان شديد التأثر والحساسية باللون والشكل، وقد عرف عنه أنه زوج فاضل ورب أسرة موثوق، لم تمسسه شائبة من التودد للنساء أو المخادعة. كان روبنز كاثوليكياً على النحو الذي كانت تعنيه الكثلكة في عصر النهضة، ومسيحياً بحكم الموطن. وعاشت وثنيته في ظل تقواه، ولم تكن مريماته سوى ربات بيوت فلمنكيات، يرتدين قبعات جديدة في نزهة يوم الأحد.
احتلت الصور الشخصية، إلى جانب الموضوعين الرئيسيين، الديني والأسطوري، مكاناً مرموقاً بين أعماله الفنية، ولكنها لم تحتل موطن التفوق والامتياز في فنه، ومثال ذلك الصور الشخصية لامرأتيه ولنفسه ولأبنائه ولأصدقائه ولكبار القوم مثل: فيليب الرابع وزوجه، وإليزابيت بوربون وسيغموند الثالث، والأرشيدوق ألبرت وإيزابيل، وآنا النمسا، والكاردينال فرديناند، ودوق بوكنغهام، والمركيز سبينولا، وشارل الجسور، والإمبراطور مكسيميليان، وفيليب الثاني وكثيرين غيرهم. أما لوحات الصيد فقد كانت أقرب إلى طبع الفنان وألوانه الحسية وخياله الجامح الخصيب، وزخرفته المنمقة المترفة، ففيها تسيطر الغرائز ويحتدم الصراع حيث الرجال والخيول في عراك مع الأسود والفهود والخنازير البرية.
رحل روبنز إلى باريس في عام 1622 ملبياً دعوة الملكة ماري دي ميديتشي أرملة هنري الرابع ملك فرنسا للقيام بزخارف قصر لوكسمبورغ، وعهد إليه الملك لويس الثالث عشر بإعداد مجموعة من الرسوم تمثل حياة الامبراطور قسطنطين الأكبر لغرض تنفيذها من نسيج السجاد الحائطي. ومكث روبنز شهرين في باريس ليعد الرسوم التحضيرية بالحجم الطبيعي، ونالت جميعها استحسان الخبراء.
سعى روبنز، بدافع حبه للشهرة والمجد، إلى نيل لقب نبيل، وتحققت أمنيته عام 1624. وفي عام 1621، بعيد وفاة الأرشيدوق، عين مستشاراً للأرشيدوقة إيزابيل التي عهدت إليه بكثير من المهام السرية، وفي عام 1628 شارك في مباحثات السلام بين إنكلترا وإسبانيا، كما عينه فيليب الرابع أميناً للسر في المجلس الخاص بالأراضي الواطئة. ولم يستقر به المقام في أنفرس عام 1930 إلا بعد أن أنعم عليه ملك بريطانيا بلقب فارس، وفي طريق العودة عرج على إسبانيا ليبلّغ فيليب الرابع قرار عدم الاعتداء الذي استطاع أن يغنمه بصورتين أهداهما إلى ملك بريطانيا، الأولى تمثل «بركات السلم» والثانية تمثل «ويلات الحرب» إلى جانب الكثير من الصور لأفراد العائلة المالكة.
عندما عاد روبنز من باريس إلى أنفرس شعر بوحدة قاسية وكان يبلغ من العمر الثالثة والخمسين، ولم يجد بداً من الزواج مرة أخرى ووقع اختياره على هيلين فورمت وكانت أجمل سبع شقيقات اشتهرن بروعة جمالهن، ولم تك قد جاوزت السادسة عشرة من عمرها.
شهد العقد الأخير من سني حياته نصراً مبيناً عكره انحطاط قواه الجسمية ومرض النقرس. لم يحلم أحد بأن ينازعه تفوقه في الرسم، وهرع إليه التلاميذ من كل الأنحاء، ووفدت عليه بعثات البلاط من ست ممالك. وفي صورته الشخصية في سن الستين، نرى رجلاً ما يزال مزهواً، يقبض بيده على سيف النبالة، ولكن التحول يعلو وجهه النحيل، ويتدلى جلده، وتحيط التجاعيد بعينيه، وهو رسم أنيق أمين، وفي عام 1635 ألزمه داء النقرس الفراش شهراً. وفي 1637 شلت يده فترة من الزمن، وفي 1639 عاقه هذا الداء عن التوقيع باسمه، وقضى نحبه متأثراً بالتهاب المفاصل وتصلب الشرايين.
فائق دحدوح