في أخذ "نظرية لا شيء صحيح" على محمل الجدّ
ديفيد ليغينز
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
تقول نظرية العدمية الأليثية أنْ لا شيء صحيح. وثمة الكثير من الفائدة في أخذ هذه الفكرة الجذرية على محمل الجد.
أمضى الفلاسفة قرونًا وهم يتمعنون في موضوع الحقيقة. ولقد طرحنا على الدوام أسئلة من قبيل: ما هو فحوى مفهوم الحقيقة؟ أي، ماذا يعني أن تفكر بشيء ما على أنه حقيقي؟ ما هي الحقيقة ذاتها؟ وهل يمكننا أن نتوصل إلى توصيف صحيح وهادٍ لماهية الحقيقة الفعلية؟ على سبيل المثال، هل الحقيقة هي الشيء ذاته كمطابقة الحقائق؟ وكيف ترتبط الحقيقة بالمواضيع الفلسفية الهامة الأخرى، مثل المعرفة، الاستدلال، والتأكيد؟ هذه كلها أسئلة جيدة، لكن السؤال الذي أود التركيز عليه هو سؤال نال قدرًا أقلّ من المناقشة، غير أنه أكثر جوهرية بكثير من بقية الأسئلة، ولذلك يستحق تمحيصًا دقيقًا. وهذا السؤال هو: هل لدينا في المقام الأول سبب وجيه لنعتقد أن بعض الأشياء حقيقية أو صحيحة؟
تتبدى نظرتنا الاعتيادية إزاء تلك المسألة في السطور التالية. ليس كل شيء صحيح. لكن، بعض الأشياء صحيحة: بعض الاعتقادات والتأكيدات، على سبيل المثال. أطول نهر في أيرلندا هو نهر شانون، بالتالي أي شخص يعتقد أن أطول نهر في أيرلندا هو نهر شانون يكون ما يعتقده شيئًا صحيحًا، وأي شخص يؤكد أن أطول نهر في أيرلندا هو نهر شانون يؤكد شيئًا صحيحًا. بالتالي، لدى الجميع تقريبًا اعتقادات صحيحة حول أشياء كثيرة: اسمهم، أين يعيشون، في أي سنة هم، ومجموعة واسعة من المواضيع الأخرى. والجميع لديهم بعض الاعتقادات ويقومون ببعض التأكيدات التي، بالطبع، ليست صحيحة؛ بعض الناس يقومون بالكثير من التأكيدات التي ليست صحيحة. لكن، الفكرة هنا هي أن ثمة الكثير من الاعتقادات والتأكيدات الصحيحة، بالتالي ثمة الكثير من الأشياء الصحيحة. (ربما تكون هنالك أشياء صحيحة لكنها ليست اعتقادات أو تأكيدات: فرضيات صحيحة، على سبيل المثال. لكني سأركز على الاعتقادات والتأكيدات).
الآن، بعد تحديد نظرتنا الاعتيادية حول ما هو صحيح، دعوني أتفحصه على نحو نقدي. ثمة سببان لكون هذا مثيرًا للاهتمام. أولًا، إذا تبين أنْ لا شيء صحيح، فتلك خلاصةٌ هائلة، إذا استخدمنا عبارة ملطفة؛ خلاصةٌ تقلب كل ما افترضناه دائمًا. وإذا تبين أنه ليست هنالك أشياء صحيحة فحسب، بل أنها بصورة أو بأخرى ذات الأشياء التي اعتقدنا سابقًا أنها صحيحة، فسيمكنّنا ذلك من فهم الأسباب وراء الاعتقاد بأن ثمة أشياء صحيحة. هكذا، بعد ذلك، لن يكون الاعتقاد بأن بعض الأشياء صحيحة افتراضًا لا نقاش فيه: سنفهم لماذا علينا أن نعتقد أن بعض الأشياء صحيحة.
أحد طرق معالجة هذا التساؤل هي أخذ كل الأشياء التي نعتقد أنها صحيحة، وتفحصها بعناية، شيئًا تلو الآخر، لنرى فيما إذا كانت صحيحة فعلًا. أعتقد أن اسمي هو "ديفيد"، لكن هل هذا الاعتقاد صحيح فعلًا؟ وعندما يسألني الناس ما هو أطول نهر في أيرلندا، وهو ما لا يحدث كثيرًا بالطبع، أخبرهم أنه نهر شانون، لكن هل ذلك التأكيد صحيح فعلًا؟ من ناحية أخرى، ثمة أشياء كثيرة نعتقد عادة أنها صحيحة إلى درجة أن محاولة فحصها شيئًا تلو الآخر ستكون طريقة حمقاء للمضي في هذا المشروع.
الطريقة الأفضل هي أن نفكر بنظرية. ولنبدأ بنظرية بسيطة جدًا: لا شيء صحيح على الإطلاق. تقول النظرية إنه لا توجد اعتقادات صحيحة، لا تأكيدات صحيحة، لا أيّ شيء صحيح. وبما أننا عادة نفترض أن ثمة أشياء كثيرة صحيحة، فهذه النظرية تتعارض بشدة مع اعتقاداتنا الاعتيادية. إنها نظرية جذرية بكلّ المقاييس. لكن، هل ثمة ما يقال في صفّها؟ هل تقدم النظرية أي منافع تضاف إلى نظرتنا الاعتيادية للمسألة؟
ثمة مشكلة خاصة هنا تواجه أي فيلسوف ينهمك في هذا المشروع. فعلى حدّ تعبير الفيلسوف جيمين إيسي: "منذ زمن طويل، تم النظر إلى فرضية أنْ لا شيء صحيح على أنها موقف ذاتي الدحض لا يستحق تأملًا فلسفيًا جادًا". إذا كان من الممكن إظهار أنه موقف ذاتي الدحض، فما من سبب لدينا لنصدقه. وإذا كانت النظرية مآلها الفشل كما هو واضح، فذلك يفسّر لماذا يعتبرها الكثيرون عديمة جدوى.
دعوني أكشف لكم أوراقي. إنني آخذ النظرية القائلة بأن لا شيء صحيح على محمل الجد. ولا أعتقد أنها ذاتية الدحض. أو، على الأقل، الحجج التي يبدو أنها تظهر أنها ذاتية الدحض لا تنفع. وفي رأيي أن الاعتقاد بأنْ لا شيء صحيح يقدم لنا بعض المنافع، على الرغم من أنه يمثّل وجهة نظر جذرية. أعتقد، على وجه الخصوص، أنه يبشّر بحلّ بعض المشاكل الفلسفية الموجودة منذ زمن طويل. بالطبع، هذه كلها مسائل دقيقة ومثيرة للجدال، لذلك لا يمكنني أن أضع يدي على قلبي وأقول إني أؤمن إيمانًا صادقًا أنْ لا شيء صحيح. لكني أعتقد صادقًا أن النظرية جديرة بأن تؤخذ على محمل الجد، حتى إن كان الفلاسفة قلما يناقشونها أو حتى يأتون على ذكرها. أدعو هذه النظرية "العدمية الأليثية"؛ عدمية nihilism من الكلمة اللاتينية التي تعني "لا شيء"، وأليثية/ alethic من الكلمة الإغريقية التي تعني "حقيقة" أو ما يتعلق بالحقيقة. (يٌفترَض أن سي بي سكوت، رئيس تحرير صحيفة الغارديان، قال متحدثًا عن التلفاز: "لن يأتي خير من هذا الجهاز. فالكلمة نصفها إغريقي ونصفها لاتيني". لهذا، لك مطلق الحرية باختيار الاسم الذي تريده للنظرية إذا كنتَ حساسًا لغويًا مثل سكوت).
بداية، وقبل أن نتمكن من التحقق من وجود منافع للعدمية الأليثية، علينا أن نرى إن كان من الممكن استبعادها حالًا. لماذا قد نظن أنها ذاتية الدحض؟ تقول إحدى المناقشات إن العدمية الأليثية تقتضي إنكار كلّ ادعاء بلا استثناء. لنفترض أن شخصًا يدّعي أن النشاط البشري هو السبب الرئيسي وراء الاحتباس الحراري. إنه محق تمامًا. لكن، ما رأي العدمي الأليثي - أي الشخص الذي يؤمن أن لا شيء صحيح- بهذا الادعاء؟ يمكننا تخيله يجادل على النحو التالي: "حسنٌ، إذا كان النشاط البشري هو السبب الرئيسي للاحتباس الحراري، عندها يكون هذا الادعاء صحيحًا. لكن لا شيء صحيح. بالتالي، النشاط البشري ليس السبب الرئيسي للاحتباس الحراري". تُظهر هذه المناقشة أن العدمية الأليثية تقودنا إلى القيام بإنكارات لسنا مؤهلين للقيام بها، وبعضها خطير بلا ريب.
تركز مناقشة أخرى على الشخص الذي يحاول إقناعنا بأن لا شيء صحيح. "إذا كنتَ تحاول جعلنا نؤمن بالعدمية الأليثية، عليك أن تؤمن بها أنت ذاتك. بالتالي، عليك أن تعتقد أن العدمية الأليثية صحيحة. لكن، إذا كان الأمر كذلك، عليك أن تعتقد أن ثمة ما هو صحيح: أي، نظريتك ذاتها!"
تشكّل هذه المناقشات تهديدات جدية للعدمية الأليثية، لكني لا أعتقد أنها تعلّمنا أن النظرية يجب أن تُرفض. بالأحرى، أعتقد أن الدرس الذي يجب استخلاصه من تلك المناقشات هو أن النظرية، كما هي الآن، ضعيفة للغاية. ولتكون مبرَّرة أكثر، على النظرية أن تقول أكثر. لرؤية إمكانية إغناء النظرية، لنتفحصْ جانبًا آخر من تفكيرنا الاعتيادي حول الحقيقة. كما أشرتُ سابقًا، حسب نظرتنا الاعتيادية: بما أن أطول نهر في أيرلندا هو شانون، فأي شخص يعتقد أنه كذلك، يكون ما يعتقده شيئًا صحيحًا. وذلك مثال عن افتراض أوسع يمكن أن نلخّصه على النحو التالي: يكون الشيء صحيحًا إذا كان ما يقوله هو ما هو عليه الحال. على سبيل المثال، افترضْ أني أعتقد أن ثمة ذبابة في حسائي. إذا كانت هنالك ذبابة في حسائي، فإن ما أعتقده صحيح. فلندعُ هذا الرابط: "رابط الواقع بالحقيقة".
بالإضافة إلى رابط الواقع بالحقيقة، نؤمن عادة برابط الحقيقة بالواقع. لنأخذ نفس الاعتقاد مرة أخرى. يقول رابط الحقيقة بالواقع إنه إذا كان اعتقادي صحيحًا، فثمة ذبابة في حسائي. بصورة أعم، رابط الحقيقة بالواقع هو الاعتقاد بأنه إذا كان شيء ما صحيحًا، فإن ما يقوله هو ما هو عليه الحال. إن الرابطين مختلفان لأنهما يسيران في اتجاهين مختلفين. يمكنّك رابط الواقع بالحقيقة من استنتاج أن اعتقادك صحيح، بناء على وجود الذبابة. أما رابط الحقيقة بالواقع، فيمكّنك من استنتاج أنه يوجد ذبابة في حسائك، بناء على حقيقة اعتقادك.
ما يهم هنا هو رابط الواقع بالحقيقة، لأن كلا المناقشتين المعارضتين للعدمية الأليثية تستندان إليه. تُصوّر المناقشة الأولى العدميَّ الأليثي على أنه يفكر على النحو التالي: "إذا كان النشاط البشري هو السبب الرئيسي للاحتباس الحراري، فإن ادعاء أن النشاط البشري هو السبب الرئيسي للاحتباس الحراري ادعاء صحيح". أما المناقشة الثانية فتصوّر العدمي الأليثي على أنه يفكر على النحو التالي: "لا شيء صحيح. بالتالي، اعتقادُ أن لا شيء صحيح هو اعتقادٌ صحيح". كلا المناقشتين هما مثالان عن رابط الواقع بالحقيقة. والدرس الموجه للعدمي الأليثي واضح. لكن، ستزداد إمكانية الدفاع عن العدمية الأليثية إذا أدرجنا فيها إنكار رابط الواقع بالحقيقة: عندها لا يمكن أن ينشأ هذان الاعتراضان. بالتأكيد، على العدمي الأليثي أن يقول إن الناس عمومًا يصدقون رابط الواقع بالحقيقة. لكن، عليه عندها أن ينكر الرابط: قول إن الشيء هو ما هو عليه الحال ليس كافيًا لجعله صحيحًا.
لا يمكن أن نقلّل من أهمية غرابة قطع الرابط بين الحقيقة والواقع. لنستخدم مثالًا مختلفًا: نفترض عادة أن ثمة علاقة متبادلة بين كون السماء تمطر أو لا تمطر من ناحية، ومدى صحة اعتقادي بأنها تمطر من ناحية أخرى. فإما أنها تمطر، واعتقادي صحيح، أو أنها لا تمطر، واعتقادي ليس صحيحًا. وبإنكار رابط الواقع بالحقيقة، فإن العدمي الأليثي ينكر مثل تلك العلاقات المتبادلة. من منظوره، الاعتقاد بأنها تمطر ليس صحيحًا، أيًا يكن حال الطقس. ولا شيء بوسع العالم فعله لجعل هذا الاعتقاد صحيحًا. يمثّل ذلك ابتعادًا هائلًا عن افتراضاتنا الاعتيادية حول كيفية عمل الحقيقة. لذلك، إنكار رابط الواقع بالحقيقة يجعل العدمية الأليثية أكثر جذرية مما هي عليه أساسًا. لكنه أيضًا، كما رأينا، يجعل قابلية الدفاع عنها أكبر.
بالتالي، لا تظهر هذه المناقشات أن العدمية الأليثية ذاتية الدحض. وعلى حد علمي، ليس ثمة نقاشات أفضل من شأنها أن توصل إلى تلك الخلاصة. لنفترضْ أن هذا صحيح، وننتقل إلى تفحص المنافع التي تخبئها لنا العدمية الأليثية في جعبتها. بداية، من أجل شرح المنافع، أنا في حاجة إلى شرح بعض المشاكل الفلسفية الموجودة منذ زمن بعيد والتي قد تساعدنا النظرية في حلها. المشكلة الأولى هي مشكلة المفارقة؛ أي المناقشة التي تبدو جيدة عندما ننظر إليها خطوة بخطوة، لكنها لا بدّ أن تكون خاطئة لأنها تفضي إلى تناقض. المفارقة التي سنشير إليها معروفة على الأقل منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وهي مفارقة "الكاذب". تخيلْ أن شخصًا يؤكد: "الشيء ذاته الذي أؤكده الآن ليس صحيحًا". هل هذا التأكيد صحيح أم لا؟ لنفترض أنه ليس صحيحًا. إذا كان غير صحيح، فإن ما يقوله الشخص هو ما هو عليه الحال، بالتالي ما يقوله صحيح في النتيجة. بكلمات أخرى، افتراض أن التأكيد ليس صحيحًا يفضي إلى تناقض. بالتالي، التأكيد صحيح. لكن عندها ما يقوله التأكيد لا بدّ أن يكون هو ما هو عليه الحال، وهو يقول إنه ليس صحيحًا. بالتالي، هو ليس صحيحًا. لكننا سلفًا استنتجنا أنه صحيح! بالتالي، ثمة تناقض. لا بدّ أن ثمة خطًا في مكان ما من هذه المناقشة، لكن أين؟ إظهارنا أين يكمن الخطأ يعني حلّ مفارقة الكاذب.
مفارقة الكاذب، ومفارقات أخرى مشابهة، كانت محط تركيز البحث الفلسفي لقرون، في عدد من التقاليد الفلسفية المختلفة. والبحث فيها مستمر اليوم، من دون أي إجماع حول كيفية حل هذه المفارقات. كل الحلول الممكنة تبدو غير مقبولة أبدًا من ناحية أو أخرى. بعضها جذري للغاية: على سبيل المثال، يعتقد بعض الفلاسفة أن الحل الأقل سوءًا هو إعادة النظر في قواعد المنطق المقبولة عمومًا وقبول أن التأكيد صحيح وغير صحيح في الآن ذاته. ويعني ذلك أن مفارقة الكاذب بعيدة عن أن تكون محض تفاهة أو مجرد لعبة: إنها تتحدى الطرق التي نستخدمها للاستدلال حول أي موضوع.
المشكلة الأخرى التي تدور في ذهني هي تنويع على ثيمة مفارقة الكاذب، لكنها ليست مفارقة تمامًا، بل أقرب إلى أحجية، وهي تدعى "قائل الحقيقة". افترضْ أن شخصًا يؤكد: "الشيء ذاته الذي أؤكده الآن صحيح". والمشكلة هي اكتشاف فيما إذا كان يقول الحقيقة. من الصعب معرفة الدليل الذي يمكن إعطاؤه لنثبت اعتقادنا بأنه يقول الحقيقة، ومن الصعب بذات القدر معرفة الدليل الذي يمكن إعطاؤه لنثبت وجهة النظر المعاكسة. إذا كنتَ فيلسوفًا تعمل على مسائل الحقيقة والمفارقة، لا بدّ أن تكون هذه المشكلة على مكتبك عاجلًا أم آجلًا. لكن، يبدو من المستحيل معرفه ما يجب علينا قوله عن حقيقة أو عدم حقيقة هذا التأكيد.
الآن، دعوني أحاول أن أظهر لكم كيف أن العدمية الأليثية تصنع فارقًا، بدءًا بمسألة قائل الحقيقة. يؤكد شخص ما: "الشيء ذاته الذي أؤكده الآن صحيح". هل هذا التأكيد صحيح أو غير صحيح؟ تعطي العدمية الأليثية إجابة سريعة لذلك السؤال: التأكيد ليس صحيحًا، لأنه لا شيء صحيح. بالتالي، المبدأ الفلسفي العام بأن لا شيء صحيح يجيب مباشرة عن الأحجية.
لننتقل الآن إلى مفارقة الكاذب. يؤكد شخص ما أن الشيء ذاته الذي يؤكده ليس صحيحًا، ومهمتنا هي أن نكتشف فيما إذا كان هذا التأكيد صحيحًا أم لا. كما في حالة قائل الحقيقة، تعطي العدمية الأليثية إجابة سريعة ومباشرة لذلك السؤال: تأكيد الكاذب ليس صحيحًا، لأنه لا شيء صحيح. كذلك، تحدّد العدمية الأليثية بدقة مكمن الخلل في مفارقة الكاذب. تذكّرْ هذا الجزء من الاستدلال: "إذا كان التأكيد ليس صحيحًا، فما يقوله الشخص هو ما هو عليه الحال، بالتالي ما يقوله صحيح في النتيجة". هذا مجرد مثال آخر عن رابط الواقع بالحقيقة. وكما لاحظنا، الشكل القابل للدفاع عنه من العدمية الأليثية ينكر ذلك الرابط. ويمكننا أن نلاحظ الآن أن ذلك الإنكار ليس مفيدًا لدحض الاعتراضات على العدمية الأليثية وحسب؛ إنه كذلك يساعدنا في حل مفارقة الكاذب.
تلك هي حلول العدمي الأليثي المقترحة لمفارقة الكاذب وقائل الحقيقة. وسوق الحجج لإثبات أن حلوله أفضل من الحلول الأخرى المطروحة يتطلب الكثير من المجادلة التقنية، والتي سوف أعفيكم منها. في النتيجة، أعتقد أن العدمية الأليثية منافس جدّي. وإذا تبين أنها تحلّ هذه المشاكل الفلسفية الصعبة، فذلك أحد أسباب الإيمان بها.
في بعض الأحيان، من الصعب إثبات المزاعم الجذرية على وجه التحديد لأنها جذرية للغاية: نحن في حاجة على وجه الخصوص إلى أسباب قوية لكي نتخلى عن الكثير. وبما أن العدمية الأليثية هي نظرية جذرية، فذلك يبدو كمشكلة. لكنها هنا ليست مشكلة حقًا، لأن الحلول الأساسية البديلة المقترحة لمفارقات مثل مفارقة الكاذب هي أيضًا حلول جذرية للغاية. وباستخدام المثال الذي ذكرتُه سابقًا، نرى أن أحد المقاربات الهامة هي إعادة النظر في قواعد استدلال مقبولة قياسيًا. وذلك أكثر جذرية حتى من العدمية الأليثية.
إن العمل الهام الذي على العدمي الأليثي أن يقوم به هو تفسير وصولنا إلى الاعتقاد بأن بعض الأشياء صحيحة. فإذا لم يكن بوسعه فعل ذلك، لن تكون نظريته مقبولة. لذلك، سأعطي في الختام فكرة عامة عن توصيف العدمي الأليثي للكيفية التي أصبحنا بها نفكر ونتكلم على صعيد الحقيقة. لقد حدث هذا منذ زمن بعيد جدًا إلى درجة أن المزاعم حوله لا بدّ أن تكون تخمينية إلى حد كبير. لكن، كل ما يهم هنا هو أن ثمة توصيفًا ممكنًا يتوافق مع العدمية الأليثية.
أحد الأشياء التي تخص حديث الحقيقة هو أنه يساعدنا على قول المزيد؛ أو على قول المزيد في الثانية الواحدة. على سبيل المثال، إذا أردنا أن ننفي كل ما قاله شخص ما، يمكننا أن نقول: "لا شيء من ذلك صحيح". وسيكون هذا أسرع بكثير من مراجعة المزاعم التي طُرحت ودحضها واحدًا تلو الآخر. وما أن يصبح بوسعنا الحديث على صعيد الحقيقة، سيكون بوسعنا قول أشياء مثل: "إذا كان الاقتصاد الكينزي صحيحًا، فإن نتائج مثل كذا وكذا سوف تتبع"، وهو ما يوفر علينا الجهد التقني والمرهق الذي ينطوي عليه إيراد مزاعم الاقتصاد الكينزي.
أخمن أننا قديمًا انطلقنا من تعابير مثل "نعم". عندما يقول الشخص شيئًا تتفق معه، فإن أحد الطرق لإظهار موافقتك هي أن تقول "نعم" ثم تكرر ما قيل. وإظهار الموافقة بقول "نعم" يختلف بشكل ملحوظ عن حديث الحقيقة. نستخدم كلمة "صحيح" لنصف الأشياء عندما، على سبيل المثال، نميّز اعتقاد شخص ما أو تأكيده على أنه صحيح. لكن، إذا قلتُ: "نعم، الطقس كان رائعًا البارحة"، فأنا لا أصف أي اعتقاد أو تأكيد على أنه صحيح، حتى أني لا آتي على ذكر أي اعتقاد أو تأكيد. أنا، بالأحرى، أصف طقس البارحة، وأُظهر، في الوقت ذاته، أني أتفق مع الشخص الذي تحدث قبلي.
الآن، لنفترض أن شخصًا جريئًا جرّب استخدام تعبير مثل "نعم" بطريقة أكثر ابتكارًا. وليظهر أنه لا يتفق مطلقًا مع تأكيدات المتحدث السابق، ربما يقول شيئًا مثل: "لا شيء من ذلك هو نعم". لقد انتقل من استخدام "نعم" للإشارة للموافقة إلى استخدامها لوصف الأشياء. إذا كان المتحدث يتفق مع تأكيد ما، يوصف التأكيد على أنه "نعم".
إن جملة "لا شيء من ذلك هو نعم" ليس لها معنى قواعديًا، لكنها يمكن أن تُفهم بسهولة. ومن السهل فهم أن طريقة حديث مثل تلك قد تلقى رواجًا. إن وصف الأشياء على أنها "نعم" يساعدنا على قول المزيد على نحو ليس ممكنًا في استخدامها للإشارة إلى الموافقة. في الحقيقة، ما أن نستخدم "نعم" لوصف الأشياء، يمكننا قول ما هو أكثر بكثير. فالطريقة القديمة في استخدام "نعم" لا تمنحنا طريقة في الإشارة إلى عدم الموافقة التامة، بينما يمكننا الآن قول "لا شيء من ذلك هو نعم". وثمة الكثير من المزاعم الأكثر تعقيدًا التي تجعلها الطريقة الجديدة في استخدام "نعم" قابلة للقول. "معظم ما تعتقده هو نعم، لذلك استمع إليها"، ليس إلا أحد الأمثلة.
تخميني هو أن حديث الحقيقة نشأ على النحو التالي. كانت لدينا أداة للتعبير عن الموافقة ثم تحولت إلى طريقة لوصف الأشياء. وكان التحول مفيدًا لأنه مكنّنا من قول المزيد. لكن كان له ثمن، إذ كان علينا أن نعتقد أن بعض الأشياء صحيحة. وكان علينا أن نعتقد أن الشيء يُعدّ صحيحًا إذا كان ما يقوله هو ما هو عليه الحال. بكلمات أخرى، كان علينا أن نصدّق رابط الواقع بالحقيقة. بالطبع، كان أسلافنا سعداء بأن يستخدموا هذه الافتراضات المفيدة من دون أن يقوموا بتقصٍّ فلسفي للتحقق من أن بعض الأشياء صحيحة فعلًا. وهكذا، دخل افتراض أن بعض الأشياء صحيحة إلى الثقافة البشرية، ومعه رابط الواقع بالحقيقة. ومُرِّرت إلينا هذه الافتراضات عبر الأجيال، تمامًا كما أنها لا تزال تُمرّر إلى الأطفال الآن.
عادة، يستفيد الفلاسفة من افتراض وجود حقائق عندما يناقشون الكثير من المواضيع: المعرفة، الاستدلال، التأكيد. فإذا اكتشفنا أنْ لا شيء صحيح، سيكون علينا أن نعيد التفكير بكل هذه النقاشات. ويبدو أن اكتشاف أنْ لا شيء صحيح ستكون له تبعات هائلة على كيفية عيشنا لحيواتنا. على سبيل المثال، يبدو أنه يدل ضمنيًا على أنه لا بأس بالكذب. بكلمات أخرى، لا يجب أن يُنتقد أحد لعدم قوله الحقيقة؛ لأنه لا توجد حقائق مطلقًا. بالتأكيد، سأكون منزعجًا للغاية إذا كانت النظرية التي أستكشفها وأؤيدها لها ذلك المضمون. لكني، في الحقيقة، لا أعتقد أنها كذلك. بالأحرى، ما تقتضيه ضمنيًا هو أن فهمنا للكذب يجب أن يتغير. من الأسهل إيصال هذه الفكرة بمثال. افترضْ أني سرقت بنكًا. وأن صديقي يكذب لمنحي حجة غياب، فيقول إني كنت في المنزل وقت السرقة. لماذا يعدّ هذا الادعاء كذبة؟ نقول عادة: لأن الادعاء لم يكن صحيحًا. لكن العدمي الأليثي لا يمكنه قول ذلك. بالأحرى، عليه أن يقول إن الادعاء كذبة لأني لم أكن في المنزل. وإذا تم فهم الكذب بهذه الطريقة، يمكن عندها للعدمي الأليثي أن يقول إن الكذب خطأ؛ على الرغم من أنه ما من شيء خاطئ في عدم قول الحقيقة.
لا بدّ أن أي نقاش مختصر للعدمية الأليثية سيثير أسئلة أكثر مما سيقدم من أجوبة. لكني آمل في أن هذا النقاش يوضّح أحد أهداف الفلسفة ذاتها؛ أي أن تكون نقدية حقًا. بكلمات أخرى: إن أحد أهداف الفلسفة هو أن تأخذ الافتراضات التي نادرًا ما نتوقف لنتأملها، وتضعها تحت المجهر لترى إن كانت تستحق التصديق حقًا.
ديفيد ليغينز: حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة شيفيلد، المملكة المتحدة، عام 2005. محاضر في قسم الفلسفة، جامعة مانشستر منذ عام 2006. تهتم بحوثه على وجه الخصوص بالميتافيزيقا وفلسفة الرياضيات.
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/on-the-advant...othing-is-true
ديفيد ليغينز
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
تقول نظرية العدمية الأليثية أنْ لا شيء صحيح. وثمة الكثير من الفائدة في أخذ هذه الفكرة الجذرية على محمل الجد.
أمضى الفلاسفة قرونًا وهم يتمعنون في موضوع الحقيقة. ولقد طرحنا على الدوام أسئلة من قبيل: ما هو فحوى مفهوم الحقيقة؟ أي، ماذا يعني أن تفكر بشيء ما على أنه حقيقي؟ ما هي الحقيقة ذاتها؟ وهل يمكننا أن نتوصل إلى توصيف صحيح وهادٍ لماهية الحقيقة الفعلية؟ على سبيل المثال، هل الحقيقة هي الشيء ذاته كمطابقة الحقائق؟ وكيف ترتبط الحقيقة بالمواضيع الفلسفية الهامة الأخرى، مثل المعرفة، الاستدلال، والتأكيد؟ هذه كلها أسئلة جيدة، لكن السؤال الذي أود التركيز عليه هو سؤال نال قدرًا أقلّ من المناقشة، غير أنه أكثر جوهرية بكثير من بقية الأسئلة، ولذلك يستحق تمحيصًا دقيقًا. وهذا السؤال هو: هل لدينا في المقام الأول سبب وجيه لنعتقد أن بعض الأشياء حقيقية أو صحيحة؟
تتبدى نظرتنا الاعتيادية إزاء تلك المسألة في السطور التالية. ليس كل شيء صحيح. لكن، بعض الأشياء صحيحة: بعض الاعتقادات والتأكيدات، على سبيل المثال. أطول نهر في أيرلندا هو نهر شانون، بالتالي أي شخص يعتقد أن أطول نهر في أيرلندا هو نهر شانون يكون ما يعتقده شيئًا صحيحًا، وأي شخص يؤكد أن أطول نهر في أيرلندا هو نهر شانون يؤكد شيئًا صحيحًا. بالتالي، لدى الجميع تقريبًا اعتقادات صحيحة حول أشياء كثيرة: اسمهم، أين يعيشون، في أي سنة هم، ومجموعة واسعة من المواضيع الأخرى. والجميع لديهم بعض الاعتقادات ويقومون ببعض التأكيدات التي، بالطبع، ليست صحيحة؛ بعض الناس يقومون بالكثير من التأكيدات التي ليست صحيحة. لكن، الفكرة هنا هي أن ثمة الكثير من الاعتقادات والتأكيدات الصحيحة، بالتالي ثمة الكثير من الأشياء الصحيحة. (ربما تكون هنالك أشياء صحيحة لكنها ليست اعتقادات أو تأكيدات: فرضيات صحيحة، على سبيل المثال. لكني سأركز على الاعتقادات والتأكيدات).
الآن، بعد تحديد نظرتنا الاعتيادية حول ما هو صحيح، دعوني أتفحصه على نحو نقدي. ثمة سببان لكون هذا مثيرًا للاهتمام. أولًا، إذا تبين أنْ لا شيء صحيح، فتلك خلاصةٌ هائلة، إذا استخدمنا عبارة ملطفة؛ خلاصةٌ تقلب كل ما افترضناه دائمًا. وإذا تبين أنه ليست هنالك أشياء صحيحة فحسب، بل أنها بصورة أو بأخرى ذات الأشياء التي اعتقدنا سابقًا أنها صحيحة، فسيمكنّنا ذلك من فهم الأسباب وراء الاعتقاد بأن ثمة أشياء صحيحة. هكذا، بعد ذلك، لن يكون الاعتقاد بأن بعض الأشياء صحيحة افتراضًا لا نقاش فيه: سنفهم لماذا علينا أن نعتقد أن بعض الأشياء صحيحة.
السؤال الذي أود التركيز عليه هو سؤال نال قدرًا أقلّ من المناقشة، غير أنه أكثر جوهرية بكثير من بقية الأسئلة، ولذلك يستحق تمحيصًا دقيقًا. وهذا السؤال هو: هل لدينا في المقام الأول سبب وجيه لنعتقد أن بعض الأشياء حقيقية أو صحيحة؟ |
الطريقة الأفضل هي أن نفكر بنظرية. ولنبدأ بنظرية بسيطة جدًا: لا شيء صحيح على الإطلاق. تقول النظرية إنه لا توجد اعتقادات صحيحة، لا تأكيدات صحيحة، لا أيّ شيء صحيح. وبما أننا عادة نفترض أن ثمة أشياء كثيرة صحيحة، فهذه النظرية تتعارض بشدة مع اعتقاداتنا الاعتيادية. إنها نظرية جذرية بكلّ المقاييس. لكن، هل ثمة ما يقال في صفّها؟ هل تقدم النظرية أي منافع تضاف إلى نظرتنا الاعتيادية للمسألة؟
ثمة مشكلة خاصة هنا تواجه أي فيلسوف ينهمك في هذا المشروع. فعلى حدّ تعبير الفيلسوف جيمين إيسي: "منذ زمن طويل، تم النظر إلى فرضية أنْ لا شيء صحيح على أنها موقف ذاتي الدحض لا يستحق تأملًا فلسفيًا جادًا". إذا كان من الممكن إظهار أنه موقف ذاتي الدحض، فما من سبب لدينا لنصدقه. وإذا كانت النظرية مآلها الفشل كما هو واضح، فذلك يفسّر لماذا يعتبرها الكثيرون عديمة جدوى.
دعوني أكشف لكم أوراقي. إنني آخذ النظرية القائلة بأن لا شيء صحيح على محمل الجد. ولا أعتقد أنها ذاتية الدحض. أو، على الأقل، الحجج التي يبدو أنها تظهر أنها ذاتية الدحض لا تنفع. وفي رأيي أن الاعتقاد بأنْ لا شيء صحيح يقدم لنا بعض المنافع، على الرغم من أنه يمثّل وجهة نظر جذرية. أعتقد، على وجه الخصوص، أنه يبشّر بحلّ بعض المشاكل الفلسفية الموجودة منذ زمن طويل. بالطبع، هذه كلها مسائل دقيقة ومثيرة للجدال، لذلك لا يمكنني أن أضع يدي على قلبي وأقول إني أؤمن إيمانًا صادقًا أنْ لا شيء صحيح. لكني أعتقد صادقًا أن النظرية جديرة بأن تؤخذ على محمل الجد، حتى إن كان الفلاسفة قلما يناقشونها أو حتى يأتون على ذكرها. أدعو هذه النظرية "العدمية الأليثية"؛ عدمية nihilism من الكلمة اللاتينية التي تعني "لا شيء"، وأليثية/ alethic من الكلمة الإغريقية التي تعني "حقيقة" أو ما يتعلق بالحقيقة. (يٌفترَض أن سي بي سكوت، رئيس تحرير صحيفة الغارديان، قال متحدثًا عن التلفاز: "لن يأتي خير من هذا الجهاز. فالكلمة نصفها إغريقي ونصفها لاتيني". لهذا، لك مطلق الحرية باختيار الاسم الذي تريده للنظرية إذا كنتَ حساسًا لغويًا مثل سكوت).
بداية، وقبل أن نتمكن من التحقق من وجود منافع للعدمية الأليثية، علينا أن نرى إن كان من الممكن استبعادها حالًا. لماذا قد نظن أنها ذاتية الدحض؟ تقول إحدى المناقشات إن العدمية الأليثية تقتضي إنكار كلّ ادعاء بلا استثناء. لنفترض أن شخصًا يدّعي أن النشاط البشري هو السبب الرئيسي وراء الاحتباس الحراري. إنه محق تمامًا. لكن، ما رأي العدمي الأليثي - أي الشخص الذي يؤمن أن لا شيء صحيح- بهذا الادعاء؟ يمكننا تخيله يجادل على النحو التالي: "حسنٌ، إذا كان النشاط البشري هو السبب الرئيسي للاحتباس الحراري، عندها يكون هذا الادعاء صحيحًا. لكن لا شيء صحيح. بالتالي، النشاط البشري ليس السبب الرئيسي للاحتباس الحراري". تُظهر هذه المناقشة أن العدمية الأليثية تقودنا إلى القيام بإنكارات لسنا مؤهلين للقيام بها، وبعضها خطير بلا ريب.
الاعتقاد بأنْ لا شيء صحيح يقدم لنا بعض المنافع، على الرغم من أنه يمثّل وجهة نظر جذرية، أعتقد أنه يبشّر بحلّ بعض المشاكل الفلسفية الموجودة منذ زمن طويل |
تشكّل هذه المناقشات تهديدات جدية للعدمية الأليثية، لكني لا أعتقد أنها تعلّمنا أن النظرية يجب أن تُرفض. بالأحرى، أعتقد أن الدرس الذي يجب استخلاصه من تلك المناقشات هو أن النظرية، كما هي الآن، ضعيفة للغاية. ولتكون مبرَّرة أكثر، على النظرية أن تقول أكثر. لرؤية إمكانية إغناء النظرية، لنتفحصْ جانبًا آخر من تفكيرنا الاعتيادي حول الحقيقة. كما أشرتُ سابقًا، حسب نظرتنا الاعتيادية: بما أن أطول نهر في أيرلندا هو شانون، فأي شخص يعتقد أنه كذلك، يكون ما يعتقده شيئًا صحيحًا. وذلك مثال عن افتراض أوسع يمكن أن نلخّصه على النحو التالي: يكون الشيء صحيحًا إذا كان ما يقوله هو ما هو عليه الحال. على سبيل المثال، افترضْ أني أعتقد أن ثمة ذبابة في حسائي. إذا كانت هنالك ذبابة في حسائي، فإن ما أعتقده صحيح. فلندعُ هذا الرابط: "رابط الواقع بالحقيقة".
بالإضافة إلى رابط الواقع بالحقيقة، نؤمن عادة برابط الحقيقة بالواقع. لنأخذ نفس الاعتقاد مرة أخرى. يقول رابط الحقيقة بالواقع إنه إذا كان اعتقادي صحيحًا، فثمة ذبابة في حسائي. بصورة أعم، رابط الحقيقة بالواقع هو الاعتقاد بأنه إذا كان شيء ما صحيحًا، فإن ما يقوله هو ما هو عليه الحال. إن الرابطين مختلفان لأنهما يسيران في اتجاهين مختلفين. يمكنّك رابط الواقع بالحقيقة من استنتاج أن اعتقادك صحيح، بناء على وجود الذبابة. أما رابط الحقيقة بالواقع، فيمكّنك من استنتاج أنه يوجد ذبابة في حسائك، بناء على حقيقة اعتقادك.
ما يهم هنا هو رابط الواقع بالحقيقة، لأن كلا المناقشتين المعارضتين للعدمية الأليثية تستندان إليه. تُصوّر المناقشة الأولى العدميَّ الأليثي على أنه يفكر على النحو التالي: "إذا كان النشاط البشري هو السبب الرئيسي للاحتباس الحراري، فإن ادعاء أن النشاط البشري هو السبب الرئيسي للاحتباس الحراري ادعاء صحيح". أما المناقشة الثانية فتصوّر العدمي الأليثي على أنه يفكر على النحو التالي: "لا شيء صحيح. بالتالي، اعتقادُ أن لا شيء صحيح هو اعتقادٌ صحيح". كلا المناقشتين هما مثالان عن رابط الواقع بالحقيقة. والدرس الموجه للعدمي الأليثي واضح. لكن، ستزداد إمكانية الدفاع عن العدمية الأليثية إذا أدرجنا فيها إنكار رابط الواقع بالحقيقة: عندها لا يمكن أن ينشأ هذان الاعتراضان. بالتأكيد، على العدمي الأليثي أن يقول إن الناس عمومًا يصدقون رابط الواقع بالحقيقة. لكن، عليه عندها أن ينكر الرابط: قول إن الشيء هو ما هو عليه الحال ليس كافيًا لجعله صحيحًا.
على حدّ تعبير الفيلسوف جيمين إيسي: "منذ زمن طويل، تم النظر إلى فرضية أنْ لا شيء صحيح على أنها موقف ذاتي الدحض لا يستحق تأملًا فلسفيًا جادًا" |
بالتالي، لا تظهر هذه المناقشات أن العدمية الأليثية ذاتية الدحض. وعلى حد علمي، ليس ثمة نقاشات أفضل من شأنها أن توصل إلى تلك الخلاصة. لنفترضْ أن هذا صحيح، وننتقل إلى تفحص المنافع التي تخبئها لنا العدمية الأليثية في جعبتها. بداية، من أجل شرح المنافع، أنا في حاجة إلى شرح بعض المشاكل الفلسفية الموجودة منذ زمن بعيد والتي قد تساعدنا النظرية في حلها. المشكلة الأولى هي مشكلة المفارقة؛ أي المناقشة التي تبدو جيدة عندما ننظر إليها خطوة بخطوة، لكنها لا بدّ أن تكون خاطئة لأنها تفضي إلى تناقض. المفارقة التي سنشير إليها معروفة على الأقل منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وهي مفارقة "الكاذب". تخيلْ أن شخصًا يؤكد: "الشيء ذاته الذي أؤكده الآن ليس صحيحًا". هل هذا التأكيد صحيح أم لا؟ لنفترض أنه ليس صحيحًا. إذا كان غير صحيح، فإن ما يقوله الشخص هو ما هو عليه الحال، بالتالي ما يقوله صحيح في النتيجة. بكلمات أخرى، افتراض أن التأكيد ليس صحيحًا يفضي إلى تناقض. بالتالي، التأكيد صحيح. لكن عندها ما يقوله التأكيد لا بدّ أن يكون هو ما هو عليه الحال، وهو يقول إنه ليس صحيحًا. بالتالي، هو ليس صحيحًا. لكننا سلفًا استنتجنا أنه صحيح! بالتالي، ثمة تناقض. لا بدّ أن ثمة خطًا في مكان ما من هذه المناقشة، لكن أين؟ إظهارنا أين يكمن الخطأ يعني حلّ مفارقة الكاذب.
من الصعب معرفة الدليل الذي يمكن إعطاؤه لنثبت اعتقادنا بأنه يقول الحقيقة، ومن الصعب بذات القدر معرفة الدليل الذي يمكن إعطاؤه لنثبت وجهة النظر المعاكسة |
المشكلة الأخرى التي تدور في ذهني هي تنويع على ثيمة مفارقة الكاذب، لكنها ليست مفارقة تمامًا، بل أقرب إلى أحجية، وهي تدعى "قائل الحقيقة". افترضْ أن شخصًا يؤكد: "الشيء ذاته الذي أؤكده الآن صحيح". والمشكلة هي اكتشاف فيما إذا كان يقول الحقيقة. من الصعب معرفة الدليل الذي يمكن إعطاؤه لنثبت اعتقادنا بأنه يقول الحقيقة، ومن الصعب بذات القدر معرفة الدليل الذي يمكن إعطاؤه لنثبت وجهة النظر المعاكسة. إذا كنتَ فيلسوفًا تعمل على مسائل الحقيقة والمفارقة، لا بدّ أن تكون هذه المشكلة على مكتبك عاجلًا أم آجلًا. لكن، يبدو من المستحيل معرفه ما يجب علينا قوله عن حقيقة أو عدم حقيقة هذا التأكيد.
الآن، دعوني أحاول أن أظهر لكم كيف أن العدمية الأليثية تصنع فارقًا، بدءًا بمسألة قائل الحقيقة. يؤكد شخص ما: "الشيء ذاته الذي أؤكده الآن صحيح". هل هذا التأكيد صحيح أو غير صحيح؟ تعطي العدمية الأليثية إجابة سريعة لذلك السؤال: التأكيد ليس صحيحًا، لأنه لا شيء صحيح. بالتالي، المبدأ الفلسفي العام بأن لا شيء صحيح يجيب مباشرة عن الأحجية.
لننتقل الآن إلى مفارقة الكاذب. يؤكد شخص ما أن الشيء ذاته الذي يؤكده ليس صحيحًا، ومهمتنا هي أن نكتشف فيما إذا كان هذا التأكيد صحيحًا أم لا. كما في حالة قائل الحقيقة، تعطي العدمية الأليثية إجابة سريعة ومباشرة لذلك السؤال: تأكيد الكاذب ليس صحيحًا، لأنه لا شيء صحيح. كذلك، تحدّد العدمية الأليثية بدقة مكمن الخلل في مفارقة الكاذب. تذكّرْ هذا الجزء من الاستدلال: "إذا كان التأكيد ليس صحيحًا، فما يقوله الشخص هو ما هو عليه الحال، بالتالي ما يقوله صحيح في النتيجة". هذا مجرد مثال آخر عن رابط الواقع بالحقيقة. وكما لاحظنا، الشكل القابل للدفاع عنه من العدمية الأليثية ينكر ذلك الرابط. ويمكننا أن نلاحظ الآن أن ذلك الإنكار ليس مفيدًا لدحض الاعتراضات على العدمية الأليثية وحسب؛ إنه كذلك يساعدنا في حل مفارقة الكاذب.
تلك هي حلول العدمي الأليثي المقترحة لمفارقة الكاذب وقائل الحقيقة. وسوق الحجج لإثبات أن حلوله أفضل من الحلول الأخرى المطروحة يتطلب الكثير من المجادلة التقنية، والتي سوف أعفيكم منها. في النتيجة، أعتقد أن العدمية الأليثية منافس جدّي. وإذا تبين أنها تحلّ هذه المشاكل الفلسفية الصعبة، فذلك أحد أسباب الإيمان بها.
في بعض الأحيان، من الصعب إثبات المزاعم الجذرية على وجه التحديد لأنها جذرية للغاية: نحن في حاجة على وجه الخصوص إلى أسباب قوية لكي نتخلى عن الكثير. وبما أن العدمية الأليثية هي نظرية جذرية، فذلك يبدو كمشكلة. لكنها هنا ليست مشكلة حقًا، لأن الحلول الأساسية البديلة المقترحة لمفارقات مثل مفارقة الكاذب هي أيضًا حلول جذرية للغاية. وباستخدام المثال الذي ذكرتُه سابقًا، نرى أن أحد المقاربات الهامة هي إعادة النظر في قواعد استدلال مقبولة قياسيًا. وذلك أكثر جذرية حتى من العدمية الأليثية.
إن العمل الهام الذي على العدمي الأليثي أن يقوم به هو تفسير وصولنا إلى الاعتقاد بأن بعض الأشياء صحيحة. فإذا لم يكن بوسعه فعل ذلك، لن تكون نظريته مقبولة. لذلك، سأعطي في الختام فكرة عامة عن توصيف العدمي الأليثي للكيفية التي أصبحنا بها نفكر ونتكلم على صعيد الحقيقة. لقد حدث هذا منذ زمن بعيد جدًا إلى درجة أن المزاعم حوله لا بدّ أن تكون تخمينية إلى حد كبير. لكن، كل ما يهم هنا هو أن ثمة توصيفًا ممكنًا يتوافق مع العدمية الأليثية.
إن العمل الهام الذي على العدمي الأليثي أن يقوم به هو تفسير وصولنا إلى الاعتقاد بأن بعض الأشياء صحيحة. فإذا لم يكن بوسعه فعل ذلك، لن تكون نظريته مقبولة |
أخمن أننا قديمًا انطلقنا من تعابير مثل "نعم". عندما يقول الشخص شيئًا تتفق معه، فإن أحد الطرق لإظهار موافقتك هي أن تقول "نعم" ثم تكرر ما قيل. وإظهار الموافقة بقول "نعم" يختلف بشكل ملحوظ عن حديث الحقيقة. نستخدم كلمة "صحيح" لنصف الأشياء عندما، على سبيل المثال، نميّز اعتقاد شخص ما أو تأكيده على أنه صحيح. لكن، إذا قلتُ: "نعم، الطقس كان رائعًا البارحة"، فأنا لا أصف أي اعتقاد أو تأكيد على أنه صحيح، حتى أني لا آتي على ذكر أي اعتقاد أو تأكيد. أنا، بالأحرى، أصف طقس البارحة، وأُظهر، في الوقت ذاته، أني أتفق مع الشخص الذي تحدث قبلي.
الآن، لنفترض أن شخصًا جريئًا جرّب استخدام تعبير مثل "نعم" بطريقة أكثر ابتكارًا. وليظهر أنه لا يتفق مطلقًا مع تأكيدات المتحدث السابق، ربما يقول شيئًا مثل: "لا شيء من ذلك هو نعم". لقد انتقل من استخدام "نعم" للإشارة للموافقة إلى استخدامها لوصف الأشياء. إذا كان المتحدث يتفق مع تأكيد ما، يوصف التأكيد على أنه "نعم".
إن جملة "لا شيء من ذلك هو نعم" ليس لها معنى قواعديًا، لكنها يمكن أن تُفهم بسهولة. ومن السهل فهم أن طريقة حديث مثل تلك قد تلقى رواجًا. إن وصف الأشياء على أنها "نعم" يساعدنا على قول المزيد على نحو ليس ممكنًا في استخدامها للإشارة إلى الموافقة. في الحقيقة، ما أن نستخدم "نعم" لوصف الأشياء، يمكننا قول ما هو أكثر بكثير. فالطريقة القديمة في استخدام "نعم" لا تمنحنا طريقة في الإشارة إلى عدم الموافقة التامة، بينما يمكننا الآن قول "لا شيء من ذلك هو نعم". وثمة الكثير من المزاعم الأكثر تعقيدًا التي تجعلها الطريقة الجديدة في استخدام "نعم" قابلة للقول. "معظم ما تعتقده هو نعم، لذلك استمع إليها"، ليس إلا أحد الأمثلة.
تخميني هو أن حديث الحقيقة نشأ على النحو التالي. كانت لدينا أداة للتعبير عن الموافقة ثم تحولت إلى طريقة لوصف الأشياء. وكان التحول مفيدًا لأنه مكنّنا من قول المزيد. لكن كان له ثمن، إذ كان علينا أن نعتقد أن بعض الأشياء صحيحة. وكان علينا أن نعتقد أن الشيء يُعدّ صحيحًا إذا كان ما يقوله هو ما هو عليه الحال. بكلمات أخرى، كان علينا أن نصدّق رابط الواقع بالحقيقة. بالطبع، كان أسلافنا سعداء بأن يستخدموا هذه الافتراضات المفيدة من دون أن يقوموا بتقصٍّ فلسفي للتحقق من أن بعض الأشياء صحيحة فعلًا. وهكذا، دخل افتراض أن بعض الأشياء صحيحة إلى الثقافة البشرية، ومعه رابط الواقع بالحقيقة. ومُرِّرت إلينا هذه الافتراضات عبر الأجيال، تمامًا كما أنها لا تزال تُمرّر إلى الأطفال الآن.
عادة، يستفيد الفلاسفة من افتراض وجود حقائق عندما يناقشون الكثير من المواضيع: المعرفة، الاستدلال، التأكيد. فإذا اكتشفنا أنْ لا شيء صحيح، سيكون علينا أن نعيد التفكير بكل هذه النقاشات. ويبدو أن اكتشاف أنْ لا شيء صحيح ستكون له تبعات هائلة على كيفية عيشنا لحيواتنا. على سبيل المثال، يبدو أنه يدل ضمنيًا على أنه لا بأس بالكذب. بكلمات أخرى، لا يجب أن يُنتقد أحد لعدم قوله الحقيقة؛ لأنه لا توجد حقائق مطلقًا. بالتأكيد، سأكون منزعجًا للغاية إذا كانت النظرية التي أستكشفها وأؤيدها لها ذلك المضمون. لكني، في الحقيقة، لا أعتقد أنها كذلك. بالأحرى، ما تقتضيه ضمنيًا هو أن فهمنا للكذب يجب أن يتغير. من الأسهل إيصال هذه الفكرة بمثال. افترضْ أني سرقت بنكًا. وأن صديقي يكذب لمنحي حجة غياب، فيقول إني كنت في المنزل وقت السرقة. لماذا يعدّ هذا الادعاء كذبة؟ نقول عادة: لأن الادعاء لم يكن صحيحًا. لكن العدمي الأليثي لا يمكنه قول ذلك. بالأحرى، عليه أن يقول إن الادعاء كذبة لأني لم أكن في المنزل. وإذا تم فهم الكذب بهذه الطريقة، يمكن عندها للعدمي الأليثي أن يقول إن الكذب خطأ؛ على الرغم من أنه ما من شيء خاطئ في عدم قول الحقيقة.
لا بدّ أن أي نقاش مختصر للعدمية الأليثية سيثير أسئلة أكثر مما سيقدم من أجوبة. لكني آمل في أن هذا النقاش يوضّح أحد أهداف الفلسفة ذاتها؛ أي أن تكون نقدية حقًا. بكلمات أخرى: إن أحد أهداف الفلسفة هو أن تأخذ الافتراضات التي نادرًا ما نتوقف لنتأملها، وتضعها تحت المجهر لترى إن كانت تستحق التصديق حقًا.
ديفيد ليغينز: حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة شيفيلد، المملكة المتحدة، عام 2005. محاضر في قسم الفلسفة، جامعة مانشستر منذ عام 2006. تهتم بحوثه على وجه الخصوص بالميتافيزيقا وفلسفة الرياضيات.
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/on-the-advant...othing-is-true
- المترجم: سارة حبيب