موت جورج ساند
فيودور دوستويفسكي
ترجمات
جورج ساند
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة وتقديم: إسكندر حبش
تقديم
هي الصُدفة البحتة التي جعلتني أجد هذا النص غير المترجم إلى اللغة العربيّة للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي. ليس اكتشافا، بالطبع، بل مجرد لقيا لم ننتبه لها من قبل. كانت البداية، خلال بحثي عن رسالة للكاتبة الفرنسية جورج ساند قد أرسلتها إلى ألفريد دو موسيه، من أجل بحث أقوم به. كنت أبحث في أحد المواقع الإلكترونية التي نشرت أعمال ساند الكاملة، فلفت نظري ملف، في زاوية من زوايا الموقع، يحمل عنوان دوستويفسكي وساند. استغربت بادئ الأمر متسائلا عمّا إن كانت هناك علاقة ما بين الكاتبين، وعمّا إذا التقيا أو تراسلا. لكني سرعان ما أدركت أنها مقالة (أو بالأحرى نص في يومياته) كتبها الروائي الروسي الكبير غداة رحيل زميلته الفرنسية. ما الذي يمكن أن يدفع كاتبًا مثل دوستويفسكي إلى الكتابة عن ساند، وبخاصة أن النقد لا يعتبرها من أولئك الكتّاب الكبار الذين قد يشكلون عامل جذب للكاتب الروسي؟
في أي حال، لا أذكر أنني قرأت يوما هذا النص. فالأعمال الكاملة التي نقلها سامي الدروبي إلى العربية تتضمن روايات دوستويفسكي فقط، فكان لا بدّ من أن أبحث عن مصدر هذا النص الذي وجدته في كتاب يحمل عنوان "يوميات كاتب" صادر بترجمة فرنسية عن منشورات شاربانتييه في باريس عام 1904، وهو منشور كاملا على موقع المكتبة الوطنية الفرنسية. في مرحلة لاحقة، كان لا بدّ من البحث عمّا إذا تُرجم النص إلى العربية، فوجدت كتابا لدوستويفسكي صادر عن منشورات أطلس بعنوان "يوميات كاتب" وهي صفحات مختارة جمعها بوريس تاراسوف ونقلها إلى العربية عدنان جاموس. والكتاب، كما يدل عنوانه الفرعي، صفحات مختارة، أي أنه لا يضم يوميات الكاتب الروسي كلها، وبالتالي فقد جاءت الترجمة العربية محددة بالنصوص التي تم اختيارها، بمعنى أن هذا النص لم يترجم إلى العربية.
وكان لا بدّ من الاستمرار في البحث، بالقرب من بعض الأصدقاء الذين يجيدون الروسية والمختصين بأدب دوستويفسكي الذين أكدوا أنهم لا يعرفون بوجود هذا النص بالعربية، وهذا ما شجعني أكثر على نقله، وإن كان من لغة وسيطة.
إنه نص تحية إلى كاتبة لعبت دورًا ما في تشكيل وعي دوستويفسكي مثلما يقول، مثلما أنها شكلت وعي بعض الروس، على الرغم من أنه لا ينفي أن أدبها هو موضع نزاع، بمعنى أن الزمن – يومها – لم يحكم بعد عليه وعمّا إذ كان التاريخ لن يرميه.
دعوني لا أطيل الشرح، إذ من الأفضل أن نقرأ كيف يؤبن هذا الكاتب الكبير زميلة له، ليجعل من نصه شهادة للتاريخ.
*****
... ومع ذلك، فقط بعد قراءة خبر هذا الموت، فهمت كلّ المكانة التي احتلها هذا الاسم في حياتي العقلية، كلّ الحماس الذي أثاره فيّ ذات يوم الكاتب- الشاعر (1)، كلّ الملذات الفنيّة، كل السعادة الفكرية التي كنت مدينًا لها بها. أكتب كل كلمة من هذه الكلمات عن قصد، لأنها كلها حقيقة حرفية.
كانت جورج ساند إحدى معاصرينا (عندما أقول نا، أعني نحن)، كانت مثالية حقيقية في الثلاثينيات والأربعينيات (2). في قرننا القوي والرائع والمريض للغاية، المتيّم بالمثالية الأكثر غموضًا، المشغول بأكثر الرغبات غير القابلة للتحقيق، إنها أحد تلك الأسماء التي أتت من هناك، من أرض "المعجزات المقدسة"، والتي أنجبت عندنا، في روسيانا التي كانت لا تزال بحاجة "إلى أن تتشكل"، من الأفكار، والأحلام، والأقوياء، والنبلاء والقديسين المتحمسين، إلى الكثير من النشاط النفسي الحيوي والقناعات العزيزة! وليس لدينا ما نشكو منه. من خلال تمجيد هذه الأسماء وتبجيلها، فقد خدم الروس ويخدمون منطق مصيرهم. لا يتفاجأ أحد من كلماتي، خاصةً عن جورج ساند، التي يمكن لها أن تكون حتى الآن محل نزاع، والتي إلى حدّ كبير، إن لم يكن بشكل كامل تقريبًا، قد نُسيت عندنا. لقد كتبت، في زمنها، عملها في بلدنا. من سينضم إلى مواطنيها إذًا ليقول كلمة على قبرها، إن لم نكن نحن – نحن، "مواطنو العالم بأسره"؟ - لأنه بعد كلّ شيء، نحن الروس لدينا وطنان على الأقل: روسيا و... أوروبا، حتى عندما نطلق على أنفسنا اسم السلافوفيليين (3). (أتمنى أن لا تلومونني!) ليس هناك ما يمكن مناقشته. إنها مهمتنا – وقد بدأ الروس يدركون ذلك – الكبيرة بين المهمات العظيمة. عليها أن تكون إنسانية بشكل كوني. يجب أن تكون مكرسة لخدمة الإنسانية، ليس فقط لخدمة روسيا، وليس فقط لخدمة العالم السلافي، ولعموم البلدان السلافية، ولكن لخدمة البشرية جمعاء! فكروا في الأمر وستوافقون على أن السلافوفيليين قد أدركوا الشيء نفسه. ولهذا السبب يحثوننا جميعًا على أن نظهر أنفسنا روسًا بشكل أكثر وضوحًا، وأن نكون روسيين أكثر دقة، وأكثر وعيًا بمسؤوليتنا كروس؛ لأنهم يدركون أن تبني المصالح الفكرية للبشرية جمعاء هو بالتحديد المهمة المميزة للروس. علاوة على ذلك، فإن كلّ هذا لا يزال يتطلب قدرًا كبيرًا من التفسير. يجب أن يقال إن تكريس الذات لفكرة إنسانية عالمية والتجول عشوائيًا في جميع أنحاء أوروبا، بعد مغادرة البلاد بهدوء، نتيجة لبعض النزوات المتغطرسة، هما شيئان متعارضان تمامًا، على الرغم من أنه تمّ الخلط بينهما حتى الآن. لكن الكثير ممّا أخذناه من أوروبا وحملناه إلى الوطن، لم ننسخه فقط كمقلدين ذليلين، كما كان يرغب البوتوغونيون (4) في ذلك. لقد استوعبناه في جسمنا ولحمنا ودمنا. لقد حدث لنا حتى أننا نعاني من أمراض أخلاقية تم استيرادها طواعية إلينا، تمامًا كما عانت منها شعوب الغرب، والتي كانت هذه الشرور مستوطنة بينها. لن يرغب الأوروبيون في تصديق ذلك بأي ثمن. إنهم لا يعرفوننا، وربما هذا جيد حتى الآن. التحقيق الضروري، الذي ستذهل نتائجه العالم فيما بعد، لن يتم إلا بشكل أكثر سلمية، من دون إزعاج وبدون صدمة. ويمكن بالفعل رؤية نتيجة هذا التحقيق بوضوح، على الأقل جزئيًا، من خلال علاقاتنا بآداب الأمم الأخرى: فشعراؤها مألوفون عند معظم مثقفينا مثلما هم مألوفون لدى القراء الغربيين. أؤكد وأكرر أن كلّ شاعر أو مفكر أو فاعل خير أوروبي لا يزال مفهومًا ومقبولًا في روسيا بشكل أكثر وضوحًا وأكثر حميمية من أي مكان آخر في العالم، إن لم يكن في بلده. شكسبير، بايرون، وولتر سكوت، ديكنز معروفون للروس أكثر من الألمان، على سبيل المثال، على الرغم من أن أعمال هؤلاء الكتاب لا تمثل الجزء العاشر ممّا يباع في ألمانيا، بلد القرّاء بامتياز.
إن اتفاقية 93 (5)، من خلال إرسال شهادة المواطنة للشاعر الألماني شيلر (6)، صديق الإنسانية، قد أنجزت بالتأكيد عملًا جميلًا، مهيبًا وحتى نبويًا؛ لكنها لم تشك حتى في أنه في الطرف الآخر من أوروبا، في روسيا الهمجية، كان عمل شيلر نفسه أكثر انتشارًا، وتجنسًا، بطريقة ما، ممّا كان عليه في فرنسا، ليس فقط في ذلك الوقت، ولكن حتى لاحقًا، خلال هذا القرن بأكمله. شيلر، وهو مواطن فرنسي وصديق للإنسانية، كان معروفًا في فرنسا فقط لأساتذة الأدب وما زال غير معروف للجميع - فقط للنخبة.
لقد أثر بعمق عندنا، على الروح الروسية، مع يوكوفسكي (7)، وقد ترك علامات تأثيره هنا وهناك؛ لقد وسم حقبة في سجلات تطورنا الفكري. هذه المشاركة للروس في مساهمات الأدب العالمي هي ظاهرة لا تكاد تُلاحظ بنفس الدرجة عند أناس الأعراق الأخرى، في أي فترة من تاريخ العالم؛ وإذا كانت هذه الكفاءة تشكل بالفعل خصوصية وطنية روسية، فهذا أمر حسن بالنسبة إلينا، يا لها من وطنية مشبوهة، ما هي هذه الشوفينية التي ستدّعي لنفسها الحق في الثورة ضد هذه الظاهرة، ولا تريد، على العكس من ذلك، أن ترى أن هناك أجمل وعد لمصيرنا في المستقبل.
أوه، بالتأكيد، ثمة أشخاص سوف يبتسمون للأهمية التي أعزوها لعمل جورج ساند، بيد أن المستهزئين سوف يكونون مخطئين. مرّ كثير من الوقت؛ جورج ساند هي نفسها قد ماتت، عجوزًا، في السبعينات من عمرها، ربما بعد أن عاشت فترة طويلة بعد مجدها. لكن كلّ ما جعلنا نشعر، خلال الظهور الأول للشاعر، أن كلمة جديدة ترددت، كل شيء كان في عملها إنسانيًا بشكل كوني، وكان لذلك كله، على الفور، صدى في بلدنا، في روسيانا. لقد شعرنا بانطباع قوي وعميق عنها، لم يتبدد، وهو يثبت أن أي شاعر، وأي مبتكر أوروبي، وأي فكر جديد وقوي قادم من الغرب، يصبح حتمًا قوة روسية.
في أي حال، ليست لدي أي نيّة لكتابة مقالة نقدية عن جورج ساند. أريد فقط أن أقول بضع كلمات وداع على قبرها الذي لا يزال نديًا.
*****
يتزامن ظهور جورج ساند الأدبي مع سنوات شبابي المبكرة. يسعدني الآن أن أعتقد أنه قد مضى وقت طويل على ذلك، حتى الآن بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا، يمكن للمرء أن يتحدث بصراحة تامة تقريبًا. لذا تجدر الإشارة إلى أن معظم الحكومات الأوروبية في ذلك الوقت لم تتسامح مع أي شيء من الأدب الأجنبي في بلادها، لا شيء سوى الروايات. كل شيء آخر، وخاصة ما كان يأتي من فرنسا، كان محصورًا بشكل صارم على الحدود. أوه، بالتأكيد، في كثير من الأحيان، لم نكن نعرف كيف نرى. لم يكن ميترنيخ (8) نفسه قادرًا على الرؤية أكثر من مقلديه. وهذه هي الطريقة التي يمكن أن تحدث بها "الأشياء الفظيعة" (كل بيلينسكي (9) سار بشكل جيد!). لكن، من ناحية أخرى، بعد ذلك بقليل، خاصة قرب نهاية هذه الفترة، بدأنا، خوفًا من ارتكاب خطأ، في حظر كل شيء تقريبًا. ومع ذلك، وجدت الروايات استحسانًا في كل عصر وفي هذا البلد كان الأوصياء لدينا عميانًا بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بروايات جورج ساند.
لتتذكروا هذه الأبيات:
يعرف عن ظهر قلب مجلدات
تيير (10) ورابو (11)
والناري مثل ميرابو (12)
كان يمجد الحرية...
هذه الأبيات هي على قيمة كبيرة لأن من كتبها هو دينيس دافيدوف (13)، الشاعر والروسي الطيب. لكن إذا اعتبر دينيس دافيدوف تيير خطيرًا (ربما بسبب كتابه "تاريخ الثورة") ووضع بالقرب من اسمه، في القصيدة المقتبسة، اسم رابو ذاك (كان هناك كاتب يُدعى كذلك، وأكثر من ذلك، لا أعرف شيئًا)، يمكننا أن نكون على يقين من أن المرء اعترف رسميًا بعدد قليل جدًا من أعمال المؤلفين الأجانب في ذلك الوقت في روسيا. وإليكم ما تمخض عن ذلك: الأفكار الجديدة التي ظهرت علينا في ذلك الوقت على شكل روايات، كانت فقط الأكثر خطورة تحت لباسها الفخم، ربما لأن رابو لم يعرف سوى عدد قليل من المعجبين، بينما وجدت جورج ساند الآلاف منهم. لذلك يجب الإشارة هنا مرة أخرى إلى أنه، في بلدنا، منذ القرن الماضي، وعلى الرغم من آل مانيتسكي (Magnitzki) 14 وآل ليبراندي (Liprandi) 15، كان لدينا دائمًا معرفة سريعة جدًا بأي حركة فكرية في أوروبا. فكلّ فكرة جديدة يتمّ نقلها على الفور من قبل الطبقات الفكرية العليا لدينا إلى الجماهير البشرية حتى ولو كانت لا تملك موهبة كبيرة من الفكر والفضول الفلسفي. وهذا ما حدث نتيجة حركة أفكار "الثلاثينيات". منذ بداية هذه الفترة، أدرك الروس على الفور التطور الهائل للأدب الأوروبي. سرعان ما عُرفت أسماء الخطباء والمؤرخين والمدافعين عن الشعب والأساتذة، الجديدة. حتى أننا عرفنا جيدًا ما ينذر بهذا التطور، والذي أزعج بشكل خاص مجال الفن. لقد خضعت الروايات لتحول خاص للغاية أظهرته روايات جورج ساند أكثر مما أظهرته الروايات الأخرى. صحيح أن سنكوفسكي (Senkovski) 16 وبولغارين (Boulgarine) 17 حذرا الجمهور من جورج ساند حتى قبل ظهور رواياتها مترجمة إلى اللغة الروسية. قبل كل شيء، حاولا ترويع سيداتنا الروسيات من خلال الكشف لهن عن أن جورج ساند "كانت ترتدي السراويل"؛ لقد توعدا ضد تحررها المزعوم؛ حاولا السخرية منها. بدأ سنكوفسكي، من دون أن يقول إنه كان يستعد لترجمة رواياتها في مجلته الخاصة، مكتبة القراءة، يناديها، في كتاباته، السيدة "إيغور" ساند، ومن المؤكد أنه كان سعيدًا تمامًا بهذه الطرافة. في وقت لاحق، في عام 48، طبع بولغارين في مجلته "نحلة الشمال" (Северная пчела)، على نفقة جورج ساند، أنها كانت تثمل كل يوم، بصحبة بيير لورو، في مقهى دو باريير، مثلما كانت تشارك في الأمسيات "الأثينية" التي كان يحييها ذاك "اللص" ليدرو رولين (Ledru-Rollin) (18) في وزارة الداخلية. لقد قرأت هذه الأشياء بنفسي وأتذكرها جيدًا. ولكن بعد ذلك، في عام 48، كانت جورج ساند معروفة حقًا عند جميع المتعلمين، ولم يصدق أحد بولغارين. أولى أعمالها التي ترجمت إلى اللغة الروسية صدرت في الثلاثينيات. أشعر بالأسف بأني لم أعد أتذكر أي رواية أولى لها جاءت بلغتنا؛ في أي حال، أيّا تكن عليه هذه الرواية، فقد استطاعت أن تترك وراءها انطباعا هائلا. أعتقد أن الجميع مثلي، أنا الذي كنت لا أزال مراهقًا قد أذهلهم النقاء الجميل والعفيف للأنواع التي تم وضعها في مقدمة خشبة المسرح، عبر سمو مُثل الكاتبة العليا، عبر إمساكها المستمر بعملية السرد. وقد أراد البعض الأخذ على هذه المرأة أنها "ترتدي السروايل"، و"تنغمس في الفجور"! كنت في السادسة عشرة من عمري، على ما أظنّ، حين قرأت أولى أعمالها التي تعود إلى فترة البدايات، وهي واحدة من نتاجاتها الساحرة. أذكر ذلك جيدًا؛ ارتفعت حرارتي طيلة الليلة التي أعقبت قراءتي. لا أعتقد أنني مخطئ في التأكيد على أن جورج ساند احتلت، بالنسبة إلينا، على الفور تقريبًا، المركز الأول في صفوف الكتّاب الجدد الذين تردد مجدهم الشاب في جميع أنحاء أوروبا. حتى ديكنز نفسه، الذي صدرت أعماله في بلادنا في الوقت عينه تقريبًا، كان يأتي في المرتبة الثانية بعدها من حيث مدى إعجاب جمهورنا [القارئ] به. لا أتحدث عن بلزاك، الذي وجد شهرة عندنا، قبلها، والذي نشر في سنوات الثلاثين أعمالًا مثل أوجيني غرانده والأب غوريو، حيث كان بيلينسكي غير منصف تجاهه حين أنكر المكانة الكبيرة التي يتبوأها في الأدب الفرنسي. في أي حال، لا أدعي هنا أنني أقدم ولو تقييما نقديا صغيرا؛ بل أنني أكتفي بالتذكير بميل حشود القراء الروس في ذلك الوقت وما أثاره ذلك عليهم من انطباع.
النقطة الأساسية في ذلك هي أن هؤلاء القراء يمكن أن يتعرفوا، في الروايات الأجنبية، على كل الأفكار الجديدة التي كانوا "يحمونهم" منها بغيرة شديدة.
ومع ذلك، في حوالي الأربعينيات من القرن الماضي، كان عامة الناس في روسيا يعرفون جيدًا إلى حد ما أن جورج ساند كانت إحدى أكثر الممثلات إبهارًا وفخرًا واستقامة للجيل الأوروبي الجديد في ذاك العصر، واحدة من أولئك الذين أنكروا بقوة تلك "المقتنيات الإيجابية" الشهيرة التي أكملت من خلالها الثورة الفرنسية (أو بالأحرى الأوروبية) الدموية في نهاية القرن الماضي عملها. بعدها - بعد نابليون الأول -حاولنا أن نكشف من خلال الكتب عن تطلعات جديدة ومُثل جديد تمامًا. سرعان ما أدركت العقول الطليعية أنه لم يكن هذا التعديل الظاهري أو ذاك لواقع استبدادي حقيقي يمكن له أن يوفق بينه وبين احتياجات عصر جديد، وبأن "أسرع بالخروج من هنا كي أحلّ مكانك" الذي قام به السادة الجدد لم يحل شيئًا، وأن فاتحي العالم الجدد، البرجوازيين، ربما كانوا أسوأ من النبلاء، أولئك المستبدين الذين كانوا هنا في اليوم السابق، وأن شعار "الحرية والمساواة والأخوة" لم يتشكل إلا من كلمات رنانة فقط. ليس هذا كل شيء. عندها، ظهرت المذاهب التي أثبتت أن هذه الكلمات المبهرة تجسد المستحيلات فقط. سرعان ما توقف المنتصرون عن نطق هذه الكلمات، أو بالأحرى لم يعد يتذكرون هذه الكلمات المقدسة الثلاث، أو يتذكرونها بشكل أفضل، إلا بنوع من السخرية. العلم نفسه، في شخص بعض أذكى أتباعه (الاقتصاديين)، الذين بدا أنهم يجلبون صيغًا جديدة، جاءوا لنجدة هذا التهكم وأدانوا بشدّة الكلمات الطوباوية الثلاث التي سفك الكثير من الدماء من أجلها. وهكذا إلى جانب المنتصرين المبتهجين ظهرت وجوه حزينة قاتمة تقلق المنتصرين.
عندها سُمعت فجأة كلمة جديدة حقًا، ولدت آمال جديدة. جاء أناس، كانوا يعلنون أن أعمال الترميم قد توقفت خطأ وظلمًا؛ بأنه لم يتحقق أي شيء بتغيير التمثيل السياسي؛ بأن عمل التجديد الاجتماعي يجب أن يهاجم جذور المجتمع نفسها. أوه! بالتأكيد، نشطح أحيانًا في الاستنتاجات بعيدًا. نشأت النظريات الخبيثة والوحشية. لكن الشيء الرئيسي هو أن الأمل أشرق مرة أخرى وبدأ الإيمان ينمو مرة أخرى.
تاريخ هذه الحركة معروف. لا يزال مستمرًا حتى اليوم ولا يبدو أن لديه أي ميل للتوقف. لا أقترح أبدًا التحدث هنا لصالحه أو ضده. أريد فقط تحديد نصيب جورج ساند من العمل في هذه الحركة. سنجد ذلك منذ بدايات الكاتبة. لذا قالت أوروبا، حين قرأتها، إن قصدها من الوعظ هو احتلال مكانة جديدة للمرأة في المجتمع وأنها تنبأت بحقوق "الزوجة الحرة" في المستقبل (التعبير مأخوذ من سنكوفسكي)؛ بيد أن ذلك لم يكن صحيحًا تمامًا، لأنها لم تعظ فقط لصالح النساء ولم تتخيل أي نوع من "الزوجة الحرة". لقد ارتبطت جورج ساند بكل الحركات التقدمية وليس بحملة تهدف فقط إلى انتصار حقوق المرأة.
من الواضح أنها، وهي نفسها امرأة، أنها رسمت بطلاتها عن طيب خاطر أكثر من الأبطال؛ ليس من غير الواضح أنه يجب على النساء في جميع أنحاء العالم الآن الحداد على جورج ساند، لأن واحدة من أنبل ممثلات الجنس الأنثوي قد ماتت، لأنها كانت امرأة ذات قوة كبيرة وعقل وموهبة لم يسمع بها من قبل. من الآن فصاعدًا، لقد أصبح اسمها تاريخيًا، وهو اسم لا يحق لنا أن ننساه، ولن يختفي أبدًا من الذاكرة الأوروبية. بالنسبة إلى بطلاتها، أكرر أنني كنت في السادسة عشرة من عمري فقط عندما تعرفت إليهن. لقد كنت منزعجًا جدًا من الأحكام المتناقضة التي صدرت على من خلقتها. جسدت بعض هذه البطلات نوعًا من النقاء الأخلاقي لدرجة أنه من المستحيل ألا نتخيل أن الشاعرة خلقتهن على صورة روحها، تلك الروح المتطلبة للغاية من وجهة نظر الجمال الأخلاقي، الروح المؤمنة، في حب الواجب والعظمة، المدركة للجمال الأسمى والقادرة بشكل لا نهائي على الصبر والعدالة والشفقة. صحيح أنه إلى جانب الشفقة والصبر والفهم الواضح للواجب، يلمح المرء عند الكاتبة فخرًا كبيرًا جدًا، وحاجة إلى المطالبة، بل وحتى إلى متطلبات. لكن هذا الكبرياء بحدّ ذاته كان مثيرًا للإعجاب، لأنه مستمد من مبادئ سامية لا يمكن للإنسانية أن تعيش بدونها في جمال. لم يكن هذا الكبرياء هو ازدراء الجار الذي نقول له: أنا أفضل منك؛ لن تتساوى معي أبدًا؛ لم تكن سوى رفض متعجرف لعقد اتفاق مع الأكاذيب والرذيلة، من دون، وأكرر، هذا الرفض الذي يدل على رفض أي شعور بالشفقة أو المغفرة. لقد فرض هذا الكبرياء واجبات هائلة على نفسه. تعطشت بطلات جورج ساند للتضحية، ولم يحلمن إلا بالأعمال العظيمة والجميلة. ما أعجبني بشكل خاص في أعمالها المبكرة هو بعض أنواع الفتيات الصغيرات من حكاياتها المسماة "البندقية" (الفينيسية)، وهي أنواع ظهرت آخر عيّنة لها في هذه الرواية الرائعة التي تحمل عنوان جان (Jeanne)، والتي تحل بطريقة مضيئة السؤال التاريخي حول جان دارك. في هذا العمل، تبعث لنا جورج ساند، في شخص فتاة فلاحة شابة، شخصية البطلة الفرنسية وتجعل بطريقة ما معقولية دورة تاريخية رائعة ملموسة بأكملها. لقد كانت مهمة جديرة بالمحرضة العظيمة، لأنها، وحدها من بين كل شعراء زمانها، حملت في روحها مثل هذا النوع المثالي الخالص من فتاة صغيرة بريئة، قوية ببراءتها الشديدة.
كل هذه الأنواع من الفتيات الشابات موجودة إلى حدّ ما معدلة في الأعمال اللاحقة؛ واحدة من أكثر الشخصيات روعة تمت دراستها في القصة القصيرة الرائعة الماركيزة (La Marquise). تُقدم لنا جورج ساند شخصية شابة مخلصة وصادقة، ولكن عديمة الخبرة، تتمتع بهذه العفة الفخورة التي لا تخشى شيئًا ولا يمكنها أن تلطخ نفسها حتى في مواجهة الفساد. تذهب مباشرة إلى التضحية (التي تعتقد أنها منتظرة منها) بزهد يتحدى كل الأخطار. ما تصادفه في طريقها لا يخيفها، بل على العكس من ذلك، تعظم شجاعتها. فقط في خطر أن يدرك قلبها الشاب كل قوته. تتفاقم طاقتها. تكتشف دروبًا وآفاقًا جديدة لروحها، التي كانت لا تزال تجهل نفسها، لكنها كانت منعشة وقوية، لم تلوثها بعد تنازلات الحياة. مع هذا، لا تشوب شكل القصيدة شائبة وهي أَخَّاذة. أحبت جورج ساند النهايات السعيدة، انتصار البراءة والصراحة والشجاعة الشابة والبسيطة. هل هذا ما يمكن أن يزعج المجتمع ويثير الشكوك والمخاوف؟ على العكس من ذلك، فقد سمح الآباء والأمهات الأكثر تشددًا لعائلاتهم بقراءة جورج ساند ولم يتوقفوا عن الدهشة لرؤيتها مشوهة من جميع الجوانب. ولكن بعد ذلك اندلعت الاحتجاجات. تم تحذير الجمهور من هذه الادعاءات الأنثوية الفخورة، ضد هذه الجرأة في دفع البراءة إلى محاربة الشر. يمكن للمرء أن يكتشف هناك، كما قيل، علامات سمّ "النسوية". ربما كنّا على حق في الحديث عن السمّ. ربما كان هناك سم في أثناء صنعه هناك، لكننا لم نتفق أبدًا على آثاره. قيل لنا – هل هذا صحيح؟ - أن كل هذه الأسئلة قد تم حلها الآن...
***** يجب أن نشير، في هذا الصدد، إلى أنه خلال الأربعينيات، كان مجد جورج ساند مرتفعًا جدًا والإيمان الذي تم الإعلان عنه بعبقريتها بشكل كامل، لدرجة أننا جميعًا، نحن معاصروها، توقعنا شيئًا هائلًا، لم يُسمع به من قبل، في المستقبل القريب، حتى أيضا إيجاد حلول نهائية.
لم تتحقق هذه الآمال. يبدو أنه منذ ذلك الوقت، أي قرب نهاية الأربعينيات، قالت جورج ساند كل ما كان في مهمتها أن تقوله، والآن، على قبرها الذي بالكاد يُغلق، يمكننا التحدث بكلمات محددة.
جورج ساند ليست مفكرة، لكنها واحدة من تلك العرافات اللاتي ميزن في المستقبل إنسانية أكثر سعادة. وإذا أعلنت، طوال حياتها، عن إمكانية وصول الإنسانية إلى المثل الأعلى، فذلك لأنها كانت مسلحة للوصول إليه.
ماتت ربوبية، مؤمنة إيمانًا راسخًا بالله والخلود. لكن هذا قليل جدًا لأقوله وأعتقد أنها كانت، من بين كتّاب عصرها، مسيحية بامتياز، وليس لأنها كانت تؤمن بألوهية المسيح. هذه المرأة الفرنسية لم تكن لتقر بأن تمجيد المسيح كان بحدّ ذاته فعالًا بما يكفي لمنح الخلاص، وهو المفهوم الذي يشكل أساس الإيمان الأرثوذكسي. لكن التناقض هنا في المصطلحات أكثر منه في الجوهر، وأنا أؤكد أن جورج ساند ستكون أحد أعظم أتباع المسيح.
اشتراكيتها، قناعاتها، آمالها، لقد أسستها على إيمانها بالكمال الأخلاقي للإنسان. كانت لديها بالفعل فكرة سامية عن الألوهية البشرية، رفعتها من كتاب إلى كتاب، وبالتالي ربطت نفسها في الفكر والشعور بأحد الأفكار الأساسية للمسيحية. أعني مبدأ حرية الإرادة والمسؤولية. ومن هنا جاء مفهومها الواضح للواجب والتزاماتنا الأخلاقية. ربما، بين المفكرين أو الكتاب الفرنسيين، معاصريها، لا يوجد من يفهم بقوة أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". أما عن كبريائها، وادعاءاتها المتطلبة، فأكرر أنها لم تستبعد أبدًا الشفقة، ومغفرة الإساءة، بل وصبرًا لا حدود له، وهو ما وجدته في شفقتها حتى على الجاني. احتفلت جورج ساند مرارًا بهذه الفضائل في أعمالها وعرفت كيف تجسدها في عدة أنواع. لقد كتب عنها أنها أم ممتازة عملت بجدّ حتى أيامها الأخيرة وأنها الصديق الصادق للفلاحين في قريتها وقد أحبوها بشدة.
لقد استمدت، على ما يبدو، بعض الرضى عن نفسها من أصلها الأرستقراطي (من خلال والدتها كانت مرتبطة بمنزل ساكسونيا)، ولكن، أكثر بكثير من تلك الهيبة الساذجة، كانت حساسة، يجب أن يقال، تجاه هذه الأرستقراطية الحقيقية التي نجد أن امتيازها الوحيد يكمن في تفوق الروح.
لم يكن بإمكانها أن تعرف كيف لا تحب ما هو عظيم، بيد أنها لم تكن قادرة على إدراك عناصر الاهتمام التي تخفي الأشياء الصغيرة. في هذا ربما كانت فخورة جدا. من الصحيح تمامًا أنها لم تكن تحب أن تدرج في رواياتها كائنات مهينة، عادلة ولكن سلبية، بريئة ولكنها تعرضت لسوء المعاملة، كما نراها تقريبا في جميع أعمال هذا المسيحي العظيم ديكنز. بعيدا عن هذا كانت تجمع بفخر بطلاتها وكادت تجعلهن ملكات. لقد أحبت موقف شخصياتها هذا ومن الجدير أن نذكر هذه الخصوصية. إنها مميزة.
(*) نُشرت هذه المقالة في "يوميات كاتب"، حزيران/ يونيو 1876.
هوامش المترجم
(1) يستعمل دوستويفسكي هنا صيغة المذكر للدلالة على الكاتبة، وكأنه يريد بذلك إلغاء الفوارق الذكورية – الأنثوية، بين الجنسين، بمعنى أن الكتابة إما أن تكون جيدة، أو لا، بغض النظر عن جنس كاتبها.
(2) القرن التاسع عشر.
(3) Slavophiles
(4) Potouguines نسبة إلى بوتوغين، إحدى شخصيات رواية "دخان" لتورغينيف، الذي اشتهر بحواراته مع باكونين.
(5) الميثاق الوطني الفرنسي الذي أعلن بعد سقوط لويس السادس عشر، والذي حلّ مكان الهيئة التشريعية، عقب الثورة الفرنسية.
(6) يوهان كريستوف فريدريتش فون شيلر (10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1759 – 9 أيار/ مايو 1805). شاعر وكاتب ألماني ومنظر لعلم الجمال، يعد واحدا من كبار كلاسيكيي الأدب الألماني.
(7) فاسيلي أندرييفيتش يوكوفسكي (29 كانون الثاني/ يناير 1783 – 12 نيسان/ أبريل 1852)، شاعر وناقد وأكاديمي روسي. يعتبر رائد الرومانسية الروسية وقد أثرت أعماله على العديد من ممثلي الأدب الروسي مثل ليرمنتوف وغوغول وبوشكين.
(8) كليمانس فينزل فون ميترنيخ، أمير ومن ثم إمبراطور، المستشار الأسبق للإمبراطورية النمساوية، تلخصت حياته السياسية في الحفاظ، في أوروبا، على النظام القديم مقابل التبدلات الجذرية التي أحدثتها الثورة الفرنسية، مثلما اشتهر بمقولته الرائدة "توازن القوى".
(9) فيساريون غريغوروفيتش بيلينسكي (30 أيار/ مايو 1811 – 26 أيار/ مايو 1848)، من كبار نقاد الأدب الروس، عرف بميوله الغربية والفردية في الأدب.
(10) أدولف تيير (15 نيسان/ أبريل 1797 – 3 أيلول/ سبتمبر 1877)، كاتب وصحافي ومؤرخ فرنسي، وقد أصبح رجل دولة حيث انتخب نائبًا ووزيرًا ورئيسًا للمجلس ومن ثم رئيسًا للجمهورية.
(11) كميل رابو: قس ومؤرخ فرنسي.
(12) أوكتاف ميرابو (9 آذار/ مارس 1749 – 2 نيسان/ أبريل 1791) كاتب ودبلوماسي وصحافي ورجل سياسة وأحد الوجوه البارزة في الثورة الفرنسية.
(13) دنيس فاسيلييفتش دافيدوف (27 تموز/ يوليو 1784 – 22 نيسان/ أبريل 1839) شاعر وجنرال روسي، أحد قادة الجيش خلال الحرب البونابرتية.
(14) ميخائيل مانيتيسكي (1778 – 1844) حاكم سيمبرسك بين 1817 و1819، والمسؤول عن قطاع التعليم العالي في قازان.
(15) بافل ليبراندي: قائد معركة بالاكلافا التي حدثت يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر 1854 بين الجيش الروسي وبين تحالف الجيوش الفرنسية والبريطانية والتركية التي حاصرت مدينة سيباستيبول في شبه جزيرة القرم. وقد انتهت المعركة بدون غالب أو مغلوب.
(16) يوسف جوليان سنكوفسكي (31 آذار/ مارس 1800 – 16 آذار/ مارس 1858) مواليد سان بطرسبرغ (من أصل بولندي)، كاتب وناقد وجامعي روسي.
(17) فاديي فينيديكتوفيتش بولغارين (5 تموز/ يوليو 1789 – 13 أيلول/ سبتمبر 1859) صحافي وكاتب وناقد أدبي روسي.
(18) ألكسندر – أوغوست ليدرو – رولان (2 شباط/ فبراير 1807 – 31 كانون الأول/ ديسمبر 1874) محام ورجل سياسة فرنسي.
فيودور دوستويفسكي
ترجمات
جورج ساند
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة وتقديم: إسكندر حبش
تقديم
هي الصُدفة البحتة التي جعلتني أجد هذا النص غير المترجم إلى اللغة العربيّة للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي. ليس اكتشافا، بالطبع، بل مجرد لقيا لم ننتبه لها من قبل. كانت البداية، خلال بحثي عن رسالة للكاتبة الفرنسية جورج ساند قد أرسلتها إلى ألفريد دو موسيه، من أجل بحث أقوم به. كنت أبحث في أحد المواقع الإلكترونية التي نشرت أعمال ساند الكاملة، فلفت نظري ملف، في زاوية من زوايا الموقع، يحمل عنوان دوستويفسكي وساند. استغربت بادئ الأمر متسائلا عمّا إن كانت هناك علاقة ما بين الكاتبين، وعمّا إذا التقيا أو تراسلا. لكني سرعان ما أدركت أنها مقالة (أو بالأحرى نص في يومياته) كتبها الروائي الروسي الكبير غداة رحيل زميلته الفرنسية. ما الذي يمكن أن يدفع كاتبًا مثل دوستويفسكي إلى الكتابة عن ساند، وبخاصة أن النقد لا يعتبرها من أولئك الكتّاب الكبار الذين قد يشكلون عامل جذب للكاتب الروسي؟
في أي حال، لا أذكر أنني قرأت يوما هذا النص. فالأعمال الكاملة التي نقلها سامي الدروبي إلى العربية تتضمن روايات دوستويفسكي فقط، فكان لا بدّ من أن أبحث عن مصدر هذا النص الذي وجدته في كتاب يحمل عنوان "يوميات كاتب" صادر بترجمة فرنسية عن منشورات شاربانتييه في باريس عام 1904، وهو منشور كاملا على موقع المكتبة الوطنية الفرنسية. في مرحلة لاحقة، كان لا بدّ من البحث عمّا إذا تُرجم النص إلى العربية، فوجدت كتابا لدوستويفسكي صادر عن منشورات أطلس بعنوان "يوميات كاتب" وهي صفحات مختارة جمعها بوريس تاراسوف ونقلها إلى العربية عدنان جاموس. والكتاب، كما يدل عنوانه الفرعي، صفحات مختارة، أي أنه لا يضم يوميات الكاتب الروسي كلها، وبالتالي فقد جاءت الترجمة العربية محددة بالنصوص التي تم اختيارها، بمعنى أن هذا النص لم يترجم إلى العربية.
وكان لا بدّ من الاستمرار في البحث، بالقرب من بعض الأصدقاء الذين يجيدون الروسية والمختصين بأدب دوستويفسكي الذين أكدوا أنهم لا يعرفون بوجود هذا النص بالعربية، وهذا ما شجعني أكثر على نقله، وإن كان من لغة وسيطة.
إنه نص تحية إلى كاتبة لعبت دورًا ما في تشكيل وعي دوستويفسكي مثلما يقول، مثلما أنها شكلت وعي بعض الروس، على الرغم من أنه لا ينفي أن أدبها هو موضع نزاع، بمعنى أن الزمن – يومها – لم يحكم بعد عليه وعمّا إذ كان التاريخ لن يرميه.
دعوني لا أطيل الشرح، إذ من الأفضل أن نقرأ كيف يؤبن هذا الكاتب الكبير زميلة له، ليجعل من نصه شهادة للتاريخ.
*****
... ومع ذلك، فقط بعد قراءة خبر هذا الموت، فهمت كلّ المكانة التي احتلها هذا الاسم في حياتي العقلية، كلّ الحماس الذي أثاره فيّ ذات يوم الكاتب- الشاعر (1)، كلّ الملذات الفنيّة، كل السعادة الفكرية التي كنت مدينًا لها بها. أكتب كل كلمة من هذه الكلمات عن قصد، لأنها كلها حقيقة حرفية.
كانت جورج ساند إحدى معاصرينا (عندما أقول نا، أعني نحن)، كانت مثالية حقيقية في الثلاثينيات والأربعينيات (2). في قرننا القوي والرائع والمريض للغاية، المتيّم بالمثالية الأكثر غموضًا، المشغول بأكثر الرغبات غير القابلة للتحقيق، إنها أحد تلك الأسماء التي أتت من هناك، من أرض "المعجزات المقدسة"، والتي أنجبت عندنا، في روسيانا التي كانت لا تزال بحاجة "إلى أن تتشكل"، من الأفكار، والأحلام، والأقوياء، والنبلاء والقديسين المتحمسين، إلى الكثير من النشاط النفسي الحيوي والقناعات العزيزة! وليس لدينا ما نشكو منه. من خلال تمجيد هذه الأسماء وتبجيلها، فقد خدم الروس ويخدمون منطق مصيرهم. لا يتفاجأ أحد من كلماتي، خاصةً عن جورج ساند، التي يمكن لها أن تكون حتى الآن محل نزاع، والتي إلى حدّ كبير، إن لم يكن بشكل كامل تقريبًا، قد نُسيت عندنا. لقد كتبت، في زمنها، عملها في بلدنا. من سينضم إلى مواطنيها إذًا ليقول كلمة على قبرها، إن لم نكن نحن – نحن، "مواطنو العالم بأسره"؟ - لأنه بعد كلّ شيء، نحن الروس لدينا وطنان على الأقل: روسيا و... أوروبا، حتى عندما نطلق على أنفسنا اسم السلافوفيليين (3). (أتمنى أن لا تلومونني!) ليس هناك ما يمكن مناقشته. إنها مهمتنا – وقد بدأ الروس يدركون ذلك – الكبيرة بين المهمات العظيمة. عليها أن تكون إنسانية بشكل كوني. يجب أن تكون مكرسة لخدمة الإنسانية، ليس فقط لخدمة روسيا، وليس فقط لخدمة العالم السلافي، ولعموم البلدان السلافية، ولكن لخدمة البشرية جمعاء! فكروا في الأمر وستوافقون على أن السلافوفيليين قد أدركوا الشيء نفسه. ولهذا السبب يحثوننا جميعًا على أن نظهر أنفسنا روسًا بشكل أكثر وضوحًا، وأن نكون روسيين أكثر دقة، وأكثر وعيًا بمسؤوليتنا كروس؛ لأنهم يدركون أن تبني المصالح الفكرية للبشرية جمعاء هو بالتحديد المهمة المميزة للروس. علاوة على ذلك، فإن كلّ هذا لا يزال يتطلب قدرًا كبيرًا من التفسير. يجب أن يقال إن تكريس الذات لفكرة إنسانية عالمية والتجول عشوائيًا في جميع أنحاء أوروبا، بعد مغادرة البلاد بهدوء، نتيجة لبعض النزوات المتغطرسة، هما شيئان متعارضان تمامًا، على الرغم من أنه تمّ الخلط بينهما حتى الآن. لكن الكثير ممّا أخذناه من أوروبا وحملناه إلى الوطن، لم ننسخه فقط كمقلدين ذليلين، كما كان يرغب البوتوغونيون (4) في ذلك. لقد استوعبناه في جسمنا ولحمنا ودمنا. لقد حدث لنا حتى أننا نعاني من أمراض أخلاقية تم استيرادها طواعية إلينا، تمامًا كما عانت منها شعوب الغرب، والتي كانت هذه الشرور مستوطنة بينها. لن يرغب الأوروبيون في تصديق ذلك بأي ثمن. إنهم لا يعرفوننا، وربما هذا جيد حتى الآن. التحقيق الضروري، الذي ستذهل نتائجه العالم فيما بعد، لن يتم إلا بشكل أكثر سلمية، من دون إزعاج وبدون صدمة. ويمكن بالفعل رؤية نتيجة هذا التحقيق بوضوح، على الأقل جزئيًا، من خلال علاقاتنا بآداب الأمم الأخرى: فشعراؤها مألوفون عند معظم مثقفينا مثلما هم مألوفون لدى القراء الغربيين. أؤكد وأكرر أن كلّ شاعر أو مفكر أو فاعل خير أوروبي لا يزال مفهومًا ومقبولًا في روسيا بشكل أكثر وضوحًا وأكثر حميمية من أي مكان آخر في العالم، إن لم يكن في بلده. شكسبير، بايرون، وولتر سكوت، ديكنز معروفون للروس أكثر من الألمان، على سبيل المثال، على الرغم من أن أعمال هؤلاء الكتاب لا تمثل الجزء العاشر ممّا يباع في ألمانيا، بلد القرّاء بامتياز.
إن اتفاقية 93 (5)، من خلال إرسال شهادة المواطنة للشاعر الألماني شيلر (6)، صديق الإنسانية، قد أنجزت بالتأكيد عملًا جميلًا، مهيبًا وحتى نبويًا؛ لكنها لم تشك حتى في أنه في الطرف الآخر من أوروبا، في روسيا الهمجية، كان عمل شيلر نفسه أكثر انتشارًا، وتجنسًا، بطريقة ما، ممّا كان عليه في فرنسا، ليس فقط في ذلك الوقت، ولكن حتى لاحقًا، خلال هذا القرن بأكمله. شيلر، وهو مواطن فرنسي وصديق للإنسانية، كان معروفًا في فرنسا فقط لأساتذة الأدب وما زال غير معروف للجميع - فقط للنخبة.
لقد أثر بعمق عندنا، على الروح الروسية، مع يوكوفسكي (7)، وقد ترك علامات تأثيره هنا وهناك؛ لقد وسم حقبة في سجلات تطورنا الفكري. هذه المشاركة للروس في مساهمات الأدب العالمي هي ظاهرة لا تكاد تُلاحظ بنفس الدرجة عند أناس الأعراق الأخرى، في أي فترة من تاريخ العالم؛ وإذا كانت هذه الكفاءة تشكل بالفعل خصوصية وطنية روسية، فهذا أمر حسن بالنسبة إلينا، يا لها من وطنية مشبوهة، ما هي هذه الشوفينية التي ستدّعي لنفسها الحق في الثورة ضد هذه الظاهرة، ولا تريد، على العكس من ذلك، أن ترى أن هناك أجمل وعد لمصيرنا في المستقبل.
أوه، بالتأكيد، ثمة أشخاص سوف يبتسمون للأهمية التي أعزوها لعمل جورج ساند، بيد أن المستهزئين سوف يكونون مخطئين. مرّ كثير من الوقت؛ جورج ساند هي نفسها قد ماتت، عجوزًا، في السبعينات من عمرها، ربما بعد أن عاشت فترة طويلة بعد مجدها. لكن كلّ ما جعلنا نشعر، خلال الظهور الأول للشاعر، أن كلمة جديدة ترددت، كل شيء كان في عملها إنسانيًا بشكل كوني، وكان لذلك كله، على الفور، صدى في بلدنا، في روسيانا. لقد شعرنا بانطباع قوي وعميق عنها، لم يتبدد، وهو يثبت أن أي شاعر، وأي مبتكر أوروبي، وأي فكر جديد وقوي قادم من الغرب، يصبح حتمًا قوة روسية.
في أي حال، ليست لدي أي نيّة لكتابة مقالة نقدية عن جورج ساند. أريد فقط أن أقول بضع كلمات وداع على قبرها الذي لا يزال نديًا.
*****
الكثير ممّا أخذناه من أوروبا وحملناه إلى الوطن، لم ننسخه فقط كمقلدين ذليلين، لقد استوعبناه في جسمنا ولحمنا ودمنا. لقد حدث لنا حتى أننا نعاني من أمراض أخلاقية تم استيرادها طواعية إلينا |
لتتذكروا هذه الأبيات:
يعرف عن ظهر قلب مجلدات
تيير (10) ورابو (11)
والناري مثل ميرابو (12)
كان يمجد الحرية...
هذه الأبيات هي على قيمة كبيرة لأن من كتبها هو دينيس دافيدوف (13)، الشاعر والروسي الطيب. لكن إذا اعتبر دينيس دافيدوف تيير خطيرًا (ربما بسبب كتابه "تاريخ الثورة") ووضع بالقرب من اسمه، في القصيدة المقتبسة، اسم رابو ذاك (كان هناك كاتب يُدعى كذلك، وأكثر من ذلك، لا أعرف شيئًا)، يمكننا أن نكون على يقين من أن المرء اعترف رسميًا بعدد قليل جدًا من أعمال المؤلفين الأجانب في ذلك الوقت في روسيا. وإليكم ما تمخض عن ذلك: الأفكار الجديدة التي ظهرت علينا في ذلك الوقت على شكل روايات، كانت فقط الأكثر خطورة تحت لباسها الفخم، ربما لأن رابو لم يعرف سوى عدد قليل من المعجبين، بينما وجدت جورج ساند الآلاف منهم. لذلك يجب الإشارة هنا مرة أخرى إلى أنه، في بلدنا، منذ القرن الماضي، وعلى الرغم من آل مانيتسكي (Magnitzki) 14 وآل ليبراندي (Liprandi) 15، كان لدينا دائمًا معرفة سريعة جدًا بأي حركة فكرية في أوروبا. فكلّ فكرة جديدة يتمّ نقلها على الفور من قبل الطبقات الفكرية العليا لدينا إلى الجماهير البشرية حتى ولو كانت لا تملك موهبة كبيرة من الفكر والفضول الفلسفي. وهذا ما حدث نتيجة حركة أفكار "الثلاثينيات". منذ بداية هذه الفترة، أدرك الروس على الفور التطور الهائل للأدب الأوروبي. سرعان ما عُرفت أسماء الخطباء والمؤرخين والمدافعين عن الشعب والأساتذة، الجديدة. حتى أننا عرفنا جيدًا ما ينذر بهذا التطور، والذي أزعج بشكل خاص مجال الفن. لقد خضعت الروايات لتحول خاص للغاية أظهرته روايات جورج ساند أكثر مما أظهرته الروايات الأخرى. صحيح أن سنكوفسكي (Senkovski) 16 وبولغارين (Boulgarine) 17 حذرا الجمهور من جورج ساند حتى قبل ظهور رواياتها مترجمة إلى اللغة الروسية. قبل كل شيء، حاولا ترويع سيداتنا الروسيات من خلال الكشف لهن عن أن جورج ساند "كانت ترتدي السراويل"؛ لقد توعدا ضد تحررها المزعوم؛ حاولا السخرية منها. بدأ سنكوفسكي، من دون أن يقول إنه كان يستعد لترجمة رواياتها في مجلته الخاصة، مكتبة القراءة، يناديها، في كتاباته، السيدة "إيغور" ساند، ومن المؤكد أنه كان سعيدًا تمامًا بهذه الطرافة. في وقت لاحق، في عام 48، طبع بولغارين في مجلته "نحلة الشمال" (Северная пчела)، على نفقة جورج ساند، أنها كانت تثمل كل يوم، بصحبة بيير لورو، في مقهى دو باريير، مثلما كانت تشارك في الأمسيات "الأثينية" التي كان يحييها ذاك "اللص" ليدرو رولين (Ledru-Rollin) (18) في وزارة الداخلية. لقد قرأت هذه الأشياء بنفسي وأتذكرها جيدًا. ولكن بعد ذلك، في عام 48، كانت جورج ساند معروفة حقًا عند جميع المتعلمين، ولم يصدق أحد بولغارين. أولى أعمالها التي ترجمت إلى اللغة الروسية صدرت في الثلاثينيات. أشعر بالأسف بأني لم أعد أتذكر أي رواية أولى لها جاءت بلغتنا؛ في أي حال، أيّا تكن عليه هذه الرواية، فقد استطاعت أن تترك وراءها انطباعا هائلا. أعتقد أن الجميع مثلي، أنا الذي كنت لا أزال مراهقًا قد أذهلهم النقاء الجميل والعفيف للأنواع التي تم وضعها في مقدمة خشبة المسرح، عبر سمو مُثل الكاتبة العليا، عبر إمساكها المستمر بعملية السرد. وقد أراد البعض الأخذ على هذه المرأة أنها "ترتدي السروايل"، و"تنغمس في الفجور"! كنت في السادسة عشرة من عمري، على ما أظنّ، حين قرأت أولى أعمالها التي تعود إلى فترة البدايات، وهي واحدة من نتاجاتها الساحرة. أذكر ذلك جيدًا؛ ارتفعت حرارتي طيلة الليلة التي أعقبت قراءتي. لا أعتقد أنني مخطئ في التأكيد على أن جورج ساند احتلت، بالنسبة إلينا، على الفور تقريبًا، المركز الأول في صفوف الكتّاب الجدد الذين تردد مجدهم الشاب في جميع أنحاء أوروبا. حتى ديكنز نفسه، الذي صدرت أعماله في بلادنا في الوقت عينه تقريبًا، كان يأتي في المرتبة الثانية بعدها من حيث مدى إعجاب جمهورنا [القارئ] به. لا أتحدث عن بلزاك، الذي وجد شهرة عندنا، قبلها، والذي نشر في سنوات الثلاثين أعمالًا مثل أوجيني غرانده والأب غوريو، حيث كان بيلينسكي غير منصف تجاهه حين أنكر المكانة الكبيرة التي يتبوأها في الأدب الفرنسي. في أي حال، لا أدعي هنا أنني أقدم ولو تقييما نقديا صغيرا؛ بل أنني أكتفي بالتذكير بميل حشود القراء الروس في ذلك الوقت وما أثاره ذلك عليهم من انطباع.
سنكوفسكي (يسار) وبولغارين حاولا ترويع سيداتنا الروسيات من خلال الكشف لهن عن أن جورج ساند "كانت ترتدي السراويل"!! |
ومع ذلك، في حوالي الأربعينيات من القرن الماضي، كان عامة الناس في روسيا يعرفون جيدًا إلى حد ما أن جورج ساند كانت إحدى أكثر الممثلات إبهارًا وفخرًا واستقامة للجيل الأوروبي الجديد في ذاك العصر، واحدة من أولئك الذين أنكروا بقوة تلك "المقتنيات الإيجابية" الشهيرة التي أكملت من خلالها الثورة الفرنسية (أو بالأحرى الأوروبية) الدموية في نهاية القرن الماضي عملها. بعدها - بعد نابليون الأول -حاولنا أن نكشف من خلال الكتب عن تطلعات جديدة ومُثل جديد تمامًا. سرعان ما أدركت العقول الطليعية أنه لم يكن هذا التعديل الظاهري أو ذاك لواقع استبدادي حقيقي يمكن له أن يوفق بينه وبين احتياجات عصر جديد، وبأن "أسرع بالخروج من هنا كي أحلّ مكانك" الذي قام به السادة الجدد لم يحل شيئًا، وأن فاتحي العالم الجدد، البرجوازيين، ربما كانوا أسوأ من النبلاء، أولئك المستبدين الذين كانوا هنا في اليوم السابق، وأن شعار "الحرية والمساواة والأخوة" لم يتشكل إلا من كلمات رنانة فقط. ليس هذا كل شيء. عندها، ظهرت المذاهب التي أثبتت أن هذه الكلمات المبهرة تجسد المستحيلات فقط. سرعان ما توقف المنتصرون عن نطق هذه الكلمات، أو بالأحرى لم يعد يتذكرون هذه الكلمات المقدسة الثلاث، أو يتذكرونها بشكل أفضل، إلا بنوع من السخرية. العلم نفسه، في شخص بعض أذكى أتباعه (الاقتصاديين)، الذين بدا أنهم يجلبون صيغًا جديدة، جاءوا لنجدة هذا التهكم وأدانوا بشدّة الكلمات الطوباوية الثلاث التي سفك الكثير من الدماء من أجلها. وهكذا إلى جانب المنتصرين المبتهجين ظهرت وجوه حزينة قاتمة تقلق المنتصرين.
لقد أصبح اسم جورج ساند تاريخيًا، وهو اسم لا يحق لنا أن ننساه، ولن يختفي أبدًا من الذاكرة الأوروبية |
تاريخ هذه الحركة معروف. لا يزال مستمرًا حتى اليوم ولا يبدو أن لديه أي ميل للتوقف. لا أقترح أبدًا التحدث هنا لصالحه أو ضده. أريد فقط تحديد نصيب جورج ساند من العمل في هذه الحركة. سنجد ذلك منذ بدايات الكاتبة. لذا قالت أوروبا، حين قرأتها، إن قصدها من الوعظ هو احتلال مكانة جديدة للمرأة في المجتمع وأنها تنبأت بحقوق "الزوجة الحرة" في المستقبل (التعبير مأخوذ من سنكوفسكي)؛ بيد أن ذلك لم يكن صحيحًا تمامًا، لأنها لم تعظ فقط لصالح النساء ولم تتخيل أي نوع من "الزوجة الحرة". لقد ارتبطت جورج ساند بكل الحركات التقدمية وليس بحملة تهدف فقط إلى انتصار حقوق المرأة.
من الواضح أنها، وهي نفسها امرأة، أنها رسمت بطلاتها عن طيب خاطر أكثر من الأبطال؛ ليس من غير الواضح أنه يجب على النساء في جميع أنحاء العالم الآن الحداد على جورج ساند، لأن واحدة من أنبل ممثلات الجنس الأنثوي قد ماتت، لأنها كانت امرأة ذات قوة كبيرة وعقل وموهبة لم يسمع بها من قبل. من الآن فصاعدًا، لقد أصبح اسمها تاريخيًا، وهو اسم لا يحق لنا أن ننساه، ولن يختفي أبدًا من الذاكرة الأوروبية. بالنسبة إلى بطلاتها، أكرر أنني كنت في السادسة عشرة من عمري فقط عندما تعرفت إليهن. لقد كنت منزعجًا جدًا من الأحكام المتناقضة التي صدرت على من خلقتها. جسدت بعض هذه البطلات نوعًا من النقاء الأخلاقي لدرجة أنه من المستحيل ألا نتخيل أن الشاعرة خلقتهن على صورة روحها، تلك الروح المتطلبة للغاية من وجهة نظر الجمال الأخلاقي، الروح المؤمنة، في حب الواجب والعظمة، المدركة للجمال الأسمى والقادرة بشكل لا نهائي على الصبر والعدالة والشفقة. صحيح أنه إلى جانب الشفقة والصبر والفهم الواضح للواجب، يلمح المرء عند الكاتبة فخرًا كبيرًا جدًا، وحاجة إلى المطالبة، بل وحتى إلى متطلبات. لكن هذا الكبرياء بحدّ ذاته كان مثيرًا للإعجاب، لأنه مستمد من مبادئ سامية لا يمكن للإنسانية أن تعيش بدونها في جمال. لم يكن هذا الكبرياء هو ازدراء الجار الذي نقول له: أنا أفضل منك؛ لن تتساوى معي أبدًا؛ لم تكن سوى رفض متعجرف لعقد اتفاق مع الأكاذيب والرذيلة، من دون، وأكرر، هذا الرفض الذي يدل على رفض أي شعور بالشفقة أو المغفرة. لقد فرض هذا الكبرياء واجبات هائلة على نفسه. تعطشت بطلات جورج ساند للتضحية، ولم يحلمن إلا بالأعمال العظيمة والجميلة. ما أعجبني بشكل خاص في أعمالها المبكرة هو بعض أنواع الفتيات الصغيرات من حكاياتها المسماة "البندقية" (الفينيسية)، وهي أنواع ظهرت آخر عيّنة لها في هذه الرواية الرائعة التي تحمل عنوان جان (Jeanne)، والتي تحل بطريقة مضيئة السؤال التاريخي حول جان دارك. في هذا العمل، تبعث لنا جورج ساند، في شخص فتاة فلاحة شابة، شخصية البطلة الفرنسية وتجعل بطريقة ما معقولية دورة تاريخية رائعة ملموسة بأكملها. لقد كانت مهمة جديرة بالمحرضة العظيمة، لأنها، وحدها من بين كل شعراء زمانها، حملت في روحها مثل هذا النوع المثالي الخالص من فتاة صغيرة بريئة، قوية ببراءتها الشديدة.
كل هذه الأنواع من الفتيات الشابات موجودة إلى حدّ ما معدلة في الأعمال اللاحقة؛ واحدة من أكثر الشخصيات روعة تمت دراستها في القصة القصيرة الرائعة الماركيزة (La Marquise). تُقدم لنا جورج ساند شخصية شابة مخلصة وصادقة، ولكن عديمة الخبرة، تتمتع بهذه العفة الفخورة التي لا تخشى شيئًا ولا يمكنها أن تلطخ نفسها حتى في مواجهة الفساد. تذهب مباشرة إلى التضحية (التي تعتقد أنها منتظرة منها) بزهد يتحدى كل الأخطار. ما تصادفه في طريقها لا يخيفها، بل على العكس من ذلك، تعظم شجاعتها. فقط في خطر أن يدرك قلبها الشاب كل قوته. تتفاقم طاقتها. تكتشف دروبًا وآفاقًا جديدة لروحها، التي كانت لا تزال تجهل نفسها، لكنها كانت منعشة وقوية، لم تلوثها بعد تنازلات الحياة. مع هذا، لا تشوب شكل القصيدة شائبة وهي أَخَّاذة. أحبت جورج ساند النهايات السعيدة، انتصار البراءة والصراحة والشجاعة الشابة والبسيطة. هل هذا ما يمكن أن يزعج المجتمع ويثير الشكوك والمخاوف؟ على العكس من ذلك، فقد سمح الآباء والأمهات الأكثر تشددًا لعائلاتهم بقراءة جورج ساند ولم يتوقفوا عن الدهشة لرؤيتها مشوهة من جميع الجوانب. ولكن بعد ذلك اندلعت الاحتجاجات. تم تحذير الجمهور من هذه الادعاءات الأنثوية الفخورة، ضد هذه الجرأة في دفع البراءة إلى محاربة الشر. يمكن للمرء أن يكتشف هناك، كما قيل، علامات سمّ "النسوية". ربما كنّا على حق في الحديث عن السمّ. ربما كان هناك سم في أثناء صنعه هناك، لكننا لم نتفق أبدًا على آثاره. قيل لنا – هل هذا صحيح؟ - أن كل هذه الأسئلة قد تم حلها الآن...
***** يجب أن نشير، في هذا الصدد، إلى أنه خلال الأربعينيات، كان مجد جورج ساند مرتفعًا جدًا والإيمان الذي تم الإعلان عنه بعبقريتها بشكل كامل، لدرجة أننا جميعًا، نحن معاصروها، توقعنا شيئًا هائلًا، لم يُسمع به من قبل، في المستقبل القريب، حتى أيضا إيجاد حلول نهائية.
لم تتحقق هذه الآمال. يبدو أنه منذ ذلك الوقت، أي قرب نهاية الأربعينيات، قالت جورج ساند كل ما كان في مهمتها أن تقوله، والآن، على قبرها الذي بالكاد يُغلق، يمكننا التحدث بكلمات محددة.
جورج ساند ليست مفكرة، لكنها واحدة من تلك العرافات اللاتي ميزن في المستقبل إنسانية أكثر سعادة. وإذا أعلنت، طوال حياتها، عن إمكانية وصول الإنسانية إلى المثل الأعلى، فذلك لأنها كانت مسلحة للوصول إليه.
ماتت ربوبية، مؤمنة إيمانًا راسخًا بالله والخلود. لكن هذا قليل جدًا لأقوله وأعتقد أنها كانت، من بين كتّاب عصرها، مسيحية بامتياز، وليس لأنها كانت تؤمن بألوهية المسيح. هذه المرأة الفرنسية لم تكن لتقر بأن تمجيد المسيح كان بحدّ ذاته فعالًا بما يكفي لمنح الخلاص، وهو المفهوم الذي يشكل أساس الإيمان الأرثوذكسي. لكن التناقض هنا في المصطلحات أكثر منه في الجوهر، وأنا أؤكد أن جورج ساند ستكون أحد أعظم أتباع المسيح.
اشتراكيتها، قناعاتها، آمالها، لقد أسستها على إيمانها بالكمال الأخلاقي للإنسان. كانت لديها بالفعل فكرة سامية عن الألوهية البشرية، رفعتها من كتاب إلى كتاب، وبالتالي ربطت نفسها في الفكر والشعور بأحد الأفكار الأساسية للمسيحية. أعني مبدأ حرية الإرادة والمسؤولية. ومن هنا جاء مفهومها الواضح للواجب والتزاماتنا الأخلاقية. ربما، بين المفكرين أو الكتاب الفرنسيين، معاصريها، لا يوجد من يفهم بقوة أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". أما عن كبريائها، وادعاءاتها المتطلبة، فأكرر أنها لم تستبعد أبدًا الشفقة، ومغفرة الإساءة، بل وصبرًا لا حدود له، وهو ما وجدته في شفقتها حتى على الجاني. احتفلت جورج ساند مرارًا بهذه الفضائل في أعمالها وعرفت كيف تجسدها في عدة أنواع. لقد كتب عنها أنها أم ممتازة عملت بجدّ حتى أيامها الأخيرة وأنها الصديق الصادق للفلاحين في قريتها وقد أحبوها بشدة.
لقد استمدت، على ما يبدو، بعض الرضى عن نفسها من أصلها الأرستقراطي (من خلال والدتها كانت مرتبطة بمنزل ساكسونيا)، ولكن، أكثر بكثير من تلك الهيبة الساذجة، كانت حساسة، يجب أن يقال، تجاه هذه الأرستقراطية الحقيقية التي نجد أن امتيازها الوحيد يكمن في تفوق الروح.
لم يكن بإمكانها أن تعرف كيف لا تحب ما هو عظيم، بيد أنها لم تكن قادرة على إدراك عناصر الاهتمام التي تخفي الأشياء الصغيرة. في هذا ربما كانت فخورة جدا. من الصحيح تمامًا أنها لم تكن تحب أن تدرج في رواياتها كائنات مهينة، عادلة ولكن سلبية، بريئة ولكنها تعرضت لسوء المعاملة، كما نراها تقريبا في جميع أعمال هذا المسيحي العظيم ديكنز. بعيدا عن هذا كانت تجمع بفخر بطلاتها وكادت تجعلهن ملكات. لقد أحبت موقف شخصياتها هذا ومن الجدير أن نذكر هذه الخصوصية. إنها مميزة.
(*) نُشرت هذه المقالة في "يوميات كاتب"، حزيران/ يونيو 1876.
هوامش المترجم
(1) يستعمل دوستويفسكي هنا صيغة المذكر للدلالة على الكاتبة، وكأنه يريد بذلك إلغاء الفوارق الذكورية – الأنثوية، بين الجنسين، بمعنى أن الكتابة إما أن تكون جيدة، أو لا، بغض النظر عن جنس كاتبها.
(2) القرن التاسع عشر.
(3) Slavophiles
(4) Potouguines نسبة إلى بوتوغين، إحدى شخصيات رواية "دخان" لتورغينيف، الذي اشتهر بحواراته مع باكونين.
(5) الميثاق الوطني الفرنسي الذي أعلن بعد سقوط لويس السادس عشر، والذي حلّ مكان الهيئة التشريعية، عقب الثورة الفرنسية.
(6) يوهان كريستوف فريدريتش فون شيلر (10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1759 – 9 أيار/ مايو 1805). شاعر وكاتب ألماني ومنظر لعلم الجمال، يعد واحدا من كبار كلاسيكيي الأدب الألماني.
(7) فاسيلي أندرييفيتش يوكوفسكي (29 كانون الثاني/ يناير 1783 – 12 نيسان/ أبريل 1852)، شاعر وناقد وأكاديمي روسي. يعتبر رائد الرومانسية الروسية وقد أثرت أعماله على العديد من ممثلي الأدب الروسي مثل ليرمنتوف وغوغول وبوشكين.
(8) كليمانس فينزل فون ميترنيخ، أمير ومن ثم إمبراطور، المستشار الأسبق للإمبراطورية النمساوية، تلخصت حياته السياسية في الحفاظ، في أوروبا، على النظام القديم مقابل التبدلات الجذرية التي أحدثتها الثورة الفرنسية، مثلما اشتهر بمقولته الرائدة "توازن القوى".
(9) فيساريون غريغوروفيتش بيلينسكي (30 أيار/ مايو 1811 – 26 أيار/ مايو 1848)، من كبار نقاد الأدب الروس، عرف بميوله الغربية والفردية في الأدب.
(10) أدولف تيير (15 نيسان/ أبريل 1797 – 3 أيلول/ سبتمبر 1877)، كاتب وصحافي ومؤرخ فرنسي، وقد أصبح رجل دولة حيث انتخب نائبًا ووزيرًا ورئيسًا للمجلس ومن ثم رئيسًا للجمهورية.
(11) كميل رابو: قس ومؤرخ فرنسي.
(12) أوكتاف ميرابو (9 آذار/ مارس 1749 – 2 نيسان/ أبريل 1791) كاتب ودبلوماسي وصحافي ورجل سياسة وأحد الوجوه البارزة في الثورة الفرنسية.
(13) دنيس فاسيلييفتش دافيدوف (27 تموز/ يوليو 1784 – 22 نيسان/ أبريل 1839) شاعر وجنرال روسي، أحد قادة الجيش خلال الحرب البونابرتية.
(14) ميخائيل مانيتيسكي (1778 – 1844) حاكم سيمبرسك بين 1817 و1819، والمسؤول عن قطاع التعليم العالي في قازان.
(15) بافل ليبراندي: قائد معركة بالاكلافا التي حدثت يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر 1854 بين الجيش الروسي وبين تحالف الجيوش الفرنسية والبريطانية والتركية التي حاصرت مدينة سيباستيبول في شبه جزيرة القرم. وقد انتهت المعركة بدون غالب أو مغلوب.
(16) يوسف جوليان سنكوفسكي (31 آذار/ مارس 1800 – 16 آذار/ مارس 1858) مواليد سان بطرسبرغ (من أصل بولندي)، كاتب وناقد وجامعي روسي.
(17) فاديي فينيديكتوفيتش بولغارين (5 تموز/ يوليو 1789 – 13 أيلول/ سبتمبر 1859) صحافي وكاتب وناقد أدبي روسي.
(18) ألكسندر – أوغوست ليدرو – رولان (2 شباط/ فبراير 1807 – 31 كانون الأول/ ديسمبر 1874) محام ورجل سياسة فرنسي.
- المترجم: إسكندر حبش